المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما ترمي إليه هذه الفرقة: - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ما ترمي إليه هذه الفرقة:

فما استدل به الإباحيون والاشتراكيون، من هذه الآية من أنها تدل على أنه تعالى أخبرنا بأنه خلق الكل للكل، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا، إنما هو قول باطل مصادم لشرائع الأنبياء، وهذه الطائفة موجودة في زمننا هذا، ويقال لهم:"الاشتراكيون"(1)، وطريقتهم وطريقة الدهرية واحدة، وهم يزعمون ظاهرًا أنهم سند الضعفاء والمطالبون بحقوق المساكين والفقراء؛ وما قصدهم باطنًا إلا رفع الامتيازات الإنسانية كافة، وإباحة الكل في الكل، وإشراك الكل في الكل، وهم لا يستدلون بهذه الآية ولا غيرها، ولكن البعض منهم إذا لاحَى متدينًا عارضه بها، ولكن استنادهم على أن جميع المشتهيات الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة، وفيض من فيوضها، وأن جميع الأحياء سواء في التمتع بها، وأن اختصاص فرد من الإنسان بفرد منها دون سائر الأفراد، بدعة في شرع الطبيعة، سيئة يجب محوها والإراحة منها.

قال المنقبون، في‌

‌ما ترمي إليه هذه الفرقة:

إن من مزاعمهم: أن الدين والملك عقبتان عظيمتان، وسدّان منيعان، يعترضان بين أبناء الطبيعة، ونشر شريعتها التي هي الإباحة والاشتراك، وليس يوجد مانع أشد من هذين المانعين، فالواجب على طلاب الحق الطبيعي، أن ينقضوا هذين الأساسين، ويبيدوا الملوك ورؤساء الأديان، ثم بعد أن يصلوا إلى غايتهم يعمدوا إلى الملاك وأهل السعة في الرزق، ويطالبوهم بأحد أمرين: إما بالانقياد لشرع الطبيعة، وإما بقتلهم وإبادتهم، حتى يعتبر بهم من يكون على شاكلتهم، فلا يعصون أحكام شرعهم، ثم إنهم فكروا في كيفية نشر أفكارهم، فوجدوا أحسن وسيلة إنما هي زرع بذور الفساد، في أذهان الأحداث بالتعليم، إما بإنشاء المدارس بدعوى نشر المعارف، أو بالدخول في سلك المعلمين في مدارس غيرهم، ليقرروا أصولهم في أذهان الأطفال وهم في طور السذاجة، فتنتقش المدارك في أذهانهم على التدريج؛

(1) يقصد المؤلف- رحمه الله الشيوعية التي كانت منتشرة في أيامه

وكانت المتحكمة في بلاد روسية وغيرها

ثم شهدنا فشلها وتوزع الاتحاد السوفياتي إلى دويلات كفرت كلها بالماركسية. وتحررت بعض البلاد الإسلامية التي كانت تحت حكمها- والحمد لله-.

ص: 148

وسلك مسلكهم جميع الدهريين، فلذلك ترى منهم من همه بناء المدارس، ودعوة الناس، ومنهم المتفرقون في البلاد يطلبون وظائف التعليم، وينالون من ذلك مطالبهم، والكل يتعاونون على إذاعة خيالاتهم الباطلة، فلذلك كثرت أضرابهم في الأقطار، ولا جرم أنه إذا استفحل أمرهم، كانوا سببًا لانقراض النوع البشري، فليكن العاقل على بصيرة من أمره في هذا الزمن، ولا يغتر بظواهر الأقوال.

ثم إن ههنا بحثًا يؤخذ من هذه الآية على مسلك أصحابنا المؤمنين بالله وبرسوله، وبكتابه المنزل، وهو: أن بعض الفقهاء استدل بهذه الآية على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يمنع شيء إلا بدليل، وإليه ذهب الحنفية وبعض الحنابلة، وقال قوم: الانتفاع بالأعيان قبل ورود الشرع على المنع، وإليه ذهب بعض المعتزلة، وبعض الحنابلة، وقال جماعة: بالوقف، وهم الذين يقفون في الأحكام عند تجاذب الأدلة لها.

والمسألة طويلة الذيل، وقد أطيل الكلام عليها في "فن أصول الفقه" والذي تقتضيه الآية: أن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعًا، وإذا كان مخلوقًا لنا، والله تعالى ذكره في معرض النعم التي عمت المكلفين بأسرهم، فيكون مباحًا لنا، إلا أن يأتي بيان من الشرع بمنع شيء منه، فإننا نتركه عملًا بذلك البيان، وكذلك تفيد الآية، أننا إذا أهملنا استعمال ما خلق لنا، وتركنا أمر الزراعة مهملًا، ولم نمل إلى استخراج المعادن من مكامنها لنفع عباد الله تعالى، ولم ننظر في خصائص الأشياء للانتفاع بها، وأعرضنا عن هذه النعم ونأينا عنها جانبًا، كان ذلك إعراضًا منا عما خلق لأجلنا من النعم، فيوشك أن تسلب منا وتعطى إلى غيرنا ممن ينتفع بها، ففي الآية دليل وبيان واستبصار.

ولما أقام تعالى الدليل على المبطلين مِن خلقه، ومما يشاهدونه من أنفسهم، أقام دليلًا آخر مما يشاهدونه من خلق السموات، فقال:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ابتدأ بخلق الأرض أولًا، ثم بخلق السماء كما هو شأن البنّاء، حيث يبدأ بعمارة القواعد والأساس، ثم يبني الأعالي بعد ذلك، نعم هو القادر على أن ينشئ الأعالي قبل التحت، ولكنه أراد أن يعلّمنا سنته في خلقه، ويرشدنا إلى أن الأمور

ص: 149

كلها، لا بد لها من بناء أساس لها أولًا، وأنه ما من شيء ركب على غير أساس إلا انهار وتلاشى، وأعلمنا أيضًا بقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى} ، إلى أنه تعالى لم يخلق هذا الخلق عبثًا، ولا أنه كان بطريق التصادف، كما يزعم الماديون، بل كان هذا الخلق قصدًا منه تبارك وتعالى، ومن هنا قال كثير من المفسرين، كابن كثير، وغيره:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، أي: قصد، والاستواء ههنا مضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بـ "على"، يعني في غير هذه الآية. وقال الربيع بن أنس فيما أسنده عنه ابن جرير الطبري في تفسيره:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يقول: ارتفع إلى السماء، انتهى. ومراده بالعلو هنا علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، والمراد بالسماء جهة العلو كما بيناه سابقًا، فهي بمعنى الجنس، فلذلك أعيد إليها ضمير الجمع، بقوله:{فَسَوَّاهُنَّ} ، وقال جملة من المفسرين: الضمير في {فَسَوَّاهُنَّ} مبهم، و {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} تفسير له، كقول القائل: رُبَّهُ رجلًا، وفائدته: أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبيَّن أولًا، لأنه إذا أبهم تشوقت النفوس إلى الاطلاع عليه، وفي البيان بعد ذلك شفاء لها بعد التشوق، وهذا ما اختاره صاحب الكشاف وذيّله بقوله: وهو الوجه العربي، والتسوية: إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء

والمعنى والله أعلم: ثم أعطى كل جزء من السماوات حظها من اكتمال صورتها، وترتيب نجومها، وتسييرها حتى صارت على هذا النظام البديع، والخلق المحكم، ومن المعلوم: أن هذه الآية واردة على جهة تعديد النعم، على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، ولا على العكس، بل مثالها مثال قول الرجل لغيره: قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم في الوجود، وسيأتي لهذا مزيد بيان في محالّه من هذا الكتاب.

هاهُنا للمفسرين أقوال ينقلها بعضهم عن السلف، وقد شحنوا بها كتبهم، لا ينبغي لعاقل أن يعول عليها، مثل قولهم فيما حكاه ابن جرير، وتبعه كثير ممن ينقل الكلام على علاته: أن الله خلق الأرض على حوت، وهو المراد بقوله تعالى:{ن وَالْقَلَمِ} هو الحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة والصخرة في الريح. وكقولهم: إن الأرض على

ص: 150

قرن ثور، وليس شيء من هذا ما صح نقله عن السلف، وإنما يعد من كلام الإسرائيليين، دسُّوه فيما بين القوم ليجد الضال مطعنًا على السلف، وقد كنت رأيت قديمًا كتابًا ترجم عن اللغة اليونانية يحتوي على بيان خرافات اليونان، يعني على الرموز التي رمزها الفلاسفة الأقدمون، فرأيت هذه معدودة في جملة الخرافات، وتأملتها فوجدت مخترعها قد رمز بها إلى الجاذبية، فهو يزعم بها أن الأرض مجذوبة بجاذبية الثور والحوت، اللذين هما من جملة منازل الشمس، وكحكاية هاروت وماروت وغيرها، مما هو في الأصل رمز فأخذه بعضهم على الحقيقة وشحن به سفن علمه هذا.

وقد علم من نص القرآن الكريم أن السماوات سبع، ولعلماء الهيئة الجديدة هنا اعتراضان:

أحدهما: على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، فيقولون: لا وجود للأفلاك كليًا، وهذا المرئي إنما هو بُعدٌ مجرد عن المادة، ويعتقدون أن الكواكب تدور بحركتها اللازمة على مدار موهوم.

الثاني: أنّا لو سلمنا أن المراد بالسماوات السيارات السبع، لانتقض الحصر بأن "الهرشل" أحد الراصدين من الإنكليز، اكتشف كوكبًا يتم دوره في أربع وثمانين سنة شمسية، وثمان وعشرين يومًا، وعده من الأفلاك الكلية وسماه باسمه، أعني: فلك الهرشل، ويقال له أيضًا:"أورانوس" وقد قال: إن الكواكب الست اتخذته مركزًا تدور حوله.

وأقول: قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22]، معنى السماء، وأنه: كل ما علاك فأظلك، ومن المحقق أن القرآن نزل بلغة العرب، وإليها يرجع في تفسيره، ولم نجد في القرآن تعداد الأفلاك بسبع، وإنما هو اصطلاح لعلماء الهيئة الأقدمين والمتقدمين، كما مر بك بيانه، وفرق في اللغة بين الفلك والسماء، ففي القاموس: الفلك: مدار النجوم، والجمع أفلاك، وفلك بضمتين، وموج البحر المضطرب، والماء الذي حركته الريح، والتل من الرمل حوله فضاء، وقطع من الأرض تستدير وترتفع عما حولها، انتهى.

ص: 151

وفرّق القرآن أيضًا بين السماء وبين الفلك فقال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33] ولم يقل كل في سماء، ثم إن الكتاب لم يبين جنس السماء، ولا أنها جسم مركب أو غير مركب، غاية الأمر أنه ذكر أنه خالق للعلو كما أنه خالق لما تحته فكيف يعترض المعترضون بأن لا وجود للأفلاك كليًا، ويطلقون الأفلاك على السماوات، ثم ينكرونها، وما ذلك إلا لعدم علمهم باللغة العربية وشغفهم بالتحكك بالكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، ثم إن قولهم: إن الكواكب تدور بحركتها اللازمة على مدار موهوم، هو معنى قوله تعالى:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، لأن مدار النجوم يسمى فلكًا، والمدار مصدر بمعنى الدوران، فسمى الله تعالى مدار النجوم أو دورانها فلكًا، ولا يضرنا بعد ذلك، أن يكون المدار موهومًا أو محققًا، على أنهم استفادوا كلامهم من القرآن، ثم اعترضوا به عليه. وبيانه: أن السبح في لغة العرب الفراغ، وقال أهل اللغة:{وَالسَّابِحَاتِ} [النازعات: 3] النجوم تسبح في الفلك، أي: تذهب فيه بسطًا، كما يسبح السابح في الماء سبحًا، فشبه الله تعالى سير النجوم بالسابح الذي يسبح في الماء، وهذا عين ما اختاروه، ثم قلبوا العبارة واعترضوا بها، وما حملهم على هذا إلا خلط الاصطلاحات بعضها ببعض.

ثم إن قولهم في الاعتراض الثاني: إنا لو سلمنا أن المراد بالسماوات السبع: السيارات، لانتقض الحصر بالهرشل، مدفوع أيضًا بأننا نتنزل معهم في البحث، ونقول: إن السماوات عبارة عن السيارات السبع، ولكن انتقاض الحصر ليس بلازم لنا، لأن العدد لا مفهوم له، ولو سلمنا أن له مفهومًا، ولكن الكتاب العزيز لم يقتصر على ذكر السبع بل زاد عليها اثنين، وهما الكرسي والعرش، وهما عند الحكماء مما يطلق عليهما لفظ الفلك، فإذا انضما إلى السبعة، صارت تسعة وهم إلى الآن لم يكتشفوا الثامن من بعد ألوف من السنين، ونحن ندعهم حتى يكتشفوا التاسع بعد دهر، وهناك يذعنون لنا.

هذا، وقد حاول الطوسي الجمع من وجه آخر، فقد قال العلامة "الشيرازي" في "التحفة الشاهية": سمعت العلامة "الطوسي" يقول حين قرأت الهيئة منه: إذا

ص: 152

فرضنا الكواكب الثابتة، ودائرة البروج على مثل زحل، وتعلق نفس واحدة بمجموع الأفلاك وحركتها بالحركة اليومية، ويتحرك ممثل زحل بحركته الذاتية، أمكن انحصار التسعة بسبعة، لكن إنما يصح هذا لو لم يفرض زحل في البعد إلا بعدًا أصلًا، أو لم يوجد الكوكب من الثوابت معتد به القدر في حول أوج زحل، هذا خلف، فإن قيل: لو فرض المحل من جرم الممثل فوق أوج زحل للكواكب الثابتة، لصح الرأي المذكور، قلنا: ارتكاب هذا التمحل خروج على قاعدة الفن، ولما كانت هذه القضايا مما تحار فيه العقول، ولا يمكن إدراكها إلا بإعلام من اللطيف الخبير، وكان الخلق على هذه الكيفية، دالًا بالبديهة على أتم قدرة لصانعه، وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجًا إلى تأمل، اعتنى في مقطع الآية بقوله:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

ولما ذكر الحياة والموت المشاهدين، تنبيهًا على القدرة على ما اتبعهما به من البعث، ثم دل ذلك أيضًا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع، وختم ذلك بصفة العلم، ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].

إذ من البداءة تعلم العودة لمن تدبر هذا، إذا قدرنا، {وَإِذْ} عطفًا على قوله:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وبيانًا لقوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ويجوز أن تكون {إِذْ} ، متعلقة بفعل محذوف تقديره: واذكر، والمناسبة على هذا أنه تعالى لما خاطبهم خطابًا على سبيل الاستفهام الإنكاري بقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28]، ذاكرًا اسمه تعالى "الله" وأتبعه بعض ما له منكرون أو به جاهلون، وأشار بقوله:{لَكُمُ} ، إلى أنه لم يخلق هذا النوع البشري للفناء بل للبقاء، بما أبان عن أنه إنما خلق جميع ما في هذه الأكوان لأجلهم، فالبعض رزق لهم،

ص: 153

والبعض أسباب له، والبعض أسجدهم لأبيهم، وهم في صلبه، والبعض جعل لهم وظائف مختلفة ككتابة الأعمال، لم يكونوا أهلًا لفهم هذا الخطاب حق فهمه، فأعلم سبحانه وتعالى رسوله كأنه يقول له: إن هذا لا يفهمه حق فهمه عنا سواك، وهم إلى الفهم عنك أقرب، فاذكر لهم ما كان في بدء خلقهم: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ

} وسياق الكلام هنا، إنما هو لإيراد الرفق والبشارة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم استعطافًا لهم إليه وتحبيبًا فيه.

ولما علمت الإشارة، لكن لأهل البصيرة، أتبعها قصة آدم عليه السلام، دليلًا ظاهرًا ومثالًا بينًا لخلاصة ما أريد بهذه الجملة، من أن النوع الآدمي هو المقصود بالذات من هذا الوجود، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يترك بعد موته من غير إحياء، يرد به إلى دار لا يكون في شيء من أمورها من أحد نوع من الخلل، وتكون الحكمة فيها ظاهرة تمام الظهور، لا خفاء بها أصلًا، ولذلك ذكر تفصيل آدم بالعلم، ثم بإسجاد الملائكة له، ثم بإسكانه الجنة، ثم بتلقي أسباب التوبة عند صدور الهفوة، ومن هنا يظهر سر العطف بالواو، الذي هو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله إفصاحًا باللفظ، أو إفهامًا في المعنى، حيث قال:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} أي: المحسن إليك برحمته، العباد بك. و "الملائكة": جمع ملك، ويقال في حقيقتهم: إنهم أجسام لطيفة هوائية، تقدر على التشكل بأشكال مختلفة، مسكنها السماوات، وهذا قول أكثر المسلمين، حكاه صاحب "مفاتيح الغيب" وغيره.

ومن المعلوم: أن الأمم مختلفون في وجود الجن والملائكة، والمثبتون لهم مختلفون أيضًا في حدهم وتعريفهم، فأما المثبتون لهم فطائفتان:

طائفة ذهبت إلى أن الكتب السماوية نصت على وجودهم نصًا لا ريب معه، ولا سيما الكتاب العزيز، فإنه حكى أصنافهم وأوصافهم.

أما أصناف الملائكة فحكي: أن منهم حملة العرش والحافين حوله، وصرح باسم {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، اللذين هما من أكابرهم، وأن منهم ملائكة الجنة، وخزنة النار، والموكلين ببني آدم، وكتبة الأعمال، {وَالصَّافَّاتِ} ، وهم الموكلون بأحوال هذا العالم.

ص: 154

وأما أوصافهم، فقد بين تعالى أنه {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وأنهم {عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وبين أنهم الصافون والمسبحون، لا يعصون الله شيئًا {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50، والتحريم: 6] ، وأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء: 27]، وأن منهم صاحب الصور.

وأما الجن، فقد بيّن تعالى أنه {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} [الرحمن: 15]، وأن منهم {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} [ص: 37]، وقال تعالى حاكيًا عن سليمان:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] إلى غير ذلك مما يعلمه من قرأ الكتاب العزيز.

وأما حقيقة هذين الجنسين، فلم ترد في القرآن الكريم، لأنه لا منفعة لنا بها، ولو كان لنا بها وببيانها منفعة لبينها سبحانه وتعالى.

والطائفة الثانية من المثبتين قالوا: لا تخلو الملائكة من أن تكون ذوات قائمة بأنفسها أو لا، فالثاني باطل، والأول يقال عليه: لا تخلو تلك الذوات من أن تكون متحيزة، أو لا تكون، وقد ذهب إلى كل من القولين أمة، ثم إن القائلين بأن الملائكة ذوات متحيزة، ذهبوا مذاهب: أحدها المذهب الذي قدمناه آنفًا؛ ثانيًا: مذهب عبدة الأوثان، قالوا: إن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالسعد والنحس، ويزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة. وثالثها: مذهب المجوس، القائلين بأن العالم مركب من أصلين أزليين، وهما النور والظلمة، ثم إن جوهر النور فاضل شريف لم يزل يولد الملائكة، لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم، والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة شرير لم يزل يولد الأعداء، وهم الشياطين ولكن لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولد السفه من السفيه.

والقائلون بأن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها، وليست بمتحيزة افترقوا فرقتين: فرقة قالت: إن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها، على نعت الخير والصفاء، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين، وينسب هذا القول لقدماء

ص: 155

النصارى. والفرقة الثانية: وهم الفلاسفة، قالوا: إن الملائكة جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة ألبتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية، وأنها أكمل قوة منها، وأكثر علمًا منها، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إن هذه الجواهر على قسمين: منها ما هو بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ماهي لا على شيء من تدبير الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته، ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هم الملائكة المقربون، ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السماوات، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة.

هذه مذاهب الناس في هذا الجنس، قد أوردناها خالية من الدليل والتعليل، لضيق المقام عن ذلك، وربما يمر بك شيء من الاستدلال أثناء هذا الكتاب.

وحاصل ما يقال هنا: أن الله تعالى أخبرنا بأن له عبادًا سماهم الملائكة، وأن رسله الكرام أخبروا بوجودهم، والعقل يقول: إن الذي خلق الإنسان من طين وسواه، قادر على أن يخلق خلقًا من النور، يقال لهم: الملائكة، وخلقًا من نار يقال لهم الجن، فمن أثبت وجود الله وقدرته يرى أن ذلك جائزًا، ومن لم يثبت وجود الله لا كلام لنا معه، لأنه أنكر الأصل، فليس بعجيب أن ينكر الفرع، فلذلك قال المليّون في شأن الجن والشياطين: إنهم من الجواهر الغائبة عن حواسنا، وهي أجسام تتشكل بأي شكل شاءت، وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات، وتنفذ في منافذها الضيقة، نفوذ الهواء المستنشق.

وأما الفلاسفة فإنهم حكَّموا العقل المجرد في إثبات الجن، فقالوا: إن الجن لا تخلو من أن تكون أجسامًا لطيفة أو لا، فإن كان الأول لزم أن لا تقدر على الأفعال الشاقة، لأنها تتلاشى بأدنى قوة، وبأدنى سبب من خارج يصل إليها، وهو خلاف ما يعتقده القائل بوجودهم، فالقول به باطلٍ. وإن كان الثاني، وهو كونهم أجسامًا كثيفة لا نراها، فإنه غير مسلم أيضًا، لأنه يؤدي إلى جواز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها، وبوقات وطبول لا نسمعها، وهذا سفسطة فهو باطل.

ص: 156

وأجاب المثبتون لهم من المتقدمين، بما يظهر منه الحيرة في الجواب، فقالوا: إنا نختار الشق الأول، وهو كونهم أجسامًا لطيفة، ولا يلزم من كونها كذلك عدم قوتها على الأفعال الشاقة، لجواز أن يفيض الله عليها مع لطافتها قوة عظيمة، فإن القوة لا تتعلق بالقوام يعني الكثافة، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].

وأقول: قد قارب القوم في الجواب، وحاموا حول الصواب، ومخترعات عصرنا أبرزت مثل هذا للعيان لقوم يعقلون، وذلك أنه أظهر أجسامًا لطيفة تنفذ فى المسام، وتفعل ما لا يقدر على فعله المئات من الناس، فهذه الكهرباء السارية في الوجود تسير السفن البرية، وتدير آلات الصنائع بسرعة فائقة، وتجر ما لا يقدر على جره العصبة أولو القوة، وتظهر الأضواء، وتنقل الكلام من قطر إلى قطر آخر، كما يفعله التلغراف والتلفون، وإذا مسها شخص سارت بسرعة في جميع أعضائه فتسري مسرى الدم، ومع ذلك فهي أجسام لطيفة لا نراها، وإنما نرى آثارها، فلو رآها الفلاسفة المتقدمون، لعدلوا كثيرًا من تعاليمهم، فأي مانع مع مشاهدة هذا أن يكون لله خلق لطيف، يقدر على الأعمال الشاقة. وكذلك يقال: إن الأطباء اليوم اكتشفوا لأسباب الأمراض سببًا يقال له الجراثيم، وهم يسمونه بالميكروب، ومن قوة بعضه أنه يسري في اللحم والدم، فأي مانع حينئذٍ أن يخلق الله أجسامًا لا ترى، وهي تجري من ابن آدم مجرى الدم، فليتأمل العاقل بديع قدرة الله تعالى، ويعلم أنه لا يعجزها شيء.

هذا وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} معناه والله أعلم: اني مصير في جميع الأرض خليفة، والخليفة: من يخلف غيره، ويقوم مقامه، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 14]{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} [الأعراف: 69 و 74] فالآية تدل على أن الأرض كانت مسكونة بعالم غير آدم، والله تعالى جعله خلفًا عنهم، وأما جنس هذا العالم وصفته وكيف هو، فالقرآن الكريم لم يصرح به، ولم يأتنا ببيانه حديث صحيح يعول عليه في البيان، فالبحث عنه ليس من غرض المفسرين، وروى ابن جرير الطبري، عن عطاء، عن

ص: 157

ابن سباط (1) مرفوعًا: "إن الأرض دحيت من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، فهي الأرض التي قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} " وهذا المروي قد سقط من إسناده الصحابي، فهو مرسل، ومثله لا يفيد اليقين، على أنه يقتضي أن يكون الله جعل آدم خليفة في بعض الأرض، وظاهر القرآن بخلافه، وأيضًا يقتضي أن عالمًا من البشر كانوا في غير أرض مكة، فلم يخلفهم آدم، ولم يكونوا من صلبه.

بقي أن يقال: ما الفائدة في قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} مع أنه تعالى منزه عن الحاجة إلى المشورة؟ ويجاب بأنه تعالى قال ذلك ليعلم عباده المشاورة في الأمور، ولذلك قال:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وليعلم أيضًا طلبُ الدليل على المُدَّعَى، فلا يأخذون القول على علاته، وليبين لهم الإيقاف على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر، وليسألوا ذاك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في الاستخلاف قبل وجوده، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت الاستخلاف، فمن ثم قالوا على سبيل التعجب، من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وهو الحكيم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الآية، قالوا ذلك: لما ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو أنهم قاسوا من يأتي من صلب آدم على من كان قبله من سكان الأرض، فقالوا طالبين الإيقاف على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر، {أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: في الأرض، {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} بأنواع المعاصي، بسبب ما ركب فيهم من الشهوة النفسانية، {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ، أي: يسكبها بغير حقها بسطوة بالقوة الغضبية، لعدم عصمتهم، {وَنَحْنُ} أي: والحال أنا نحن نسبح بحمدك، أي: نسبح حامدين لك، وملتبسين بحمدك، لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف، لم نتمكن من عبادتك، والتسبيح: تنزيه الله عن السوء، وكذلك تقديسه مأخوذ من قول

(1) في الأصل "أسباط" والتصويب من الطبري.

ص: 158

العرب سبح في الأرض والماء، وقدس في الأرض، إذا ذهب فيها وأبعد، ولما تضمن قولهم هذا أنهم نسبوا أنفسهم إلى العلم المثمر للإحسان، ونسبوا الخليفة إلى الجهل المنتج للإساءة، أعلمنا سبحانه وتعالى لنشكره أنه حاج ملائكته عنا، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا، بقوله، على سبيل الاستئناف:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يعني: أن الخيرات الحاصلة من أجل تركيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيهما، والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه.

ولما أعلم سبحانه وتعالى الملائكة أن الأمر على خلاف ما ظنوا، شرع في إقامة الدليل عليه فقال:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} . تكلف الناس لاشتقاق لفظ "آدم" تكلفات بعيدة، فبعضهم قال: مشتق من الأدمة، وهي السمرة. وبعضهم قال: مشتق من أديم الأرض، وهو وجهها، ومنهم من قال غير ذلك. والحق: أن لفظ "آدم" أعجمي لا ينطبق على الاشتقاقات العربية، وإنما يلهج بمثل هذا أقوام صرفوا أوقاتهم في الاشتغال بالألفاظ، وأضربوا عن جانب المعنى، فتراهم يتكلفون لاشتقاقاتها، ولو كانت من غير لغتهم، ثم إنهم يبنون على تلك الاشتقاقات تعليلات وحكايات يخترعونها، لم تتطابق نقلًا ولا عقلًا، وتفسير كتاب الله تعالى في غنى عنها.

ثم إن المفسرين جالوا في ميدان تفسير الأسماء التي علمها الله آدم عليه السلام، وأطالوا النفس في هذا الموضوع، وتبعهم علماء الأصول، فأنشؤوا المقالات الباحثة عن كون اللغات وضعية وضعها كل قوم حسب اصطلاحهم، أم هي توقيفية لا تعلم إلا بوحي من الله تعالى، فمن قائل بأنها توقيفية، وأن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء التي يتعارف بها الناس، من إنسان ودابة، وأرض وسهل وجبل وبحر، وأشباه ذلك وهؤلاء يعممون القول، فيقولون: علمه جميع

ص: 159

اللغات التي ينطق بها أولاده إلى آخر الدهر. ومن قائل: إنه علمه أسماء الملائكة كلهم. ومن قائل: إنه علمه أسماء ذريته أجمعين. وأنت خبير بأن حمل الأسماء على سائر اللغات لا يصح، لأنه يؤدي إلى أن آدم تكلم بجميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة، وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلمون إلا بها، وهذا كذب ظاهر، فإن آدم لا يصح في العقل أن ينقل عنه إلا بنوه، وقد أغرق الله عام الطوفان جميع ذريته إلا من حملته السفينة، وأهل السفينة لم يبق من ذريتهم إلا ذرية نوح، ولم يكونوا يتكلمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم، فإن اللغة الواحدة كالفارسية، والعربية، والرومية، والتركية فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله، والعرب أنفسهم لكل قوم منهم لغات لا يفهمها غيرهم، فكيف يتصور أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة، وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل وإنما النسل لنوح، وجميع الناس من أولاده الثلاثة: سام، وحام، ويافث، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: 77] فلم يجعل باقيًا إلا ذريته، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أولاد نوح ثلاثة"(1)، ومعلوم: أن الثلاثة لم ينطقوا بهذا كله، ويمتنع نقل ذلك عنهم، فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه، وإذا كان الناقلون ثلاثة، فهم قد علموا أولادهم، وأولادهم علموا أولادهم، ولو كان كذلك لاتصلت، ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى، والأب الواحد لا يقال: إنه علم أحد ابنيه لغة، وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان، واللغات في أولاده أضعاف ذلك، والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم، أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها أو يخاطبهم بها غيرهم، فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها،

(1) ينظر "مسند الإمام أحمد" 5/ 10 (20056) عن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، ويافث أبوالروم، وحام أبو الحبش" وقال رَوح ببغداد مِنْ حفظه: "ولد نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث" والحديث 5/ 9 (20042).

وكتاب "الإيمان" لابن تيمية تخريج الألباني إشراف زهير الشاويش الصفحة 77 الطبعة الخامسة طبع المكتب الإسلامي.

ص: 160

فليس من العادة أن يعلموها أولادهم، وأيضًا فإنه يوجد من بني آدم قوم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم، كما أورد هذا الإمام "تقي الدين الحرَّاني" في كتاب "الإيمان" له.

والذي يقتضيه سياق الكلام المنزل، أن الله ألهَمَ النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه، وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم عليه السلام، وهم علموا كما علم، وإن اختلفت اللغات، فالإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة، فمن ادعى وضعًا متقدمًا على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم له به، وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال، نعم إن إلهام الله لآدم أن يعبر عن جميع ما يريده بلفظه، كان على سبيل العموم، لأن لفظ {الْأَسْمَاءَ} عام مؤكد بقوله {كُلَّهَا} ، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى، فآدم كان في إمكانه أن يقدر على تسمية ما يراه من جميع الأجناس بلا استثناء، فكان له لسان خاص به، ثم اختلفت اللغات لاختلاف أمزجة الألسنة، واختلاف أمزجة الألسنة علته وسببه اختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة. فإذا غلب البرد مثلًا على مكان برد هواءه، وطبع البرد التكثيف والتثقيل، لأن العنصرين الباردين، وهما الماء والأرض ثقيلان، كثيفان، والماء أشدهما بردًا والأرض أشدهما كثافة، فيغلب الثقل على ألسنة سكان ذلك البلد، فيثقل النطق على ألسنتهم، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة، فيجيء النطق بها ثقيلًا كالعجمي والتركي، وغيرهما. وإذا غلب الحر على مكان سخن هوائه، وطبع الحرارة التخفيف والتحليل والتلطف، فتغلب الخفة على ألسنة أهل ذلك المكان، فيخف النطق على ألسنتهم، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة، فيجيء النطق بها خفيفًا سمحًا سهلًا، كاللغة العربية، ولهذا كانت أفصح اللغات وأشرفها وأحسنها، وحصل الإعجاز والتحدي بكلام الله تعالى النازل بها دون كلامه النازل بغيرها، مع أنه قد كان في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يعجز أهل كل لسان بما نزله من كلامه بذلك اللسان.

ثم إن الله لما ألهم آدم أن يعبر عن كل ما يريده ويتصوره بلفظه، وأظهر ذلك من القوة إلى الفعل، {عَرَضَهُمْ} أي: عرض مسميات الأسماء على الملائكة، فقال معجزًا لهم:{أَنْبِئُونِي} أي: أخبروني إخبارًا قاطعًا بأسماء هؤلاء

ص: 161

الموجودات بتفرسكم فيها {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تفرستموه في الخليفة، وفي أنساله، في قولكم: أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم، عصتني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإنكم إذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون، ترونهم وتعاينونهم، وعلمه غيركم بتعليمي إياه، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد، وبما هو مستتر من الأمور التي هي بعيدة عن أعينكم، أحرى أن تكونوا غير عالمين بها فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي (1) وإني أعلم أن بعضكم تاج المعاصي وخاتمها وهو إبليس فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلى الله بالتوبة كما أخبر عنهم بقوله:

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} .

وكذلك فعل كل مسدد للحق، موفق له، سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوبته، فإذا اعترته الهواجس بالاعتراض على حكمة الحق جل وعلا؛ نكص على عقبيه بالتوبة والإنابة قائلًا:

{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، أطلق لنا سراح عقولنا في الأكوان.

وعلم الإنسان من أسرارها ما لم يعلم، وألهمه تسمية الأشياء ليبيّن المرء لأخيه ما يكنّه في ضميره، فسرح الفكر في النبات والحيوان والمعادن، حتى اهتدى إلى خواصها، وما ينفق منها، ثم أطلق المجال في تركيب الأعضاء، وفيما يخرجها عن اعتدالها، وما يعيده إليها إذا انحرفت عنه، وعلمه سير الكواكب، وكيفية مدارها، وجعل له أثناء سيره مشكلات وغوامض لا يمكنه حلها، ولا كشفها بفكره مهما بالغ في أعماله، ليقهره على أن يقول كما قالت الملائكة من قبله:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، فيقر بأن قوة تتصرف فيه أعظم من قوته، وأن تلك القوة هي قدرة خالقه، ويعلم علم اليقين بأن العبد لو علم جميع ما يعلمه

(1) تداخلت بعض الكلمات والجمل في أصل هذه الصفحة فرجحنا أن الصواب ما ذكرنا.

ص: 162

خالقه، لكان مساويًا له، في صفة العلم، ولما كانت الصنعة لا يمكن أن تدرك حقيقة صانعها، وكانت المساواة بالفاعل المختار مستحيلة، كانت مساواة المخلوق لخالقه في صفة العلم، وفي غيرها من صفاته تعالى مستحيلة أيضًا، وكان العلم بحقيقة الخالق من المستحيل أيضًا، وما على المخلوق إلا أن يثبت لخالقه ما أثبته من الصفات لنفسه، وما أثبته له رسله قائلًا عما وراء ذلك من حقائقها:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، يا من له التنزيه عن أن يحيط أحد بعلمه، ومن ثم قال أبو جعفر الطبري: وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن يتذكر، والبيان {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]. [كما](1) أودع سبحانه وتعالى في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن، وذلك أن الله جل ثناؤه احتج فيها لنبيه، على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب الذي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا الخواص، ولم يكن مدركًا علمه إلا بالإنباء والإخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عنده، ودل فيها على أن كل مخبر بخبر عما قد كان- أو عما هو كائن، مما لم يكن ولم يأته به خبر، ولم يوضع له على صحته برهان- فمتقول ما يستوجب به من ربه العقوبة، ألا تسمعون الله جل ذكره رد على الملائكة قيلهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} ، وعرفهم أن قيل ذلك، لم يكن جائزًا لهم، بما عرفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} ، فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز والتبري إليه، إلا ما علمهم بقولهم:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} . فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة على كذب مقالة كل من ادعى شيئًا من علوم الغيب، من الحُزاة والكهنة والعافة (2) والمنجمة، وذَكر بها الذين

(1) زيادة من الطبري.

(2)

في الأصل "القافة" تبعًا لمطبوعات تفسير الطبري القديمة، وصححها الشيخ الفاضل محمود شاكر في تحقيقه النفيس لتفسير الطبري فقال: وفي المطبوعة "والقافة" مكان "والعافة" وهو خطأ بيّن.

ص: 163

وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم، وأياديه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم على طاعته مستعطفهم بذلك إلى الرشاد، ومستعتِبهم به إلى النجاة، وحذرهم بالإصراء والتمادي في البغي، والضلال، حلول العقاب بهم نظير ما أحل بعدوه إبليس، إذ تمادى في البغي والخسار. وقد أشار إلى هذا إشارة خفيفة ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فيما رواه عنه ابن جرير، حيث قال:{سُبْحَانَكَ} ، تنزيهًا لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، تبريًا منهم من علم الغيب {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، كما علمت آدم، فكأنهم قالوا:

إنا نبرأ من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا {إِنَّكَ أَنْتَ} يا رب، {الْعَلِيمُ} من غير تعليم، بجميع ما كان وما هو كائن، وعلام الغيوب دون جميع خلقك.

وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، أن يكون لهم علم، إلا بما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} ، يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان من سواك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه.

قال ابن عباس: {الْعَلِيمُ} الذي قد كمل في علمه، و {الْحَكِيمُ} الذي قد كمل في حكمه، انتهى.

وكمال العلم أن يحيط علمًا بكل شيء ظاهره وباطنه، دقيقه وجليله، أوله وآخره، عاقبته وفاتحته، وهذا من حيث الوضوح والكشف على أتم ما يمكن فيه، بحيث لا تتصور مشاهدة وكشف أظهر منه، ثم لا يكون مستفادًا من المعلومات، بل تكون المعلومات مستفادة منه. ولا يليق هذا الوصف إلا بالله تعالى، فإن علم الخلق يفارق علم الله تعالى في الخواص الثلاثة:

أحدها: في المعلومات في كثرتها، فإن معلومات العبد وان اتسعت فهي محصورة في قلة، فأنى يناسب ما لا نهاية له.

الثاني: أن كشفه وإن اتضح، فلا يبلغ الغاية التي لا تكمن وراءها غاية،

ص: 164

بل تكون مشاهدته للأشياء كأنه يراها من وراء ستر دقيق، ولا ننكرنَّ تفاوت درجات الكشف، فإن البصيرة الباطنة كالبصر الظاهر، وفرق بين ما يتضح في وقت الإسفار، وبين ما يتضح وقت صحوة النهار.

والثالث: أن علم الله تعالى غير مستفاد من الأشياء، بل الأشياء مستفادة منه، وعلم العبد بالأشياء تابع للأشياء وخالص بها، وهذا هو الفرق بين الصفتين كما أشار إليه "الإمام الغزالي" في "المقصد الأسنى".

ثم قال في تفسير "الحكيم": إنه صاحب الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء، بأفضل العلوم، وأجل الأشياء، هو الله تعالى، ولا يعرف كنه معرفته غيره، فهو الحكيم الحق، لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم، إذًا أجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم، الذي لا يتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليه خفاء وشبهة، ولا يتصف بذلك إلا علم الله تعالى، وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات: ويحكمها ويتقن صناعتها حكيم، وكمال ذلك أيضًا ليس إلا لله، فهو الحكيم الحق. ومن ثم كان من عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله تعالى، لا يستحق أن يسمى حكيمًا، لأنه لم يعرف أجل الأشياء وأفضلها، والحكمة أجل العلوم، وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم، ولا أجل من الله، ومن عرف الله فهو حكيم، وإن كان ضعيف الفطنة في سائر العلوم الرسمية، كليل اللسان قاصر البيان فيها، إلا أن نسبة العبد إلى حكمة الله كنسبة معرفته به إلى معرفة الله بذاته، وشتان بين المعرفتين، فشتان بين الحكمتين، هذا ما قاله. ومنه يتضح سر ختم هذه الآية بهذين الاسمين، لأن الملائكة لما ادعوا العلم بالأشياء، وزعموا الاطلاع على حكمة خلق آدم، بين لهم تعالى الفرق بين علمه وعلمهم، وحكمته وحكمتهم، فأذعنوا لذلك ونفوا العلم الحقيقي، والحكمة الحقيقية عن أنفسهم، وأثبتوا ذلك لله تعالى بطريق القصر المستفاد من تأكيد اسم "إن" بـ {أَنْتَ} الدال على الخطاب، ثم أثبت لهم هذا المعنى على طريق أبسط من قوله:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وأشرح له، لينتقلوا من مقام الغيب المعلوم من {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، إلى مقام المشاهدة، وهو أبلغ من غيره وأقنع في البحث.

ص: 165

وليعلمنا تعالى آداب المناظرة، وأنه كيف ينبغي فيها التدرج من الإجمال إلى التفصيل، ومن الغيب إلى الحُضُور، ومثال ذلك: أنك تبين لمن تنصحه حكاية تاريخية على وجه النصح، وتذكر له عاقبتها، ثم تمثلها له تمثيلًا ظاهرًا للعيان، ليرى بداية الحال وتتضح له المعاقبة تمام الإيضاح، فمن ثم فعل معهم كما أخبر عن ذلك بقوله:

{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} .

يقول سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام:

{يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ} ، أي: أخبرهم، والضمير عائد إلى الملائكة، بأسماء الذين {عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} ، وإنما كان ذلك الأمر لأجل إظهاره عجز ملائكته الذين سألوه أن يجعل لهم الخلافة في الأرض، ووصفوا أنفسهم بأنهم أهل طاعته والخضوع لأمره، دون غيرهم الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وليعلمهم جهلهم بمواقع تدبير الحكمة الإلهية، ومحل القضاء، قبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو ما جهلوه من أسماء الذين عرضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لا يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من أهل العناد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم، وأنه يخص من شاء من الخلق بما شاء من العلم، ويمنع منه من شاء، كما علم آدم أسماء من عرض على الملائكة؛ ومنعهم علمًا إلا بعد تعليمه إياهم.

ومن هذا تعلم أن معنى قوله: {بِأَسْمَائِهِمْ} : إنما هو بأسماء المسميات التي عرضها على الملائكة، والضمير كناية عما تضمنه قوله:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} ، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} ، أي: أخبرهم بما لم يعرفوه، وأيقنوا أنهم كانوا مخطئين في قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، الآية، وأقروا بذلك، قال لهم ربهم:

{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، والغيب هو: ما غاب عن أبصارهم، فلم يعاينوه، وكان ذلك من الله عز وجل توبيخًا لهم على ما سلف من قيلهم، وفرط منهم من خطأ مسألتهم.

ص: 166

وهنا للحكماء مقال وتعليل، فإنهم قالوا:

إنّ أقسام الأفعال خمسة بالقسمة العقلية، وذلك لأن الفعل؛ إما أن يكون خيرًا محضًا، أو شرًا محضًا، أو ممتزجًا، والممتزج إما أن يتساوى فيه الأمران، الخير والشر، وإما أن يكون الخير غالبًا والشر مغلوبًا، وإما العكس.

فهذه أقسام خمسة لا سادس لها. فأما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده، وأما الذي يكون الخير فيه غالبًا فالحكمة تقتضي إيجاده أيضًا، لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالملائكة ذكروا الفساد والقتل، وهو شر قليل بالنسبة لما يحصل من بني آدم من الخيرات. فقوله:{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، معناه: إني أعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور، فلذاك اقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم.

ونقول: إن الملائكة لما قاسوا الغائب على الشاهد، ونظروا إلى أنفسهم نظرة الكمال، كان لسان حالهم يقول: لا يمكن إبداع عالم أحسن من عالمنا، وأقدر على نوال العلم منا، وكانت القدرة الإلهية لا منتهى لإبداعها واختراعها، لا جرم قال لهم:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، فقالوا ما قالوه مما وصل إليه علمهم، وانتهى إليه مرمى نظرهم، فلما أظهر تعالى ما أراده وظهر بشرًا سويًا، أراهم أن هذا النوع قد تصل أفراده إلى درجات لا يصلون إليها، في العلوم والمعارف، والارتقاء معرفة بالربوبية، وبما يجب لها، وبما أودعه تعالى من خزائن الأسرار في الأرض والجو، والعوالم وخصائصها، أراد أن يريهم نموذجًا من استعداد ذلك النوع، فـ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} فكان ما كان من أمرهم، فأقنعهم البرهان، إلا واحدًا وهو إبليس، وقد قص الله علينا هذه القصة لنعتبر بها فلا نرضى بالدون من المقامات، ولا نقف موقف الجمود، بل نطلب الرقي دائمًا في العقل، والأفكار، والأعمال، والعلوم والمعارف، وأن نطلب البرهان الحقيقي حتى إذا لاح لنا نتبع نتائجه، ولا نكابر شططًا وغلطًا، فإذا فعلنا ذلك كنا من أولاد ذلك الأصل الطاهر من علمه الله الأسماء كلها، وإذا أخلدنا إلى ما توحيه لنا أنفسنا الشريرة، فارتكبنا متن الشطط، واتبعنا الهوى،

ص: 167

وأعرضنا عن البرهان المستنير كبرًا وعنادًا، وافتخرنا على غيرنا بالأصل والجنس، لا بالعلم والمعرفة، كنا أولاد إبليس، معنىً لا ولادة، وأنصاره وأشياعه. ألا يُرى أن كثيرًا من المشركين كانوا يعلمون أن هذا الكتاب معجز، وأن من أنزل عليه صادق في دعواه، ثم لا يؤمنون به كبرًا وعنادًا، مقتدين برئيسهم إبليس، حتى استكبر عن السجود لآدم، وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} [ص: 76] فالمقلد الذي لا يعير البرهان آذانًا صاغية، لا يسلم غالبًا من العثَار، والتدهور في مهاوي الغلط، وارتكاب الشطط.

ولما أخبرنا تعالى بهذه النعمة التي تقدمت الإشارة إليها، ضم إليها الخبر بالإنعام بإسجاد الملائكة لجدنا الأعلى آدم، ونحن في ظهره، فقال عاطفًا على إذ الأولى:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} .

عدل عن الغيبة إلى المتكلم، ثم إلى كونه في مظهر العظمة، إعلامًا بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه، ولهذه الآية مناسبة ثانية للتي قبلها، وهي: أنه تعالى، لما ذكر مفاوضة الملائكة، وإذعانهم وتسليمهم للبرهان، شأن المسترشد الذي إذا اتضح له البرهان سلم به، واستسلم له؛ نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلًا كما انقادوا له علمًا، إظهارًا لكمال حالهم، في التسليم علمًا وعملًا، كما اقتدى بهم أتباع الرسل فكانوا معهم قلبًا ولسانًا.

فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} أي: على عظمتنا {لِلْمَلَائِكَةِ} الذين أكرمناهم بقربنا، {اسْجُدُوا} لعبدنا "آدم" اعترافًا بفضله الذي فضلناه به، سجودًا على وجه التكرمة، فجعله تعالى بابًا إليه، وكعبة ليعظموه بتعظيم الله، ومحرابًا، وقِبلةً يكون سجودهم له سجودًا لله تجاه آدم، كسجود آدم وبنيه لله تجاه الكعبة. وقد أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة، لأن سجود العبادة لغير الله كفر! والأمر لا يرد بالكفر، ومن ثم قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: كانت السجدة لآدم، والطاعة لله. وقال الحسن البصري: أمرهم أن

ص: 168

يسجدوا فسجدوا له كرامة من الله أكرم بها آدم. وقال أبو إبراهيم المزني، فيما أخرجه عنه ابن عساكر: إن الله جعل آدم كالكعبة، وعاب بعض الناس هذا المعنى، فقال: لو كان الأمر كذلك، لقيل: اسجدوا إلى آدم، وهذا القول يدل على ضعف قائله بمعرفته أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن المجيد، فإن العرب كثيرًا ما تجعل اللام موضع إلى، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] والعود إنما يكون إلى الشيء، لا له، لأن "عاد" يتعدى بـ "إلى" فأقيم اللام مقامها، وقال تعالى:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5] أي: إليها، وقال:{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2، فاطر: 13، الزمر: 5] أي: إلى أجل، ومن هذا المعنى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فالصلاة لله لا للدلوك، فإن كان هذا جائزًا، لم لا يجوز أن يكون معنى {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، اسجدوا إليه، فيكون هو قِبلة، والسجود لله، ودليله من الشعر قول حسان (1):

ما كنت أعرف أن الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

وأعرف الناس بالقرآن والسنن

فقوله: صلى لقبلتكم، أراد به إلى قبلتكم، وهو نص في المقصود.

(1) في الأصل ورقة (طيارة) فيها ما يلي:

إن هذا الشعر وإن صح في الاستدلال لغة، فإنه لم يثبت من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه.

ومعناه ليس صحيحًا أيضًا فإن أمر النبوة ومن بعدها الخلافة غير مختص بقوم ولا أفراد، بل الله أعلم حيث يجعل رسالته. والله يولي من يشاء.

وسيدنا علي بن أبي طالب، لم يكن أول من صلى للقبلة، بل سبقه إلى ذلك خديجة والصديق رضي الله عنهما. ومنزلة سيدنا علي بمعرفة القرآن والسنن لا تنكر. وكان أعرف الناس بهما أو بأشياء منهما بعد معرفة سيدنا الصديق بشهادة علي. وكان لكل من الصحابة- وكبارهم على الأخص- انفراد بأنواع من المعارف والعلوم رضي الله عنهم أجمعين.

أقول: ولم أجد هذين البيتين في ديوان حسان. والله أعلم.

ص: 169

ثم إن اللائح من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} أن آدم لما صار حيًا سجدت إليه الملائكة، لأن الفاء تدل على التعقيب، ومعناه هنا: أنه لما أمرهم بالسجود سجدوا، وقوله تعالى:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71] يدل على أن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، كان قبل أن يسويه، وأن ينفخ فيه الروح، فلما كان بشرًا سويًا سجد له الملائكة، فكان الأمر متقدمًا على الفعل، كذا لوّح به جماعة من المفسرين.

والتحقيق: أنه لا منافاة بين الآيتين، إذ الفاء في الآية التي نحن بصدد الكلام عليها وإن كانت للتعقيب، إلا أن علماء العربية قد صرحوا بأن تعقيب الشيء للشيء منظور فيه للعرف، فهو في كل شيء بحسبه، فقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، وإن كان سابقًا على سجودهم له، يعد تعقيبًا حيث لم يكن بين القول وبين السجود إلا خلق آدم وتصويره، ومثله قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]. ومن المعلوم أن اخضرار الأرض لا يعقب نزول المطر، بل يقع بعد مدة وتراخ، إلا أن العرف يعد هذا تعقيبًا، وذلك لأن نزول المطر هو الذي يجعل الأرض متهيئة لإخراج النبات، ومن هذا قولهم: تزوج فلان فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وإن كانت متطاولة، وهذا المسألة مشهورة بين صغار الطلبة، إلا أنه لما كان الفخر الرازي أبدى بحثها في تفسيره في هذا الموضع، وسكت عن الجواب عنها احتجنا لبيانها.

ثم ليعلم أن العلماء اختلفوا في "إبليس"، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب بعض المتكلمين، ولا سيما المعتزلة، ومنهم صاحب الكشاف، إلى أنه لم يكن من الملائكة. وذهب كثير من الفقهاء، إلى أنه كان من الملائكة، ولكل أدلة، ولكن يمكن أن يرجع القولان إلى الاتفاق في المعنى والاختلاف في التعبير، فقد أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره، عن ابن عباس،

ص: 170

أنه قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن. وقال أيضًا كان إبليس [قبل أن يركب] المعصية من الملائكة.

والقول الأول مروي عن كثير من الصحابة.

وقال ابن عباس أيضًا: كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان يقول: لو لم يكن من الملائكة، لم يؤمر بالسجود، انتهى.

وهذا الذي تدل (1) عليه الآية لأنه تعالى قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} ، فصرح بأنهم هم المأمورون بالسجود، وإذا كان إبليس ليس منهم فلا يكون مأمورًا، فكيف يعاقب على ترك شيء لم يؤمر به. وأما قوله تعالى في سورة الكهف [50]:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} فلا يوجب أن لا يكون من الملائكة، لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر، ولهذا سمي الجنين جنينًا لاستتاره، ومنه الجُنة لكونها ساترة، والجنة لكونها مستترة بالأغصان، ومنه الجنون لاستتار العقل فيه.

ولما كان هذا معروفًا عند أهل اللغة، والملائكة مستورون عن العيون، وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة.

وقوله تعالى: {أَبَى} مأخوذة من الإباء، وهو الامتناع عما حقه الإجابة فيه، {وَاسْتَكْبَرَ} عن السجود له، مشتق من الاستكبار، وهو استجلاب الكبر، ومعناه بَطَرُ الحق، وغَمْص الناس، وغمطهم، وموجب ذلك استحقار الغير من وجه، واستكمال النفس من ذلك الوجه، وذلك أن إبليس تكبر عن أن يتخذ آدم وصلة في عبادة ربه، أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية، ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه، وكان في أصل جبلته {مِنَ الْكَافِرِينَ} ، الذين سبق العلم بشقاوتهم، وإنما علم أنه كان في أصل جبلته من الكافرين، من الإتيان بلفظ {مِنَ} ، الدالة على الابتداء، ومعناه اقتباس

(1) هذه الدلالة غير محصورة لترجح. بل الخلاف ما زال قائمًا، ولكل قول مستند.

ص: 171

الشيء، مما جعل منه، فإذا قلت: سرت من دمشق إلى بيروت، كان المعنى أني اقتبست السير من الأولى إلى الثانية، وهنا المعنى على هذا المرام، وهذا الخطاب، وإن كان من الله خبرًا عن إبليس، فإنه تقريع لمن كان على شاكلته وطريقته، من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته، فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق، قرع سبحانه وتعالى بهذه القصة اليهود، الذين كانوا بين ظهراني المهاجرين، فاستكبروا عن الإجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرع أيضًا غيرهم، ولا تزال هذه تقرع وتحذر كل من كان مستكبرًا عن الحق، متبعًا هوى نفسه، متصفًا بالأوصاف التي وصف بها إبليس من الاستكبار والحسد، والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له، وزاد على ذلك أن قال:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} نعمَ اللهِ عليه وأياديه عنده بخلافه عليه، فيما أمر به من السجود لآدم، والذي يلوح لي من هذا المقام، أن آدم عليه السلام كان مظهرًا لأمر الله تعالى، وإشارة إلى أنه تعالى يودعه رسالته، فكان الأمر بالسجود له، إنما هو أمر بالانقياد إلى أوامره تعالى.

ولما فرغ تعالى من نعمة التفضيل في الصفات الذاتية، بين النعمة، بشرف المسكن، مع تسخير زوج من الجنس لكمال الأنس، وما يتبع ذلك، فقال:

{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} .

فأتى بلفظ {اسْكُنْ} ، الذي هو فعل أمر من السكون، وهو الهدوء في الشيء الذي في طيه إقلاق، أي: اتخذ الجنة مسكنًا لتستقر فيها، لأنها موضع استقرار، ولبث، وأسكن معه زوجته ليكمل له بها الأنس، ومساق الآية يدل على أن حواء كانت موجودة حين أمره بسكنى الجنة، ولما كان السياق هنا لمجرد بيان النعم استعطافًا إلى المؤالفة، كان عطف الأكل بالواو، في قوله:

ص: 172

{وَكُلَا مِنْهَا} ، كافيًا في ذلك، وكان التصريح بالرغد الذي هو من أجل النعم، عظيم الموقع، فقال تعالى:{رَغَدًا} ، وهو وصف لمصدر محذوف، وتقديره أكلًا رغدًا، أي واسعًا رافهًا طيبًا هنيئًا، {حَيْثُ} أي مكان من الجنة {شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} بالأكل منها، فإنكما إن قربتماها لتأكلا منها، "تكونا"{مِنَ الظَّالِمِينَ} ، الواضعين الشيء في غير محله، كمن يمشي في الظلام. ويدل قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، على أنه لا بد من خروجهما منها، لأن المخلد لا يناسب أن يكون معرضًا للخطر، بأن يمتنع عليه فعل شيء، أو يؤمر بشيء، أو ينهى عنه، فلما كان الأمر بالسكنى مقرونًا بالنهي دلّ على أنها لا تدوم.

هذا وقد اختلف المفسرون في تعيين الشجرة، فمن قائل أنها شجرة البر، وقيل: هي الكرمة، وقيل: هي التينة، والصحيح أنه لم يرد تعيينها في أثر يعول عليه، ولا ورد تعيينها في الكتاب العزيز، ولا داعي لبيان نوعها لأن سياق القصة لبيان شؤم المخالفة، هذا ورأيت في ترجمة التوراة بعد ذكر خلق السماوات والأرض، ما صورته: أراد الله أن يخلق خلقًا يتسلط على حيتان البحر، وطير السماء، وعلى الدواب وجميع السباع، وعلى الحشرة التي تدب على الأرض فخلق آدم بصورته ذكرًا وأنثى، وبارك عليهما، وقال: انميا واكثرا، وتسلطا على حيتان البحر، وطير السماء (1)، والدواب، وجميع السباع، إلى آخر ما فيها مما يشمله كله قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] الآية.

وأما قوله: على صورته فالضمير فيه راجع لآدم، ومعناه: أنه من بدء خلقه يظهر صورته التي كان عليها، فلم يكن كغيره من ذريته طفلًا، ثم كبر بالتدريج هذا ما يفهم من الترجمة التي ألمعنا إليها، وأما ترجمة التوراة الموجودة الآن في أيدي البروتستانت، فإن بها أشياء تخالف ترجمة التوراة القديمة، وفي هذه الترجمة أن

(1) في الأصل: الماء، وهو تصحيف، وسببه ما قدمنا عن خط المؤلف- رحمه الله، وعلى الأخص بعد إصابته بالشلل، وهو كثير ولم أشر إلى كل ذلك.

ص: 173

الشجرة التي نهي عن أكلها، هي شجرة الخير والشر. وعلى كل فالله، أعلم بها، ولا يتعلق في بيان نوعها حكم، إذ لو تعلق به حكم لبين سبحانه وتعالى نوعها.

وغاية الأمر أن قوله تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، مشتمل على ما هو إباحة، وعلى ما هو تكليف، أما الإباحة، فإنه كان مأذونًا في الانتفاع بجميع نعم الجنة، وأما التكليف فهو أن المنهيّ عنه كان حاضرًا، وآدم كان ممنوعًا عن تناوله.

وللمفسرين هنا مسالك في كيفية خلق حواء، وفي كيفية إدخاله الجنة وفي غير ذلك، وكلها مأخوذة عن الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها، منها ما يروونه عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة: أن آدم لما أسكن الجنة بقي فيها وحده، وما كان معه من يستأنس به، فألقى الله عليه النوم، ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ووضع مكانه لحمًا فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولِمَ خلقت؟ فقالت: لتسكن إلىَّ، فقالت الملائكة: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميتها حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وأنت تعلم أن معنى هذه الرواية في التوراة وهي مأخوذة منها، ولفظ ترجمة التوراة السبعينية أن الله ألقى على آدم سباتًا، فرقد، فنزع ضلعًا من أضلاعه، وأخلف له بدله لحمًا، فخلق الله من الضلع الذي أخذ من آدم امرأة فأقبل بها إلى آدم، فقال: هذه الآن التي قرنت إلي، وفي هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي، فلتدع امرأة لأنها أخذت من الرجل، ولذلك يدع الرجل أباه وأمه، ويلحق بامرأته ويكونان كلاهما جسدًا واحدًا. وهذه المعاني موجودة في نسخ ترجمة التوراة الموجودة اليوم في الأيدي، وإذا تأملت الحكايات التي ينقلها المفسرون من هذا النمط وأمثاله، وجدت أكثرها في التوراة، أو هي من كلام كعب الأحبار، أو وهب بن منبه، ولا يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومما يلحق بهذا البحث، اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، وأهبط منها هل هي جنة الخلد، أو جنة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض، وقد قال بالأول طائفة من العلماء.

ص: 174

ورجح منذر بن سعيد (1) في تفسيره الثاني، وقال: إنه قول تكثر الدلائل الشاهدة له، الموجبة للقول به، وحكى أبو الحسن الماوردي هذا الخلاف في تفسيره، ثم قال: ومن قال بأنها جنة أعدها الله لآدم وحواء، وجعلها دار ابتلاء، وليست هي جنة الخلد التي جعلها دار جزاء، اختلفوا فيها على قولين: أحدهما أنها في السماء، لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن، الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهذا قول ابن بحر، وكان ذلك بعد أمر إبليس بالسجود لآدم، والله أعلم بصواب ذلك، هذا كلامه.

وقد أطال الحافظ ابن القيم الكلام في هذه المسألة، وذكر حجج القائلين وما لها وما عليها، بإطناب يطول بيانه، وأودع ذلك كتابه "حادي الأرواح".

وحكى الخلاف أيضًا ابن الخطيب المعروف بالفخر الرازي، في تفسيره، وختمه بقوله: إن الكل ممكن، والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة، فوجب التوقف وترك القطع، انتهى.

والحق في ذلك مع ابن الخطيب.

غير أن القائلين بأنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد، يساعدهم ظاهر الآيات البينات، وهو الذي يلوح من التوراة، بل هي تصرح بذلك، فإن ترجمتها تقول: وكان ينبوع يظهر في قعر عدن، فيسقي جميع وجه الأرض، فجبل الله الرب آدم من تربة الأرض، ونفخ في وجهه نسمة الحياة، فصار آدم ذا نفس حية، وغرس الرب فردوسًا بعدن من قبل وأسكنه لآدم

ثم قالت: وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الفردوس، وكان ينفصل من هناك ويتفرق على أربعة أطراف، ثم ذكرت سيحون المحيط بأرض الهند، وجيحون المحيط بجميع أرض الحبشة،

(1) في الأصل سعيد بن منذر، وهو وهم وتصحيف.

ص: 175

ودجلة الذي يخرج قبالة الموصل والفرات. فهذا يصرح بأن الجنة كانت في الأرض (1).

وقال منذر بن سعيد: والقول بأنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد، قول أبي حنيفة وأصحابه.

وقد رأيت أقوامًا نهضوا لمخالفتنا في جنة آدم بتصويب مذهبهم من غير حجة، إلا الدعاوي والأماني، ما أتوا بحجةٍ من كتاب ولا سنة، ولا أثر عن صاحب، ولا تابع، ولا تابع التابع لا موصولًا ولا شاذًا مشهورًا، وقد وجدنا أن فقيه العراق، ومن قال بقوله، قالوا: إن جنة آدم ليست جنة الخلد، وهذه الدواوين منحوتة من علومهم، ليسوا عند أحد من الشاذين، بل بين رؤساء المخالفين.

وإنما قلت هذا ليعلم أني لا أنصر مذهب أبي حنيفة، وإنما أنصر ما قام لي عليه دليل من القرآن والسنة.

ثم نقل عن ابن عيينة أنه قال: في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118] يعني في الأرض، ثم حكى كلام ابن قتيبة في المعارف، ولكنه مأخوذ كله من التوراة وحكى كلام وهب، وهو كذلك.

وصريح قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، يدل على أنه تعالى خلق آدم في الأرض، ولم يذكر في موضع واحد أصلًا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك، ولو كان نقله بعد ذلك إلى السماء، لكان هذا أولى بالذكر، لأنه من أعظم الآيات، ومن أعظم النعم عليه، فإنه يكون معراجًا ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السماوات، وأما قوله تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا} فإنه على حد قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} ، والعرب تقول: هبط فلان أرض كذا، يريدون أنه نزلها. وقال

(1) إن قول "التوراة" هذا غير صحيح نقلًا. ويخالف الواقع المشاهد المحسوس عقلًا. والتفصيل في هذا ما لم يستند إلى نص صريح صحيح. فلا تقوم به حجة. ولسنا مطالبين به.

ص: 176

ابن الأثير في "النهاية": وفي حديث الطفيل بن عمرو، وأنا أتهبط إليهم من الثنية، معناه: أنحدر، ففسر الهبوط بالانحدار. والحاصل: أن أدلة الجانبين متعارضة، وأرجحها أنها كانت في الأرض، والله أعلم.

ولما كان السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة، بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه، فقال:

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} .

فقوله: {فَأَزَلَّهُمَا} مأخوذ من الزلل، وهو: تزلق الشيء الذي لا يستمسك فيه، فالمعنى: أنه زلقهما عن المكان الذي كان، كما يتزلق الطل المجتمع على الأوراق والأزهار في الصباح. أو المعنى: أزالهما وهو مأخوذ من الزوال، وهو التنحية من المكان أو المكانة، ومنه يقال: زل الرجل في دينه إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه، وأزلَّه غيره، إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه ودنياه، ولذلك أضاف تعالى إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة، فقال:{فَأَخْرَجَهُمَا} ، يعني الشيطان، {مِمَّا كَانَا فِيهِ} ، لأنه الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها، فأخرجهما من الجنة التي هي مكان النعمة التي أنعم تعالى بها عليهما، وفي الآية إشارة دقيقة حيث نسب إلى الشيطان أنه المتسبب بالذنب، وهي أن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة، كما أعطى الله آدم وزوجته الجنة بلا واسطة، ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع لإبليس من الإباء عن السجود، فكانت خطيئته من ذات نفسه، أو بواسطة شيطان من الجن والإنس، كما وقع لآدم عليه السلام، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه، ولكنها كانت عارضة عليه من قبل عدو، تسبب له بأدنى ما منه، من زوجته التي هي من أدنى خلقه، فمحت التوبة الذنب العارض لآدم، وأما الشيطان، فإنه لما كان ذنبه النفساني ثبت على الإصرار. وأنت إذا تأملت ذلك تبين لك موقع قوله تعالى:{فَأَزَلَّهُمَا} ، لأن الزلل لا يكون إلا هفوة ولا يلبث صاحبه أن يفيء فيرجع، وأما المتعمد المستكبر فلا يرجع عن هفوته بل يبقى مصرًا عليها، وإنما قال تعالى:

ص: 177

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} ، ولم يقل: فأزلهما إبليس، لأن الشيطان يشير إلى معنى الشيطنة، وهي تدل على البعد والسرعة، التي تقبل التلافي والرجوع، فأشار إلى أنه لا بد من رجوع آدم، وأما لفظ "إبليس" فإنه يشير إلى معنى الإبلاس، ولما كان هذا المعنى يلوح بقطع الرجاء، لم يكن ذكره من البلاغة على ما يرام.

وهنا مجال طويل، قد أطال علماء التوحيد وغيرهم البحث فيه، وهو الكلام على عصمة الأنبياء، ولنذكر خلاصته، لأن الكتب مشحونة بما يغنينا عن الإطالة، وذلك أن الأدلة العقلية والنقلية، قد قامت على أن الأنبياء لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأننا نعلم ببديهة العقل، أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته، وائتمنه على وحيه، وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه: لا تفعل كذا، فيقدم عليه، ترجيحًا للذاته، وغير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده.

هذا معلوم القبح بالضرورة، ولذلك كاد العلماء أن يتفقوا على أن ما صدر من آدم عليه السلام من الأكل من الشجرة، إنما كان قبل أن يُنبأ بلا شك، لأن نبوته حينئذ، لو كانت لكان إرساله عبثًا وقتئذٍ، لأنه لم يكن من يرسل إليه، على أننا لو تأملنا حقيقة الأمر، لوجدنا أن آدم لم يفعل ما فعل إلا ناسيًا كما قال:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115](1). ولم يكن ما فعله اغترارًا بقول إبليس، لأنه كان يعلم تمرده عن السجود، وكونه مبغضًا له، وحاسدًا له على ما آتاه الله من النعم، وقد قال الله له:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]، وهذا يدل على ما قلناه.

وأيضًا لو كان إقدام آدم على الأكل من الشجرة اتباعًا لإغواء إبليس، لكانت

(1) رحم الله الشيخ المؤلف، فإنه هنا ترك التوسع واقتضب، الأمر الذي يوهم التناقض، والأمر ليس كذلك. وننصح القارئ الكريم بالرجوع إلى تفسير العلامة ابن كثير، فإنه أوضح، وأصرح، وأسلم.

ص: 178

معصيته في اتباعه أعظم من الأكل من الشجرة، لأن قوله له ولزوجته:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} [الأعراف: 20]، فيه إلقاء سوء الظن إليهما، ودعاؤهما إلى ترك التسليم بأمره والرضاء بحكمه، وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحًا لهما وأن الرب تعالى قد غشهما، ولاشك أن هذه الأشياء أعظم من الأكل من الشجرة، وهي توجب أن تكون المعاتبة أشد، فلما لم يكن الأمر كذلك ثبت الادعاء المتقدم، على أنه ليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل، عند ذلك الكلام أو بعده.

هذا وأما صدور المعصية من الأنبياء قبل النبوة فمختلف فيه، وأيًا ما كان، فإن ما فعله آدم كان صغيرة في الظاهر، ومطابقًا للحكمة الإلَهية في الباطن، لأن الله لم يخلقه لأن يكون في الجنة، بدليل قوله تعالى للملائكة:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ولم يقل: في الجنة، ولأكثر المفسرين في هذا المقام مقالات اقتبسوها عن أهل الكتاب، وأكثرها من كلام وهب بن منبه اليماني، والسدي، وأضرابهما، والغالب أنها تأتي مرفوعة إلى ابن عباس رضي الله عنه على أن روايتها لا تصح أصلًا، ولا تنطبق على معاني كتاب الله تعالى، فيجب إطراحها وعدم اعتبارها ولنذكر نموذجًا منها ليعلم الباقي: وهو أن القصاص يروون عن وهب بن منبه، والسدي عن ابن عباس وغيره: أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البُختية (1)، وهي كأحسن الدواب، بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها، فابتلعته الحية وأدخلته خفية من الخزنة، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس واشتغل بالوسوسة، فلا جرم لعنت الحية، وسقطت قوائمها، وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدوًا لبني آدم.

واعلم أن هذا القول فاسد من وجوه ذكرها الإمام الرازي في تفسيره: منها أن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية، فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية

(1) البختية: الأنثى من الجمال: البُخت، والذكر بختيّ، وهي جمال طوال الأعناق.

ص: 179

ثم يدخل الجنة؟ ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وبعضهم لما علم فساد هذا القول احتال لإثباته فقال: إن إبليس كان في الأرض، وأوصل الوسوسة إليهما في السماء، وهذا قول من لم يعرف اللغة العربية، لأن الوسوسة كلام خفي، والكلام الخفي لا يمكنه إيصاله من الأرض إلى السماء، هذا وإن ابن عباس رضي الله عنه، هو إمام التفسير، وحاشاه أن يصح عنه جميع ما نسب إليه، وما ذلك إلا أن المبتدعة أرادوا أن يروجوا مذاهبهم بنسبتها إليه، وقد أخرج ابن عساكر (1) في تاريخه، في ترجمة [بُشَير] بن كعب العدوي البصري، أنه أتى ابن عباس، فجعل يحدثه، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس لا يلقي إليه مسمعه، ولا ينظر إليه، فقال له: يا ابن عباس ما لي أراك لا تصغي لحديثي، فقال له: كنا إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. فمثل ابن عباس، لا يصدق عنه تلك المفتريات التي افتراها عليه القُصاص وأرباب الجهالة.

وأما قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا} [البقرة: 38] فهو خطاب لآدم وحواء، وأتى بضمير الجمع لأنه أقامهما مقام الذرية، ولما كانا أصل الذرية، جعل الهبوط لهما ولذريتهما، بدليل قوله تعالى:{اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة] وما هو إلا حكم يعم الناس. واختلف الناس في معنى الهبوط هنا، فمن قال: إن جنة آدم كانت في السماء، فسره بالنزول من العلو إلى الأسفل، ومن قال: إنها كانت في الأرض، فسره بالتحول من موضع إلى غيره، كقوله:{اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61].

وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} معناه: ما عليه الناس من التعادي والتباغى،

(1) قد ساقه بهذا اللفظ ابن عساكر 3/ 389 من طريق مسلم في صحيحه، وهو في مقدمة صحيح مسلم 1/ 13 في باب النهي عن الرواية عن الضعفاء.

ص: 180

وتضليل بعضهم لبعض، وليست هذه هي العداوة، المأمور بها في قوله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] لأن هذا مأمور به، وذلك غير داخل في الأمر، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم أن بعضكم لبعض عدو، ولأن عالم التضاد والتنافس، ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع، {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي: استقرار، أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت، {وَمَتَاعٌ} أي: تمتع بالعيش؛ {إِلَى حِينٍ} هو يوم القيامة، أو حين انقضاء آجالكم، والحين: المدة سواء كانت طويلة أو قصيرة، وفي لفظ المتاع إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا، ونقص ما به الانتفاع عما كانا فيه، لأن المتاع أطلق في لسان العرب على الجيفة، التي هي متاع المضطر، وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة، وهذا منزع الحكماء والصوفية من هذه الآية، وقال كثير من المفسرين: ولكم في الأرض منازل ومساكن تستقرون فيها، وتستمتعون بها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش، والدين والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم، لأرماسكم وأجداثكم، تدفنون فيها، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها. وهذا منزع علماء العمران من هذه الآية، ولكل من الفريقين ملحظ، فالأول نظر إلى المحاكمة ما بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا، فحق له أن يقول ما قال، والثاني نظر إلى محض الوجود في الدنيا، فقال ما قال، وكلا القولين تشهد لهما الآيات البينات.

وأما الحكمة في إهباط آدم إلى الدنيا، فقد أطال الحكماء في بيانها، ولنلخص أقواها وأقربها إلى العقل والنقل فنقول: إنما أهبطه ليظهر له مقابلة الضد بالضد، فجعله أولًا في دار النعيم، ثم نقله إلى دار النصب، والهموم، والأوصاب، ليعرف قدر الجنة إذا عاد إليها، وأردف وجوده في الدنيا بالتكاليف للابتلاء والاختبار، ليجعل المطيع كالسبيكة إذا أدخلت محل التخليص، فترجع صافية لا دنس فيها، ولا شيء مما يخالط معدنها بها، فمن ثم جعل في ولد آدم

ص: 181

الأنبياء والرسل، والأصفياء، وأيضًا لما كان آدم مخلوقًا من ماء وطين، وكان هذان العنصران أصل المعادن، وهي منوعة إلى أنواع شتى، منها العالي في جوهره، ومنها السافل، وكانت الجنة لا تتفق مع عموم عناصر المعادن، لا جرم، جعل آدم بها أولًا ليعلمه أن ليس يستحقها إلا من كان عنصره على مثل عنصره، وأن ذريته سَتَصِلُ إلى أنواع المعادن الكامنة به، فمنها ما تقبله هذه الدار، ومنها ما لا تقبله، فأخرجه إلى الدنيا، وأنشأ منه ذريته فخرجوا على أنحاء شتى، وابتلاهم بالتكاليف ليمتاز أهل دار النعيم، من أهل دار الجحيم، وليتأهل كل فرد منهم إلى قابليته، كما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له"(1) وقوله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا"(2) وأيضًا فإنه تعالى وصف نفسه بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى التي منها التواب، والغفار، والمنتقم، والجبار، ولا بد من جريان هذه الصفات، ولو بقي آدم وذريته في الجنة لما ظهر أثر كثير منها، فكان من الحكمة إهباطه إلى الأرض، وتكليفه هو وذريته بالتكاليف، ليظهر دور كل اسم من أسمائه تعالى، فيغفر لمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من مظاهر أثر الأسماء والصفات، ولما كان هذا التدبير والتصرف الإلهي، تارة يكون شهودًا ومحله الجنة، وتارة يكون غيبًا ومحله دار التكليف، وكان الإيمان بالغيب أظهر للعبودية، والإذعان لتصرفات الربوبية، لا جرم جعل آدم وذريته في الأرض ليعلو قدر المطيع منهم بالإيمان بالغيب، وهو الإيمان النافع بخلاف إيمان الشهادة فإنه غير نافع، ولذلك كان الإيمان في الآخرة عند معاينة الجنة والنار لا يفيد شيئًا، ولهذا صدر هذه السورة بقوله:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ثم ذكر بعد كثير من الآيات، إهباط آدم إلى الأرض، فكأنه يشير إلى الحكمة من إهباطه، قبل ذكر قصته، وأنت إذا تأملت من أول السورة إلى هنا، لاح لك الدليل على جميع ما ذكرناه، وعلمت الأصناف التي يمكن لجواهرها أن تكون عامرة للجنة، والتي لا

(1)"صحيح الجامع الصغير" 1074 للشيخ الألباني بترتيبي.

(2)

"صحيح الجامع الصغير"6797.

ص: 182

يمكن لجواهرها أن تكون كذلك. اللهم فقهنا في الدين وألهمنا أسرار كتابك المنزل.

ومن حكمة الإهباط أيضًا، إقامة الحجة على الملائكة القائلين:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، حيث عمموا في المقال، فأهبطه إلى الأرض ليكون من ذريته الأنبياء والرسل، والعباد المخلصون، وسلط إبليس، فلم يكن له بهم يد، وليميز أيضًا بين العدو الألد الذي هو إبليس، وبين صفيه، ليبين أن صفيه المطيع له لا يثنيه عنه وسوسة، ولا مداخلة عدو، وأن المتلبس يظهر عداوته بأدنى أمر ونهي.

هذا ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له، أنه ألهم الدعاء بما رُحم به، عبر عن ذلك بقوله:

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} .

ومن الحكمة في نهي آدم عن الأكل من الشجرة، ثم إقدامه على الأكل منها، التعليم والإرشاد، لأن الذنب يوجب لصاحبه التيقظ والتحرز من مصائد عدوه ومكامنه، ومن أين يدخل عليه اللصوص والقطاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه وفي أي وقت يخرجون، فهو قد استعد لهم وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم، فلو أنه مر عليهم على غرة وطمأنينة، لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملة، وأيضًا فإن القلب يكون ذاهلًا عن عدوه، معرضًا عنه مشتغلًا ببعض مهماته، فإذا أصابه سهم من عدوه، استجمع له قوته وحاسته وحميته، وطلب بثأره إن كان قلبه حرًا كريمًا كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجًا طالبًا مقدامًا، والقلب الجبان المهين إذا جرح كالرجل الضعيف المهين إذا جرح، ولّى هاربًا والجراحات في أكتافه، وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق، فلا خير فيمن لا مروءة له، يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوه، فلا شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدو أعدى له من الشيطان، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد، جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ، وأضناه، فآدم لما علم بتسلط عدوه عليه، وكيده له،

ص: 183

غاظه بالالتجاء إلى الله تعالى، وقطع عليه طريق مداخلته بينه وبين مولاه، فقبله وأقبل عليه، فتلقى من ربه كلمات استقبلها بالأخذ والقبول، والعمل بها حين علمها، {فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجع عليه بالرحمة والقبول، وأخذت بيده محنته إلى الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية، ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنة التي جرت عليه، وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك، لما وصل إلى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثانية في نهايته.

ثم إن للمفسرين مذاهب شتى في الكلمات التى تلقاها آدم، وأحسن ما يقال: تفسير القرآن بالقرآن، وهو: أن الله أخبر عن آدم وحواء بأنهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف] وهو قول قتادة وأبي العالية، ومجاهد، وما سوى هذا القول ليس بمدفوع، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربه عند إنابته إليه من ذنبه، كما أشار إلى ذلك ابن جرير الطبري.

وهذه القصة تعريف منه تعالى جميع المخاطبين بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب، وتنبيه للمخاطبين، بقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم بالسالف إليهم من النعم التي خص بها أباهم آدم وغيره من آبائهم، و {التَّوَّابُ} هو: البليغ التوبة المكرر لها.

ولما كان قد جعل على نفسه أن يتفضل على المحسن قال: {الرَّحِيمُ} ، أي: لمن أحسن الرجوع إليه، وأَهَّله لقُربه.

ثم إنهم لما أُعلموا بالعداوة اللازمة، كان كأنه قيل: فما وجه الخلاص منها؟ فقيل: اتباع شرعنا، والشروع بالتوبة والرحمة فإننا:

ص: 184

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} .

لما كان الهبوط المذكور في الآية المتقدمة، يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه، ولم يخرجوا منها، كرره هنا للتأكيد لشؤم المعصية، وتبشيعًا لها، وأتى بلفظ {جَمِيعًا} ليدل على معنى: لا يتخلف منكم أحد، سواء كان ذلك في آن واحد، أو على التعاقب، وأيضًا كرره لما نيط به من زيادة قوله:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} ، أي وعَهِدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف، أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى، واعدين من اتبع، متوعدين من امتنع، فقلنا:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} برسول أبعثه إليكم، وكتاب أنزله عليكم، {فَمَنْ تَبِعَ} أدنى اتباع يُعتد به، وسعى أثر علم الهدى، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من شيء آت، فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضار، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على شيء فات، لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة، والحزن: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به روح، والقرب منه راحة، وهو معنى قول الصحاح، الحزن خلاف السرور، وفي الآية إشارات:

أولاها: أن في قوله {جَمِيعًا} إشعارًا بكثرة ذرية الخلقين من آدم وإبليس. وكثرة الأحداث في أمر الديانة من الثقلين، كما وقع من أن كل فئة انتحلت نحلة وابتدعت بدعة.

ثانيها: أن الهدى الذي هو البيان، لا يستلزم الاهتداء، بل لا بد أن يكون مشفوعًا بالاتباع، كما أن القول لا يفيد شيئًا ما لم يكون مقرونًا بالعمل.

ثالثها: أنه قال تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} فأضاف الهدى إلى نفسه، إشارة إلى أن كل ما هو في صورة هدى، ولم يكن مأخذه من الوحي المنزل على الأنبياء لا يسمى هدى، ولا ينفي عن صاحبه الخوف والحزن يوم القيامة، وإذا كان من طريق العقل، فشرطه أن يوافق ما أتت به الرسل، ومن ثم قال العارف "عمر السهروردي" في كتابه "رشف النصائح الإيمانية": العقل حجة الله الباطنة، والقرآن حجته الظاهرة. وحكى الرازي عن القاضي: أنه استدل بهذه الآية على إبطال التقليد، لأن المقلد لا يكون متبعًا للهدى، انتهى.

ص: 185

وبيانه: أن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} ، أي: الهدى المنسوب إليَّ، ولا نزاع في أن المقلد تابع لمن قلده لا يدري سوى هداه، ولا يعرف سوى طريقه فهو كالأعمى الذي يسيره قائده كيفما شاء.

ولما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن، عقبه بذكر من أعدّ له العذاب الدائم فقال:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} .

{الَّذِينَ كَفَرُوا} هم: الذين لم ينظروا في بديع صنع الله تعالى فيستدلوا به على وجود بارئهم، ولم يروا الآيات التي جعلها الله علمًا على غيب عهده، وهي جميع ما تدركه الحواس من السماء والأرض وما بينهما، لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره، وجعل في العقل نورًا يقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، أوجد تعالى الأشياء وخصائصها، وعلم الإنسان ما لم يعلم، من خصائص المعادن والنبات والحيوان، وعلمه أسرارها وعجائبها، ونبهه إلى سير النجوم وحركاتها، وأنار له (1) بها طريق الهدى، فمن عمي عنها رجع من النور إلى الظلمة، فكفر بالله وجحد وجوده، ونسب الفعل إلى الطبيعة، ومن تبع ذلك الهدى ازداد علمًا بتلك الآيات، ومعرفة بوجودها فاهتدى، ضل الأولون ولو تدبروا لازدادوا إيمانا بالخالق، و {وَكَذَّبُوا} بآيات الله تعالى فنسبوها إلى الطبيعة كما ينسب عباد الشمس الفعل إليها، فجمعوا بالكفر والتكذيب بين أفكار القلوب والألسنة، فـ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهم في الغم والحزن واليأس، وفيما يحرق بواطنهم، لكنهم لم يحسوا بذلك لاشتغالهم بما يمنعهم عن الإحساس، فإذا ماتوا صار ذلك الغيب شهادة.

ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولًا، وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعيًا للناس عامة، لا سيما بني إسماعيل الذين هم قوم الداعي، وكان أحق من دعي بعد الأقارب وأولاه بالتقديم، أهل الدين والعلم، كانوا على

(1) الأصل: "وأتاه" ولعل الصواب كما ذكرنا.

ص: 186

حق فزاغوا عنه، ولا سيما إن كانت لهم قرابة، لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان، وأيسر تذكير، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره، وانحسم سره، وإن لم يرجعوا طال جدالهم، فبان للجاهل ضلالهم، فكان جديرًا بالرجوع والكف عن غيه، والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام، وبان الحلال من الحرام.

فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار، وختم، بأن وعد باتباع الهدى، وتوعد، شرع سبحانه يحض العلماء من المنافقين بالذكر، وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب، على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خص بإتيان ما أشير إليه من الهدى والبيان، بما فيه الشفاء، وكان كتابهم المشتمل على الهدى، من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها، فقص عليهم ما مثله يلين الحديد، ويخشع الجلاميد، فقال تعالى مذكرًا لهم بنعمه الخاصة بهم:

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} .

وقد نظم هذه المناسبة في نظم الدرر من يناسب الآيات والسور، وأنت إذا تأملت القرآن الكريم، ورأيته يخاطب المشركين واليهود والنصارى، وكل من اتخذ معبودًا غير الله تعالى، ويخاطب المؤمنين بوجه خاص، تجلى لك البرهان بعموم رسالة من أنزل عليه، فكن لهذا السر حافظًا، وأمعن النظر فيه تزداد إيمانًا وهدى.

و{إِسْرَائِيلَ} : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فكأنه تعالى يقول: يا بني يعقوب الذي شرفته وشرفت بنيه من أجله، {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ، واذكروا: مأخوذ من الذكر بالكسر والضم وهما بمعنى واحد عند كثير من النحويين، وكلاهما يكون باللسان وبالقلب، وفرق الكسائي بينهما فقال: ما كان بكسر الذال فهو الذكر باللسان، وما كان بالضم فهو الذكر بالقلب، والذي بالقلب ضده: النسيان، والذي باللسان ضده: الصمت. وقد أمرهم تعالى أن لا يتركوا شكر النعمة، وأن يعتدوا بها ويستعظموها، وأن

ص: 187

يستحضروا منها ما سبقه النسيان، ويطيعوا من أعطاهم إياها، وأراد بالنعمة هنا: ما أنعم به على آبائهم، مما عدده سبحانه وتعالى في الآيات الآتية، ومن غير هذه السورة، وما أنعم به عليهم من إدراك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، المبشر به في التوراة والإنجيل، والنعمة هي: أن ينال الشخص ما يوافقه ظاهرًا من أهله وحشمه، أو ظاهرًا وباطنًا، والباطنة نعمة التوحيد، والعلم والمعرفة، والعقل وجودة الرأي.

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} ، أي: أوفوا بما عاهدتموني عليه من أنكم تؤمنون بي، وتطيعونني فيما آمركم به، {أُوفِ} لكم بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم. ولعل أحدًا يفكر في أن ما هنا يعارض قوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34 ، النحل: 18] فيقول: إذا كانت النعم منه تعالى غير متناهية، فكيف أمرهم تعالى بذكرها، والذكر لا يكون إلا لشيء محصور؟ فنقول له: إن النعم غير متناهية بأفرادها لا بأجناسها، والنعمة جنسها واحد، وهو: نيل الشخص ما يوافقه ظاهرًا وباطنًا، والمأمور به أن يتذكروا كل ما كان خيرًا ناله أسلافهم أو وصل إليهم، ويعتقدوا بأنه صار من فضل الله تعالى. ولعل المراد من العهد هنا، عهد الله ووصيته الذي أخذه على بني إسرائيل في التوراة، أن يبينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، أنه نبي الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله تعالى، وهذا القول هو الصواب، لأن التوراة قد نسخت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يبق شيء منها، يطالبهم الله بالوفاء به، وبالعمل بما فيه، إلا هذا الأصل العظيم، وقد أخذ تعالى عهدهم وميثاقهم بأن يؤمنوا به، فإذا وفوا بهذا العهد أنجز لهم ما وعدهم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم، بذنوبهم التي كانت من إحداثهم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في هذا الموضع، والآيات القرآنية تدل عليه، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] ويدل عليه أيضًا الآية التي بعد هذه. وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} معناه: وإياي فاخشوني واتقوني لا غيري، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل،

ص: 188

والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت من الكتب على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، [و] أن أُحل بكم من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليَّ باتباعه، والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللت بمن خالف أمري، وكذب رسلي من أسلافكم.

وقد أطال سبحانه وتعالى في حجاجهم، جريًا على قانون النظر في جدال العالم الجاحد، وخطاب المنكر المعاند.

وفي قوله تعالى:

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)} .

تقرير لقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} ، وقد أمروا بتجديد الإيمان بالقرآن، لما فيه من الإخبار بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم، كتأصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان، وقد أبقى الله لكل كتاب قبله بقية، أحيل فيها على ما بعده ليتنامى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن، حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة.

وفي قوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ، معنى دقيق في تبكيتهم، وأمر جليل من تعنيفهم، وذلك أن لفظ {أَوَّلَ} ليس المراد به معناه الحقيقي المتبادر إلى الذهن، فإن العرب كثيرًا ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته، بل تريد المبالغة في السبق، ومعناه هنا: ولا تكونوا أول من كفر به، أو: أول فريق أو فوج كافر به، أو: لا يكن كل واحد منكم أول كافر به، وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمانه، والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون أنفسهم من أتباعه، أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم بصحته في غاية اللجاجة، فكان عملهم في كفرهم، وإن تأخر عمل من يسابق شخصًا إلى شيء، وأيضًا إنه لم يمنعهم من الإيمان به

ص: 189

جهل بالنظر، ولا عدم اطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشارة به، بل إنما كان ذلك لمجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي، المستلزم لحسد هذا النبي بعينه، لأن الحكم على الأعم، يستلزم الحكم على الأخص بما هو أفراد الأعم، فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب، فكان أهل الكتاب أول كافر به، لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه، الذي هو أقبح الوجوه. فالمعنى: لا تكفروا به فإنه إن وقع منكم كفر به، كان أول كفر، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم، فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر، ولذا أفرد ولم يقل كافرين، كما أشار إلى ذلك في "نظم الدرر".

وقرأت في كتاب "بذل المجهود في إقناع اليهود"(1) للحكيم السموأل بن يهوذا، فصولًا بها جمل من التوراة تلزم اليهود بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرها بالعبرانية ونقلها إلى العربية، فقال: ذكر الآيات والعلامات التي في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، : إنهم لا يقدرون أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة، وهي ما معناه بالعربية: نبيًا أقيم لهم من وسط إخوتهم، مثلك به فليؤمنوا، وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن قالوا: إنه قال من وسط إخوتهم، وليس من عادة كتابنا أنه يعني بقوله:"إخوتكم" إلا بني إسرائيل، قلنا: بلى قد جاء في التوراة، إخوتكم بني العيص، وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس "أحيحيم بني عيسى ووهيوشيم بسيعير" تفسيره: أنتم عابرون في تخوم إخوتكم بني العيص، المقيمون في سيعير، إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم، فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل، لأن العيص ولد إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل، إخوة لجميع ولد إبراهيم، فإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموئيل النبي، لأنه قال من وسط إخوتهم مثلك، وشموئيل إنما كان مثل موسى، لأنه من أولاد "ليوي" يعنون: من السبط الذي كان منه موسى، قلنا لهم: فإن كنتم صادقين فأي حاجة بكم إلى أن يوصيكم

(1) لقد توسع المؤلف- رحمه الله في النقول، حتى وصل إلى نقل هذا الجدل، مع ما فيه من توسع غير ملزم لنا. وطبع الكتاب باسم "بذل المجهود في إقناع اليهود".

ص: 190

بشموئيل، وأنتم تقولون: إنه لم يأت بزيادة ولا نسخ، هل أشفق من أن لا تقبلوه، لأنه إنما أرسل ليقوي أيديكم على أهل فلسطين، وليردكم إلى شرع التوراة؟ ومن هذه صفته، فأنتم أسبق الناس إلى الإيمان به، فليس خوفه من تكذيبكم إلا لمن ينسخ مذهبكم، ويغير أوضاع ديانتكم، فالوصية بالإيمان به مما لا يستغني مثلكم عنه، ولذلك لم يكن بموسى حاجة إلى أن يوصيكم بالإيمان بنبوة "أرميا" و "أشعيا" وغيرهما من الأنبياء، وهذا دليل على أن التوراة أمرتكم بهذا الفصل، بالإيمان بالمصطفى وأتباعه.

ثم قال: في "بذل المجهود" تحت عنوان الإشارة إلى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، في التوراة ما حاصله: قال في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة مخاطبًا لإبراهيم الخليل: وأما إسماعيل فقد قبلت دعاءك، فإني قد باركت فيه، وأثمره وأكثره جدًا جدًا، ثم قال في الجزء الثالث من السفر الأول عن التوراة مخاطبًا لإبراهيم عليه السلام:"وليشماعيل شمعيتخا هِنِّي براخْتى أوثو وهِفْريتي أوثو وهِرْ بيتي أوثو بمادماد"

فهذه الكلمة: "بمادماد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل (1) بلغت اثنين وتسعين، وذلك عدد حروف اسم محمد، وإنما جعل ملغزًا في هذا الموضع لئلا تبدله اليهود، وتسقطه من التوراة، كما صنعوا في غيره. فإن قيل: إن كثيرًا من الكلمات في التوراة إذا أخذت حسابها بالجمل بلغت هذا العدد، وهذا دليل على أن عدد هذه الكلمة حصل اتفاقًا لا قصدًا. قلنا: لا نسلم ذلك لأن هذه الكلمة جاءت في معرض الشرف لإسماعيل عليه السلام، والوعد من الله تعالى لإبراهيم بما يكون من شرف إسماعيل، وليس في التوراة آية ثانية بهذا الصدد حتى يكون لها أسوة بها، وأيضًا ليس في التوراة كلمة معناها جدًا جدًا تساوي أعداد حروفها اسم محمد في العدد الحسابي، فليس بعجيب أن تتضمن الإشارة إلى شرف أولاد إسماعيل، وعظم قدرهم، ورفعة بيتهم.

(1) لعل ما قصده صاحب "بذل المجهود في إقناع اليهود"، يقبل مثل هذا

ولكن إن عمم ووسع فيه فقد يصل بنا إلى ما ذهب إليه الضالون من البهائية في العدد وحساب الجمل، وكله من الأكاذيب.

ص: 191

وأيضًا فإن التوراة ناطقة بالإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الفصل العشرين من السفر الخامس ما معناه بالعربية: أن الله تجلى من طور سيناء، وأشرق نوره من سيعير، وطلع في فاران، واليهود يعلمون أن سيناء هو جبل الطور، وأن سيعير هو من جبال الشراة، الذي كان فيه بنو العيص الذين آمنوا بالمسيح، لكنهم لا يعلمون أن فاران هو جبل مكة، وهذا جحود منهم حيث إن التوراة صرحت بتفسيره، حيث قالت ما معناه: وأقام، يعني إسماعيل، في برية فاران، ذلك قولها:"وييسب بمذبار فاران" وإذا كانت التوراة فيما سبق أشارت إلى نبوة تنزل على جبل فاران، لزم أن تلك النبوة تنزل على ولد إسماعيل، لأنهم سكان ذلك الجبل، وقد علم الناس قاطبة أن المشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل، هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إبراهيم وإسماعيل، فيدل ذلك على أن جبال فاران هي جبال مكة، وأن التوراة أشارت في هذا الموضع إلى نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبشرت به، إلا أن اليهود لجهلهم وضلالهم، لا يحسنون (1) الجمع بين هاتين العبارتين من الآيتين، بل يسلمون المقدمتين، ويجحدون النتيجة، وقد شهدت عليهم التوراة بأنهم شعب عادم الرأي، وليس فيهم فطانة فإنها قالت:"كي بمو أو باذ عيصوث هيّمَا وأين باهَيم تبونا".

وإذا تاملت قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين] تجدها تشير إلى الآية السابقة من التوراة، لأن سيعير كانت محل أشجار التين، والمسجد الأقصى هو مسجد الزيتون، وطور سينين معلوم أنه الذي كلم موسى، والبلد الأمين هو فاران، فحقق ذلك.

ولما نهى الله اليهود عن الكفر بالآيات نهاهم عن الحامل عليه، فقال:{وَلَا تَشْتَرُوا} ، أي: لا تستبدلوا {بِآيَاتِي} التي تعلمونها في الأمر باتباع هذا النبي الكريم {ثَمَنًا قَلِيلًا} وهو رئاسة قومكم وما تأخذونه من الملوك وغيرهم، وأشار

(1) في الأصل: "يجوزون"، والتصحيح من "إقناع اليهود" نشر دار الجيل، وأما طبعة دار القلم المطبوعة باسم "بذل المجهود" فقط سقط منه البحث من "وأيضًا" إلى آخر المنقول!

ص: 192

تعالى بقوله: {قَلِيلًا} إلى أن الفاني بأجمعه، قليل بالنسبة إلى اليسير الباقي، {وَإِيَّايَ} خاصة {فَاتَّقُونِ} ، أي: اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي، فالتقوى نتيجة الرهبة، كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في الرهبة.

ثم قال تعالى ينهاهم عن تبديل كتابهم المنزل على نبيهم، فقال:

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} .

فقوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} ، أمر بترك الكفر والضلال، وقوله:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ، أمر بترك الإغواء والإضلال، فالمناسبة بين الآيتين ظاهرة، ولا يخفى أن إضلال الغير ليس له إلا طريقان:

أحدهما: أن يكون قد سمع دلائل الحق، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} .

ثانيهما: أن يكون بحيث لم يسمع شيئًا من دلائل الحق، فإضلاله إنما يكون بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى:{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} ، والمعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها، فيختلط الحق المنزل بالباطل، الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، فالباء حينئذ صلة. وإن جعلتها للاستعانة، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسًا مشتبهًا بباطلكم الذي تكتبونه، وكتمانهم الحق أن يقولوا: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا نجد حكم كذا، أو يمحوا ذلك ويكتبوه على خلاف ما هو عليه، وأنتم في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه.

وهذا الخطاب وإن كان واردًا في بني إسرائيل، فهو تنبيه لسائر الخلق، وتحذير من مثله، فصار الخطاب وإن كان خاصًا في الصورة، لكنه عام في المعنى، وأنت ترى كثيرًا من الذين يروجون مقاصدهم يؤولون الأدلة، ويحيلونها إلى وجه بعيد، ويكتمون الحق ويسترونه بالباطل، حتى إذا كانت الأدلة لهم، قاموا في تأييدها ونصرتها، وإن كانت عليهم حرفوها وبدلوها، ونبذوها وراء ظهورهم، فكتموا الحق تارة، وَلبسوه بالباطل تارة ثانية.

ص: 193