الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما فرغ سبحانه من أمر أهل الكتاب بالإيمان بالله، والنبي والكتاب الذي هو من الهدى الآتي إليهم، المشار إلى ذلك كله بالإيفاء بالعهد عطف بقوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} .
أي: حافظوا معاشر اليهود على صلاة المسلمين، وزكاتهم واركعوا مع الراكعين منهم، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم، ولك أن تجعل الركوع هنا بمعنى الخضوع لله بالطاعة، فيكون هذا من الله لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والدخول مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة، وأما الزكاة فمعناها: التطهير، لأنها تطهير لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مظلمة لأهل السهمان.
ولما أمر علماءهم بما تركوا من معالي الأخلاق، من الإيمان والشرائع، بعد أمرهم بذكر ما خصهم به من النعم، ونهاهم عما ارتكبوا من سفسافها من كفر النعم، ونقض العهود وما تبع ذلك، وكانوا يأمرون غيرهم بما يزعمون أنه تزكية، وينهون عما يدعون أنه تردية، أنكر عليهم ترغيبًا فيما ندبهم إليه، وحثهم عليه، وتوبيخًا على تركه بقوله:
فالهمزة للتقرير مع
التوبيخ والتعجب من حالهم
، و"الأمر" هو: الإلزام بالحكم، و "البر" هو: التوسع في أفعال الخير، وكل طاعة لله تعالى تسمى برًا والمعنى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} بطاعة الله وتتركون {أَنْفُسَكُمْ} تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم، وقد عيرهم بذلك، وقبح إليهم قبيح ما أتوا به، ومعنى نسيانهم في هذا الموضع، نظير النسيان الذي قال الله جل ثناؤه:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، تبكيت، مثل قوله:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ،
والمعنى: وأنتم تدرسون وتقرؤون التوراة، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر، ومخالفة القول العمل، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يعني: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن ما أتيتكم به تأباه العقول، وتدفعه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، أعظم منبه على أن من حكم التوراة اتباعه صلى الله عليه وسلم، ومشير إلى أن المعصية من العالم، أقبح منها إذا صدرت من غيره، وذلك أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق، ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببًا لرغبة الناس في المعصية، لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات، لما أقدم على المعصية، فيكون هذا داعيًا لهم إلى التهاون بالدين، والجرأة، على المعصية. فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية، ثم أتى بفعل يوجب الجرأة عليها، كان قد جمع بين متناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء.
وأنت خبير بأنه ما قاد الأمة في الأزمان المتأخرة إلى الانحطاط، إلا اتباع علمائهم خطة بني إسرائيل، فتراهم إذا لاح لهم نفع دنيوي تحيلوا له بكل حيلة، ونسوا ما هو مسطور في الكتاب العزيز، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن لهم من أمر نفع دنيوي أقاموا النكير، واحتجوا بالآيات وبالسنن، وأظهروا أنفسهم في مصاف الزاهدين المتقين.
ثم إنه تعالى لما أنكر على بني إسرائيل اتباع الهوى، أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس، وأجل أعمال البدن، فقال عاطفًا على ما مضى من الأوامر:
أي: {وَاسْتَعِينُوا} على إظهار الحق، والانقياد له {بِالصَّبْرِ} على كل ما كرهته نفوسكم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابها وكفها عن هواها، فهو ضياء للقلوب تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن
العادة، فيما تنزع إليه الأنفس، {وَ} استعينوا بـ {الصَّلَاةِ} التي هي تواضع للخالق، واشتغال بذكر الله تعالى، فهى الموصلة إلى المقام الأعلى، فإن قيل: كيف أمر بني إسرائيل بالصلاة وهم ينكرونها، ومن أنكر شيئًا لا يكاد يقال له: استعن به، قلنا: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن المعنى، كان الله يقول لهم: اتركوا الجحود والإباء، عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وَاسْتَعِينُوا} على ذلك الترك {بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} ، فإنكم تفلحون حينئذ، فيكون الأمر بالاستعانة أمرًا بالإيمان ضمنًا.
والثاني: أنا لا نسلم إنكارهم لأصل الصلاة، وإنما حصل الاختلاف في الكيفية، فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية ثانية، وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي التواضع للخالق، والاشتغال بذكره الذي هو القدر المشترك، زال الإشكال.
ولهذا يقال: لما أمرهم تعالى بالإيمان، وبترك الإضلال، وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة، وكان ذلك شاقًا عليهم لما فيه من ترك الرياسات، والإعراض عن المال والجاه، لا جرم عالج هذا المرض، فقال:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا} أي: الصلاة، {لَكَبِيرَةٌ} لشاقة ثقيلة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، لأنهم يتوقعون ما ادخره الله تعالى للصابرين على متاعبها فتهون عليهم، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي: يتوقعون لقاء ثوابه، ونيل ما عنده، ولذلك فسر {يَظُنُّونَ}: بـ: "يتيقنون".
وأما من لم يوقن بالجزاء، ولم يرج الثواب، كانت عليه مشقة خالصة، فثقلت عليه كالمنافقين والمرائين بأعمالهم، ومثله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله، فتراه يزاول العمل برغبة ونشاط وانشراح صدر، ومضاحكة لحاضريه، كأنه يستلذ مزاولته، بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة.
وخصت الصلاة بالكبر دون الصبر، لأن الصبر صغار للنفس، والصلاة وجهة للحق، والله هو العلي الكبير، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} فعبر بالظن عن
العلم، تهويلًا للأمر وتنبيهًا على أنه يكفي العاقل في الحث على ملازمة الطاعة، ظن لقاء الملك المطاع المرجو المخوف، فكيف والأمر متيقن لا مراء فيه، ولا تطرق للريب إليه؟ ! ويجوز أن يراد ظن الموت في كل لحظة، فإنه إذا كان على ذكر من الإنسان أوجب له السعادة، والمراد من الرجوع إلى الله تعالى، الرجوع إلى حيث لا يكون لهم مالك سواه، وأن لا يملك لهم أحد نفعًا ولا ضرًا غيره، كما كانوا كذلك في أول الخلق، فجعل مصيرهم إلى مثل ما كانوا عليه، أولًا رجوعًا إلى الله، من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم، ويملك أن يضرهم وينفعهم، وإن كان تعالى مالكًا لهم في جميع أحوالهم.
ولما كان الغالب على أكثر الناس الجمود، كرر النداء لهم مبالغة في اللطف بهم إثر التوجيه والتخويف، فقال:
أي: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} ، الذي أكرمته وأكرمت ذريته من بعده بأنواع الكرامة، {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} ، ثم فخم أمر تلك النعمة بقوله:{الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ، بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} فزدتكم من حظوة جانب القرب والرفعة، فيما يقبل الزيادة والنقصان منه {عَلَى الْعَالَمِينَ} ، وهم: من كان قد برز إلى الوجود في ذلك الزمان بالتخصيص بذلك دونهم، ولا يدخل في هذا من لم يكن برز إلى الوجود في ذلك الزمان، وكذلك كل تفضيل يقع في الكتاب والسنة، وذلك لأن العالم من شمله الوجود، لا ما أحاط به العلم بعد، لأن ذلك لم يرفع علم وجوده في الشهود، وفيه إشعار بأنهم كما فضلوا هم على عالمي زمانهم فليس ذلك بمقصور عليهم، بل كذلك يفضل المسلمون في زمان نبوتهم على بني إسرائيل، وعلى جميع الموجودين في زمانهم.
وهذا أولى من قول العلامة صاحب الكشاف: {عَلَى الْعَالَمِينَ} : على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى:{بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]، يقال: رأيت عالمًا من الناس، ويراد الكثرة، ثم إنه من المعلوم أن جميع ما
خاطب الله به بني إسرائيل تنبيه للمسلمين، لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم، وجميع أقاصيص الأنبياء، تنبيه وإرشاد، قال تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
وحيث انتهى الخطاب إلى تذكر ظاهرة النعمة، بعد التذكير بباطن الفضيلة، لم يبق وراء ذلك إلا التهديد بوعيد الآخرة، عطفًا على تهديد يقتضيه الإفهام، بتغيير ما بقي عليهم من النعمة في الدنيا، فكأن مفهوم الخطاب: فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصاب المؤاخذين في الدنيا، فقال تعالى:
أمرهم بأن يتقوا، وهو من وقيت الشيء أقيه، إذا صنته، وسترته عن الأذى، والمتقَى إنما هو الجزاء الواقع في يوم القيامة، وإنما حذفه وأقام اليوم مقامه تفخيمًا له، وتنبيهًا على أن عقابه لا يدفع، كما يدفع ما في غيره بأنواع الحيل، وذلك اليوم هو من العظمة بحيث {لَا تَجْزِي} ، أي: تقضي وتغني فيه {نَفْسٌ} ، أيُّ نفس كانت، {عَنْ نَفْسٍ} ، كذلك من الجزاء، ولا تقضي عنها {شَيْئًا} من الحقوق، ولما كان الإجزاء قد يكون بنفس كون المجزى موجودًا، وهو بحيث يخشى أن يسعى في النكال بنوع حيلة، فتتحرك القلوب لإجابته، وفك أسره، فيحمل ذلك مَنْ أسره على إطلاقه، وقد يحتال بالفعل إلى التوصل إلى فكه في خفية، بسرقته أو فتح سجنه، أو نحو ذلك، وكانت وجوه الإجزاء المشهور ثلاثة، عطفها على الإجزاء الأعم منها، {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا} أي النفس الأولى أو الثانية {شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} تبذله غير الأعمال الصالحة. والعدل في كلام العرب: الفدية، وقال قتادة: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
ولما كان عدم النصرة للجمع يستلزم عمومها للمفرد بطريق الأولى، جمع فقال:{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، أي: لا يتجدد لهم نصر يومًا ما ممن ينقذهم قهرًا كائنًا ما كان، فلا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى العدل الجبار، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أمثالها.
والنصر يراد به المعونة، ويراد به الإغاثة والانتقام، فقوله تعالى:{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، يحتمل هذه الوجوه، هذا وقد أورد صاحب الكشاف اعتراضًا، وأجاب عنه على مقتضى مسالكه (1) فقال: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؟ قلت: نعم، لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقًا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنها لا تقبل للعصاة.
وأجاب المخالفون لمسالكه بأن الضمير في قوله تعالى: {مِنْهَا} ، إما أن يجعل راجعًا للنفس الأولى، أو الثانية، فإن جعل راجعًا إلى النفس الثانية، وهي العاصية، كان معنى قوله تعالى:{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها، وحينئذ لا دليل في الآية على إنكار الشفاعة للعصاة، غاية الأمر أن الشفيع الذي تأتي به النفس العاصية لا يقبل منها، وإن جعل الضمير عائدًا على النفس الأولى، ثم السؤال، إذ المعنى حينئذ إما أن يقال: إن الدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، أو يقال بأن الآيات القرآنية تدل على أن للحساب مواطن، فبعضها لا تقبل فيه شفاعة أصلًا، وبعضها تكون الشفاعة فيه مقبولة، فتحمل الآيات على المواطن، وعلى أن العاصي أحق بالشفاعة من غيره.
ولما قدم تعالى ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالًا، بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير، وأعظم في الحجة فقال:
(1) تبعًا لمذهبه في الاعتزال من إنكار أمثال ذلك.
أي: واذكروا {إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} وهو من التنجية، وهي: تكرار النجاة، أي: خلصناكم المرة بعد المرة. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} من أهله، وأوليائه وأتباعه، الذين عزموا على إهلاككم، وأصل السوم من: سام السلعه إذا طلبها، فكأنه هنا بمعنى يبغونكم، ويقال: سامه خسفًا: إذا أولاه ظلمًا، و {سُوءَ الْعَذَابِ} أشده وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره، ثم بينه بقوله:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ، فكانوا يقتلون الصبيان ويتركون النساء أحياء، سواء الكبار منهن والصغار في ذلك، ويدل على هذا التفسير: أن الله تعالى أمر أم موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم، ولو لم يكن آل فرعون لم يقتلوا سوى الأطفال لما أمرَ الله أم موسى بذلك، ثم قال تعالى:{وَفِي ذَلِكُمْ} ، أي: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت {بَلَاءٌ} لكم {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، والبلاء: النعمة، أي: نعمة من ربكم عظيمة.
ولما كان ما فعل بهم في البحر إهلاكًا للرجال، وإبقاءً للنساء، طبق ما فعلوا ببني إسرائيل عقبه به، فقال:
أي: واذكروا {إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} ، فصلنا بين بعضه وبعض، حتى صارت فيه مسالك لكم، وتلك المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط، وقوله {بِكُمُ} معناه: بسببكم، عقب إخراجنا لكم من أسر القبط، فأنجيناكم، وهو مأخُوذٌ من الإنجاء الذي هو الإسراع في الرفعة عن الهلاك، إلى نجوة الفوز، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} في البحر {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إسراعه إليهم في انطباقه عليهم.
وقد ذكر المفسرون هنا حكايات مختلفة، وقصصًا متباينة، ولنذكر منها ما نطق به الكتاب العزيز، وذلك أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام:
{أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [طه: 77، والشعراء: 52] أي: أخرجهم ليلًا، فلما سرى بهم بلغ ذلك فرعون، فلم يتهيأ له اللحاق بهم إلى شروق الشَّمس، كما قال تعالى:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} [الشعراء] فساروا في طلبهم حتَّى أدركوهم، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} ونظر بعضهم إلى بعض، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء] فواقعون في قبضة أعدائنا. فـ {قَالَ} لهم موسى:{كَلَّا} لا يدركوننا، وإني خرجت بأمر من ربي، وهو {مَعِيَ} - معية حفظ ومعونة- {سَيَهْدِينِ} ، سيدلني على طريق النجاة من الأعداء، ثم وقفوا متحيرين، البحر أمامهم والعدو من ورائهم، فأوحى الله {إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} ، فلما ضرب حسبما أمره الله تعالى، {فَانْفَلَقَ} وانشق فرقًا {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ} أي: كالجبل {الْعَظِيمِ} ، ثم هبت الرِّيح فيبست الطرق، وتيسر سلوكها، فسلك كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقًا، فلما رأى فرعون وجنده الطرق طمع في سلوكها، فأتبعهم ودخل البحر، حتَّى إذا خرج بنو إسرائيل إلى الساحل، وصار فرعون وقومه في البحر، انضم الماء بعضه إلى بعض فغرقوا.
وللمفسرين هنا حكايات منقولة عن الإسرائيليات، أضربنا عنها لأن العقل لا يسلم بأكثرها، حتَّى إنَّها مخالفة للتوراة التي هي اليوم بالأيدي، وإليك إشارة إلى بعضها لتعلم مكان الباقي، وذلك أن الفخر الرَّازي، وابن جرير الطبري، وغيرهما من المولعين بنقل الإسرائيليات، حكوا: أن فرعون لما أصبح صباح الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، دعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من أكل كبد هذه الشَّاة حتَّى يجتمع إليّ ستمئة ألف من القبط، فعلى رواية ابن جرير: لم يفرغ من كبدها حتَّى اجتمع إليه ستمئة ألف من القبط، وقال الرَّازي: قال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف ومئتا ألف نَفسِ، كل واحد منهم على فرس حصان.
فانظر أيها العاقل المنصف إلى هذه المبالغة التي يتبرأ منها العقل، وتأمل كيف يمكن أجمع، هذا الجمع العظيم على خيولهم في مدة أكل كبد الشاة، وأنت تعلم أن أعظم ملوك الأرض اليوم الذي مِلك فرعون بالنسبة إلى ملكه جزء صغير،
لا يقدر على جمع ربع هذا العدد في مدة أسبوع، مع وجود السفن البخارية البرية، والبحرية، وانتظام الطرقات والأسلاك الناقلة للأخبار بالسرعة، وانظر أي برية تسع هذا الجيش، وأي طريق يمكنه السير به، وهم على أفراسهم البالغة مثل عددهم، وإذا فرضنا أن طريقًا يسعهم فانظر أين يكون أولهم، وأين يصير آخرهم.
وقالوا أيضًا: إن بني إسرائيل كانوا يومئذٍ ستمئة ألف، لأنهم كانوا اثني عشر سبطًا كل سبط خمسون ألفًا، وهذا أيضًا بعيد التصديق إذا رجحنا ما قاله ابن خلدون: من أن الذي بين موسى وإسرائيل إنَّما هو أربعة آباء، على ما ذكره المحققون، وقال المسعودي: دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط، وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسًا (1)، وكان مقامهم إلى أن خرجوا من مصر مع موسى عليه السلام إلى التيه مئتين وعشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد، انتهى.
وكذلك إذا اعتبرنا نسخة التوراة التي بأيدينا اليوم فإنَّها تقول: وأمَّا إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمئة وثلاثين سنة، كان الأمر بعيدًا أيضًا، ولا يتشعب النسل في هذه المدة إلى مثل هذا العدد، اللَّهم إلَّا إلى المئين والآلاف، فربما يكون، وأما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد، واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف، تجد هذا الزعم كاذبًا والنقل باطلًا، وكذلك نجد لقومنا من الغلو في الحكايات الإسرائيلية ما ليس عند الإسرائيلين أنفسهم.
وهذه النعمة التي ذكر الله تعالى بها بني إسرائيل، من أعظم النعم الحاصلة لهم بعد الإيمان، لأنَّها نقلتهم من الاستعباد إلى فضاء الحرية، ومن حكم الأغيار إلى حكم أنفسهم، وجعلتهم ملوكًا بعد أن كانوا أرقاء، وأرجعتهم إلى أوطانهم التي نشأ بها سلفهم، وأهلك عدوهم أمام أعينهم.
(1) الأصل: "سبعين سبعًا" والتصحيح من ابن خلدون.
فنسأله تعالى أن يخلص المسلمين من أسر الكفرة الأشرار، وأن لا يولي عليهم غير أهل دينهم وملتهم.
ثم إنَّه تعالى ذكر الإنعام الثالث بقوله:
لما خرج موسى عليه السلام بقومه وصار عند جبل سيناء، بعد أن حارب "عماليق" وانتصر عليه، جلس يومًا ليقضي بين النَّاس، فمكث من الصباح إلى المساء، والنّاس أمامه وقوفًا، وكان "يثرون" كاهن مدين، أحد أقارب زوجة موسى جالسًا معه، فقال له: ما بال الشعب واقفًا هذه المدة، فقال موسى: إنَّما يأتيني لأقضي بينه، فقال يثرون: إن هذا الأمر أعظم منك، لا تستطيع أن تصنعه وحدك، بل علم القوم الفرائض والشرائع، وعرفهم الطَّريق الذي يسلكونه، والعمل الذي يعملونه، وانظر إلى ذوي القدرة الأمناء الخائفين الله تعالى، المبغضين للرشوة، واجعلهم رؤساء ألوف، ورؤساء مئين، ورؤساء خمسين، ورؤساء عشرات، فيقضون للشعب كل حين، واجعلهم قضاة للشعب في الدعاوي الصغيرة، وأمَّا الدعاوي الكبيرة فتكون أنت الذي يقضي بها، فحينئذ طلب موسى عليه السلام. هذا ما يؤخذ من التوراة التي بأيدينا اليوم.
وقال صاحب الكشاف: لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة، وضرب له ميقاتًا، ذا القعدة وعشر ذي الحجة، انتهى.
وقيل: أربعين ليلة لأنَّ الشهور غرّرها بالليالي، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
والأول أقرب للصواب، وكل قوم أعلم بتاريخهم من غيرهم.
وقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} ، قرئ {وعدنا} بدون ألف، و {واعدنا} بالألف، فأمَّا بغير ألف، فوجهه ظاهر، لأنَّ الوعد كان من الله تعالى، وأمَّا بالألف فهو من باب المفاعلة، وهي لا تكون إلَّا بين اثنين، فيقال: إن الوعد وإن كان من الله تعالى، فقبوله كان من موسى عليه السلام، وقبول الوعد يشبه الوعد، لأنَّ القابل للوعد لا بد وأن يقول: أفعل ذلك، أو يقال: إن الله وعد موسى الوحي، وموسى وعد الله المجيء للميقات إلى الطور.
وأعلم أن للمفسرين هنا كلامًا في اشتقاق لفظ {موسى} كأن البعض منهم ظن أن هذه اللفظة عربية، وهذا شأنهم في كثير من الألفاظ، والصحيح أن موسى لفظة عبرانية، ففي الإصحاح الثَّاني من سفر الخروج من التوراة: أن موسى لما فطم جاءت به مرضعته إلى ابنة فرعون، فصار لها ابنًا، ودعت اسمه موسى، وقالت: إنِّي انتشلته من الماء، فدَّل على أن هذا اللفظ مركب من كلمتين عبرانيتين الأولى "مو" وهو الماء والثانية "سى" وهو الشجر، لأنَّه وجد بين شجر الحَلفاء في الماء.
فلما خرج موسى إلى الميعاد، استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، وقال له: إنِّي متعجل إلى ربي فـ {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}
…
{وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} [الأعراف]، ثم إنهم في أيَّام مواعدة موسى اتخذوا العجل إلهًا كما قال تعالى:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} بإشراككم.
وذلك أن موسى لما خرج إلى الميعاد استبطأه قومه، وكان معهم مال من أموال القبط، وكان موسى أمرهم بقذفها، فاستبقى السامري- وهو رجل من قومه- بقية من تلك الأموال من أثر الرسول، الذي هو سيدنا موسى عليه السلام، وذلك كما أخبر تعالى عنه بقوله:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] والأثر: ما بقي من رسم الشيء، فصنع منه عجلًا من الذَّهب، وجعله على نسبة هندسية، قال ابن عباس كما رواه عنه ابن جرير الطبري: كان الرِّيح يدخل من دبره ويخرج من فيه، فيسمع له صوت آه، فكان من أجل ذلك
له خوار، أي: صياح، فلما رآه بنو إسرائيل قالوا:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)} [طه] كما أخبر تعالى عن ذلك في سورة طه، وسيأتي تمام الكلام هناك إن شاء الله تعالى.
ثم أعقب تعالى بعد بيان ما ارتكبوه بجهلهم، قوله:{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} ، أي: تركنا معاجلتكم بالعقوبة، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي: من بعد اتخاذكم العجل إلهًا {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: لأجل أن تشكروا، فـ "لعل" معناها هنا التعليل كما قاله الأخفش والكسائي. وحملوا عليه:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه]. ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء.
وهذه القصة تدل على أن القوم، كانوا لا يزال فكر فرعون مؤثرًا عليهم، بادعاء الحلول، فلما رأوا ذلك العجل فَطِنوا لما كمن في طبائعهم من الحلول، فعبدوا العجل، وكذلك كل فرقة يبقى في أفكارها شيء من هذه العقيدة سرعان ما تميل إليه، وتترك الدين الخالص، وأعلم أن ما أفسد الشرائع وأخرج النَّاس عن الصراط المستقيم، إلَّا هذه القاعدة الشيطانية، ففكر في أمر الفرق والأديان والملل والنحل، واجعل هذه القاعدة أساس البحث، تجد صدق هذا القول.
وفي هذه القصة تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل، فإن أولئك الأقوام، لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة، لما وقعوا في شبهة السامري، وكذلك في كل زمان سامري يتحيلُ لإلقاء الشبه بين المؤمنين، ويدعو إلى الحلول، فبينّ الله تعالى هذه القصة ليعتبر بها الذين يصغون لحيل المارقين الملبّسين على الأمة، وأيضًا فإن أشد النَّاس مجادلة للنبي صلى الله عليه وسلم، في أيامه، كانوا اليهود، وكانوا هم أشد أعدائه، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء إنَّما يفخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد، فكيف هؤلاء الأخلاف - والظلم في أصل اللغة: النقص- والمعنى: أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت، واشتغلوا بعبادة العجل، صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا.
ثم ذكر الله تعالى الإنعام الرابع على بني إسرائيل فقال:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} .
{الْفُرْقَانَ} هو: الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها، فيكون الكتاب نعت للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه بالفرقان، إذ كان من نعتها، كذا نقل معناه عن ابن عباس، ويدل على صحته ذكر الكتاب، وأن معنى الفرقان: الفصل. وقوله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، لتهتدوا على ما مر في قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ثم ذكر تعالى الإنعام الخامس بقوله:
تأويل ذلك: واذكروا أيضًا {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} من بني إسرائيل: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، ظلمًا تستحقون به العقوبة {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلهًا من دون الله، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها نفعًا ولا ضرًا، ولمن هي أشرف منه، فأنزلتموها من رتبة عزها، بخضوعها لمولاها الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، بخضوعها لمن هو دونكم أنتم، هذا هو أسوأ الظلم، فإن المرء لا يصلح أن يتذلل لمثله، فكيف بمن دونه من حيوان، فكيف بما يشبه بالحيوان من جماد الذَّهب الذي هو من المعادن، وهو أخفض الكائنات رتبة، حين لم تبلغها حياتها أن تبدو فوق الأرض كالنبات من النجم، والشجر، ولما فيه من الانتفاع بما يكون منه الحب والثمر، الذي ينتفع به غذاء ودواء، والمعادن لا ينتفع بها إلَّا في الآلات والنقود، ومنفعتها إخراجها لا إثباتها.
ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به، وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم.
والبارئ معناه: التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته، وقوله:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، معناه: أن توبتكم بقتل أقاربكم، وإن كانوا آباء أو أبناء، عبر عنهم بالنفس لذلك، فكأنه يقول: اقتلوا أنفسكم التي أوجدها بارئكم فقادتكم إلى غيره، ولما كان ما أمرهم به أمرًا لا يكاد يسمح به عظم الرغبة فيه، فقال:{ذَلِكُمْ} الأمر العظيم، وهو القتل، {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} القادر على إعدامكم، كما قدر على إيجادكم، وفي التعبير بالبارئ ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان، وترهيب بإيقاع الهوان، فإن فعلتم ذلك فقد تاب عليكم مع عظم جرمكم، ثم علل ذلك بقوله:{إنَّه} أي: لأنه {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، أي: ما زال هذا صفة له، لا لاستحقاق منكم عليه.
واختلف المفسرون في تفسير القتل، فذهب أكثرهم إلى أن الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوه، وفسروا {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} بالاستسلام للقتل. وفسر صاحب الكشاف اقتلوا أنفسكم بالبخع، وهو القتل غمًا، وظاهر التلاوة يشير إلى معنى القتل على حقيقته، وما يذكره القوم من كيفية، فإنما ظن وتخمين.
ولمَّا استتيبوا من عبادة العجل الذي يضرب به المثل في الغباوة، وطلبوا رؤية بارئهم بالحس على ما له من صفات الكمال، ناسين جميع النعم والنقم، مسرعين في الكفر الذي هو من شأن الحائر، فكان من أمرهم ما أخبر به تعالى في قوله:
هذه الآية تدل دلالة صريحة على أن القوم كانوا يعتقدون التجسيم في حق البارئ سبحانه وتعالى، وعلى ذلك تدل التوراة التي بأيديهم اليوم. وقد ذكر الله تعالى معتقد أسلافهم وبلادتهم، في قوله:{وَإِذْ قُلْتُمْ} ، بعدما رأيتم من الآيات وشاهدتم، من الأمور البينات:{يَامُوسَى} ، دعوه باسمه جفاء وغلظة كما يدعو
بعضهم بعضًا، وقولهم:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} ، معناه: لن نصدقك، ولن نقر بما جئتنا به، {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} عيانًا من غير خفاء، ولا نوع لبس برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتَّى تنظر إليه أبصارنا، وقد ذكر الله بني إسرائيل اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم لآيات الله، وعبره التي تختلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس، وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك، مرَّة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلهًا غير الله، ومرَّة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، إلى غير ذلك من أفعالهم التي نطق بها الكتاب العزيز، وآذوا نبيهم بها، وبين تعالى أن هؤلاء الموجودين حين نزول القرآن، لن يعدوا أن يكونوا كأسلافهم في تكذيبهم، وجحودهم نبوة من أنزل عليه هذا الكتاب، وتركهم الإقرار به، وما جاء به مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره.
ثم بين تعالى ما حصل لهم من الجزاء بقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ} ، لما صدر منكم من الفظاعة وانتهاك الحرمة، {الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إليها، والصاعقة: كل أمر هائل رآه الشخص أو عاينه، أو أصابه، حتَّى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، أو فقد بعض آلات الجسم، صوتًا كان أو نارًا أو زلزلة أو رجفًا، وما ذلك إلَّا بسبب تجرئهم على طلب ما لا يمكن حصوله، ولما كان إحياؤهم من ذلك في هذه الدار، غاية البعد وخرق العادة، عبر عنه بأداة التراخي فقال:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} ، أي: أحييناكم {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بالصاعقة التي أهلكتكم، وقد فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، لتتمكنوا من الإيمان، ومن تلافي ما صدر منكم من الجرائم.
ثم ذكر تعالى الإنعام السابع بقوله:
{وظللنا} معطوف على قوله: [{بَعَثْنَاكُمْ}](1)، والتأويل: {ثم بعثناكم من بعد موتكم
…
وظللنا عليكم الغمام}، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم. والغمام هو: ما غم السماء، فألبسها من سحابٍ وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين، وكل مغطى فإن العرب تسميه مغمومًا، والمعنى: فعلنا ذلك لترقية أجسامكم، وترويح أرواحكم، وذلك أن الله سخر لهم السحاب في التيه، يسير بسيرهم، ويظلهم من الشَّمس، وأنزل عليهم {المن} ، وهو الترنجبين مثل الثلج، يسقط من طلوع الفجر إلى طلوع الشَّمس، لكل إنسان صاع، {والسلوى}: هي طير السُّماني.
وهذه الخارقة، قد كان الصّحابة رضي الله عنهم في غنية عنها، لأنهم كانوا إذا احتاجوا دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بما عندهم من فضلات الزاد، فيدعو فيكثره الله تعالى، حتَّى يكتفوا عن آخرهم (2)، وأيضًا فإن بني إسرائيل كانوا يومئذٍ في التيه، لما كانوا عليه من مخالفة موسى عليه السلام، والصحابة رضي الله عنهم لم يخالفوا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، في ساعة من الساعات، حتَّى يحصل لهم ما حصل لقوم موسى، أو يقاسوا عليهم، هذا والذي في التوراة أن المن شيء دقيق مثل القشور، كان كالجليد على الأرض، فكان كل واحد يلتقط منه على حسب أكله، وكانوا يلتقطونه صباحًا فصباحًا، فإذا حميت الشَّمس ذاب، إلَّا يوم السبت فكان لا ينزل، وقيل لهم:{كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، أي: كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه، {وما ظلمونا} فيه، والتقدير: فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم ثم رسوله إليهم، وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، أي: ما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا، ومنقصة لنا، ولكن هم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها.
وفي هذه الآية ونحوها تحذير لمن يتلى عليهم القرآن، أن ينحوا نحو ما نحاه أولئك القوم، فيصيبهم مثل ما أصابهم، لأنَّ قصص القرآن ليس القصد منها
(1) زيادة يقتضيها السياق، وهي غير موجودة في الأصل.
(2)
كما في صحيح مسلم (27).
مقصورًا على ذكر الأولين فقط، بل كل قصة منه إنَّما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه، ولذلك تجد القصة تكرر تكررًا بحسب أهميتها، حتَّى لا ينسى ولا يجهل مكان الإشارة منها.
ولما بيّن تعالى نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وهو من النعم العاجلة، أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين، حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم، وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة، فقال:
أكثر المفسرين على أن القرية المذكورة هنا، هي: بيت المقدس، وقيل: هي أريحا، يقول تعالى:{وإذ قلنا} لبني إسرائيل {ادخلوا هذه القرية} ، وقد أمروا بدخولها بعد الخروج من التيه، {فكلوا منها} من هذه القرية {حيث شئتم} أكلًا (رغدًا}، وعيشًا هنيئًا واسعًا بغير حساب، {وادخلوا الباب سجدًا} أي: باب القرية، وقيل: هو باب القبة التى كانوا يصلون إليها، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام، وليكن دخولكم حالة كونكم ساجدين شكرًا لله، وتواضعًا، {وقولوا حطة} ، أي: وقولوا دخولنا ذلك سُجدًا حطة لذنوبنا، أي: ليحط الله عنا بذلك ذنوبنا وخطايانا، فإنكم إن فعلتم ذلك {نغفر لكم} ذنوبكم، نتغمد بالرحمة {خطاياكم} ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها، {وسنزيد المحسنين} ، أي من كان محسنًا منكم، كانت هذه الكلمة سببًا في زيادة حسناته وثوابه، ومن كان مسيئًا كانت له توبة ومغفرة. {فبدل الذين ظلموا} ، أي: غيّر الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، {قولًا غير الذي قيل لهم} ، أي: بدلوا قولًا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه، وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم، وحاصله: أنهم أمروا بقولٍ معناه: التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه، وهو لفظ "الحطة" فجاؤوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاؤوا
بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به، كما لو قالوا: مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك، أو اللَّهم اعف عنا، وما أشبه ذلك (1).
ثم بيّن سبحانه وتعالى أنَّه خص المبدلين بالعقاب نعمة منه، فقال:{فأنزلنا على الذين ظلموا} ، زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذانًا بأن أنزل الرجز عليهم لظلمهم، والرجز: العذاب، وأخرج ابن جرير الطبري: أنهم هلكوا بذلك الرجز، ولم يبق منهم إلَّا الأبناء، ففيهم الفضل والعبادة والخير التي توصف في بني إسرائيل، وهلك الآباء كلهم. وقوله:{بما كانوا يفسقون} معناه: بما كانوا يتركون طاعة الله تعالى، فيخرجون عنها إلى معصيته، وخلاف أمره.
ولما بيّن تعالي نعمته عليهم بالإمكان من القرية، بالنصر على أهلها، والتمتع بمنافعها، وختمه بتعذيبهم، أتبعه التذكير بنعمته عليهم في البرية بما يبرد الأكباد، ويحيي الأجساد، مذكرًا لهم بقدرة الصانع، فقال:
لما عطشوا في التيه، دعا لهم موسى عليه السلام بالسُقيا، والمعنى:{وإذ} استسقانا {موسى} ، أي: سألنا أن نسقي قومه ماء، فترك ذكر المسؤول لدلالة الكلام عليه، {فقلنا} له:{اضرب بعصاك الحجر} فضربه، {فانفجرت} ، فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه، وللمفسرين في بيان الحجر أقوال كثيرة، وليس على شيء منها دليل، غاية الأمر أن الله تعالى أخبر أنَّه قال لموسى عليه السلام: اضرب بعصاك الحجر، ولو كان لنا حاجة في بيانه لبينه تعالى.
(1) ليس أكثر المفسرين عليه، بل كان عليهم قول اللفظ الذي أمروا به وهو كذلك مخالف لصريح حديث البُخاريّ (4479) ومسلم (3015)، وتفسيره هذا نقله عن كشاف الزمخشري! !
ثم إنَّه أظهر لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم معجزة أعظم من معجزة موسى عليه السلام، وهي نبع الماء من بين أصابعه، وذلك أن نبع الماء إنَّما يكون من الحجر من الجبال والتلال، ومن التراب، فإن نبعه من دم ولحم فليس هذا من مظانه، فبذلك حصل الفرق بين المعجزتين. وأتى بلفظ الانفجار الذي يدور معناه على انشقاق فيه سيلان وانبعاث.
وقوله: {منه} ، أي: من الحجر {اثنتا عشرة عينًا} ، لكل سبط من الأسباط الاثني عشر عين، ولما توقع السامع إخبار المتكلم، هل كانت الأعين الموزعة بينهم معروفة أو ملبسة؟ قال:{قد علم كل أناس مشربهم} ، أي: مكتفاهم من الشرب المردد مع الأيَّام، ومع الحاجات، في كل وقت، لأنَّ مفعل مصدر هنا، أو اسم محل يلزمه التكرار عليه، والتردد، فجعل سبحانه سقياهم آية من آياته في عصاه.
ولما كان السياق للامتنان، قال على إرادة القول:{كلوا واشربوا من رزق الله} ، مما رزقكم من الطَّعام، وهو المن والسلوى، ومن ماء العيون، وقيل: الماء تنبت منه الزروع والثمرات، فهو رزق يؤكل منه ويشرب، وقوله:{ولا تعثوا} ، العُثِيّ أشد الفساد، أي: قيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم، لأنهم كانوا متمادين فيه.
ولما امتن عليهم بالنعم المارّ ذكرها، بيّن ما كان عليه القوم من الدناءة في مطالبهم فقال:
لما كان القوم فلاحة، نزعوا إلى أصلهم الرديء، وأعمالهم السيئة، وإلى عادتهم وديدنهم، فبطروا ما كانوا فيه من النعمة، وطلبت أنفسهم الشقاء، وهكذا
كل من ربي على عادة سيئة، لا بد أن ينزع إلى عادته مهما طال فراقها، ودنيء الأصل مهما هذبته، لا بد أن يقابل النعمة بالكفران، والحسنة بالسيئة.
فلذلك كان من شأنهم ما أخبر عنه تعالى بقوله: {واذ قلتم} ، أي بعد هذه النعم كلها:{ياموسى} ، منادين له باسمه من غير تعظيم، {لن نصبر} صبرًا طويلًا {على طعام واحد} ، أرادوا ما رزقوا في التيه من المن والسلوى، وجعلوهما طعامًا واحدًا، وإن كانا اثنين، باعتبار أن ذلك الطَّعام لا يتبدل وإن كان متعددًا، وإن كان شريفًا لا تعب فيه. أو أن المعنى كأنهم قالوا: إن المن والسلوى ضرب واحد لأنهما من طعام أهل التلذذ والترف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما يزيد إلَّا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول، فلذلك قالوا:{فادع لنا ربك يخرج لنا} ، يظهر لنا، ويوجد {مما تنبت الأرض من بقلها} وهو ما تنبته الأرض من الخضر، والمراد به: أطايب البقول التي يأكلها النَّاس، {وقثائها وفومها} وهو الحنطة في قول أكثر المفسرين، وهو المناسب لما هنا، لأنهم أرادوا مع هذه الأشياء الخبز، وقيل: هو الثوم، وهو الموجود في نسخة من التوراة مترجمة إلى العربيَّة في القرن الثامن، وهو للعدس والبصل أوفق، وقرأ ابن مسعود: وثومها وعدسها وبصلها.
ثم كأنه قيل: إن هذا العجب منهم، فما قال لهم موسى عليه السلام؟ فقيل:{قال} منكرًا عليهم: {أتستبدلون} ؟ أي: أتأخذون {الذي هو أدنى} في المنزلة والطعم، {بالذي هو خير} ، أي: بدله، فالباء للبدل، ثم كأنه قيل: فهل أجابهم إلى سؤالهم؟ فقيل (1): نعم، قال:{اهبطوا مصرًا} من الأمصار، فـ {إن} فيه {لكم ما سألتم} ، وينقطع عنكم المن والسلوى، و "المصر" هو: البلد الجامع لما يتعاون عليه من أمور الدُّنيا، التي تجمع هذه المطالب التي طلبوها، لأنَّ ما دون الأمصار لا يكون فيها، إلَّا بعضها، والهبوط هنا بمعنى النزول، يقال: هبط فلان الوادي، إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج، والمعنى: انحدروا من التيه إلى مصرٍ من الأمصار.
(1) الأصل: (فقال) والتصويب من "نظم الدرر" 1/ 414.
ولما نظم سبحانه بنبأ موسى عليه السلام، ما كان من نبئهم من يوشع بعده، نظم في هذه الآية بخطاب موسى ما كان منهم بعد يوشع، إلى آخر اختلال أمرهم، وانقلاب أحوالهم من جنس المظاهرة لنبيهم، وإلى حال الاعتداء والقتل لأنبيِائهم عليهم السلام.
وفي جملته إشعار بأن ذلك لم يكن منهم، إلَّا لأجل إيثار الدُّنيا ورياستها وما لها على الآخرة، إيثارًا للعاجلة على الآجلة. وفي طيه أشد التحذير لهذه الأمة في اتباعهم لسنن أهل الكتاب في مثل أحوالهم، ولذلك انتظم بها الآية الجامعة، وابتدأ بذكر الذين آمنوا من هذه الأمة، ثم استوفى الملل التي لها صحة على ما يذكر آنفًا إن شاء الله، ولما كان التقدير: ففعلوا ما أمروا به من هبوط المصر، فكان ما وعد به، عَطَفَ عليه، قوله:{وضربت عليهم الذلة} ، ملازمة لهم محيطة بهم، من جميع الجوانب، كما يحيط البيت من الشعر المضروب على الإنسان به. والذلة: اسم الذل، وهو صغار في النَّفس عن قهر وغلبة. {وضربت} عليكم {المسكنة} ، وهي: ظهور معنى الذل أو التذلل على ظاهر الهيئة والصورة، سكونًا وانكفاف حراك، فسلط الله عليهم العدو، فاستأصل منهم من شاء الله، ومن بقي منهم أخذ بأنواع من الهوان، {وباؤوا} أي: رجعوا، وصاروا أحقاء بغضب من الله، لجرأتهم على هذا المقام الأعظم المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة.
قال "الحرالِّي": وفيه تهديد لهذه الأمة بما غلب على أهل الدُّنيا منهم، من مثل أحوالهم، باستبدال الأدنى في المعنى من الحرام [و] المتشابه، بالأعلى من الطَّيِّب، والأطيب المأخوذ عفوًا واقتناعًا.
ولما كان الغضب إنَّما يكون على من راغم الجليل في معصيته، ووقعت منهم المراغمة في معصيتهم واعتدائهم، ذكر فعلهم فقال:{ذلك} أي: ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم، بسبب "أنهم" كانوا أي جبلَّةً وطبعًا {يكفرون} ، أي: مجددين مستمرين في الكفر {بآيات الله} ، فالكفر: تغطية الشيء وستره، وآيات الله حججه وأعلامه وأدلته، على توحيده
وصدق رسله، ومعنى الكلام: أنا فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
ويعني بقوله: {ويقتلون النبيين بغير الحق} : يقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه، وكان قتلهم لهم وهم يعتقدون أنهم معتدون عليهم، وأن قتلهم لهم كان بغير حق، وما ذلك إلا لأن الأنبياء نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، ولو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم، لم يذكروا وجهًا يستحقون به القتل عندهم، ثم علل هذه الجرأة بقوله:{ذلك} ، أي: الأمر الكبير من الكفر والقتل، {بما عصوا} أي: بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي، واعتدائهم حدود الله في كل شيء، وبما ارتكبوه من الاعتداء، وهو مجاوزة الحدود على سبيل التجدد والاستمرار، فإن من فعل ذلك مرد عليه، ومرن فاجترأ على العظائم.
ولما أنهى سبحانه وتعالى، نبأ أحوال بني إسرائيل، وذكر نهايته، مما بين إعلاء تكرمتهم بالخطاب الأوَّل، إلى أدنى الغضب على من كفر منهم بهذا النبأ الآخر، الذي أخبرنا بالإعراض عنهم في مقابلة الإقبال الأوَّل، وكانوا هم أول أهل كتاب، أشعر تعالى بهذا الختم أنهم صاروا قدوة لجميع من بعدهم، وأن جميع من بعدهم يكون لهم تبعًا فيما أصابهم من جميع أهل الملل الأربعة، فقال:
اختلف المفسرون في بيان المراد من قوله تعالى: {إن الذين آمنوا} ، وسبب اختلافهم قوله تعالى في آخر الآية:{مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} {البقرة: 126} فروي عن ابن عباس: أن المراد بهم من آمن قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري، ما معناه: أنَّه تعالى ذكر في أول السورة طريقة المنافقين، ثم طريقة اليهود، فالمراد من قوله تعالى: هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب، وهم: المنافقون، فذكر المنافقين، ثم اليهود، ثم النصارى، ثم الصابئين، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي، صار
من المؤمنين عند الله. وقال المتكلمون: المراد منَّ {الذين آمنوا} هم: المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وهو عائد إلى الماضي، ثم قوله:{من آمن بالله} يقتضي المستقبل، فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل، انتهى.
والذي أراه الصواب من القول في هذه الجملة [من الآية]: أن المراد من {الذين آمنوا} ، من آمن مطلقًا، سواء كان الإيمان ظاهرًا وباطنًا، أم ظاهرًا فقط، ثم إنَّه تعالى فصل في آخر هذه الآية، فأخبر أن من آمن منهم إيمانًا حقيقيًا، له أجر إيمانه عند ربهم، ومن لا، فلا، ويشهد لهذا التأويل قوله:{منهم} الدّالة على التبعيض، وهذا التأويل يضم إليه جميع الأقوال التي مضت عن المفسرين. و {الذين هادوا} معناه: تهودوا، يقال: هاد يهود وتهود، إذا دخل في اليهودية، وهو هائد والجمع هود. والنصارى قيل: سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح، وقيل نسبة إلى قرية الناصرة. وأمَّا الصابئون فإن هذا اللفظ مأخوذٌ من صبأ، إذ خرج من الدين، والسياق يقتضي أن يكون المراد من الصابئين، كل أمة لم تتقيد بدين اليهود، أو النصارى أو المسلمين، سواء كانت من المجوس، أو من عباد الأوثان والملائكة والجن، أم من غيرهم.
وقد روى ابن جرير عن مجاهد أنَّه قال: الصابئون ليسوا يهودًا ولا نصارى، ولا دين لهم. وفي "الملل والنحل" للشهرستاني يقال: صبا الرجل إذا مال وزاغ، فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق، وزيغهم عن نهج الأنبياء، قيل لهم: الصابئة، وقد يقال: صبا الرجل إذا عشق وهوى، وهم يقولون: الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال، ومدار مذهبهم على التعصب للروحانيين، انتهى.
إذا عرفت ذلك علمت أن قبسًا من هذا المذهب، سار بين أصناف البشر، فكثير منهم من يتعصب للأرواح، سواء كانت مفارقة لأجسادها، أو هي روح صرفة، فهؤلاء المذكورون في هذه الآية {من آمن} منهم، أي: داوم على الإيمان، إن كان مؤمنًا حقًا، أو جمع إلى الإيمان بلسانه الإيمان بقلبه، أو دخل في الإيمان إن كان كافرًا، وكان إيمانه {بالله واليوم الآخر} ،
فدخل في الإيمان بالله، الإيمان بما أوجبه، أعني: الإيمان برسله، ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة. ثم عطف عليه قوله:{وعمل صالحًا} ، أي وصدق ما ادعاه من الإيمان باتباع شرع الرسول الذي في زمانه، بالأعمال الظاهرة، ولم يفرق بين أحد من الرسل، ولا أخل بشيء من اعتقاد ما جاءت به الكتب من الصلاح، فهؤلاء {لهم أجرهم} الذي وعدوه على إيمانهم وعملهم {عند ربهم} ، متيقن جاري مجرى الحاصل، {ولا خوف عليهم} في حال الثواب في الآخرة، {ولا هم يحزنون} ، يومئذٍ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائمًا، لأنهم لو جوزوا كونه منقطعًا لاعتراهم الحزن العظيم.
ثم إنَّه تعالى، بعد أن أدخل هذه الآية أثناء قصة بني إسرائيل- لما لها من المناسبة في هذا الموضع، ولما بها من ترويح نفس القارئ لطول قصتهم، وهذا باب من البلاغة عجيب، لأنَّ القصة الطويلة إذا سردت سردًا ولم يتخللها معنى غريب، ملّ سامعها، بخلاف ما إذا تخللها بيان غرائب موضوعها - لا جرم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه، مبينًا أن هؤلاء أغلظ النَّاس أكبادًا، وأكثرهم جرأة وعنادًا لا يرعوون لرهبة، ولا يثبتون لرغبة - أو يقال: لما قرر الله سبحانه وتعالى، المذعن كائنًا من كان، تلاه بما لليهود من الجلافة الداعية إلى النفور عن خلال السعادة التي هي ثمرة العلم، وما له فسبحانه من التطول عليهم بإكراههم على ردهم إليه- فقال:
يقول تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: {و} اذكروا {إذ أخذنا ميثاقكم} ، أي: ميثاق اَبائكم بالعمل على ما في التوراة، {ورفعنا فوقكم الطور} حتَّى قبلتم، وأعطيتم الميثاق.
وهذه الآية تقتضي أن القوم لما نزلت التوراة على موسى عليه السلام، امتنعوا عن قبولها، وعن العمل بما فيها من التكاليف وادعوا أن موسى عليه السلام افتراها من تلقاء نفسه، فجعل الله تعالى رفع الطور فوقهم، علامة على أنَّها من عند الله تعالى، ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة، وصار عامًا لهم- بحيث إنَّه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان كما قال تعالى:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171]- أسقط حرف الجر هنا، فقال:{فوقكم} ، ولم يقل: من فوقكم {الطور} ، ترهيبًا لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وقلنا لكم وهو مطل فوقكم:{خذوا ما آتيناكم} من الكتاب {بقوة} وبجد وعزيمة، {واذكروا مافيه} ، واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه، ولا تغفلوا عنه {لعلكم تتقون} ، رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو إرادة أن تكونوا من المتقين، ولما كان التقدير فأخذتم ذلك، وأوثقتم العهد به، خوفًا من أن ندفنكم بالجبل، عطف عليه بـ {ثم} المشيرة للبعد، إشارة إلى أنَّه كان من حقكم البعد عن التولي، فقال:{ثم توليتم} ، أي: أعرضتم عن الأخذ به {من بعد ذلك} ، وذلك أن النفوس إذا توطنت على أمر الله فرأت محاسنه، رجعت بذلك إلى نحو من الفطرة الأولى، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، ثم لم ترجع عنه إلَّا لمنازعة من الهوى شديدة، ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد، أدخل الجار، فقال:{من بعد ذلك} ، أي: من بعد التأكيد على الوفاء به، ولولا تسبب عن توليكم أنَّه {لولا فضل الله عليكم ورحمته} بالعفو والتوبة، والإكرام بالهداية، والنصر على الأعداء، {لكنتم من الخاسرين} بالعقوبة.
ودل قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه} على أن الإيمان في الجملة ليس بمنجٍ، وليس المنجي إلَّا الإيمان بجميع ما أخذ عليهم به الميثاق، وهو جميع ما أتاهم في التوراة إيمانًا مصحوبًا بالقوة، يعني: بالاعتقاد الجازم بوجود الله والعمل بما في كتابهم عملًا خالصًا لله. وكان من جملة ما كلفوا به الإيمان بنبوة عيسى، ومحمد عليهما السلام.
فكذلك لا يكون الإيمان منجيًا لهذه الأمة إلَّا بالعمل بما في كتاب الله وشرعه، عملًا خالصًا لله تعالى (1).
فلذلك ذكر الله تعالى هذه الآية تقريعًا لليهود، وإرشادًا لهذه الأمة أن لا يقتدوا بأولئك.
ثم إن {الطور} اسم للجبل المعهود الذي وقعت المناجاة عليه، ومن الملاحدة من أنكر هذه القضية، وقال: لا يمكن وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد، ثم اعترض عليهم بوقوف الأرض أو حركتها وهي في الفضاء، فقالوا: إنَّما كانت كذلك لأنَّها بطبعها طالبة للمركز، فلا جرم وقفت به. وهذا منهم إنكار لقدرة الله تعالى، الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، وهو تعالى قادر على جميع الممكنات، ووقوف الثقيل من جملة الممكنات فوجب أن يكون الله قادرًا عليه.
وقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، إشارة إلى الجاذبية لأنها لا ترى، فالأفلاك كلها المستقر منها والمتحرك إنَّما حصَّل وظيفته بالجاذبية المخلوقة لله تعالى، والقوم إن أنكروا وجودها عدوًا جاهلين، وإن أثبتوها قيل لهم: إذا كان خالق الأكوان هو المتصرف في الجاذبية التي تجذب تلك الكرات العظيمة، فكيف يعجزه أن يسلط جزءًا منها على رفع جبل، هو ذرة بالنسبة إلى جبل عظيم من الأجرام العلوية.
وقد يقول البعض: إن هذا خطاب لمن كان بين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل الكتاب في أيامه، وهم لم يفعلوا شيئًا مما ذكر، فكيف يخاطبون بذلك؟ فيقال له: هذا وإن كان خبرًا من أسلافهم، لكنَّه خرج مخرج الخبر عنهم، على نحو ما كانت تفعله العرب، من أن القبيلة كانت تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب، بأسلاف المخاطَب، فتضيف فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم.
(1) أجمل المؤلف رحمه الله هنا، ما كان الواجب تفصيله، للخلاف المعروف في كتب العقائد. واقتصر على ما نقله البقاعي رحمه الله.
ولما بين سبحانه وتعالى أنهم ضيعوا أمرًا واحدًا من أوامره، واستخفوا به، وهو تحريم السبت، عذبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين فقال:
يقول تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا} ، أي: تعمدوا العدوان {منكم في السبت} ، بأن استحلوه وتركوا ما حللهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه، واشتغلوا بالصيد. وسبب ذلك: أن الله أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلَّا السبت، فألزمهم الله إياه، وجعله لهم محنة، وحرم عليهم فيه العمل، فابتلاهم بالسمك، فما كان يبقى حوت في البحر إلَّا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت، كما قال تعالى:{تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} [الأعراف: 163]، فحفروا حياضًا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم كانوا يصطادون على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم، وحلمه سبحانه، فتجاهروا بالمعصية، كان أمرهم على ما ذكره تعالى بقوله:{فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين} ، أي: كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو: الصغار والطرد، {فجعلناها} أي: تلك المسخة {نكالًا} أي: عبرة، تنكل، أي: تمنع من اعتبر بها، وقيدًا مانعًا {لما بين يديها} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها، {وما خلفها} ممن جاء بعدهم من الأمم والقرون، لأنَّ قصتهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، {وموعظة للمتقين} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، ولكل متقٍ من غيرهم، وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور، وأن النقم تقع في غيرهم وَعظًا لهم، هذا وقوله تعالى:{كونوا قردة خاسئين} ليس بأمر لهم لأنهم لم يكونوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد
منه سرعة التكوين، كقوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل] والمعنى: أنَّه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل لما قال {لهم كونوا قردة خاسئين} صاروا كذلك، أي لما أراد بهم ذلك صاروا كما أراد.
وقد اختلف المفسرون في معنى {كونوا قردة} ، فروى عن مجاهد: أنهم لم يصيروا قردة حقيقة؛ ولكن الله مسخ قلوبهم، بمعنى: أنَّه طبع وختم عليها. والأولى إبقاء الآية على ظاهرها، ولا يستبعد ذلك عقلًا لأن بنيَّة الإنسان عرضة للتبدل، فقد يكون السمين هزيلًا وبالعكس، ولما كانت الأجزاء متبدلة تبدلًا ظاهرًا، علم أن الإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس، وهو موجود مجرد، فلا امتناع في بقائه مع تطرق التبدل إلى هيكله، وهذا هو المسخ بذاته على ما تشير إليه هذه الآية، وليس المراد من المسخ هنا ما يدعيه القائلون بالتناسخ، من أن النفوس الناقصة التي بقي شيء من كمالاتها بالقوة تتردد في الأبدان الإنسانية، وتنتقل من بدن إلى آخر، حتَّى تبلغ النهاية فيما هو كمالها من علومها وأخلاقها، ويسمى هذا عندهم: نسخًا. وقالوا: ربَّما تنازلت إلى الأبدان الحيوانية، فتنتقل من البدن الإنساني إلى بدن حيواني يناسبه في الأوصاف، كبدن الأسد للشجاع، والأرنب للجبان، ويسمى مسخًا، وربما تنازلت إلى الأجسام النباتية، ويسمى رسخًا، أو إلى الجمادية كالمعادن ويسمى فسخًا، ويدعون أن هذه التنازلات المذكورة هي مراتب العقوبات، وإليها الإشارة بما ورد من الدركات الضيقة في جهنم، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في المحالِّ المناسبة له إن شاء الله تعالى.
ولما بين تعالى قساوة بني إسرائيل في حقوقه عامة، أتبعه بيان قساوتهم في مصالح أنفسهم، لينتج أنهم أسفه النَّاس فقال:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}.
قال البقاعي في كتابه "نظم الدرر": لم أر قصة البقرة في التوراة، فلعله مما أخفوه لبعض نجاستهم كما أشير إليه بقوله تعالى:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسببًا عنه، أنَّه قال في السَّفر الخامس منها ما نصه، فذكر ما يأتي، وأقول: وأنا أيضًا اطلعت على ما ذكر في هذا السَّفر في نسخة التوراة التي بيدي حين الكتابة، وقابلته على ما ذكره البقاعي، فوجدت فيه اختلافًا يسيرًا في التعريب دون المعنى، ولكني أوردت ما نقله هو لأنَّ تعريبه أتقن (1) قال؛ فإذا وجدتم قتيلًا في الأرض التي يعطيكم الله ربكم، مطروحًا لا يعرف قاتله، يخرج أشياخكم وقضاتكم، ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأي قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلًا لم يعمل به عمل، ولم يحرث فيه حرث، يذبحون العجل في ذلك الوادي، ويتقدم الأحبار بنو الَّلاوي الذين اختارهم الله بكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب، وعن قولهم يقضي كل قضاء، ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل، يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي، ويحلفون ويقولون ما سفكت أيدينا هذا الدم، وما رأينا من قتله، فأغفر يارب لآل
(1) الواقع أن أهل الكتاب لم يلتزموا نصًا واحدًا في الكتابين اللذين بين أيدهم- دائمًا- بل إن التبديل والتعديل ما زال مستمرًا، وقد راجعت أنا بعض النصوص في كتبهم المطبوعة فوجدت الخلاف بين طبعة وطبعة. كما رجعت إلى بعض مخطوطاتهما (المترجمة للعربية) فوجدت أشياء أخرى. ثم قابلت ما قاله الإمام ابن حزم نقلًا عنهم، وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا فيما نقله عنهم، فوجدت اخلافات لفظية وأحيانًا معنوية مما يثبت أن ذلك منهم.
إسرائيل شعبك الذي خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم، وأنتم فافحصوا عن الدم، واقضوا بالحق، وأبعدوا عنكم الإثم، واعملوا الحسنات بين يدي الله ربكم، انتهى.
وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع الأصل المذكور في القرآن العظيم، والذي تشير إليه في هذه القصة ما حكي عن ابن عباس، ونسبه الرَّازي إلى سائر المفسرين: أن رجلًا في بني إسرائيل قتل رجلًا، فاتصل خبره بموسى عليه السلام، فاجتهد في أن يعرف القاتل، فلم يظهر له، فقال له بنو إسرائيل: سل ربك حتَّى يبينه، فسأل ربه، فكان من أمره ما قصه الله علينا، وهو قوله {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} لتعرفوا بها أمر القتيل الذي أعياكم أمره، والتاء في {بقرة} ليست للتأنيث الحقيقي، بل هي التاء الدّالة على وحدة الجنس، فتقع على الذكر والأنثى.
ولما كان من حقهم المبادرة إلى الامتثال، والشكر على أن أجاب الله سؤالهم ولكنهم لم يفعلوا، بيّن فظاظتهم على طريق الاستئناف معظمًا لها، بقوله حكاية عنهم:{قالوا أتتخذنا هزوًا} ، أتجعلنا مكان هزؤ، أو أهل هزؤ، والهزؤ اللعب والسخرية، يقولون لموسى: إنك سخرت ولعبت بنا، ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر ونهي، هزؤ أو لعب. فطنوا بموسى أنَّه في أمره إياهم من أمر الله تعالى بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه، أنَّه هازئ لاعب، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة، وحذفت الفاء من قوله {أتتخذنا هزوًا} ، وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه.
{قال أعوذ بالله} أي: اعتصم بالله من {أن أكون من الجاهلين} ، لأنَّ الهزؤ في مثل هذا من باب الجهل والسفه.
{قالوا} تماديًا في الغلظة: {ادع لنا ربك} ، وهذا منهم في غاية الجفاء، حيث خصصوا موسى بالإضافة إلى الرب، ولم يقولوا: ربنا {يبين} أي: يبالغ
في البيان، لأنَّ صيغة التفعيل تقتضي المبالغة {لنا ما هي} تلك البقرة؟
{قال إنَّه يقول} ، ولما كانوا يتعنتون أكد بقوله:{أنَّها بقرة لا فارض} أي: ليست مسنة فرضت سنها أي: قطعتها، وبلغت آخرها، {ولا بكر} ، أي: وليست فتية صغيرة، بل هي {عوان} أي: نَصَفٌ {بين ذلك} أي: بين الفارض والبكر، {فافعلوا ما تؤمرون} فإن الإعتراض على من يجب التسليم له كفر.
ولما قال لهم موسى عليه السلام، ذلك لم يفعلوا، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السنن.
فـ {قالوا ادع لنا ربك} ، عادوا إلى جفائهم، {يبين لنا ما لونها} بعد بيان سنها فقال لهم مؤكدًا لكلامه أيضًا {قال إنَّه يقول: إنَّها بقرة صفراء}، وأكد شدة صفرتها بالعدول عن فاقعة إلى {فاقع لونها} ، أي: خالص في صفرته، والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض، {تسر الناظرين} ، أي تبهج نفوسهم. قال وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشَّمس يخرج من جلدها، والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} ، ثم عللوا تكريرهم ذلك بقولهم:{إن البقر تشابه علينا} ، أي: إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير، فاشتبه علينا أيها نذبح، {وإنا أن شاء الله لمهتدون} إلى البقرة المراد ذبحها، وإلى ما خفي علينا من أمر القاتل.
{قال إنَّه يقول أنَّها بقرة لا ذلول} ، أي: لم تذلل لقلب الأرض بالحرث، وإثارة الأرض، {ولا تسقي الحرث} ، أي: وليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروث، {مسلمة} من العيوب، أو معفاة من العمل، سلمها أهلها منه، {لا شية فيها} أي: لا علامة فيها تخالف لونها بل هي صفراء كلها.
{قالوا الآن جئت بالحق} أي: بحقيقة وصف البقرة، وما بقي إشكال في أمرها، {فذبحوها} ، أي فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها،
{وما كادوا يفعلون} ، أي: قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة الفعل، وهذا بيان الاستثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة. استكشافهم، ما كادوا يذبحونها، وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم.
ولما قسمت القصة شطرين تنبيهًا على النعمتين، نعمة العفو عن التوقف عن الأمر، ونعمة البيان للقائل بالأمر الخارق للعادة، وتنبيهًا على أن لهم بذلك تقريعين:
أحدهما: بإساءة الأدب في نسبة الاستهزاء لسيدنا موسى عليه السلام، والتوقف عن الامتثال. والثَّاني: على القتل وما تبعه، ولو رتبت القصة ترتيبها في الوجود، لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت، ثم أتبعه الآخر، وذلك أنَّه لما وجب عليهم السبت، أخذوا يقترحون ويسألون إياه حتَّى شدّد عليهم كما فعلوا في أمر البقرة.
والشطر الثَّاني هو قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفسًا} ، أسند الفعل إلى الكل، والقاتل واحد لأنَّ ذلك عادة العرب، لأنَّ عادة القبيلة المدافعة عن أحدهم، {فادّارَأتم} ، فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأنَّ المتخاصمون، يدرأ بعضهم بعضًا، أي: يدفعه ويزحمه، ويصح أن يراد بـ "ادّارأتم" توافقتم، بمعنى: طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح، فكأن لهم بذلك ثلاثة آثام: إثم الكبيرة، وإثم الإصرار، وإثم الافتراء بالدفع، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة.
ولما كان فعلهم في المداراة فعل غافل عن إحاطة علم الخالق سبحانه، قال يحكي حالهم إذ ذاك:{والله مخرج ما كنتم تكتمون} ، أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل ألا يتركه مكتومًا.
ثم بيّن لهم تعالى سر عظمته وكبريائه، وغفلتهم عن إحاطة علمه تعالى، فقال:{فقلنا اضربوه} ، أي اضربوا النَّفس التي قتلتموها {ببعضها} ، أي ببعض البقرة، وذكر النَّفس على إرادة الشخص بها. قال أبو علي الفارسي في كتاب
"الحجة": قلنا اضربوا المقتول ببعض البقرة، فضربوه به فحيي، يعني: والدليل على هذا المحذوف قوله تعالى {كذلك} أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة، {يحيي الله الموتى} مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد.
وهذه المعجزة الخارقة للعادة، هي مثل ما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البُخاريّ ومسلم، عن أنس والإمام أحمد عن ابن عباس، والدارمي والبيهقي عن جابر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما افتتح خيبر واطمأن النَّاس، أهدت زينب بنت الحارث لصفية زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم، شاة مَصلية وقد سألت: أي عضو الشَّاة أحب إلى رسول الله، فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم، ثم سمت سائر الشَّاة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور (بمهملات) فقدمت إليه الشَّاة المصلية، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف، وفي لفظ الذراع، وانتهس منها فلاكها، وتناول بشر عظمًا فانتهس منه، قال ابن إسحاق: فأمَّا بشر فساغها، وأمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، وقال ابن شهاب الزهري: فلما استرط رسول الله، استرط بشر ما في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارفعوا ما في أيديكم فإن كتف هذه الشَّاة يخبرني أني نعيت فيها". قال بشر بن البراء: والذي أكرمكم لقد وجدت ذلك في أكلتي، فما منعني أن ألفظها إلَّا أني أعظمت أن أبغضك في طعامك، فلما استقر ما في فيك لم أكن أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا أكون استرطتها، فلم يقم بشر من مكانه حتَّى عاد لونه كالطيلسان، يعني: أصفر شديد الصفرة، قال ابن حجر في "فتح الباري": وماطله وجعه، واحتجم رسول الله وبقي ثلاث سنين، حتَّى كان وجعه الذي توفي فيه؛ وقال ابن القيِّم في "زاد المعاد": إن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انتهس من ذراع الشاة أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة، انتهى.
ولما كان حصول المعصية من بني إسرائيل بعد رؤية هذا الأمر الخارق مستبعد التصور فضلًا عن الوقوع أشار إليه بقوله:
جعل تعالى وصف قلوبهم بالقسوة والغلظة، مثلًا لنبوّها وتباعدها عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تؤثر فيها وقوله:{من بعد ذلك} ، إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة، فهي في قسوتها مثل الحجارة التي هي أبعد الأشياء عن حال القلوب، فإن القلب أحيى حي، والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنَّه قد يلين، ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين ليّن، وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء، كانت بحيث تحير الناظر في أمرها، هل هي في القسوة {كالحجارة أو أشد قسوة} لأنَّها لا تلين للذي حقه أن يلينها، والحجر يلين لما حقه أن يلين، وكل وصف للحي يشابه ما دونه يكون أقبح في الحي مما دونه، من حيث إن الحي مهيّأ لضد تلك المشابهة بالإدراك، ولما كان لقلوبهم فضل على الحجارة في شدة القسوة، قال تقريرًا لقوله:{أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لما يتفجرُ منه الأنهار} ، أي: من الحجارة {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء} ، أي: وإن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقًا بالطول أو بالعرض فينبع منه أيضًا، {وإن منها لما يهبط من خشية الله} ، أي: ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله، لأمر الملك الأعلى سبحانه وتعالى له بذلك، وقلوب هؤلاء وهم بنو إسرائيل ومن كان على شاكلتهم، لا تنقاد لشيء من الأوامر، فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل، كالإرادة في حق الحجارة لما فيها من الجمادية، وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب.
ولما كان التقدير: وما أعمالكم مما يرضي الله، عطف عليه قوله:{وما الله بغافل عما تعملون} ، فانتظروا عذابًا مثل عذاب أصحاب السبت، والمعنى: وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل، من بني إسرائيل وأحبار اليهود، عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنها يحصيها عليكم فيجازيكم بها في الآخرة، أو يعاقبكم بها في الدُّنيا.
هذا وفي الآية إشارات: أولها: أن التشديد في السؤال والتعنت فيه موجب