الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهَا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: الْعَهْدُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ، عز وجل.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي فاخِتَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-هَذِهِ الْآيَةَ: {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:"مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ" قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَعلمنا. قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى عَمَلٍ تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي (1) مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاجْعَلْ (2) لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤدّيه إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: فَحَدَّثَنِي زَكَرِيَّا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا، رَاهِبًا رَاغِبًا إِلَيْكَ (3) .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، بِنَحْوِهِ.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
(88)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } .
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى، عليه السلام، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا-فَقَالَ:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ} أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ هَذَا، {شَيْئًا إِدًّا} (4) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ: أَيْ عَظِيمًا.
وَيُقَالُ: {إِدًّا} بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَمَعَ مَدِّهَا أيضا، ثلاث لغات، أشهرها الأولى.
(1) في ف، أ:"ويباعوني".
(2)
في أ: "فاجعله".
(3)
ورواه الحاكم في المستدرك (2/377) من طريق عبد الرحمن بن سعد عن المسعودي عن عون عن الأسود بن يزيد عن ابن مسعود بنحوه، ولم يذكر أبا فاختة، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(4)
في ف: (شيئا إدا) : أي: في قولكم هذا.
وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} أَيْ: يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ (1) هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فَجَرَةِ بَنِي آدَمَ، إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا؛ لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ:
وَفِي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ
…
تَدُل عَلَى أَنَّهُ واحِدُ
…
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ (2) فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ:"تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ (3) وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعْنَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ"(4)
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا (5) مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَتَنْشَقُّ الأرْضُ} أَيْ: غَضَبًا لِلَّهِ، عز وجل.
{وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {هَدًّا} يَنْكَسِرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْد الْمَقْبُرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَوْنِ بْنِ (6) عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لِيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذاكرُ اللَّهَ عز وجل (7) ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَسْتَبْشِرُ. قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ (8) لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ (9) الزُّورَ وَالْبَاطِلَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ (10) غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (11)
(1) في ف، أ:"سماعهم".
(2)
في أ: "الشريك".
(3)
في أ: "والأرض".
(4)
تفسير الطبري (16/98) .
(5)
في ف: "فرعا"، وفي أ:"أي ينشق فزعا".
(6)
في ف: "ابن".
(7)
في ف، أ:"ذاكر الله تعالى".
(8)
في أ: "فهي".
(9)
في ف، أ:"أفيستمعن".
(10)
في ف، أ:"يستمعن".
(11)
ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1176) من طريق ابن أبي عمر، عن سفيان، عن مسعر به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/107) من طريق سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عن عون، عن ابن مسعود، بنحوه. وقال الهيثمي في المجمع (10/79) :"رجاله رجال الصحيح".