المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قاعدة للعالم بفن الميقات - تفسير ابن بدران = جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار

[ابن بدران]

الفصل: ‌ قاعدة للعالم بفن الميقات

أمته، ونشرهم في أقطار الأرض، فجمعهم إليه بقوله:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} من جهات الأرض {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي: في وقت صلاتكم، وهذا وإن كان عامًّا في الأشخاص والأحوال، إلا أن القرائن خصصته بالصلاة.

وقد ذكر كثير من المفسرين هنا أحكام استقبال القبلة، وخلاف الأئمة في ذلك، وإيراد الأدلة ونقضها، مما محله كتب الفروع والخلاف؛ وإننا لا نتعرض في كتابنا لهذا، ولكننا نذكر الأحكام المستنبطة من الآيات خاصة.

وحيث كان الأمر كذلك نقول: إن قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يوجب الاستقبال، وقد ثبت عقلًا أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد، وثبت بالعقل أن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، لزم القطع بوجوب الاجتهاد، والاجتهاد لا بد وأن يكون مبنيًا على الظن، فكانت الآية دالة على التكليف بالظن، فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة، ودلت الآية أيضًا على وجوب تعلم أدلة القبلة، وتلك الأدلة مذكورة في كتب أعمال الأسطرلاب والربع المقنطر والربع المجيب، والأعمال الهندسية، وأقرب الكل الآلة المعروفة ببيت الإبرة، فإنها كيفما وضعت انجذب طرف إبرتها إلى القطب الجنوبي والآخر إلى القطب الشمالي، فيحصل من ذلك معرفة الجهات الأربع، هذا إذا كانت غير معروفة بالخطأ، وهذه الطريقة يدركها العالم والجاهل، كما أن الساعة المعروفة في زمننا تعلم منها الأوقات، ويستوي الناس في معرفتها، ولشهرتها وكثرة إصابتها، أغنت عن أخذ الارتفاع بالربعين والأسطرلاب.

وهناك‌

‌ قاعدة للعالم بفن الميقات

، وهي أن يؤخذ الجزء الذي يسامت رؤوس أهل مكة، من فلك البروج، وهو (زيح) من الجوزاء، و (كج، ح) من السرطان، فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الأسطرلاب المعمول لعرض البلد، ويعلم على المرى علامة، ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقيًا عن مكة، بقدر ما بين الطولين من أجزاء الحجرة، ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع، فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت هذا الجزء رؤوس أهل مكة، ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء، فإذا انتهى

ص: 384

ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع، فقد سامتت الشمس رؤوس أهل مكة، فينصب العامل مقياسًا، ويخط على ظل المقياس خطًا من مركز العمود إلى طرف الظل، فذلك الخط خط الظل، فيبنى عليه المحراب.

ثم إن قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} الآية، أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لما تقدم أمره بذلك، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد، مع مزيد عموم في الأماكن، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، فبين أنهم في أيما حلُّوا من بقاع الأرض، وجب عليهم أن يستقبلوا شطر المسجد، ولما كان صلى الله عليه وسلم هو المتشوق لأمر التحويل، بدا بأمره، ثم أتبع أمر أمته ثانيًا، لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم، ولما حرر ذلك وقرره، بيّن أن العائبين لدينه بذلك، من أهل الكتاب عالمون بحقية هذا التحويل، وأنه من أعلام نبوته، فقال:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى، ولم يصفهم هنا بالسفه لإثبات العلم في قوله:{لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي: هذا التحويل {الْحَقُّ} ، أي: ليس بعده في أمر القبلة حق آخر يرفعه أصلًا {مِنْ رَبِّهِمْ} ، أضاف الرب إليهم تنبيهًا على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر، ممن هو معتن بإصلاحهم.

والمعنى: أن هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحرام، هو الحق الذي فرض الله على إبراهيم وذريته، وسائر عباده بعده.

ثم إنه سبحانه جعل في سياق مُهَدِّدٍ لهم (1) مُرَجِّ له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه تسلية لهم، وتثبيتًا وتقوية لعزائمهم، وتمكينًا حيث ختم الآية بقوله:

وما الله بغافل عما تعملون قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي، بالتاء على الخطاب، فيحتمل أن يراد به المؤمنون، لقوله:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب، فيكون من باب الالتفات، ووجهه أن في خطابهم، بأن الله لا يغفل عن أعمالهم، تحريكًا لهم بأن يعملوا بما علموا من

(1) في البقاعي 2/ 221: "له" ولعل ما كتبه المؤلف هو الصواب.

ص: 385

الحق، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار، وعظم الشيء الذي ينكره، ومن قرأ بالياء، وهم الباقون، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب، لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة، وعلى كلتا القراءتين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ويغفل عنها، وهو متضمن الوعيد.

ولما بين تعالى في الآية الأولى، أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق، بيّن بعد ذلك أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، فقال:

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} .

وهذا الكلام إنما هو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، عن قبول أهل الكتاب الحق، بأنهم قد انتهوا في العناد، وإظهار المعاداة إلى رتبة لو جئتهم فيها بجميع المعجزات، التي تقتضي كل معجزة منها قبول الحق، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك، وإذا كانوا لا يتبعونك مع مجيئك لهم بجميع المعجزات، فأحرى لهم أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة.

والمعنى: {بِكُلِّ آيَةٍ} تدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق، وأطلق {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، فقال جماعة: المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، علمائهم وعامتهم، والأولى أن يكون المراد بهم علماؤهم، الذين أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة بقوله:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ويدل على هذا الإيتاء المفهوم من {أُوتُوا} ، لأنه لا يكون حقيقة إلا للعلماء الذين يفهمونه ويبلغونه للعوام، فهم لهم تبع.

ودلت الآية على أن إعراضهم عن قبول هذا الدين، لم يكن لشبهة تزول بإيراد الحجة، بل هو محض المكابرة والعناد والحسد، وذلك لا يزول بإيراد الدلائل.

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسم لأطماعهم إذا كانوا حاجوا في

ص: 386

ذلك وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لَكُنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.

وقوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني: أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك، مختلفون في شأن القبلة، لا يرجى اتفاقهم، كما لا ترجى موافقتهم لك، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس، فأخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه، وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله، لشدة شكيمته في عناده، خلا من أمن أهل الكتاب، فقوله:{مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} أي: ما تبعوا ذلك.

وأشارت الآية: إلى أنهم وإن لم يؤمنوا بك، فإن كل طائفة منهم لا تتبع دين الطائفة الأخرى، فاليهودي لا يتنصر، والنصراني لا يتهود، فكل منهم إذا ترك دينه، إما أن ينتقل عنه إلى الإِسلام، وإما إلى الزندقة وطرح الأديان بالكلية، كما جرى منهم سابقًا، ونشاهده الآن في زمننا.

ثم لما كان دينهم قد نسخ، أعلم سبحانه بأن ثباتهم على قبلتهم مع ذلك مجرد هوى، فقال منفرًا للأمة عنهم، بخطاب الرأس، ليكون ذلك أدعى لقبول الأتباع:

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية، خصه بالنهي دون غيره، لما ذكرنا، ولأن كل من أنعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، فكان أولى بالتخصيص، ولأن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير؛ وعلى كل، فهذا الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى:{وَلَئِنِ} اتبعتهم مثلًا بعد وضوح البرهان وحقيقة الأمر، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، المرتكبين الظلم الفاحش.

وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته، ويتبع الهوى، وفي ذلك أيضًا تهييج وإلهاب للسامعين من المؤمنين على الثبات.

وقد دلت الآية: على أنه لا ينبغي لأحد من الأمة، مخالطة أهل الكتاب

ص: 387

واتباع أهوائهم وزيهم، والاقتداء بهم فيما كان هوى، وعلى أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم، لأن قوله:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} يدل على ذلك.

ولما ختم الخطاب بالإشارة - بقوله: {أَهْوَاءَهُمْ} - إلى علمهم بحقية هذا التحويل تلويحًا، كما فتحه بالإعلام به تصريحًا، كرّر على تأكيد الإعلام بما هم عليه في أمرها من التحقق، إشارة [إلى](1) ما يبطنونه من العناد الموجب للتمادي في الفساد، فقال مضمرًا له على وجه يصلح أن يكون للنبي- صلى الله عليه وسلم، معظمًا لهذه المعرفة بإسناد الإيتاء إليه:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

قيل: ضمير {يَعْرِفُونَهُ} راجع إلى البيت الحرام، أي: يعرفون بأنه القبلة {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وهو قول قتادة والربيع وابن عباس والسدي وابن زيد وابن جريج، ولم يذكر ابن جرير غيره. وذلك أن في الآية السابقة قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ثم قال: هنا يعرفونه، أي: ذلك الحق، ثم قال:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} .

وقيل: ضمير {يَعْرِفُونَهُ} عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره، كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم، وهذا قول ابن عباس؛ واختاره الزجاج والرازي، ورجحه التبريزي، وبدأ به في "الكشاف"، وجعل القائلون بذلك الآية من باب الالتفات، ورجحه الرازي بأن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم المراد به النبوة في قوله:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم الذي هو نبوتك، كما يعرفون أبناءهم، وبأن الله ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، بل أخبر أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة

(1) زيادة من البقاعي 2/ 226.

ص: 388

فيهما، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى، [و] بأن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة، فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد عليه السلام، فكان صرف المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

وأنت خبير بأن الحمل على هذا الوجه أولى، لأنه يتضمن الوجه الأول وزيادة، لأنهم إذا كانوا يعرفون الرسول بجميع نعوته، معرفة لا يشكون فيها، نتج عن ذلك معرفة تحويل القبلة بأنه حق، لأن الرسول لا يأتي إلا بالحق.

وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} أي: من أهل الكتاب، وإنما قال:{فَرِيقًا} ليخرج من آمن منهم، وليبقى الكلام متناولًا للمصرين على الكفر والعناد، {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} والحق المكتوم هنا: نعت الرسول، قاله قتادة ومجاهد؛ وهذا بناء على القول الثاني، أو التوجه إلى الكعبة، أو أنها القبلة، بناء على القول الأول، و"يكتمونه"، يخفونه ولا يعلنونه، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه حق وأنهم آثمون في كتمانه.

فهم ثلاثة أصناف: عارف ثابت؛ وعارف منكر - وهو أردؤهم - وكاتم لا حق به.

وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} معناه: يا محمد إن الحق ما أعلمك به ربك وأتاك من عنده {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: من الشاكّين فيه وهذا الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره.

ولما بيّن أن أحدًا من هؤلاء الفرق لا يتبع قبلة الآخر، وتضمن ذلك أن لكل منهم قبلة، وقرر أن ذلك من أهل الكتاب على وجه العناد، أثبت ما تضمنه الكلام السابق على وجه أعم منه، وسبب عنه النتيجة فقال:

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].

فقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} يحتمل أن يكون المعنى: {وَلِكُلٍّ} أهل ملة {وِجْهَةٌ} ، فحذف أهل الملة واكتفى بدلالة الكلام عليه، وبه قال ابن جريج وابن زيد، وابن عباس، والسدي، وتبعهم جماعة من المفسرين.

ص: 389

ويحتمل أن المعنى: {وَلِكُلٍّ} ناحية وجَّهك إليها ربك يا محمَّد قبلة، الله {مُوَلِّيهَا} عباده، وروى ابن جرير معنى هذا عن قتادة، ومسالك المفسرين من المتأخرين تحوم حول الأوّل. وقيل: المراد: {لِكُلٍّ} قوم من المسلمين {وِجْهَةٌ} ، أي: جهة [إلى](1) الكعبة يصلي إليها، جنوبية، أو شمالية، أو شرقية، أو غربية، وهذا القول حسن لوجهين:

أولهما: قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني: الله {مُوَلِّيهَا} ، وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة، لا في غيرها.

وثانيهما: أن الله عقبه بقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} والظاهر أن المراد من هذه {الْخَيْرَاتِ} ، ما لكل أحد من جهة، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة.

وعندي (2): أنَّه يجوز أن يكون المعنى على أعم من القبلة وغيرها، فيكون نظم الكلام:{وَلِكُلٍّ} من المذكورين وغيرهما {وِجْهَةٌ} ، أي: مقصد يقصده، ويوجه وجهه إليه، ويقبل بقلبه عليه، {هُوَ} تعالى مُوَلِّي تلك الجهة، والمولِّي لها مائل إليها بوجهه، مستقبل وتابع لها، لأن المادة تدور على الميل بكل ترتيب، وفيه إشعار باختلاف جبلات أهل الملل، وإقامة كل طائفة منهم بما جبلت عليه، وهذا المعنى ينطبق على الآيات السابقة، إذ علم {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} ، وإعراضهم عنه {وِجْهَةٌ} وقصد لهم، وكونهم لو أتاهم {بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا} قبلته وكونهم {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ، ولكنهم لا يظهرون ذلك كذلك.

ولما كانت الوجهة مختلفة، وكان منها الخير وغير الخير؛ قال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي: فاجعلوا أنتم مقصدكم أنواع الخير من القبلة وغيرها، وتسابقوا في قصدكم إليها، أي: كونوا في المبادرة إلى أفعال الخير كمن يسابق خصمًا، فهو يجتهد في سبقه.

ثم حثهم على ذلك، وحذرهم من تركه على وجه التعليل، فقال: {أَيْنَ مَا

(1) زيادة من "البحر".

(2)

من كلام البقاعي 2/ 229! !

ص: 390

تَكُونُوا} أي: من الجهات التي استبقتم إليها، الحسية والمعنوية، {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يوم الجزاء، الموافق والمخالف فلا تعجزونه، ثم علل ذلك بقوله:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ففي هذه الآية حث المؤمنين على طاعته، والتزود في الدنيا للآخرة، وبها أيضًا وعد لأهل الطاعة ووعيد لأهل المعصية.

ولما عظم تعالى في شأن القبلة انتشار أقوالهم في تنويع شغبهم وجدالهم، وكانوا أهل علم وكتاب، وقد مرت لهم دهور وهم موسومون بأنهم على صواب، فاشرأب لذلك النفاق، ودارت رحى الباطل والشقاق وقامت سوق الفسوق فيما هنالك على ساق؛ كان الحال مقتضيًا لمزيد تأكيد في أمرها، تعظيمًا لشأنها، وتوهية لشبه السفهاء، قال تعالى ثانيًا معبرًا بعبارة مشعرة بإمامته صلى الله عليه وسلم، وانتظار المصلين له:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} .

حام المفسرون حول الحكمة في هذا التكرار في هذه الآية، وفيما قبلها، وغاصوا بحر معانيها لاستخراج تلك الدرة اليتيمة، وقد ذكر في الدخول عليها قريبًا ما منه يعلم ذلك.

وقيل: إنه لما كان للمصلي ثلاث أحوال؛ لأنه إما أن يكون في المسجد الحرام نفسه؛ أو يكون في مكة خارجًا عنه؛ أو يكون خارجًا عن البلد موجودًا في قطر من أقطار الأرض.

فالآية الأولى لبيان حكم الأول، والثانية للثاني، والثالثة للثالث.

وقيل: إنما أعاد الله ذلك ثلاث مرات، لأن كل مرة تعلق بها فائدة زائدة؛ وهي في الآية الأولى: بيان أن أهل الكتاب يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه القبلة حق لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وهو الذي بني الكعبة ودعى لأهلها.

ص: 391

وفي الثانية: بيان أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقًا مغاير لعلم أهل الكتاب بكونه حقًا.

وفي الثالثة: بيان أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت الفوائد حسنت الإعادة ليترتب على كل معاد فائدة لم تكن في غيره.

وقيل: إنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ربما خطر ببال جاهل، أنه فعل ذلك إرضاء لنبيه، فكرر تعالى ما بعدها من الآيتين، فكأنه يقول في الأولى المكررة: نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل، هو الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبلها ليس لأجل الهوى والميل.

وكأنه يقول في الثانية: دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا، فيصير ذلك التولي سببًا للطعن في دينكم، بمعنى: أنها لن تنسخ في المستقبل.

ومحصل ذلك: أن كل آية من الآيات المكررات قرنت بفائدة لم تكن في التي قبلها، ولما كانت هذه الواقعة أول وقائع النسخ، حسن الإطناب فيها والتكرار، لأجل التأكيد والتقرير، وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.

فقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} معناه: ومن أي بلد خرجت للسفر {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إذا صليت، {وَإِنَّهُ} أي: هذا المأمور به {لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، قرئ بالتاء وبالياء، {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} من بقاع الأرض للصلاة، {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، فذلك حتم لا فتور عنه ولا رخصة، إلا ما استثني في الأحاديث من صلاتي النفل والخوف.

ثم بيّن أن ذلك الحكم غير مختص به صلى الله عليه وسلم، بل هذا الفرض عليه وعلى أمته فقال:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} أيتها الأمة، من جميع أقطار الأرض الدانية والقاصية، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، نحوه للصلاة، ففيه إشعار بلحظ صحة صلواتهم

ص: 392

فرادى، وفي بيوتهم، وفي المساجد، وفي الأبنية والصحراء، لا يختص ذلك بموضع دون موضع، إلا لعلة تمنع إيقاع الصلاة توجد في ذلك الموضع.

ولما كان ربما يظن، أن الرجوع إلى القبلة الأولى يزيل الكلام، بيّن سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك، فقال:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} أي: لأحد منهم {عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ، بأن يقولوا: النبي المبشر به يستقبل بيت إبراهيم عليه السلام، ثم لا ينحرف عنه، وهذا لم يفعل ذلك؛ أو يقولوا: ما جاء بشيء جديد، وإنما هو تبع لنا في قبلتنا، يعني: التي كان عليها، وهي استقباله بيت المقدس، ولما كانت الحجة كلامًا ينشأ عن مقدمات يقينية مركبة تركيبًا صحيحًا، وقع الاستثناء باعتبار تلبس المستثنى بجزء المعنى الذي نفي عن المستثنى منه بدلالة التضمن، فهو قريب من الاستخدام، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: الناس {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، فإنهم لعنادهم ولَدَدِهم (1) لا يرجعون إلى الحق الذي يعرفونه، بل يكون لهم عليكم مجرد كلام هو مادة الحجة، لا حجة بما دلّ عليه، وصفهم بالظلم الذي هو وضع الشيء في غير محله، وبكون الاستثناء على هذا منقطعًا، بمعنى:{لِئَلَّا} يحتج أحد {عَلَيْكُمْ} ، لكن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يقولون، أو يظهرون فجورًا ولددًا في ذلك، كلامًا يسمونه حجة.

ويمكن أن يكون المراد بالـ {حُجَّةٌ} ، ما هو أعم من الدليل القطعي والظني، فيكون الاستثناء متصلًا، وحاصله: إن أريد بالحجة الدليل الصحيح، فالاستثناء منقطع، لأنهم ليس لهم دليل صحيح؛ وإن أريد بها الاحتجاج والخصومة، فالاستثناء متصل، والاتصال هو الذي نختاره.

ولما نفى عن أهل هذه القبلة بالثبات عليها كل سبيل، تسبب عنه قوله:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ} في هذا الأمر ولا في غيره، فإني أرد عنكم كيدهم، وأوهن أمرهم، {وَاخْشَوْنِي} فلا تخالفوا أمري، ولا تخالفوا ما رأيته مصلحة لكم، {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وإرادتي اهتداءكم، أمرتم بذلك. فـ "لام"{وَلِأُتِمَّ} ،

(1) اللَّدَدُ: الخصومة الشديدة.

ص: 393

متعلقة بمحذوف، أو هو معطوف على علة مقدرة، فكأنه قال:{وَاخْشَوْنِي} لأوفقكم {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} بهذا الدين المفيد لعز الدارين {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، ففي كلمة "لعل" إبهام يشعر بتصنيفهم صنفين: مهتد بالثبات على السنة، ومتغير فيه بوجه من وجوه بدعة، وذلك بناء على القاعدة المعروفة، من أنه: كل ما كان للخلق تردد، فهو من الحق تقسيم وإبهام في تعيين ذلك التقسيم والتصنيف، ففيه إعلام القوم بالاهتداء الدائم بما تفهمه صيغة الدوام، وإشعار بانقطاع قوم عن ذلك التمادي، بما يفهمه ما هو للخلق بموضع [الترجي](1)، وفي طيه إشعار باستبدادهم بالأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقسامهم فيه بين ثابت عليه، دائم الاهتداء فيه، ومتغير عنه، كما ظهر فيما كان من ثبات من ثبت بعده، وردة من ارتد.

ثم إن قوله تعالى:

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].

إما أن يتعلق بما قبله، أي:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} في الآخرة بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو هو متعلق بما بعده، أي كما ذكرتكم بإرسال الرسول، وقوله:{رَسُولًا مِنْكُمْ} وارد مورد الامتنان، أي: تعرفون من صفاته العلى، وهممه الحاملة على اتباعه، والتيمن برأيه، ما لا يعرفه غيركم، ولتكونوا أهل شرف كامل، حيث إن الرسول {مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} فتجعلوها عوضًا من تناشدكم الأشعار، وتُغْنيكم عن إعمال الفكر في تكسب العلم والحكمة، كما كان الأوائل يجهدون أفكارهم في ذلك، ثم لا يصلون إلى معرفة الحق، فتلاوة الآيات تغنيكم عن التعب في ترتيب المقدمات، والاستدلال لها للتوصل إلى النتيجة، وأخذ الأمور بالشواهد، وتولى الله ورسوله تعليمهم، ليكون شرف المتعلم بحسب علاء من علمه، ففضل علماء هذه الأمة على سائر العلماء،

(1) زيادة من البقاعي 2/ 239.

ص: 394

كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على معلميهم ممن سواه، ولكن هذا الفضل إنما هو لمن أخذ علمه من الآيات البينات، ومن كلام معلمه، وهو الرسول الأعظم، لا لمن سار وراء معلم آخر تقليدًا له بما لا يعلم معناه، ولا يعرف من أين أخذه، فهو كالدابة التي يقودها صاحبها، لا تعلم ما يقصد، ولا إلى أي وجهة هي سائرة.

وقوله: {وَيُزَكِّيكُمْ} معناه: يطهركم في أقوالكم وأفعالكم، وينميكم بإنعاش قلوبكم، لتشرق بالمعاني الصالحة، والأخلاق الطاهرة، الموجبة للفوز الدائم، والنجاة من شباك المبتدعين، وأهواء الضالين، فكما تتنامى الأجساد بماء المزن والغذاء، تتنامى القلوب بالكتاب العزيز والحكمة، ومتى نمت النفس وزكت قويت على ما شأن قواها أن تناله.

وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} أي: يعلمكم الفقه فيه، والفهم لمعانيه، فإن لم يفقه معناه، واستنباط الأحكام منه، لا تنمو نفسه، {وَالْحِكْمَةَ} دقائق الإشارات الشافية لأمراض القلوب المانعة من اتباع الهوى، فـ {الْحِكْمَةَ} المأخوذة من الرسول، هي الغاية الجامعة لكل كتاب وحكمة بما يعلمه الأولون والآخرون، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتكلم في علوم الأولين، بكلمات يعجز فيها إدراك الخلق: الأطباء، والفلاسفة.

{وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي: من الاستنباط من الكتاب، من المعارف بما يدريكم به من الأقوال والأفعال، ويسلككم به من طرق الخير الكاشفة لظلام الظلم، الجالية لمرائي الأفكار، المنفذة لبصائر الاعتبار.

ولما كان ذلك من أعظم النعم، كلف الله عباده عليه بأمرين: الذكر والشكر، فقال:

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} .

فالذكر يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، أمرهم بذكر القلب، بالتفكر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، والتفكر في الجواب عن الشبه القادحة في تلك الدلائل، وأن يتفكروا في الدلائل الدالة على التكاليف من غير استرواح إلى طريق

ص: 395

حاطب ليل (1) وأن يتفكروا في أسرار المخلوقات، فيعلموا ما في طيها من الدلائل الدالة على الوحدانية، وما في طيها أيضًا من المنافع الدنيوية على ما تضمنه فن المواليد الثلاثة، النبات، والحيوان، والمعدن. وما ينتج عن ذلك من الأمور المسهلة لمنافع الخلق، كما نشاهد اليوم من المخترعات التي تدهش العقول، وأمرهم بذكر الجوارح، وهي: أن تكون مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها وأمرهم بذكر اللسان، وهو تلاوة القرآن والأذكار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء الكتاب العزيز بها لا غير، فإنكم إن ذكرتموني كذلك {أَذْكُرْكُمْ} بالرحمة، وبإجابة النداء في الدعاء، والإحسان، والثناء، والنعمة، والمعونة والهداية، وعند النبلاء فأرفعه عنكم {وَلَا تَكْفُرُونِ} ، فإنكم إن فعلتم ذلك سلبت عنكم نعمتي، وفيه إشارة إلى أنه لما كان للعرب ولع بذكر آبائهم ووقائعهم وأيامهم، وذلك علمهم وكتابهم، عوضهم الله عن ذلك كتاب الله وحكمته، فقص عليهم أحسن القصص، وعلمهم طرق الهداية.

ولما علم من هذه الآيات إعضال ما بينهم وبين السفهاء، وأمرهم بالدواء المنجح، من الإعراض عنهم والإقبال على ذكره وشكره، أتبع ذلك بالإشارة إلى أن الأمر يصل إلى أشد مما توهموه، فقال:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

خص الصبر والصلاة بالذكر، لما فيهما من المعونة على العبادات؛ أما الصبر فهو: قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى، وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن حمل نفسه قلبه على هذا التذليل، سهل عليه فعل الطاعات، وتحمل مشاق العبادات، وتجنب المحظورات.

وأما الاستعانة بالصلاة، فلأنها تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود، والإخلاص له، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها، وعلى ما يأتي فيها من قراءة، فيتدبر الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة،

(1) هو مثال يضرب لمن لا يتروى في الأمور.

ص: 396

فقد ذلّل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني: في النصر لهم، فكأنه ضمن لهم إذ هم استعانوا على طاعته {بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} ، أن يزيدهم توفيقًا وتسديدًا وإلطافًا.

ثم قال تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].

وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، كأنه قيل:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} في إقامة ديني، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم، ففعلتم ذلك، فَتَلِفَتْ نفوسكم، فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم، بل اعلموا أن قتلاكم {أَحْيَاءٌ} عندي.

قيل: إن هذه الآية نزلت في قتلى بدر.

وقيل: إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبًا لمرضاة محمد من غير فائدة، فنزلت.

والصحيح عندي: أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها، وبينهما التناسب الذي ذكرنا، فإن صح سبب نزولها فهو عارض لا أصلي.

وهذه الآية تدل على أن الشهداء {أَحْيَاءٌ} حياة لا شعور لنا بها، كما قال تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: أنها ليست مما يُشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية، وإنما هي أمر روحاني لا يدرك بالعقل بل بالوحي.

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} يشير إلى أن حياة الشهداء عند ربهم أكمل من

ص: 397

حياتهم في هذه الدنيا، وأتم وأطيب، وإن كانت أجسادهم متلاشية، ولحومهم متمزقة، وأوصالهم متفرقة، فإن الحياة الدنيوية محفوفة بالكدر، محاطة بالتنغيص، مسجونة الأرواح في سجنها؛ فإذا خلصت من ذلك السجن، أفضى بها الخروج إلى روح وريحان وصفاء لا كدر معه، وكيف يشوبها كدر وهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170]، فما حياتهم في الدنيا بالنسبة إلى تلك الحياة، إلا كحياتهم في بطون أمهاتهم بالنسبة إلى خروجهم إلى الدنيا، ولكننا في الدنيا لا نشعر بتلك الحياة كما قال تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} وأي شعور لنا بما لم نحط به علمًا؟

وقال في "روح البيان": حياة الشهداء حياة برزخية يتنعمون بها، لأنهم أجسام لطيفة كالملائكة، فإنهم موجودون أحياء.

وقال الفناري في تفسير سورة الفاتحة: كل نعيم يتنعم به الصديقون والشهداء والصالحون في البرزخ خيالي، وكل عذاب كذلك. انتهى.

ولكن ما ذكرناه أتم وأصفى، ومن الناس من لم ينتبه للسر المودع في قوله تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فقال: معنى كونهم {أَحْيَاءٌ} ، أنكم لا تطلقوا اسم الموت على من {يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، ولكن قولوا: هم {أَحْيَاءٌ} ، فجعل المنهي عنه إطلاق اسم الموت عليهم. وقيل: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها، ويوصل إليها النعيم، وإن كانت في حجم الذرة، وقيل:{أَحْيَاءٌ} بإحيائه وبقائه وثبوت الأجر. وقيل: هذه الحياة بقاء أرواحهم دون أجسادهم، وقال أكثر المفسرين: إنهم في الوقت أحياء، كأن الله أحياهم لإيصال الثواب إليهم، واختار هذا القول الفخر الرازي.

ولما كان البشر من شأنه أن لا يخلص من الشوائب إلا بعد معاناة شديدة، تصفيه منها كما يصفى الذهب بالنار الشديدة، قال تعالى معلمًا لنا التربية بما حصل به التصفية، عطفًا على ما أرشد إليه من مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار:

ص: 398

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} .

أي: ولنصيبنكم كذلك، إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة، وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟

وقال الحرالّي: الصبر الأول، أي: المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} إنما هو عن الكسل وعلى العمل، والصبر الثاني في {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إنما هو على مصائب الدنيا، فلذلك انتظم بهذه الآيات آية {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} ، وتجاوز الأمور يؤخذ بها من لم يجاهد في سبيل الله، ضعفًا عن صبر النفس عن كره القتال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فمن لم يحمله الصبر الأول على الجهاد، أخذ بأمور هي بلايا في باطنه، تجاوزها الخطاب فانعطف عليها، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} ، وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها؛ {وَالْجُوعِ} وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على النفس، حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة، فهو "الغرث"، فلذلك في الجوع بلاء ما، والغرث عادة جارية. انتهى.

أي: وهو بفتحتين من باب "فرح" قال في "تاج العروس": هو أيسر الجوع، وقيل شدته. وقال أيضًا: الجوع فراغ الجسم عما به قوامه، كفراغ النفس عن الأمنة التي بها قوامها فأفقدها القوامان في ذات نفسها بالخوف، وفي بدنها بالجوع، لما لم تصبر على كره الجهاد، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه، أهون من الصبر على الخوف والجوع. وإنما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء الخوف، حيث خافوا الأعداء على أنفسهم فجاءهم إلى مواطنهم، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح، جاء الطبيب لهلاكه، وشتان بين خوف المغازي للعدو في عقره، وبين خوف المحصر في أهله، وكذلك شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده، و {خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] في سبيله لجهاده، وبين جوع المتخلف في عياله، هذا كلامه.

ص: 399

ففي الآية سر عجيب، يظهر هذا السر في كل زمان، ولا سيما في زماننا، فإن الأمة الإِسلامية لا زالت تتخلف عن الجهاد، وعن إعداد العدة له، فلم تسابق أعداءها في الفنون الحربية، وفي المخترعات التي اخترعوها لهلاكها، حتى أكثر غزو الأعداء لها في عقر دارها، فأخذوا ينقصون أرضها من أطرافها، تارة بالحيل والدسائس، وإثارة الفتن، وتفريق الكلمة؛ وتارة بالتهويل والإرهاب، وتارة بالحرب في عقر الديار، حتى أمسى معظم بلاد المسلمين في أيدي الأعداء، والمسلمون معانقون للبله، مخلدون للسكون كالأرقاء، فطمع العدو بهم، ونظر إليهم نظر الاحتقار، وتألب بأجمعه على كيدهم، حتى غزاهم في عقر دارهم في البقية الباقية لهم من البلاد؛ وفي أثناء كتابتي لهذه الأسطر، وقبلها بثلاث سنين، اشتعلت نيران الحرب من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، وما ذلك إلا للقضاء على البقية الباقية من البلاد بأيدي المسلمين، فابتلوا بـ {الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} ، فلم يكن لهم ملجأ إلا الصبر على الجهاد، نسأله تعالى حسن العاقبة (1).

وأتى بقوله {بِشَيْءٍ} منكراً منوناً تنوين تقليل، وعطف عليه ما بعده كذلك، حثاً على الشكر، بالإشارة إلى أن كل ما أصاب منها، ففي قدرة الله ما هو أعظم منه، فعدم الإصابة به نعمة، فإذا لاحظ السامع هذا، أخلص حالة البلاء لله، ورجع إلى بابه أكثر من إخلاصه حالة إقبال الدنيا عليه.

ولما كان الجوع قد يكون عن رياضة، بيّن أنه عن حاجة بقوله:{وَنَقْصٍ} وهو التقاصر عن الكفاف من الأموال، أي: النعم التي كانت منها أغذيتهم، وقال ابن جرير الطبري: قوله {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} ، يعني:{مِنَ الْخَوْفِ} من العدو، وبـ {وَالْجُوعِ} يعني: القحط. يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وسَنَة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتَعَذَّرُ المطالب عليكم، فتنقص لذلك

(1) يشير إلى الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 وما أشار إليه بنا وما زال بلاؤه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 400

أموالكم، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار فينقص لها عددكم، وموت ذراريكم وأولادكم، وجدوب تحدث فتنقص لها ثماركم، كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيهم فيه، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه، والشك والارتياب، كل ذلك خطاب منه تعالى لنبيه وأصحابه. انتهى.

أي: ولأمته، فكأن ابن جرير تكلم عن الحالة التي نحن عليها من عام اثنين وثلاثين وثلاثمئة وألف، إلى عام كتابتنا في تفسير هذه الآية، في العشرين من شعبان من سنة خمس وثلاثين. فإننا ابتلينا بجميع ذلك، وارتفعت الأسعار من الواحد إلى ما فوق العشرة، وأظهر أكثر الناس ما في دخائلهم من النفاق والغش والفجور، وعبد التجار الدرهم والدينار علنًا، واحتكروا كل ما من شأنه أن يكون قوتًا أو ملبوسًا، وعقدوا النية على ضرر الأمة، وضرر الوطن والدولة، وكل ما يلوذ بالحكومة، وقد أخرجت الحكومة بدلًا عن النقود قراطيس، وسمتها بوسام خاص بها، أظهرتها للتداول بها، لتقوم بها أودها، وتستغني عن أموال الأعداء، فاتخذها التجار تجارة، وتلاعبوا بها أيما تلاعب، وأنقصوها عن أثمانها نقصًا فاحشًا، فأضروا بذلك بالمجاهدين وبعيالهم وبأولادهم، بل وبالأمة أجمع، وظهروا بمظهر لم يظهر به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأكثروا من الإرهاب، واختلاق الأباطيل ما لم يكن يظن ظهوره، ويعجز القلم عن شرحه، وأظهر الباعة منهم من السفه والتعدي، ونقص الكيل والميزان، وإطالة اللسان، وكشف نقاب الحياء، ما لم يظهر في أمة من الأمم، ومن فساد الأخلاق ما لم يكن مثله في الجاهلية الأولى، فحسبنا الله ونعم الوكيل عليهم (1) ويرحم الله الربيع حيث قال في تفسير هذه الآية: قد كان ذلك، وسيكون ما هو أشد من ذلك انتهى.

(1) يشير إلى ما كان في الحرب العالمية الأولى. وما أشبه الليلة بالبارحة. حتى ما ذكر من انخفاض قيمة العملة. كما نشاهد الآن خلال هذه السنوات العشر في لبنان وغيره، وما زالت الفروق تزيد والنقص عشرات المرات، نسأل الله الفرج للبلاد والعباد.

ص: 401

ثم قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآية، فكأنه تعالى يقول لنبيه: يا محمد بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم (1) به، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم (2) به، القائلين إذا أصابتهم مصيبة:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فأمره الله تعالى ذكره، بأن يخص - بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد - أهلَ الصبر الذين وصف الله صفتهم، وأصل التبشير: إخبار الرجل [الرجلَ](3) الخبرَ، يسره أو يسوءه، لم يسبقه به إليه غيره.

وقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} جواب سؤال مقدر، وهو عندي أرجح من أن يكون نعتًا للصابرين، أو منصوبًا على المدح، فكأنه قيل: من الصابرون؟ فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} الآية، أي: الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرون بعبوديتي، ويوحدونني بالربوبية، ويصدقون بالمعاد والرجوع إلي، فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي، ويقولون - عند امتحاني إياهم في بعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم (2) به، {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ، وَنَقْصٍ .. مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} ، وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها -: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده (4)، وإنا إليه بعد مماتنا صائرون. تسليمًا لقضائي، ورضًا بأحكامي.

وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} الآية، معناه: هؤلاء الصابرون - الذين وصفهم ونعتهم - {عَلَيْهِمْ} ، لهم {صَلَوَاتٌ} ، يعني: مغفرة، وإقبال عليهم بعطفه، إخراجًا لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43].

(1) الأصل: "امتحنتهم، ابتليتهم"- تبعًا لمطبوعة الطبري السابقة.

(2)

ممم قال الشيخ شاكر: والسياق يقتضي ما أثبت.

(3)

زيادة من الطبري.

(4)

الأصل: (عنده) والتصحيح من الطبري.

ص: 402

وقوله: {وَرَحْمَةٌ} يعني {و} لهم مع المغفرة - التي بها صفح عن ذنوبهم، وإخراج لهم من الظلمات إلى النور- {رَحْمَةٌ} من الله ورأفة، ومعنى الصلاة والرحمة متقارب، وإنما جمع بينهما عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة أيّ رحمة.

ثم أخبر تعالى- مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه من المغفرة والرحمة - أنهم {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} المصيبون طريق الحق، والقائلون ما يرضي الله عنهم، والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب.

قال ابن عباس: أخبر الله أن المؤمن إذا أسلم الأمر إلى الله، ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.

وقال عمر بن الخطاب في ختم هذه الآية: نعم العدلان، ونعمت العلاوة، فالعدلان: الصلاة والرحمة، والعلاوة: الهداية.

واعلم أن الأحسن في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أن يفسر بالصبر مطلقًا بلا تقييد، ليكون المعنى:{وَبَشِّرِ} كل من صبر صبرًا محمودًا شرعًا، لأن حقيقة الصبر، تعارض العقل والشهوة في شيء، فلذلك كان له أسماء يرجع معانيها إلى الصبر:

فإن كان عن شهوة الفرج والبطن سمي: عفة.

وإن كان عند المصيبة سمي: صبرًا. وضده: الجزع.

وإن كان في الغنى سمي: ضبط النفس. وضده: البطر.

وإن كان في الحرب سمي: شجاعة. وضده: الجبن.

وإن كان في نائبة مضجرة سمي: سعة صدر. وضده: الضجر.

وإن كان في إخفاء كلام، سمي: كتمانًا. وضده: الإعلان.

وإن كان في فضول الدنيا سمي: زهدًا. وضده: الحرص.

ص: 403

وإن كان على يسير من المال سمي: قناعة. وضده: الشره.

وقد جمع الله في كتابه أقسام ذلك، وسمى جميعها صبرًا، فقال:

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أي: المصيبة.

{وَالضَّرَّاءِ} ، أي: الفقر.

{وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] أي: المحاربة.

قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، وإن ظهر دمع عين، أو تغير لون، ولو ظهر منه أول، ما لا يعد معه صابرًا، ثم صبر، لم يعد ذلك سلوانًا.

هذا وقد دلت هذه الآية، على أن كل هذه المحن من الله تعالى، خلافًا لما يقوله الثنوية: الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر.

وخلافًا لقول المنجمين: الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوسها.

وقال أبو بكر الرازي: اشتملت الآية على حكمين، فرض ونفل.

أما الفرض: فهو التسليم لأمر الله، والرضا بقضائه، والصبر على أداء فرائضه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا.

وأما النفل: فإظهار القول: بـ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، فإن في إظهاره فوائد جزيلة، منها: أن غيره يقتدي به إذا سمعه، ومنها: غيظ الكفار، وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله، والثبات عليه وعلى طاعته، انتهى.

وفي قوله تعالى: {أُولَئِكَ} التي هي أداة البعد، إشارة إلى علو مقام المشار إليهم، وعزَّ مرامهم، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الإسمية على وجه يفهم الحصر، والصلاة: الإنعام بما يقتضي التشريف، والرحمة: الإنعام بما يقتضي العطف والتحنن، والله الموفق.

ص: 404

ولما فرغ ما قصه الله تعالى مما أراد من أحوال الطاعنين في القبلة، التي هي (قيام للناس)(1)، وما استتبع ذلك مما يضطر إليه في إقامة الدين من جدالهم وجلادهم، وختم ذلك بالهدى، شرع في ذكر ما كان البيت به قيامًا للناس من المشاعر القائدة إلى كل خير، الحامية عن كل ضير، التي جعلت مواقفها أنموذجًا لقيام الناس إلى المحشر، ولا سيما والحج أخو الجهاد في المشقة، والنزوح عن الوطن، فقال:

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} .

فهو كالتعليل لاستحقاق البيت أن يكون قبلة، وأيضًا فإن التكليف على ثلاثة أقسام:

أولها: ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر، وقد ذكره تعالى بقوله: اذكروني {أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة] فإن كل عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره، أمر مستحسن في العقول.

وثانيها: ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر، إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن، فإن ذلك كالمستقبح في العقول، لأن الله تعالى لا ينتفع به، ويتألم العبد منه، فكان ذلك كالمستقبح، إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه، وهي الابتلاء والامتحان، وهذا هو المشار إليه بقوله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، فحينئذ يعتقد المسلم حسنه، وكونه حكمًا وصوابًا.

وثالثها: الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة، وهو مثل الحج من السعي بين الصفا والمروة وغيره.

(1) اقتباس من الآية 97 من سورة المائدة.

ص: 405