المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الدليل على أن اليهود ممن أحاطت به خطيئته - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ الدليل على أن اليهود ممن أحاطت به خطيئته

{وعملوا الصالحات} ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه، فبينوا أن قلوبهم مطمئنة بالإيمان، {أولئك} الذين علت مراتبهم وشرفت مناقبهم {أصحاب الجنَّة هم فيها خالدون} ، مقيمون فيها أبدًا، وترك الفاء من {أولئك} هنا ليدل على أن سبب سعادتهم إنَّما هو الرحمة المفاضة عليهم منه تعالى، لا بسبب أعمالهم.

ثم شرع سبحانه يقيم‌

‌ الدليل على أن اليهود ممن أحاطت به خطيئته

فقال:

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} .

فقوله تعالى {وإذ أخذنا} ، معناه: اذكروا ما تعلمون في كتابكم مِن حال من أصاب سيئة محيطة، واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم، فالمقام هنا مقام إضمار، ولكنّه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وعيرهم، فقال:{ميثاق بني إسرائيل} ، وهذا على تقدير حذف ما تعلقت به {إذ} ، ويجوز أن يكون معطوفًا على {نعمتي} في قوله تعالى:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40 - 47] لأنَّ الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم.

ولما كان الدين، إنَّما هو الأدب بين الخالق والخلق، ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتبًا له على الحق فالأحق، فقال: ذاكرًا له بصيغة الخبر، مريدًا به النَّهي والأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنَّه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه ودل على إرادة ذلك بعطف:{وقولوا للناس حسنًا} عليه، و {الميثاق} وزنه مفعال، مأخوذٌ من التوثق باليمين ونحوها من الأمور التي تؤكد القول، فكأنه تعالى يقول: إنَّه ما من شريعة، إلَّا وقد [أخذنا] على أهلها الميثاق بأن لا يعبدوا إلَّا الله المنعم الحقيقي الذي له الأمر كله، وأنتم معشر بني إسرائيل، قد أخذ عليكم هذا الميثاق بذاته، فلم نقضتم الميثاق وغيرتم وبدلتم وعبدتم الأشخاص؟

ص: 242

ثم بيّن بقية ما أمرهم به، إعلامًا بأن الشرع إنَّما هو معرفة الخالق ومعرفة ما يجب له، ثم معرفة حقوق الخلق على بعضهم بعضًا فقال:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأحسنوا، أو تحسنون بالوالدين إحسانًا عظيمًا، وإنَّما قدم الإحسان بالوالدين على ما بعده وعطفه على قوله:{لَّا تعبدون إلَّا الله} ، لأنَّ الوالدين في المرتبة الثَّانية، حيث جعلهما الله سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأوَّل، والمباشرين للتربية، واسمهما مشتق من الولادة لأنهما السبب أيضًا في استبقاء ما يتوقع ذهابه، بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه، ولذلك أكد سبحانه وتعالى الوصيَّة بهما وكررها في كتابه العزيز فقالها:{وبالوالدين إحسانًا} ، فأطلق الوالدين ولم يقيدهما بكونهما مؤمنين، ولا بكونهما كافرين، ومن المعلوم في فن الأصول أن الحكم إذا ترتب على وصف أشعر بعلية ذلك الوصف، فالَاية دالة على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين، وهذا يقتضي العموم.

ثم إنَّه تعالى بين في قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء]، السبب الذي من أجله كان وجوب التعظيم، وبالغ في المنع من إيذائهما بقوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء] ثم قص علينا قصة إبراهيم عليه السلام وكيف كان يتلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان، في قوله:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم] إلى محال من الكتاب الكريم جاءت في هذا الصدد، ثم إن أباه كان يؤذيه ويجيبه بالأجوبة الغليظة، وهو يتحمل ذلك ولا يعامله إلَّا بالإحسان، ولم يقص الله علينا قصته إلَّا لأجل أن نفتدي به كما أرشدنا إلى ذلك بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ومن الإحسان إليهما أن لا يؤذيهما ألبتة، وأن يوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجون إليه، وأن يدعوهما إلى الإيمان، إن كانا كافرين وهو مؤمن ويأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين.

ص: 243

وقد قرن الله تعالى عقوق الوالدين بالشرك فيما رويناه (1) من طريق البُخاريّ ومسلم والترمذي، عن أبي بكرة رضي الله عنه، أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ثلاثًا" قلنا: بلى يا رسول الله، قال:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس، فقال:"ألا وقول الزور، وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتَّى قلنا ليته سكت.

ومن طريق البُخاريّ عن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا:"الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النَّفس، واليمين المغموس".

ولما كان حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين، لأنَّ الإنسان إنَّما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين، والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى لا جرم قد ذكر الوالدين، ثم عطف عليهما قوله {وذي القربى} ولا يخفى في هذا من القواعد التي يحتاج إليها العمران وذلك لأنَّ القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيحاش والضرر وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب.

ويدل لهذا المعنى، حديث الصحيحين عن أنس بن مالك أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يبسط عليه" وفي رواية "له في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه" ورواه البُخاريّ والترمذي، عن أبي هريرة بلفظ:"من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه" فبين صلى الله عليه وسلم: أن صلة الرحم تكون سببًا من جملة أسباب بسط الرزق، أي: كثرته ووسعه، وسببًا في إنساء الأثر أي: تأخير الأجل.

وبيانه: أن الله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها في هذا العالم، ولا يمكن

(1) الحديث متَّفقٌ عليه، واستعمل المؤلف رحمه الله هذا اللفظ إشارة منه إلى أنَّه يروي ما في الصحيحين والترمذي بالسند المتصل. وكذلك كان بعض علماؤنا يفعلون، اعتمادًا منهم على الإجازات التي أخذوها عن مشايخهم.

ص: 244

التوصل إلى المسببات إلَّا بأسباب التعاون والتعاضد، وحصول ذلك مشروط بارتباط القلب بالخالق أولًا ثم بحسن السياسة مع الوالدين، واكتساب رضائهما، ثم بحسن السياسة مع ذوي القربى، لأنَّ الارتباط معهما يسهل أسباب المعاش ويحصل به التعاون والتعاضد على التجارة والزراعة والصناعة، وليس إخلاص قريبك لك كإخلاص البعيد عنك لأنَّ قريبك إذا كان مخلصًا لك ربَّما قدمك على نفسه لما بينكما من عطف القرابة، ووداد الألفة والمحبة، بخلاف البعيد عنك، وإذا حصل التعاون والتعاضد والإحسان من القريب انبسط الرزق، ورأى الواصل لرحمه وأقاربه بركة في حياته ونوع هناء بها، فيكون كأنه في أجله، وشتان بين من ينقضي عمره في كدر، وبين من هو في يسر وبسطة عيش.

وأيضًا فإن الاشتغال بمقاومة الأقارب يضيع الأوقات فيما لا نفع فيه، وذلك كناية عن قصر العمر، ومسالمتهم ووصلتهم تجعل الأوقات متفرغة للأعمال العائدة على الواصل بالنفع، وهذا كناية عن التأخير في الأجل، من هنا انتزع ابن خلدون قوله في "مقدمة تاريخه": إن صلة الرحم طبيعي في البشر إلَّا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا، فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبًا جدًا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام، كانت تلك الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها، وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها، ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارًا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه.

ومن هذا الباب الولاء والحلف، إذ نعرة (1) كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النَّفس من اهتضام جارها، أو قريبها، أو نسيبها بوجه من

(1) غير واضحة في الأصل ولعلها النغرة: الحقد، وغلا جوفه غضبًا، ويمكن أن تكون (النفرة) ولها وجه.

ص: 245

وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء، مثل لحمة النسب أو قريبًا منها ومن هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"(1) بمعنى: أن النسب إنَّما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتَّى تقع المناصرة والنعرة، وما فوق ذلك مستغنى عنه، إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنَّما هو في هذه الوصلة والالتحام.

فإذا كان ظاهرًا واضحًا حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه، وإذا كان إنَّما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم، وذهبت فائدته وصار الشغل به مجانًا ومن أعمال اللهو المنهي عنه، ومن هذا الاعتبار معنى قولهم: النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر، بمعنى: أن النسب إذا خرج عن الموضوع وصار من قبيل العلوم، ذهبت فائدة الوهم فيه عن النَّفس، وانتفت النفرة التي تحمل عليها المعصية، فلا منفعة فيه حينئذٍ، هذا كلام ذلك العالم العمراني.

ولما كانت الشفقة على الضعيف من مقتضى الكمالات الإنسانية، والقسوة عليه من مقتضى التوحش، عطف تعالى على قوله:{وذي القربى} ، قوله:{واليتامى والمساكين} ، فأوصى باليتامى لضعفهم، وبالمساكين لكسرهم، وأيضًا فإن اليتيم كالتالي لرعاية حقوق الأقارب، وذلك لأنَّه لصغره لا ينتفع به، وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه، والإنسان قَلَّما يرغب في صحبة مثل هذا، وإذا كان هذا التكليف شاقًا على النَّفس لا جرم، كانت درجته عظيمة في الدين، وأخر المساكين عن اليتامى في الذكر، لأنَّ المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام، فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى، ولأن المسكين أيضًا يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك.

وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم، على السعي على المسكين واليتيم، فأخرج البُخاريّ ومسلم، والإمام أحمد والترمذي والنَّسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه

(1) هو في "صحيح الجامع الصَّغير" رقم (2965).

ص: 246

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله .. " قال: وأحسبه قال: "كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر"، وفي لفظ:"كالذي يصوم النهار".

وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم - له أو: لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنَّة". وأشار الراوي بالسبابة والوسطى.

ولمَّا لم يكن وسع النَّاس عامة بالإحسان بالفعل ممكنًا، أمر بجعل ذلك بالقول، فقال:{وقولوا للناس حسنًا} أي: حَسَنًا بالتحريك، وبها قرئ، ويجوز أن حسْنًا بسكون السين، بمعنى: وقولوا للناس قولًا هو حُسنٌ في نفسه، على حد قولك: زيد عَدْلٌ، أي: لإفراط حسنه صار كأنه هو الحسن. وقال سفيان الثوري: في معنى: {وقولوا للناس حسنًا} ، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال عطاء بن أبي رباح: من لقيت من النَّاس فقل له حسنًا من القول.

والذي يلوح من سر الآية التفصيل، واعتبار كل مقام بحسبه، فإن كان القول للدعوة إلى الإمام فليكن بالرفق واللين، كما قال الله تعالى لموسى وهارون:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وإن كان لدعوة الفساق ونحوهم للطاعة، فليكن بحسن القول كما قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96].

ومن المعلوم: أنَّه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل عنه إلى غيره، وما دخل الرفق في شيء إلَّا زانه، وما دخل الخَرَق في شيء إلَّا شانه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى:{وقولوا للناس حسنًا} وأنت إذا تأملتها حق تأملها أرشدتك إلى قواعد العمران، وإلى المدنية الصحيحة، لأنَّ القائم بأمر ما لا يقدر على القيام به بنفسه، ولابد له من معونة أبناء جنسه، فإذا قام به بفظاظة وغليظ القلب واستبداد، تربص به قومه السوء،

ص: 247

وتحينوا الفرص للإيقاع به، وإذا قام به الحسنى واختبار طباع قومه، وساسهم بالقول الحسن، ولم يدع ممكنًا في اتحادهم، وتأليف قلوبهم إلَّا سلكه، التفوا حوله، وقالوا بقوله، وانتظموا في سلك إرادته، وأوصلوه إلى غايته، فإن للكلام مغناطيسًا في خاصية الجذب إذا أحسن المتكلم استعماله، وخاصية التنفير إذا رُتب على غير مقتضاه.

وإلى هذا يشير الأثر المشهور: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا" ولا تخفاك تلك الروعة التي تأخذك حينما تسمع المواعظ والزواجر من كلام علام الغيوب، وترى منها تأثير الجاذبية التي تكاد تجذبك إلى الملأ الأعلى وإلى مقام القدس، وتهدي لك روحًا لم تكد تخطر من قبل في خيالك، وانظر نفسك إذا مر على أذنك كلام لم يلائم طبيعتك، ولمن يتفق مع مشربك، كيف يحصل لك ذلك الانقباض وتلك النفرة التي ربَّما لم تكن تعهدها من نفسك، فيا لله ما أكثر معاني قوله تعالى:{وقولوا للناس حسنًا} وما أبهرها للعقول.

ولما أمر الله تعالى بني إسرائيل بما إن امتثلوه، اجتمعت كلمتهم، ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال:{وأقيموا الصَّلاة} ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه، فقال:{وآتوا الزكاة} ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد، ولا سيما إذا كانت بعهد، ولا سيما إذا كان العهد من الله، أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال:{ثم توليتم} ، سالكًا هذا اللفظ مسلك الالتفات، أي: توليتم عن الميثاق ورفضتموه {إلَّا قليلًا منكم} ، إلَّا من عصمه الله منكم فوفى الله بعهده وميثاقه، و {أنتم معرضون} ، وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق وعادتكم التولية، ومعنى الإعراض التولي، وهذا الخطاب لبني إسرائيل الذين وجدوا حين نزول القرآن، وبعد نزوله، فكأنه تعالى يقول: إن سلفكم أمروا بهذه المأمورات، فتولى أكثرهم عنها وأعرضوا، وأنتم تابعون لهم في التولي والإعراض، فحق عليكم ما حق على سلفكم من كلمة العذاب.

وقص تعالى على المؤمنين هذه القصة، تحذيرًا لهم من أن يسلكوا ما سلكه بنو إسرائيل، فيصيبهم ما أصابهم.

ص: 248

ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك: القتل، تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم من العهدْ، وقرن به الإخراج من الديار، لأنَّ المال عديل الروح والمنزل أعظم المال، وهو للجسد كالجسد للروح، فقال:

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)} .

هذه الآية خطاب لأسلاف اليهود، وتقريع لمن خلفهم من بعدهم، وزجر للمؤمنين من أن يفعلوا ذلك.

وقوله: {لا تسفكون دمائكم} ، يصح حمله على الحقيقة وعلى المجاز، فأمَّا حمله على الحقيقة فيكون على معنى: لا تفعلون القتل بأنفسكم لشدة تصيبكم، وحنق يلحقكم، وإلى هذا يشير ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي بتقديم وتأخير، والنَّسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" فقوله: تردى معناه: رمى بنفسه من الجبل أو غيره، وقوله يتوجأ يها مهموزًا معناه: يضرب بها نفسه.

وأخرج البُخاريّ عنه، أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النَّار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النَّار، والذي يقتحم يقتحم النَّار".

وأخرج مسلم عن جندب بن عبد الله مرفوعًا: "أن رجلًا كان ممن كان قبلكم خرجت بوجهه قُرحة، فلما آذته انتزع سهمًا من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتَّى مات، قال ربكم: قد حرمت عليه الجنَّة" قوله: "فلم يرقأ" معناه: لم يجف، ولم يسكن جريانه. والكِنانة بكسر الكاف جعبة النشاب، ونكأها بالهمز نخسها وفجرها. وفي البات أحاديث في دواوين المحدثين ليس هنا محل استقصائها.

ص: 249

وأمَّا حمله على المجاز فمعناه: لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنى بعد الإحصان، والمحاربة وقتل النَّفس بغير حق، ونحو ذلك مما يزيل عصمة الدماء.

أو معناه: لا يفعل ذلك بعضكم ببعض، على جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلًا أو دينًا، وهذا المعنى اختاره الزمخشري ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"(1).

وقد يظن في بادئ الأمر أن هذا النَّهي لا فائدة فيه، ولكن متى تأمل الاحتمالات المتقدمة تلاشى ذلك الظن، وعلم من أولها أنَّه نهى عما يعتقده فلاسفة الهند من البراهمة وغيرهم، من أنهم يقدرون في قتل النَّفس التخلص من عالم الفساد الذي هو عالم العناصر، واللحوق بعالم النور والصلاح الذي هو عالم الروح.

ولا يخفى ما في هذا النَّهي من انتظام أمر العمران، وما في ضده من الخضوع للذل المؤدي إلى خراب الدُّنيا، وجعل أصحاب هذا الفكر خاضعين لسلطة الغير عليهم، ثم إذا انتقلوا بقتل أنفسهم إلى عالم النور الذي يتوهمونه وصلوا إلى عالم الظلمة، فيتألمون به أبد الآباد، ولما كانوا في هذيان وضلال، ردهم تعالى إلى الحق في هذه الآية والتي قبلها.

وفي قوله تعالى: {لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} سر آخر، وهو أنَّه أشار بالكاف والميم الدالين على الجمع، إلى أنَّه متى كانت الملة واحدة كان جميع المتبعين لها كرجل واحد، قال عليه الصلاة والسلام:"إنَّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(2). وقوله: {ولا تخرجون أنفسكم من

(1) هو في "صحيح الجامع الصَّغير" برقم (7276).

(2)

المصنف نقله عن الطبري. قال الشَّيخ شاكر: الظاهر أنَّه رواه بالمعنى. ونص الحديث كما في "صحيح الجامع الصَّغير" رقم (5849): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ص: 250

دِيَارِكُمْ}، يشارك ما قبله في معانيه، فيكون معناه: لا تفسدوا فيكون الإفساد مسببًا لإخراجكم من دياركم، أو: لا يخرج بعضكم بعضًا من دياره، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو: لا تخرجوا أنفسكم يعني: إخوانكم، لأنكم كنفس واحدة حيث كنتم ملة واحدة.

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} عليها، وإقرارها بذلك الميثاق وإن كان مأخوذًا على أسلافهم لكنهم لما وصلهم بواسطة التوارة، وأذعنوا لصدقه، صاروا مشاركين لِمَنْ أخذ الميثاق عليهم في زمن موسى عليه السلام، ومعنى هذا الميثاق مذكور في التوراة، في السفر الثاني منها، كما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل، ولشهرة التوراة اليوم استغنينا عن نقل هذا السفر هنا.

ثم إنه تعالى بين مخالفتهم لما أخذ عليهم من الميثاق مع شهادتهم به فقال:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}

الكلام خارج مخرج الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل، والإجلاء والعدوان، بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم، والإشارة بهؤلاء إلى أنهم الحقيرون المقدور عليهم، المجهولون الذين لا يعرف لهم اسم ينادون به، المرجؤون الأن.

و{أَنْتُمْ} هنا مبتدأ خبره {هَؤُلَاءِ} ، ثم استأنف البيان عن هذه الجملة فقال:{تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، ولا تلتفتون إلى هذا العهد الوثيق، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُم} أي: ناسًا مساكين من أسفالكم، فهم جديرون منكم بالإحسان لا بالإخراج من ديارهم.

ص: 251

روى أبو العالية: أن بني إسرائيل كانوا إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، ولما كان من المستبعد جدًّا بعد الاستبعاد الأول أن يقعوا في ذلك على طريق العدوان، استأنف ذلك بقوله:{تَظَاهَرُونَ} أي: تتعاونون وتتناصرون {عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ} ، وهو أسوأ لاعتدائه في قول أو فعل أو حال، ويقال للكذوب: أثوم لاعتدائه بالقول على غيره، وقيل: الإثم هو الَّذي تنفر منه النفس ولا يطمئن له القلب، وهذا القول أولى لأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم فسر الإثم بقوله:"والإثم ما حاك في القلب، وكرهت أن يطلع عليه الناس"(1).

على أن القولين عند التحقيق يرجعان لمعنى واحد، لأنَّ الاعتداء والكذب لا يطمئن لهما القلب، ويخشى صاحبهما من اطلاع الناس على حاله وانكشافه لهم، {وَالْعُدْوَانِ} هو تجاوز الحد في الظلم، {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ} أي: هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم {أُسَارَى} جمع أسرى، وهو جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو "القد" وهو ما يقد أي: يقطع من السير، {تُفَادُوهُمْ} أي: تخلصوهم بالمال، مأخوذ من الفداء، وهو الفكاك بعِوَض، وتفادوهم من المفاداة وهي الاستواء في العوضين، ثم أكد تحريم الإخراج بزيادة لفظ "هو" والجملة الاسمية في قوله:{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} مأخوذ من التحريم، وهو تكرار الحرمة بكسر الحاء، وهي المنع من الشيء لدناءته، والحُرمة بالضم المنع من الشيء لعلوه، ولما كان المتقدم أربعة أشياء: قتل النفس، والإخراج من الديار، والتظاهر بالإثم والعدوان، والمفاداة، وكلها محرمة، خصص الإخراج من الديار بقوله:{إِخْرَاجُهُمْ} ، لأنَّه أعظم إخوانه، لأنَّ الإخراج من الديار فيه من معرة الجلاء، والنفي ما لا ينقطع شره إلا بالموت، بخلاف القتل فإنه وإن كان فيه هدم البنية لكنه ينقطع به الشر دفعة واحدة، وبخلاف المفاداة فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر، لأنَّه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ما وقعوا في قيد الأسر.

ثم إنه تعالى أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام، فقال:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} أي: التوراة وهو الموجب للمفاداة، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، وهو المحرم

(1) الحديث بنحوه في "صحيح الجامع الصغير"2880.

ص: 252

للقتل والإخراج، وإنما كانوا يفعلون ذلك فيبذلون المال لتخليص الأسرى، ويتركون بقية المأمور به، لئلا يتبع الأسرى غير دين اليهودية، فهم يفعلون بهم ذلك ليردوهم إلى الكفر، وبذلك يندفع ما أورد في هذا المقام، وتحير الفخر الرازي رحمه الله في الجواب عنه فقال:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فقد اختلف العلماء فيه على وجهين:

أحدهما: إخراجهم كفر، وفداؤهم إيمان، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: وابن جريج، ولم يذمهم على الفداء، وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض، وقد تكون المناقضة، أدخل في الذم. لا يقال: هب أن ذلك الإخراج معصية، فلِمَ سماها كفرًا، مع أنَّه ثبت أن العاصي لا يكفر؟ لأنا نقول: هم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب، مع أن صريح التوراة كان دالًا على وجوبه.

وثانيهما: المراد به التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الحجة في أمرهما على سواء، يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض. هذا كلامه.

وأنت خبير بأن الله تعالى إنما ذمهم، لأنهم لا همّ لهم إلا مقاومة دين الله وشرعه، والتلاعب به على مقتضى أهوائهم، حفظًا لرياستهم واستبدادًا منهم على ضعفائهم، فانتقض بذلك أمرهم عليهم، وحل بهم ما حل من البلاء، وكذلك كل أمة سلكت هذا المسلك فإنه يصيبها ما أصابهم، ويتلاشى أمرها حتَّى ترجع إلى دينها.

وهنا للمفسرين أقوال: منها أن بني قُريظة كانوا حلفاء الأوس، وبنو النضير كانوا حُلفاء الخزرج، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم، واذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتَّى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا، ومنها أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب، ولا يفادي من

ص: 253

وقع عليه الحرب، فقال له ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.

وقال مجاهد: معناه إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك.

ثم إنه تعالى سبب عما ذكره في الآية قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ} ، أي: إلَّا ضد ما قصدتم بفعلكم من العز، والخزي إظهار القبائح التي يستحي من إظهارها عقوبة، وهذا معنى من فسر الخزي بالذم العظيم والتحقير البالغ، وبعض المفسرين خصه ببعض الأنواع، فالأولى فيه التعميم، وهذا وعيد لهم في الدنيا وجزاؤهم بها.

ثم بين جزاءهم في الآخرة، وأنهم يجازون على ذلك في الدنيا والأخرى، فقال:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ} أي: يصيرون إلى أشد العذاب، لأنَّ عذاب الدنيا ينقضي وعذاب الآخرة لا انقضاء له، ولما كانت المواجهة بالتهديد أدل على الغضب، التفت إليهم فقال:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: عن شيء مما تعملون من هذا ومن غيره. والالتفات مبني على قراءة الجماعة تعملون بتاء الخطاب، وقرأ نافع وابن كثير يعملون بالغيب على الأسلوب الماضي، وأورد الرازي على هذه الآية سؤالًا هو: أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع، يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود، فكيف قال في حق اليهود:{يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} ؟ وقد تقدم لك التلميح عن هذا الجواب، ويصرح به ما أجاب به الرازي، بأن المراد من {أَشَدِّ الْعَذَابِ} ، أن العذاب الَّذي يعذبون به في الآخرة أشد من العذاب الَّذي يعذبون به في الدنيا، من الخزي الحاصل لهم بها، فلفظ الأشد، وإن كان مطلقًا إلا أنَّه مقيد من هذه الجهة.

ولما كانت هذه الآيات كلها كالدليل على قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] الآية، كان فذلكة، ذلك قوله تعالى:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

ص: 254

وفي لفظ {أولئك} الَّذي هو اسم الإشارة، دليل على أنَّه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة {الذين اشتروا} أي: آثروا بهجة الدنيا ونعيمها وزينتها على النعيم السرمدي، إيثارًا للعاجل الفاني على الآجل الباقي، قال أرباب المعاني: إن الدنيا ما دنا من شهوات القلب، والآخرة ما اتصلت برضاء الرب، انتهى.

وبهذا يتضح المقصود من ذم الدنيا، فكلما حرصت على إحرازه لتتمتع به على انفرادك، ولم يكن لربك فيه رضاء، فهو الدنيا المذمومة، وكلما سعيت في تحصيله لنفعك ونفع إخوانك المؤمنين، فهو من الآخرة الممدوحة. إذا كان فيه رضاء ربك عز وجل، وهذه هي طريقة السلف الصالح، فقد كانوا يجاهدون ويعملون بأيديهم، ويتجرون ويعتقدون أن ذلك من أعمال الآخرة، فليعلم ذلك وليتنبه لأمثاله أولو اليقين والتحقيق.

ثم إنه تعالى بيَّن المسبب عن فعلهم بقوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} في واحد من الدارين {ولا هم ينصرون} أي: لا يجدون مأمنًا يدفع عنهم ما حلّ بهم من عذاب الله، وهذه الآية من أعظم الدلالة على خذلان من غزا لأجل المغنم، أو غل في الغنيمة، أو خان إخوانه المسلمين، وقد أخرج الإمام مالك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب".

ولما بيَّن لهم أنهم نقضوا العهود فأحاطت بهم الخطايا، فاستحقوا الخلود في النار، توقع السائل الإخبار عن سبب وقوعهم في ذلك، هل هو جهل أو فساد؟ فبشع الله ذلك عليهم بما افتتحه بحرف التوقع، فقال:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} .

اللام هنا يحتمل أن تكون للتأكيد. وأن تكون جواب قسم، والإيتاء:

ص: 255

الإعطاء، وهو بمعنى الإنزال هنا، ويصح أن يكون بمعنى: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام، والأنباء والقصص، وغير ذلك.

والكتاب هنا: التوراة، والمعنى أنكم نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملًا بعد موسى عليه السلام، بل ضبطنا أمركم بالكتاب.

{وَقَفَّيْنَا} : أصل هذا اللفظ أن يجيء الإنسان تابعًا لقفا الَّذي اتبعه، ثم توسع فيه حتَّى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمن المتبوع عن زمان التابع، والضمير في {مِنْ بَعْدِهِ} يرجع إلى موسى عليه السلام، أي: ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الَّذي تركه فيكم موسى، بل واترنا من بعده إرسال الرسل مواترة، وجعلنا بعضهم في قفا بعض، ليجددوا لكم أمر الدين، ويؤكدوا عليكم العهود.

{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} الَّذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة، وتجديد ما درس من بقيتها {الْبَيِّنَاتِ} من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها. والبينة من القول: ما لا ينازعه منازع لوضوحه، وما أوتيه عيسى بن مريم من المعجزات الواضحات والحجج كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات، هو كذلك، وإنما أضاف عيسى إلى أمه ردًا على اليهود فيما أضافوه إليه، ونسبوه إلى ما لا يليق بمقامه العالي، وأثبت له النبوة والرسالة أيضًا، ردًا عليهم في إنكار رسالته.

{وَأَيَّدْنَاهُ} أي: قويناه على ذلك كله {بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي: الروح الطاهر فأعطيناه روحًا مقدسة قوية تقدر على حمل الرسالة وأدائها، فكان الغالب عليه الروحانية، ويصح أن يراد بالروح هنا: الإنجيل، وسمي بذلك لأنَّ الدين يحيا به، وتنتظم مصالح الدنيا لأجله، ومن ثم سمي القرآن: روحًا. والذي جنح إليه الطبري والرازي: أن المراد بروح القدس هنا جبريل عليه السلام، وتفسير القرآن على إطلاقه أولى، وإنما أجمل تعالى ذكر الرسل، ثم فصل ذكر عيسى لأنَّ من قبله من الرسل جاؤوا بشريعة موسى، فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأنَّ شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليهما السلام.

ص: 256

ولما كان هذا حالهم مع الرسل، مع أنسهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم، علم أنهم في منابذتهم لهم، عبيد الهوى، وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال:{أَفَكُلَّمَا} أي: أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود، مع مواترة الرسل ووجود الكتاب، فكلما {جَاءَكُمْ رَسُولٌ} من عند ربكم {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} أي: بما لا تحبه وتختاره {اسْتَكْبَرْتُمْ} عن إجابته احتقارًا للرسول أو استبعادًا للرسالة؟ ! وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الَّذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب، وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وأن ذلك كان يتكرر منهم بتكرير مجيء الرسول إليهم، وقد كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وسقوه السّم ليقتلوه، وأما الكبر، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه:"سفه الحق، وغَمْطُ الناس"(1) والسفه في الأصل: الخفة والطيش، والغمط: الاستهانة والاستحقار.

ثم إنه تسبب عن طلبكم الكبر، أنكم {فريقًا كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما السلام، {وفريقًا تقتلون} ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر، ولأنه المشترك بين الفريقين المكذب والمقتول، وهذا الكلام نهاية الذم لهم، ولمن كان على شاكلتهم في تكذيب الأنبياء، وذلك لأنَّ اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما تهواه أنفسهم كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها، والترؤس على العامة منهم، وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم لأجل ذلك، ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون لذلك بالتحريف وسوء التأويل.

ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم، قص الله علينا ذلك من نبئهم لنكون على بينة من أمرنا، فلا نسلك مسالكهم، وأن لا نكون كمن أعمى الله قلوبهم، فإذا رأوا آية قرآنية، أو حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يوافق كل منهما هوى أنفسهم، أسرعوا إلى تأويله على مقتضى مشتهياتهم، فإن لم يمكنهم التأويل أو كانوا من أهل الجهل المركب، طرحوا الآية والحديث جهارًا،

(1) الحديث بنحوه في "صحيح الجامع الصغير"4608.

ص: 257

وتأبطوا السفسطة والشر، فكذبوا الناصح لهم وأهانوه، لما يظهره من شرع الله تعالى، وشهدوا عليه بالزور وطعنوا في دينه، وفعلوا مثل فعل من ذمهم الله تعالى في كتابه العزيز.

ثم إنه تعالى بيَّن شدة بهتهم وقوة عنادهم، فأخبر عنهم بقوله:

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} .

{وَقَالُوا} في جواب ما كانوا يلقون إليهم من جوهر العلم التي هي أوضح من الشمس: {قلوبنا غلف} ، وإنما قالوا ذلك بهتًا ودفعًا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات، نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة الحيوانية البهيمية، والغلف: المستورة عن الفهم والتمييز، ولذلك أضرب سبحانه وتعالى عن النسبة التي تضمنها قولهم:{قلوبنا غلف} ، بقوله:{بل} أي: ليس الأمر كما قالوا: من أن هناك غلفًا حقيقة، {بل لعنهم الله} ، أي: طردهم عن قبول ذلك لأنهم ليسوا بأهل للسعادة، فكأنه تعالى يقول: ليس عدم قبولهم الحق لأنَّ قلوبهم غلف كما قالوا، بل هي خلقت متمكنة من قبول الحق مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه.

ثم أخبر تعالى: أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الَّذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الَّذي هو الكفر، ولما أخبر بلعنهم سبب عنه قوله:{فقليلًا ما يؤمنون} فوصفه بالقلة، وأكده بـ {ما} إيذانًا بأنه مغمور بالكفر لا غناء عنه، وذهب الأصم وأبو مسلم تبعًا لقتادة: إلى أن القليل صفة للمؤمن، والمعنى: لا يؤمن منهم إلا القليل.

ولما ذكر الله تعالى في جلافتهم ما ختمه بلعنهم، ذكر نوعًا آخر من قبائح أفعالهم، فقال:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} .

أما قوله {كتاب} ، فقد اتفق المفسرون على أنَّه: القرآن، لأنَّ قوله

ص: 258

{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم، وما ذلك إلا القرآن، وأما قوله:{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} فهو وصف ثان لذلك الكتاب، ذكر للتحبيب لهم به، فوصفه أولًا بكونه من عند الله، للدلالة على أنَّه جدير بأن يقبل ويتبع ما فيه ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الَّذي هو ناظر في مصالحهم. ثم حببه إليهم بالوصف الثاني، وهو {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} أي: موافق لكتبهم فيما يختص بتكليفهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما يدل على نبوته من العلامات والنعوت والصفات، وفي ذلك قاصمة لهم، لأنَّ كتابهم يكون شاهدًا على كفرهم.

والمراد بقوله: {لِمَا مَعَهُمْ} ، التوراة والإنجيل.

ولما بين شهادة كتابهم، أتبعه بشهادتهم لئلا يحرفوا معنى ذلك، فقال:{وَكَانُوا} أي: والحال أنهم كانوا {مِنْ قَبْلُ} ، أي: من قبل مجيئه {يَسْتَفْتِحُونَ} أي: يسألون الفتح والنصر، وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يعني: أنهم لم يكونوا في غفلة عنه، بل كانوا أعلم الناس به، وقد وطنوا أنفسهم على تصديقه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، {مَا عَرَفُوا} من صدقه بما ذكر من نعوته في كتابهم {كَفَرُوا بِهِ} ، اعتلالًا بأنواع من العلل البينة الكذب، منها زعمهم أن جبريل عدوهم وهو الآتي به، ولم يتعللوا بالعلل الكاذبة إلا بغيًا وحسدًا وحرصًا على الرياسة.

وفي قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} ، إشارة إلى أنَّه وإن كان الَّذي في التوراة والإنجيل من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفًا إجماليًا، وأن أهل الكتابين لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف (1) إلا أن تلك الأوصاف صارت بظهور معجزته صلى الله عليه وسلم، كالمؤكدة لها، فلذلك ذمهم الله تعالى على الإنكار.

ولما بين الله تعالى بهذا أنهم أعتى الناس وأشدهم تدليسًا وبهتًا، بل كذبًا وفسقًا كانوا أحق الناس بالكفر، سبب عن ذلك قوله:{فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ،

(1) بل كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

ص: 259

جعل اللعنة مستعلية عليهم، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها وهي: الكفر.

ولما استحقوا بهذا وجوه المذام كلها وصل به قوله:

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} .

{بِئْسَمَا} كلمة جامعة للمذام، وهي مقابلة لـ "نِعْمَ"[الجامعة](1) لوجوه المدائح كلها، وأمّا "ما" فذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس فقال: هي معرفة تامة، التقدير بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي: شيء {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} و {أَنْ يَكْفُرُوا} ، بدل من ذلك المحذوف، واختار هذا القول أبو حيان الأندلسي في "النهر"(2)، ولا نطيل الكلام بهذا هنا لأنَّه مفروغ منه في علم النحو، وقد بسطنا القول عليه في كتابنا "إيضاح المعالم من شرح العلامة ابن الناظم على ألفية والده محمد بن مالك".

{اشْتَرَوْا} هنا بمعنى: باعوا، وفي "المنتخب": أن الاشتراء هنا على بابه لأنَّ المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، وكأنه قد اشترى نفسه بها، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنَّه يخلصهم، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم، فذمهم الله تعالى، انتهى.

وهذا القول يرده وجوه: أولها: أن سياق الآية لا يوافقه، لأنَّه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن يندد عليهم بالخطأ أو بالجهل، ولا يقال لهم:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} .

(1) زيادة من البقاعي.

(2)

واسمه "النهر الماد من البحر"، طبع سنة 1328 هـ بمطبعة السعادة على حاشية البحر المحيط لأبي حيان، وهو مختصر له (ينظر مقدمة "تحفة الأريب" لأبي حيان: ص 30 و 33، تحقيق الدكتور سمير المجذوب، طبع المكتب الإسلامي).

ص: 260

وثانيها: أن الله تعالى لم يذمهم في هذه الآية، ولكن أوعدهم الوعيد الشديد، ومثل هذا الوعيد لا يكون على الظن.

وثالثها: أن قوله تعالى: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فإنه يدل على أن المراد ليس اشتراءهم أنفسهم بالكفر ظنًا منهم أنهم يخلصون من العقاب، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد، لكونه تعالى جعل الرسالة في محمد صلى الله عليه وسلم. والفخر الرازي اعتمد ما قاله صاحب المنتخب، وجوابه كجوابه.

ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى، بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله:{أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} والقصة لا تليق إلا بما إذا كان المعنى، أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب، حملهم ذلك على البغي والحسد، والبغي هو الحسد والظلم، ثم علل بغيهم بقوله:{أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين حسدوهم، والمقصود بـ {من} هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والفضل: النبوة.

ثم سبب عن ذلك قوله: {فَبَاءُوا} أي: رجعوا لأجل ذلك {بِغَضَبٍ} في حسدهم لهذا النبي الكريم لكونه أرسل من العرب، ولم يكن من بني إسرائيل، {عَلَى غَضَبٍ} كانوا استحقوه بكفرهم بأنبيائهم عنادًا ثم علق الحكم الَّذي استحقوه بوصفهم، تعميمًا وإشارة إلى أنَّه سيؤمن بعضهم، فقال:{وَلِلْكَافِرِينَ} الذين هم راسخون في هذا الوصف، منهم ومن غيرهم، {عَذَابٌ مُهِينٌ} ، من الإهانة، وهي الاطراح إذلالًا واحتقارًا.

ولما أقام سبحانه وتعالى الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب، وبغيهم، أقام دليلًا آخر على ذلك أبين منه، وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} .

ص: 261

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لهؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم، وسياق الآية يدل على أن المراد آباء الذين كانوا زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله، وأنهم جنس واحد، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك، وأنهم يتولونهم فهم منهم:{آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، أي: بالقرآن الَّذي أنزله الله، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ، يريدون التوراة، وما جاءهم من الرسالات على لسان موسى عليه السلام، ومن بعده من أنبيائهم، وذموا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد، والمأمور به عام فلم يطابق إيمانهم الأمر.

ثم عجب من دعواهم هذه بقوله: {وَيَكْفُرُونَ} ، أي: قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون {بِمَا وَرَاءَهُ} أي وراء ما أنزل عليهم مما أنزله الله على رسله، {وهو} يشمل ما قبل التوراة وما بعدها، لأنَّ "وراء" يراد بها تارة "خلف" وتارة "أمام"، فإذا قلت: زيد ورائي، صح أن يراد: في المكان الَّذي أواريه أنا بالنسبة إلى من خلفي، فيكون أمامي، وأن يراد في المكان الَّذي هو متوارٍ عني فيكون خلفي، والحال أن ذلك الَّذي وراءه:{الْحَقُّ} الواصل إلى أقصى غاياته بدلالة أل الدالة على الكمال، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} ، فصح أنهم كافرون بما عندهم، لأنَّ ما أنزل عليهم غير مخالف للقرآن، ومن لم يصدق ما وافق ما أنزل عليه لم يصدق به، وإذا دلَّ الدليل على كون ذلك منزلًا من عند الله وجب الإيمان به، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض.

ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض، فقال:{قل} يا من يريد جدالهم إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} لأنَّ الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان، فقولكم أنكم آمنتم بالتوراة كذب، وبهت، فإنه لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه، ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضاء بقتل أسلافهم، {مِنْ قَبْلُ} ، وفي الإتيان بصيغة المضارع تصوير لشناعة هذا الفتل بتلك الحال الفظيعة، ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن لفعلوا مثل فعل أسلافهم، لأنَّ التقدير: وتصرون على قتلهم من بعد، وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، تحذيرًا منهم، ولقد صدق

ص: 262

هذا الإيماء الواقع، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا صخرة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسمَّه أهل خيبر.

ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك بقوله: {إن كنتم مؤمنين} إشعارًا بأن مثل ذلك لا يصدر من متلبس بالإيمان، ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى، مما استحقوا به الخلود في النار، أقام دليلًا آخر أقوى من كل ما تقدمه، فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد، والبعد عن الإشراك، وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن.

وقد نقضوا جميع ذلك، باتخاذ العجل في أيام موسى وبحضرة هارون عليهما السلام، كما هو منصوص الآن في أيام موسى فيما بين أيديهم منها، بقوله:

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} .

أعاد سبحانه وتعالى ذكر موسى في هذه الآية، وما جاء به من الآيات البينات، ثم أخبر أنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلهًا، وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه، والتمسك بدينه وشرعه، فكأنه تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء اليهود الذين هم خلف من كان زمن موسى: إن حالي معكم كحال موسى مع سلفكم، وإن بالغتم في تكذيب ما فعل سلفكم مع موسى وبالغتم في إنكاره.

وفي هذه الآية استعظام لعبادة سلفهم العجل، حيث إنهم عبدوه عن علم بأنه لا يضر ولا ينفع، لأنهم عبدوه بعد أن جاءهم موسى بالبينات والبراهين الدالة على إفراده تعالى بالوحدانية، وأنه ليس بجسم ولا يشبهه الجسم، والعجل الَّذي عبده أسلافكم هو جسم مصنوع، وجماد ملقى على الأرض، وكذلك كانت عبادتهم له بعد أن رأوا من خوارق العادة ما لا يقبل الشك، أفنسوا جميع الخوارق وأصغوا إلى خوار عجل صنعه السامري لهم؟

ص: 263

ومثل هذا يقال لكل من علم الحق بأدلته وبراهينه، ثم انقلب عنه إلى الباطل بأدنى شبهة، وإذا لامه لائم على فعله تعلل بأنه وافق غيره، قائلًا للأئمة: أكل هؤلاء القوم مخطئون وأنت وحدك المصيب؟

وفي هذه الآية تقريع لهم من وجه آخر، وهو أنَّه تعالى كرر هذه الآية لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم وهم كاذبون في ذلك، ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة، بل فيها أن يفرد الله بالعبادة.

ولما كانت عبادة غير الله أكبر المعاصي، كرر الخبر بعبادتهم العجل تنبيهًا على عظم جرمهم، والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه كررته، وفي هذا التكرير أيضًا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم، ونقمه منهم ليزدجر الأخلاف بما حل في الأسلاف.

ثم إنه تعالى ذكر أمرًا آخر هو أبين في عنادهم، وأنهم لم يزالوا دائمًا عبيدًا لهوى أنفسهم فقال:

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} .

لهذا التكرار فوائد، أحدها: ما ذكر آنفًا. وثانيها: أن هذا وأمثاله للتأكيد، وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب. وثالثها: أنَّه تعالى ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ، وذلك يدل على نهاية لجاجهم. ويظهر لي وجه رابع، وهو: أن التكرار هنا للتبكيت والتقريع، على حد لو أن إنسانًا فعل أمرًا منكرًا ما كان من حقه أن يفعله، ثم إنه أصر على خطئه عنادًا، فإن الموبخ له لا يزال يذكره بفعله كلما أصر على عناده، ليكون ضميره موبخًا له، وملجئًا له إلى الرجوع عن غيّه، وأيضًا فإن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به من قبول التوراة، وعدم رضائهم بأحكامها اختيارًا، حتَّى ألجئوا إلى القبول اضطرارًا، فدعواهم الإيمان بما أنزل عليهم غير مقبولة، ومن أسرار هذا التكرار أيضًا،

ص: 264

تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم، ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.

وتفسير الآية: {وإذ أخذنا ميثاقكم} على السمع والطاعة، {ورفعنا فوقكم الطور} الجبل العظيم الَّذي جعلناه زاجرًا لكم عن الرضا بالإقامة في حضيض الجهل، ورافعًا إلى أوج العلم، وقلنا لكم وهو فوقكم:{خذوا ما آتيناكم بقوة} ، ولما كانت فائدة السماع القبول، ومن سمع فلم يقبل كان كمن لم يسمع، قال:{واسمعوا} ، وإلا جعلنا هذا الجبل مدفنًا لكم، وذلك حيث يكفي غيركم في التأديب رفع الدرة والسوط عليه، فينبعث للتعلم الَّذي أكثر النفوس الفاضلة تتحمل فيه المشاق الشديدة لما له من الشرف، ولها به من الفخار، وفي هذا دلالة على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد.

وفي قوله تعالى مخبرًا عنهم، {قالوا}: التفات، إذ لو جاء على الخطاب لقال: قلتم، ولما ضلوا بعد هذه الآية الكبرى، وظهر أن العناد لهم طبع لازم، قال تعالى مترجمًا عن أغلب أحوال أكثرهم:{قالوا سمعنا وعصينا} ، أي: وعملنا بضد ما سمعنا، وساق تعالى قولهم ذلك لغرابته مساق جواب سؤال سائل، فكأنه قال: رفع الطور فوقهم أمر هائل جدًا، مقتض للمبادرة إلى إعطاء العهد ظاهرًا وباطنًا والثبات عليه، فما فعلوا؟ فقيل: بادروا إلى خلاف ذلك. وعندي أن في الآية إشارة إلى أن أولئك القوم، لم يعرفوا الله تعالى معرفة لائقة بجلال عظمته، لأنهم لو عرفوه كذلك، لما احتاجوا إلى هذا التخويف، ولكن لما كانت قلوبهم خالية من معرفته، تلقت قلوبهم محبة غيره، كما يدل عليه قوله تعالى مخبرًا عنهم:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي: وأشربوا حب عبادة العجل بسبب كفرهم، أي: إن حبه والحرص على عبادته دخل قلوبهم كما يتداخل الصبغ الثوب، كما قال الشاعر (1):

إذا ما القلب أُشرب حب شيءٍ

فلا تأملْ له عنه انصرافا

(1) هو من شواهد "البحر المحيط" دون نسبة.

ص: 265

وفي {وَأُشْرِبُوا} إشارة إلى أنَّه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال، وقوله تعالى:{بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} معناه: {قل} لهم يا محمد أو قل يا من يجادلهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} بالتوراة، لأنَّه ليس في التوراة عباد العجاجيل، وأضاف الأمر إلى إيمانهم لأجل التهكم بهم، وكذلك إضافة الإيمان إليهم، وأما قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فالمراد به التشكيك في إيمانهم، والقدح في صحة دعواهم.

ثم ذكر تعالى نوعًا آخر من قبائحهم:

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} .

لما بيّن سبحانه وتعالى، في الآية السابقة عظيم كفرهم وعنادهم، مع وقاحتهم بادعاء الإيمان والاختصاص بالجنان، ثم أمر نبيه أن يتهكم بهم بقوله:{بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} ، ونهضت الأدلة على أنَّه لا حَظّ لهم في الآخرة غير النار، وذلك نقيض دعواهم أن الجنّة لهم وحدهم، ختم سبحانه وتعالى ذلك بدليل قطعي بديهي، فقال:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} ، أي: الجنّة {خالصة} أي: سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق، يعني: إن صح قولكم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111]، وقدم الجار والمجرور الَّذي هو {لكم} للاختصاص، وقوله:{مِنْ دُونِ النَّاسِ} ، معناه: سائرهم، لا يشرككم فيها أحد، {فتمنوا الموت} ، لأنَّ ذلك عَلَم على صلاح حال العبد مع ربه، وعمارة ما بينه وبينه، ورجائه للقائه.

قال الحرالي: على قدر نفرة النفس من الموت يكون ضعف منالها من المعرفة التي تأنس بربها، فتتمنى لقاءه وتحبه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، انتهى.

ص: 266

ثم سجل الله عليهم بالكذب فقال: {إن كنتم صادقين} ، أي: معتقدين للصدق في دعواكم خلوص الجنّة لكم، ولما كان في الكلام محذوف، أغنى سياق الكلام عن ذكره، وكان ذلك المحذوف، "فقال لهم: فما تمنوه"، عطف عليه قوله: {ولن يتمنوه أبدًا} إخبارًا بالغيب، وقطعًا للعناد. ثم إنه على مذهب من يقول: إن "لن" معناها اقتضاء النفي على التأبيد، يكون قوله {أبدًا} للتأبيد. وعلى مذهب من يقول: إن "لن"، بمعنى "لا" تكون {أبدًا} ، مفيدة لاستغرق الأزمان، والمعنى ما يستقبل من زمن أعمارهم.

وقد زعم كثير من المفسرين منهم "المهدوي" في كتاب "التحصيل" و"ابن عطية" في تفسيره، إلى أن هذه المعجزة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتفعت بوفاته. وهذا القول مخالف لظاهر القرآن، لأن {أبدًا} ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم، كما بيناه سابقًا.

ثم ذكر السبب في عدم التمني فقال: {بما قدمت أيديهم} أي: من الظلم، وعبر باليد التي بها أكثر الأفعال إشارة إلى أن أكثر أفعالهم لقباحتها كأنها خالية عن القصد، ثم ختم الآية بالتهديد لهم، فقال:{والله عليم بالظالمين} ، وذلك أن علم الله يتعلق بالظالم وغير الظالم، فلما اقتصر على ذلك الظالم دل على أن مساقه للتهديد والوعيد.

ثم إن هذه الآية تدل على تجاسرهم، وهذا معلوم من هذه الآية ومن غيرها من الآيات، ولكن الخفي إنما هو سببه، وهو يحتمل وجوهًا:

أحدها: أن الَّذي جرأهم على ذلك، اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وعليه فتكون هذه الآية تهديدًا لهم، ولكل من اغتر بمثل غرورهم، فظن أنَّه بمجرّد ظنه بأنه من أحباب الله تعالى، كان مغفورًا له جميع ما عمل، فتراه يسرح ويمرح، وربما وسوس له الشيطان بأن من وصل إلى درجة المعرفة سقط عنه التكليف، وهنالك يزداد في الطغيان فيهوي في مهاوي الخسران.

وثانيها: يحتمل أن الحامل لهم على ذلك، دعواهم بأنهم على الحق وسواهم على باطل، فقادتهم دعواهم تلك إلى معاداة كل من نادى بخلاف

ص: 267

معتقدهم، وعليه فتكون هذه الآية مهددة لهم، ولكل من جاراهم في مضمارهم، ممن إذا صمم فكره على شيء جمد عليه، ولو كان باطلًا، وإذا أتيته بأعظم الأدلة القاطعة للخصم لم يتزلزل عما هو عليه، ولم يحد عن باطله الَّذي جمد عليه، وجادل بالباطل ليدحض به، فتراه مقيدًا على تقليد العوام، متمسكًا بالتعاليم التي تلقاها عن أمثاله غاية التمسك، ولما كان هذا من القبح بمكان، لا جرم أكثر الله تعالى من ذم سلف اليهود الذين ابتدعوا المنكرات، فاقتدى بهم خلفهم اقتداءً وتقليدًا أعمى، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول:

"اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه"(1).

وثالثها: يحتمل أن الحامل لهم على هذا اعتقادهم، أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام كيعقوب وإسحاق وإبراهيم، يخلصهم من عقاب الله تعالى، ويوصلهم إلى ثوابه، وتكون لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس، فكذبهم الله في هذه الدعوى، وأعلمهم أن هذا الانتساب مع تكذيب أمر الله تعالى لا يفيدهم شيئًا، وكذلك شأن كل من اغتر بهذه الترهات، فإن عاقبة أمره تكون الندامة يوم القيامة.

ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم لا يتمنون الموت، أثبت لهم ما فوق ذلك من تمني الضد الدال على علمهم بسوء منقلبهم، فقال:

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} .

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} هو من وجد، بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين، وأفرد أفعل التفضيل الَّذي هو {أَحْرَصَ} لأنَّه أضيف إلى معرفة، والمعنى:{لَتَجِدَنَّهُمْ} بما تعلم من أحوالهم {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} والحرص طلب الاستغراق فيما يختص فيه الحظ، والتنكير في الـ {حَيَاةٍ} للإشارة إلى أنهم

(1) هو دعاء مشهور، ولم أر أحدًا نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 268

يحرصون على مطلقها، على أي صفة كانت، وهم قاطعون بأنه لا يخلو يوم منها عن كدر، فإنهم يعلمون أن الحياة وإن كانت في غاية الكدر خير لهم مما بعد الموت {و} أحرص {من الذين أشركوا} بالله تعالى سواء كان الذين أشركوا من عبدة الشمس أو الكواكب أو النور والظلمة، أو كانوا يعملون عمل الشرك.

وفي هذا الكلام توبيخ عظيم لليهود، لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنَّها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب، وهو مقر بالجزاء، كان حقيقًا بأعظم التوبيخ، ومن وصل إلى هذه الدرجة من الحرص على الحياة ونسيان يوم الجزاء، كان سبيله سبيل أولئك اليهود الذين ذمهم تعالى في كتابه العزيز، وكان وجوده داعيًا إلى اختلال نظام العمران، وذلك أن المرء متى اشتد حرصه على الحياة اشتد حرصه على الاستئثار بالغلبة، والتفوق على أقرانه واتساع نطاق معيشته، فيدأب على استحصال الأسباب التي توصله لذلك، فإذا انضم إلى هذا نسيان الآخرة، وسلك مسلك من لا يعلم أن له معاقبًا يعاقبه على ما يفعل، استرسل في الظلم والتعدي، وسلب الناس حقوقهم وسعى في الأرض فسادًا، ولم يصغ لناصح، ولم يتأمل وعظ واعظ، وأعماه الكبر والتيه عن الحق، واقتدى به غيره، وفشى هذا الخلق إلى أن يصير كالملكة الراسخة في النفس، فيتغلب حينئذ القوي على الضعيف، وترجع الرابطة الدينية إلى الانحلال فيختل نظام العمران، وتستعد الأمة إلى أن تصير محكومة من غيرها مغلوبة على أمرها، كما حصل ذلك لبني إسرائيل، وكما جرى ذلك لغيرهم من الأمم الذين أخلدوا إلى الترف والنعيم، وتنافسوا في التفوق والغلبة، فأصبحوا فرقًا وشيعًا، ونشأ من بعدهم على مثل حالتهم، فانقرضت العصبية من بينهم، وآل أمرهم إلى الانحلال.

ولما بين تعالى شدة حرصهم على الحياة، بين مقدار ما يتمنونه، فقال:{يود} مأخوذ من الود، وهو صحة نزوع النفس للشيء المستحق نزوعها له. {أحدهم} أي: واحد منهم، فهو يتناول كل واحد منهم على سبيل البدل، فكأن المعنى: أنك إذ انظرت إلى حرص واحد منهم، وشدة تعلق قلبه بطول الحياة، وجدته {يود} {لو يعمر ألف سنة} .

ص: 269

والمراد هنا أنَّه تعالى بعدهم عن تمني الموت، من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء، ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد، ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت، وأما قول من قال: إن المراد خصوص الألف سنة، وأن هذا إشارة إلى قول الأعاجم لبعضهم: عش ألف نيروزٍ أو ألف مهرجان، فهو بعيد كل البعد عن معنى الكتاب العزيز، وعن صريح الآية الكريمة.

وأورد السهيلي في "الروض الأنف" معنى آخر، وهو: أن العرب تطلق السنة على الدار، ثم أتبع هذا بقوله: فتامل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح بابًا من العلم لإعجاز القرآن، انتهى.

وهذا المعنى تساعده قراءة، لو يعمِر، بكسر الميم لو وُجدت (1).

ثم قال تعالى: {وما هو} أي تعميره. {بمزحزحه من العذاب} ، أي: وما ذلك التعمير المتمنى مؤثرًا في إزالة العذاب أقل تأثير، وعبر بـ {من} دون "عن" إعلامًا بأنهم لم يفارقوا العذاب دنيا ولا آخرة، وإن لم يحسوا به في الدنيا، ثم فسر الضمير في "مزحزحه" بقوله:{أن يعمر} ، أي: إنما يزحزحه من العذاب الطاعة المقرونة بالإيمان الصحيح، الَّذي ليس فيه تفرقة، وقوله تعالى:{والله بصير بما يعملون} يتضمن الوعيد والتهديد، والإعلام بأن علمه تعالى بجميع الأعمال، علم إحاطة وإدراك للخفيات.

ولما بين تعالى أعمالهم السابقة ذكر ما هو دقيق منها، من عراقتهم في الكفر، بعداوتهم لخواص الملائكة الذين هم خير محض، لا حامل أصلًا على بغضهم إلا الكفر، وبدأ بذكر المنزل للقرآن، لأنَّ عداوتهم للمنزل عليه من أجل ما نزل عليه عدواةٌ لمنزله، لأنَّه سبب ما كانت العداوة لأجله فقال أمرًا لنبيه، إعلامًا بما أبصره من خفي مكرهم القاضي بضرهم:

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ

(1) إن القراءات لا تكون إلا بالمتواتر منها. والمروي دون المتواتر منها إن وجد كان قراءة شاذة. وأما افتراض قراءات بمجرد موافقة إحدى اللغات، فليس محله هنا.

ص: 270

يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}.

أجمع أهل التفسير على أن اليهود قالوا: جبريل عدونا، واختلفوا في كيفية ذلك، فروى ابن جرير وأبو داود الطيالسي، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو نُعيم، والبيهقي في "الدلائل"، عن ابن عباس قال:

حضرت عصابة من اليهود، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب علي بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه أتبايعنّي على الإسلام؟ " قالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سلوني عما شئتم" فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ووليه من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكم عهدًا لله لئن أنا أنبأتكم لتبايعنَّي" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، فقال:"نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه، فنذر لله لئن عافاه من سقمه ليحرِّمن أحب الطعام والشراب إليه؟ وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل"، قال ابن جرير: فيما أروي (1)، "وأحب الشراب إليه ألبانها"، فقالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله:"أشهد الله عليكم وأنشدتكم بالذي لا إله إلا هو الَّذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظًا وأن ماء المرأة أصفر رقيقًا، فأيهما علا كان الولد والشبه بإذن الله، فإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ " قالوا: اللهم نعم، قال:"اللهم اشهد" قال: "وأنشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام

(1) في الأصل تبعًا للطبري: "فيما أرى". وقال الشيخ شاكر: في المطبوعة "فيما أرى" خطأ والصواب ما أثبت.

ص: 271

قلبه؟ " قالوا: اللهم نعم، قال: "اللهم اشهد" قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: "فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا هو وليه"، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليًا سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: "فما يمنعكم أن تصدقوه؟ " قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل:{من كان عدوًا لجبريل} إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101] فباءوا بغضب على غضب.

ومثل ذلك روي عن شهر بن حوشب، والقاسم بن أبي بزة.

وذهب الشعبي وقتادة والسدي، إلى أن سبب نزولها محاورة وقعت بين اليهود وبين عمر بن الخطاب، وذلك أن عمر نزل الروحاء فرأى رجالًا يبتدرون أحجارًا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ فقالوا: يزعمون أن رسول الله صلى ههنا، فكره وقال: أيما (1)؟ رسول الله أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه.

ثم ذكر عمر أنَّه شهد يوم مِدْراسهم (2) فجعل يعجب كيف أن التوراة تصدق القرآن، وكيف أن القرآن يصدق التوراة، قال: فبينا أنا عندهم ذات يوم، قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان، قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فألحق به، قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الَّذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه أتعلمون أنَّه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه، قالوا: أنت عالمنا وسيدنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا به فإنّا نعلم أنَّه رسول الله، قال: فقلت: ويحكم، إذًا (3): هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنَّه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إنّ لنا عدوًا من

(1) في الأصل: "إنما" وقال الشيخ شاكر: "أَيْما" استفهام وتعجب، يتعجب عمر من فعلهم.

(2)

في الأصل: "دخل مدراس"، والتصحيح من الطبري.

(3)

في الأصل: "أي". وقال الأستاذ شاكر: في المطبوعة "أي هلكتم" والصواب من ابن كثير.

ص: 272

الملائكة، وسلمًا من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة، قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل، قال: فقلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار، والتشديد والعذاب ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا. قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قلت: فوالله الَّذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو من عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من مخرفة (1) لبني فلان، فقال: يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن، فقرأ علي:{قل من كان عدوًا لجبريل} الآيات، قال: فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فاسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر!

وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وإسحاق ابن راهويه في مسنده [وابن جرير] وابن أبي حاتم.

هذا وحاصل ما كانوا يتحملونه لعدواتهم لجبريل عليه السلام: أنَّه يأتي بالخسف والهلاك، والجدب، ولو كان ميكائيل صاحب محمد لاتبعناه، لأنَّه يأتي بالخصب والسلم، ولكون جبريل دافع عن بختنصر حين أردنا قتله فخرب بيت المقدس وأهلكنا، وأنه يُطلِع محمدًا على سرنا، والخطاب في قوله تعالى:{قل} للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله:{من كان عدوًا لجبريل} فعل شرط جوابه محذوف، دل عليه ما بعده، تقديره: لا وجه لها إلا العناد وادعاء الباطل، فلا يبالى بها.

وأشار "الحرالّي"(2) إلى أن هذه الآية تقتضي تكفير المعادي لجبريل،

(1) في الأصل: (حومة). وقال الشيخ شاكر في المطبوعة: خرفة، وفي ابن كثير خوخة والصواب مخرفة وهي البستان أو سكة بين صفين من نخل.

(2)

بل هذا من كلام البقاعي في "نظم الدرر" 2/ 66، وإنما توهمه المصنف لأنَّه وقع:

واستغراقًا - قال الحرالي. {كان عدوًا لجبريل} أي فإنه ....... ورسله. {وجبريل} قال الحرالي: يقال هو اسم عبودية لأنَّ إيل

عزرائيل انتهى. وعلى ذلك فالكلمة الأخيرة أي {وجبريل} لا موقع لها في سياق اقتضاء تكفير المعادي لجبريل بل جيء بها لتفسير معناها من قبل الحرالي.

ص: 273

والمبغض له، فإنه قال:{من كان عدوًا لجبريل} فإنه لا يضر إلَّا نفسه، لأنَّه لا يبلغ ضره بوجه من الوجوه، ولعداوته، بعداوته له، لله الَّذي خصه بقربه، واختاره لرسالته، فكفر حينئذٍ هذا المعادي له بجميع كتب الله ورسله وجبريل انتهى.

ثم إنه تعالى علل ذلك بالخبر المحذوف بقوله: {فإنه نزله} ، أي: فإن جبريل نزل القرآن {على قلبك} وذلك هو الكتاب الَّذي كفر به اليهود لحسدهم للذي أنزل عليه بعدما كانوا يستفتحون به، الآتي بما ينفعهم، الداعي إلى ما يصلحهم، فيرفعهم، فالضمير في قوله:{فإنه نزله} يعود إلى القرآن، والثاني إلى جبريل، وإنما أرجع الضمير إلى القرآن، ولم يسبق له ذكر، ليبين فخامة شأن صاحبه، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته. وما جنحنا إليه أولًا من أن جواب قوله تعالى:{من كان عدوًا لجبريل} محذوف، هو ما ذهب إليه "أبو حيان" في "البحر" وتبعه غيره، وجعل في "الكشاف" الجواب قوله:{فإنه نزله} وجعل فيه وجهين:

أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب، فلا وجه لمعاداته حين نزل كتابًا مصدقًا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه لأنَّ في إنزاله ما ينفعهم، ويصحح المنزل عليهم.

والثاني: إن عاداه أحد، فالسبب في عداوته أنَّه نزل عليك القرآن مصدقًا لكتابهم وموافقًا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه، انتهى.

فيكون دخول الفاء في الجزاء على هذا الوجه مستحقًا لسببين: أحدهما: أنَّه جملة اسمية، والآخر: أنَّه ماضٍ صحيح، ورده أبو حيان بأنه تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني، فزيد قائم لم يجز، وقوله:{فإنه نزله على قلبك} ، ليس فيه ضمير يعود على {من}. وأيضًا: فإن فعل التنزيل ماضٍ فلا يصح أن تكون الجملة جزاءً. قوله تعالى: {فإنه نزله على قلبك} ، معناه: حفظك إياه وفهمكه بإذن الله وتيسيره وتسهيله، وإنما قال:{على قلبك} وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، لأنَّ من

ص: 274

شأن العرب إذا أمرت رجلًا أن يُحكى ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافًا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذا كان المخبِرَ عن نفسه، ومرة مضافًا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنَّه به مخاطب، فتقول في نظير ذلك: قل للقوم: إن الخير عندي كثير، فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنَّه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه، وقل للقوم: إن الخير عندك كثير، فيخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنَّه وإن كان مأمورًا بِقيلِ ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له، ومن ذلك قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] ويُغلبون، بالتاء والياء، ولا يستتب لك أن يجعل هذا من باب الخروج من الغيبة إلى التكلم الَّذي يسمى التفاتًا، فإن في هذا مزيدًا.

وأتى بلفظ {على} في {على قلبك} ، لأنَّ القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به ويجتنب ما نهي عنه، وكانت أبلغ من "إلى" لأنَّ "إلى" تدل على الانتهاء فقط، و "على" تدل على الاستعلاء، وما استعلى على الشيء يتضمن الانتهاء إليه، وقال:{على قلبك} ولم يقل: "عليك"، لأنَّ القلب هو محل العلم والعقل وتلقي الواردات، وهو سلطان الجسد، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(1)، ويصح أن يراد بالقلب هنا الجملة الإنسانية، ودليله أن الله قد ذكر الإنزال على نبيه صلى الله عليه وسلم في أماكن فقال:{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه]{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، فأتى بالكاف المشار إليها إلى الجملة الإنسانية.

ثم وصف الكتاب المنزل بقوله: {مصدقًا لما بين يديه} من كتب الله المنزلة، التي أعظمها كتاب اليهود المبغضين لجبريل، ولو أنصفوا لكانوا أحق الناس بالإيمان به، وكان جبريل أحق الملائكة بمحبتهم له لإنزاله، وكان كفرهم به

(1) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.

ص: 275

كفرًا بما عندهم، فلا وجه لعداوتهم له، و {مصدقًا}: منصوب على [الحال](1) من الضمير المنصوب في {نزله} ، ومعنى كونه مصدقًا لما بين يديه، موافقًا لما قبله من كتب الأنبياء، فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات.

ثم وصفه وصفًا ثانيًا بقوله: {وهدى وبشرى للمؤمنين} ، أي:{هدى} إلى كل خير، لأنَّه كان ما وقع التكليف به من أفعال القلوب والجوارح، {وبشرى للمؤمنين} لأنَّ المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الَّذي وعده فيه، وكان على يقين من ذلك، فتحصل له البشرى بما أعد الله له من الثواب على أعماله التي أخلصها لمولاه، والبشارة في كلام العرب: إعلام الرجل بما لم يكن به عالمًا مما يسره من الخبر قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره.

لما كانت عداوةُ واحد من الحزب - لكونه من ذلك الحزب - عداوةً لجميع ذلك الحزب، تلاه بقوله:{من كان عدوًا لله} لعداوته واحدًا من أوليائه لكونه من أوليائه {وملائكته} الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، {ورسله وجبريل وميكال} ، فإنه قد كفر فأهلك نفسه بكفره، وعلى ذلك دل قوله تعالى:{فإن الله عدو للكافرين} ، وإنما لم يقل "عدو لهم"، فجاء بالظاهر دليلًا على ما ذكرنا من أن من عادى أولياء الله وملائكته، فإنه يعادي الله تعالى، ومن عادى الله تعالى فهو كافر، وحاصل المعنى: ومن عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب.

فإن قلت: كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله، ومن حق العداوة الإضرار بالعدو، وذلك محال على الله تعالى؟

أجيب بأن معنى العدواة على الحقيقة لا يصح إلا فينا، لأنَّ العدو للغير هو الَّذي يريد إنزال المضار به، وذلك محال على الله تعالى، بل المراد منه أحد وجهين:

(1) زيادة من "البحر المحيط".

ص: 276

إما أن يعادوا أولياء الله على ما ذكرنا فيكون عداوة لله كقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، لأنَّ المراد بالآيتين أولياء الله دونه، لاستحالة المحاربة والأذية عليه.

وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن التمسك بذلك، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له، شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة، فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة، لأنَّ الإضرار جائز عليهم، لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنَّها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم.

لما فرغ سبحانه وتعالى من ترغيبهم في القرآن بأنه من عند الله، وأنه مصدق لكتابهم، وفي جبريل بأنه الآتي به بإذن الله، ومن ترهيبهم من عداوته، أتبعه مدح هذا القرآن وأنه واضح الأمر لمريد الحق، وأن من كفر به منهم أو من غيرهم، فاسق، أي: خارج عما يعرف من الحق بحيث لا يخفى على أحد، فقال:

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} .

فقوله: {ولقد} ، معطوف على قوله:{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97]، أو على قوله:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92]، ويصح أن يكون عطفًا على مقدر تقديره: بَانَ (1) بهذا الَّذي نزله جبريل أن الآخرة ليست خالصة لهم، وأنهم ممن أحاطت به خطيئته لكفره.

والآيات البينات هي الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة، والمعنى: ولقد أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، فاصلات بين الحق والباطل، وتلك الآيات هي ما حواه ذلك الكتاب الَّذي أنزل إليك من خفايا علوم اليهود، ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما

(1) الأصل: "إن" والتصحيح من البقاعي.

ص: 277

تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله في كتابه الَّذي أنزله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، على ذلك، فكان، [في] ذلك من أمره، الآياتُ (1) البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدْعُه إلى إهلاكها الحسدُ والبغي.

إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الَّذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، التي وضعت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئًا منه عن آدمي، {وما يكفر} بتلك الآيات ويجحدها {إلا} الخارج منهم عن دينه، التارك منهم فرائضي في الكتاب الَّذي تدين بتصديقه، فأما المتمسك منهم بدينه والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق، وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل.

هذا وقد جاء تفسير الفسق بالكفر، قال الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره، وعليه فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي به إلى أقصى غايته، و "ال" في {الفاسقون} للجنس أو للعهد في اليهود، لأنَّ سياق ما قبله وما بعده يدل عليهم، والاستثناء هنا مفرغ.

لما أنكر عليهم أولًا ردهم للرسل لأمرهم بمخالفة الهوى في قوله: {أَفَكُلَمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [البقرة: 87] وأتبعه بما يلائمه إلى أن ختم بأن آيات هذا الرسول من الأمر البين الَّذي شهد به كتابهم، وقد أخذ عليهم العهد باتباعه، كما أرشد إليه قوله تعالى:{فَإمَّا يَأْتِيَنَكُمُ مِنِي هُدًى} [البقرة: 38] الآية، أنكر عليهم ثانيًا كفرهم بما أتى به الرسل بقوله:

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} .

الواو للعطف على محذوف، ومعناه: أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا، وقرأ "أبو السمال" بسكون الواو، على أن {الفاسقون} بمعنى: الذين

(1) في الأصل: (فكان ذلك

الآيات). والتصحيح من الطبري.

ص: 278

فسقوا، بجْعَل "الـ" موصولة، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مرارًا كثيرة، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا، كما أخبر عنهم تعالى بقوله:{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] سعيًا في التفرقة، وهكذا حال كل من نبذ عهد الله وشرعه، فإنه لا يستقيم على حالة، ولا يرى إلا غادرًا كاذبًا مخادعًا، مراوغًا، ولقد قص تعالى علينا نبأ أولئك اليهود، يحذرنا من أن نصنع مثل صنعهم، فيحيق بنا ما حاق بهم من العذاب.

وقوله: {نبذه} ، النبذ الرمي بالذمام وطرحه محتقرًا له، والاستفهام في هذه الآية، للإنكار وإعظام ما يقدمون عليه، والمراد بالعهد هنا ما له تعلق بما تقدم ذكره، فيحمل نقضه على ترك ما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية، من صحة القول ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جريح: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدًا.

وقوله تعالى: {بل أكثرهم لا يؤمنون} ، يحتمل أن يكون معناه، أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبدًا لحسدهم وبغيهم، وأن يكون {أكثرهم لا يؤمنون} ، أي: لا يصدقون بكتابهم، لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول، يظهرون لهم الإيمان بكتابهم وبرسولهم، ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.

ثم إنه تعالى أتبع هذا الإنكار ذكر الكتاب والرسول، كما فعل في الإنكار الأول، غير أنَّه صرح هنا بما طواه هناك فقال:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} .

أي: {ولما} جاء علماء اليهود وعلماؤها من بني إسرائيل، {رسول} ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {من عند الله مصدق لما معهم}: وصف الرسول بأنه {من عند الله} وبأنه {مصدق} تفخيمًا لشأنه، إذ الرسول على قدر المُرسل، وهذا

ص: 279

يفيده الوصف الأول. والوصف الثاني يفيد: أنَّه خلق على الوصف الَّذي ذكر في التوراة، ويحتمل: أن المراد به تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم.

ويحتمل: أن المراد أنَّه كان معترفًا بنبوة موسى عليه السلام، أو بصحة التوراة. ثم {لما جاءهم الرسول} الموصوف بهذه الصفات {نَبَدَ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم} ، فكتاب الله هو التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم كافرون بها، نابذون لها. وقيل: كتاب الله القرآن، وهو الأظهر، إذ الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم نبذوه بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، كأنهم لا يعلمون أنَّه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك، يعني: أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم. مَثَّل لتركهم وإعراضهم عنه، مثلًا بما يُرمى به وراء الظهر، استغناء عنه وقِلَّة التفات إليه.

قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه ولكنهم نبذوا العمل به. وقال سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، لكن كلام الشعبي وسفيان يدل على أن المراد بكتاب الله: التوراة.

ويمكنني أن أقول: المراد به جنس كتاب الله، لأنَّ القرآن لما كان مصدقًا لما معهم ونبذوه ظهريًا، كان نبذهم له نبذًا للتوراة، ويكون معنى قوله:{كأنهم لا يعلمون} ، أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق والعمل به واجب، وأشعرَ نفي العلم عنهم بأن ذلك النبذ كان عن علم ومعرفة، لأنَّه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم، فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نُبوته، إلا أنهم جحدوا ما يعلمون، وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم.

ولما كانت سنة الله جارية، بأنه: ما أمات أحدٌ سُنَّة إلا زاد في خذلانه، بأن أحيا على يده بدعة، أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء، إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء، فقال:

ص: 280

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} .

فهذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم. وجملة {واتبعوا} معطوف على جميع الجملة السابقة، من قوله:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ} إلى آخرها، وهو إخبار عن حالهم عن اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع، ولا يصح عطف {واتبعوا} على {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} ، لأنَّ الاتباع ليس مرتبًا على مجيء الرسول، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله، فإنه مترتب على مجيء الرسول.

وقوله: {ما تتلو} قيل: معناه: تتبع، قاله ابن عباس. أو تدعي، أو تقرأ، أو تحدث، قاله عطاء. أو تروي، قاله يمان. أو تعمل أو تكذب، قاله أبو مسلم. وهي أقوال متقاربة والأصح، أن {تتلو} بمعنى: تكذب، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرة الاتباع وفشوه واستمراره.

واختلف المفسرون في من هو المخبر عنه بقوله تعالى: {واتبعوا} ؟ فذهب ابن جرير إلى أن ذلك توبيخ من الله تعالى، لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته وهم يعلمون أنَّه لله رسول مرسل، وتأنيب لهم في رفضهم تنزيله وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنَّه كتاب الله، واتباعهم واتباع أسلافهم وأوائلهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان، وكثيرًا ما يضاف أفعال أسلافهم إليهم في الكتاب العزيز، لحذو المتأخر منهم حذو المتقدم.

وذهب الرازي إلى أن الخبر يتناول الكل، أعني من كان زمن سليمان ومن بعده، قال: وهذا أولى لأنَّه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، إذ لا دليل على التخصيص، انتهى.

ص: 281

وأقول: ما قاله ابن جرير أولى، لأنا بيّنا أن الآية معطوفة على التي قبلها، وهي:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} والجائي هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا دليلًا على التخصيص، وأيًا ما كان فالمعنيان متقاربان.

واختلف فيما هو المراد بـ "الشياطين"، وظاهر اللفظ أنهم شياطين الجن، لأنَّه إذا أطلق الشيطان تبادر إلى أنَّه من الجان، وقيل: المراد شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة، وقيل: هم شياطين الإنس والجن.

والذي يظهر لي: أن المراد بهم شياطين الإنس لأنهم هم الذين يظهرون للناس ويتلون عليهم الأخبار، ويفسدون عليهم عقائدهم، وذلك أن تلك الفئة من الشياطين طعنوا في نبوة سيدنا سليمان، وأوهموا الناس أنَّه كان ساحرًا، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه من الملك إلا بسبب السحر، وأنه كان يسخر به الجن والإنس والريح التي كانت تجري بأمره، وأن ما كان يظهر على يده ليس بشيء من المعجزات وإنما هو سحر محض.

ومن هنا شاع بين الناس صنع العزائم لتسخير الأرواح واستخدامها، وشاع بينهم أسماء خاتم سليمان، وأسماء عصا موسى، وتناقل الناس أمثال ذلك سلفًا عن خلف حتَّى إلى زمننا هذا، وأودع الكتب.

ومن هنا أيضًا كان المنافقون والمشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، فقوله تعالى:{على ملك سليمان} ، متعلق بمحذوف تقديره: افتراء {على ملك سليمان} ، وملكه: شرعه ونبوته وحاله.

ولما كان السحر كفرًا نزه الله تعالى نبيه عنه، فقال:{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} ، الآية، أي: ليس ما اختلقه الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان لأنَّه كفر، ومن نبأه الله مُنزه عن المعاصي الكبائر والصغائر، فضلًا عن الكفر، وفي هذا دليل على صحة نفي الشيء عما لا يمكن أن يقع منه، لأنَّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفرًا، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر.

ص: 282

ثم بين تعالى كفر الشياطين بقوله: {يعلمون الناس السحر} أي: الَّذي ولدوه هم بما يزينونه من حاله ليعتقد أنَّه مؤثر بنفسه ونحو ذلك، كما أن الأنبياء وأتباعهم يعلمون الناس الحق بما يتبينونه من أمره.

واختلف المفسرون في سبب كفر الشياطين هنا فقيل: هو بتعليم السحر، وقيل: تعلمهم به، وقيل: بتكفيرهم سليمان عليه السلام، وظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية، وتعليم ما لا يكون كفرًا لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضًا كفر.

ومن لا يسلّم بأن قاعدة ترتيب الحكم على الوصف تفيد العلية، يقول: إنهم كفروا، وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر، فيجعل جملة {يعلمون} في موضع الحال من الضمير في {كفروا} ، وصاحب القول الأول يجعل الجملة بدلًا من {كفروا} بدل الفعل من الفعل، واختار أبو حيان في "البحر" و "النهر" أنها استئناف إخبار.

وعلى كل فكفر الشياطين لم يكن لأجل السحر، بل لأجله مقترنًا به قصد الإغواء والإضلال، لأنَّ سياق الآية يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك إضلالًا للقوم، لينفوا نبوة سليمان عليه السلام، وليبدلوا ما جاء في شرعه بما لفقوه من السحر والمحال، فلا يقال: لو كان تعليم السحر كفرًا لكفرت الملائكة الذين كانوا ببابل، مع أن الملائكة معصومون.

وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين} ، عطف على السحر، أي: ويعلمونهم ما أنزل الله على الملكين، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحرًا، وقيل: هو معطوف على {ما تتلوا الشياطين} والمعنى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين والذي أنزل، وظاهره أن ما علموه للناس أو ما اتبعوه هو منزل، ومن ثم قال الحرالي: فيه إنباء بأن هذا التخييل ضربان: مودع في الكون، وهو ما علمته الشياطين؛ ومنزل من غيب، وهو المتعلم من الملكين، انتهى.

ص: 283

والذي أختاره: أن موضع {ما} من قوله تعالى: {وما أنزل} ، جر عطفًا على {ملك سليمان} وتقديره:{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} ، {و} على {ما أنزل على الملكين} ، وذلك لأنَّ السحر لو كان نازلًا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، ولا يليق به تعالى إنزال ذلك، ولا ينبغي أن يستبعد هذا، لأنَّ هذا القرآن منزل من عند الله تعالى، ومع ذلك قد ترى كثيرًا من الناس تركوا العمل به وأتوا آياته فجعلوها طلاسم وعزائم، فقالوا مثلًا: الآية الفلانية إذا كتبت مقلوبة مثلًا على عظم ميت أو غيره بدم خفاش، وقنفذ أو نحو ذلك، ودفنت في طريق قوم أو في منزلهم حصلت بينهم العدواة والبغضاء، وإذا نفر محب عن محبوبه فلتكتب له آية كذا في أشياء اخترعوها، فإن المحبين يتواصلان إلى غير ذلك مما هو مسطور في كثير من الكتب التي بأيدي الناس، وحاشى أن يكون القرآن أنزل لأمثال هذه المقاصد السافلة.

فإن قلت: ما هو الَّذي أنزل على الملكين حينيذٍ؟

قلت: هو الشرع والدين، وكيفية ترتيب الأجرام العلوية، وتشريح الأفلاك وما أوح تعالى بها من الخصائص، ويحتمل أن يكون مع ذلك فن النبات وما أودع فيها وفي المعادن من الخواص، وباقي المواليد الثلاثة وما يشملها من الطبيعي والرياضي، ثم إن الشياطين تركوا ما أنزلت هذه العلوم لأجله، واشتغلوا بأحكام فن النجوم ليتوصلوا به إلى السحر، واستعملوا المعدنيات فيما يورث التخيل، ويحل رابطة الألفة بين المرء وزوجه.

وكان الملكان يقولان للمتعلم منهما: {إنما نحن فتنة} ، أي: إنا أتينا هذه العلوم فتنة واختبارًا لكم، وتعليمًا لما ينفعكم في أمر معاشكم من معرفة الأوقات، وإظهار حكمة الباري تعالى، فلا تتركوا ما لأجله كانت هذه العلوم، وتتبعوا ما لم تنزل لأجله فتكفروا بذلك، فكانوا لا يصغون إلى النصيحة، ويتعلمون منهما الَّذي يقصدون به التفريق بين المرء وزوجه، وأمثال هذه المؤذيات.

فرد عليهم تعالى في بقية هذه الآية، فكان مثله كمثل من يتعلم فن النبات والحيوان والمعادن، ثم لا يلتفت منه إلا إلى تركيب السموم والأشياء المضرة

ص: 284

بالعقل والدماغ، وكمن يتعلم فنون الفلك من تشريح الأفلاك، ورصد كواكبها، ومعرفة فن الميقات بها، ثم يترك ذلك ويشتغل بفن أحكام النجوم ليتوصل إلى كشف المغيبات بزعمه.

وإلى استخدام روحانية الكواكب على نمط مخصوص كما جرى ذلك لأهل بابل، فإنهم توغلوا في هذا النوع حتَّى ادعوا ألوهية الكواكب، وجعلوها معبودة لهم من دون الله تعالى، وصوروا لها صورًا ورتبوا لها الأدعية وقربوا لها القربان، واخترعوا لعبادتها لباسًا مخصوصًا، وهذا كله معلوم لمن اطلع على البقية الباقية من الكتب المأخوذة عن القوم، ولهذا كثر الرد عليهم في القرآن الكريم، ونبهنا تعالى عن أن نكون مثلهم في هذه الآية الكريمة. فتأمل ما أجملناه هنا، فلعله أن يكون مرادًا من هذه الآية الكريمة، وهو تعالى الهادي.

وقوله: {على الملكين} ، قرأهما الحسن بكسر اللام، وهو مروي عن "الضحاك، وابن عباس" وأما {بابل} ، فقال في القاموس: بابل كصاحب، موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، وقال أبو معشر: الكلدانيون هم الذين كانوا ينزلون ببابل في الزمن الأول، ويقال: إن أول من سكن بابل نوح عليه السلام، وهو أول من عمرها وكان نزلها عقب الطوفان، فسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدفء، فأقاموا بها وتناسلوا فيها، وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكًا وابتنوا بها مدائن، فصارت مساكنهم متصلة بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر، ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة، وموضعهم هو الَّذي يقال له: السواد، وكانت ملوكهم تنزل بابل، وكان الكلدانيون جنودهم، فلم تزل مملكتهم قامْة إلى أن قتل "دارًا" آخر ملوكهم، ثم قتل منهم خلق كثير، فذلوا وانقطع ملكهم كذا في "معجم البلدان" لياقوت.

وقال "هشام بن محمد": إن الَّذي بنى مدينة بابل "بيوراسف الجبار" واشتق اسمها من اسم المشتري، لأنَّ بابل باللسان البابلي الأول، اسم لكوكب المشتري، وذكر في التوراة أن آدم عليه السلام كان في أول أمره مقيمًا ببابل.

ص: 285

وهاروت وماروت بيان للملكين علمان لهما، وقيل بدل من الناس، وعليه فلا يكونان اسمين للملكين، وعلى الأول اقتصر صاحب الكشاف. ثم بين تعالى نصيحة الملكين بقوله:{وما يعلمان من أحد} فـ {من} جيء بها لتأكيد استغراق الجنس، لأن {أحد} من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك.

وقوله: {حتَّى يقولا إنما نحن فتنة} أي: ابتلاء واختبار من الله، وذلك كما ابتلي قوم طالوت بالنهر، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]. وقوله: {فلا تكفر} ، قد بينا فيما مضى ما ظهر لنا من معناه، ولنذكر هنا مسالك المفسرين: أي فلا تتعلم منا السحر معتقدًا أنَّه حق فتكفر. قال علي رضي الله عنه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه، كأنهم يقولان: لا تفعل كذا. وقال "المهدوي": إن قولهما {إنما نحن فتنة فلا تكفر} استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله. وقال غيره: إنما هو توكيد لقبول الشرع والتمسك به، فكانت طائفة تمتثل وأخرى تخالف. وهذه الأقوال وغيرها تحوم حول ما ذكرناه.

وقوله: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} ، معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون، واختار "الزجّاج" هذا الوجه، وقال "الفراء": هو عطف على {يعلمون الناس السحر

فيتعلمون منهما}، والأقرب أنَّه معطوف على {يعلمان} المنفية لكونها موجبة في المعنى، وقوله:{منهما} الضمير في الظاهر عائد على الملكين، وقال "أبو مسلم": عائد على أو {فتنة} والكفر الَّذي هو مصدر مفهوم من قوله: {فلا تكفر} ، والتقدير: فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار {ما يفرقون به بين المرء وزوجه} ، والتفريق هنا تفريق الألفة والمحبة، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان، وتحتمل أن يكون المراد به تفريق الدين، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتدًا، فيكون ذلك مفرقًا بينهما، والآية لا تدل على أن الَّذي يتعلمونه منهما ليس إلَّا هذا القدر، لكن ذكرت هذه الصورة تنبيهًا على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه

ص: 286

إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى.

أما قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} فإنه يدل على ذلك المعنى، لأنَّه أطلق الضرر ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنَّه تعالى إنما ذكره لأنَّه من أعلى مراتبه. ولما أكد تعالى استغراق هذه الجملة بضروب من التأكيد، تلاه بمعيار العموم، فقال:{إلا بإذن الله} لأنَّه ربما أحدث الله عنده فعلًا من أفعاله وربما لم يحدث. ولما كان هذا الَّذي تقدم وإن كان للعامل به نفع على زعمه، فضرَّه أكبر من نفعه، أتبعه قسمًا آخر ليس للعامل به شيء غير الضر، فليس الحامل على تعلمه إلا إيثار اللحاق بإبليس وحزبِه، فقال:{ويتعلمون} ، أي: من السحر ما يضرهم، لأنَّ مجرد العمل به كفر أو معصية. ثم حقق أنَّه ضرر كله لا شائبة للنفع فيه، بقوله:{ولا ينفعهم} ، لأنه لا تأثير له أصلًا، أو لأنهم يقصدون به الشر، والآية تدل على أن اجتنابه أصلح، كتعلم أحكام النجوم وأشباهه، لأنه لا يؤمن أن يجر إلى الغواية.

ثم أتبع تعالى ما يعرف أنهم ارتكبوه على علم، فقال محققًا مؤكدًا:{ولقد علموا" أي: اليهود، وهذا كان لأنهم أسفه الناس، {لمن اشتراه} أي: آثره على ما يعلم نفعه من الإيمان، بأن استبدل {ما تتلو الشياطين} من كتاب الله {ما له في الآخرة} الباقية الباقي نفعها {من خلاق} أي: نصيب موافق أصلًا، والخلاق: الحظ اللائق لمن يقسم له النصيب، من الشيء، كأنه موازن به خلق نفسه وخلق جسمه.

ثم جمع لهم المذام على وجه التأكيد فقال: {ولبئسما شروا} ، أي: باعوا على وجه اللجاجة {به أنفسهم} ، إشارة إلى أنَّه مما أحاط بهم فاجتث نفوسهم من أصلها، فأوجب لهم الخلود في النار.

ثم قال، بعد إثبات العلم لهم:{لو كانوا يعلمون} ، أي: لو كان لهم قابلية لتلقي واردات الحق، إشارة إلى أن هذا لا يقدم عليه من له أدنى علم، فعلمهم الَّذي أوجب لهم الجرأة على هذا عدم، بل العدم خير منه.

ص: 287

وبهذا يتضح الجواب عن السؤال الوارد هنا، وهو أن يقال: كيف أثبت لهم العلم أولًا في قوله: {ولقد علموا} على سبيل التأكيد القسمي، ثم نفاه في قوله:{لو كانوا يعلمون} وأجاب عنه في "الكشاف" بقوله: معناه {لو كانوا يعلمون} بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه. وأجاب "الأخفش"، و "قطرب" بالفرق، فجعلا الذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه، وهم الذين قال تعالى في حقهم:{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]، وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر، فهم الذين لا يعلمُون. وأجيب أيضًا بتسليم أن الكل واحد، المثبت لهم العلم والنافي عنهم، لكنهم علموا شيئًا وجهلوا شيئًا آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق، لكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها.

ولما بين تعالى ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار، أتبعد ما في الإعراض عنه من المنافع، فقال:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} .

{ولو أنهم آمنوا} أي: بما دعوا إليه من هذا القران، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله تعالى، لا السحر، {واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقًّا فنسخ من التوراة فصار باطلًا، ومن الإقدام على ما لم يكن حقًّا أصلًا من السحر، لأثيبوا خيرًا مما تركوا لأن (من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه)(1)، هكذا الجواب، ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما تقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن، فقال:{لمثوبة} صيغة مفعُلة بضم العين، من الثواب، وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات، وشرفها [بقوله:{من عند الله} زادها شرفًا] (2) بقوله: {خير} مع حذف المفضل عليه.

(1) صح معناه بسند على شرط مسلم بلفظ: "إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بذلك الله به ما هو خير لك منه". أخرجه أحمد 5/ 363 (23068). وتراجع "السلسلة الصحيحة" برقم (5).

(2)

زيادة من البقاعي.

ص: 288

قال الحرالّي: وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفًا لهذه المثوبة، وإلحاقًا لها بالنمط العلي من علمه وحكمته، ومضاء كلمته، انتهى.

ويجوز أن يكون قوله: {ولو أنهم آمنوا} تمنيًا لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدأ {لمثوبة من عند الله خير} ، وقال الشيخ "برهان الدين البقاعي" في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور": وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات، التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده، من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع، ومن ذلك واردات الآثار، ككون الفاتحة شفاء، وآية الكرسي حرزًا من الشيطان، ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه.

ثم أكد الخبر بقوله: {لو كانوا يعلمون} . جواب {لو} محذوف، تقديره:{لو كانوا يعلمون} لكان تحصيل المثوبة خيرًا، يعني: سبب المثوبة وهو الإيمان والتقوى، وقيل: المعنى {لو كانوا يعلمون} بعلمهم، ولما انتفت ثمرة العلم الَّذي هو العمل جعل العلم منفيًا.

وقال: "علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرالّي" بتشديد اللام، المغربي نزيل "حماة" في كتابه "مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل": في قوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر، لأنَّ تلك الرتبة تزهد في علم ما هو شر، وهذه ترغّب في منال ما هو خير، وفيه بشرى لهذه الأمة، بما في كتابهم من قبول هذا العلم الَّذي هو علم الأسماء، ومنافع القرآن يكون لهم عوضًا من علم السيمياء الَّذي هو باب من السحر، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين.

قال صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس بابًا من السحر، زاد ما زاد"(1)

(1) هو في "صحيح الجامع الصغير"(6074) للألباني بترتيبي.

ص: 289

وحقيقة السيمياء أمر من أمر الله، أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة، من بواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصورة، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه، وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه، فهو لذلك كفر، موضوع فتنة لمن شاء الله أن يفتنه به، حتَّى كانت فتنة اسم السيمياء من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز، ولله كلية الخلق، والأمر، هدى وإضلالًا، إظهارًا لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأرواح، قسمه إلى دارين، دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14].

ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه، كان من المثوبة لمن آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس المعوذتان حرزًا وابطالًا، وتلقفًا لما يأفك سحر الساحرات عوضًا دائمًا باقيًا لهذه الأمة من عصا موسى، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات، عوضًا دائمًا بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الَّذي من لمحة منه كان السحر مفرقًا، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع، ويكاد أن لا يقف مرجاة هذه الآية (1) لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات، ووجوه الكرامات، انتهى كلامه.

(1) الأصل: (رجاة هذه الأمة) والتصحيح من "نظم الدرر".

ص: 290