الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُدَبِّرُ أَمْرِي، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُقْرَنُ بِالْآخَرِ كثيرا في القرآن كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا له إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] ، وَقَوْلُهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: 123] وَقَوْلُهُ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الْمُلْكِ: 29] وَقَوْلُهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 9] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تعالى وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَعَدْلِهِ، أَنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [فَاطِرٍ: 18] وقوله تَعَالَى فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طَهَ: 112] .
قَالَ علماء التفسير: أي فَلَا يُظْلَمُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُهْضَمُ بِأَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَقَالَ تَعَالَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [الْمُدَّثِّرِ: 38- 39] مَعْنَاهُ كُلُّ نَفْسٍ مُرْتَهِنَةٌ بِعَمَلِهَا السَّيِّئِ، إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ قَدْ يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، أي ألحقنا بهم ذريتهم فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا أَلَتْنَاهُمْ أَيْ أَنْقَصْنَا أُولَئِكَ السَّادَةَ الرُّفَعَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا حَتَّى سَاوَيْنَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَنْقَصُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، بَلْ رفعهم تعالى إلى منزلة الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ أَعْمَالِهِمْ بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أَيْ مِنْ شَرٍّ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَسَتُعْرَضُونَ وَنُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُنْبِئُنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَعْمَالِنَا وَأَعْمَالِكُمْ وَمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الدار الدنيا، كقوله قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سَبَأٍ: 25- 26] .
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يَقُولُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي جعلكم تعمرونها جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَخَلَفًا بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره، كقوله تعالى وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزُّخْرُفِ: 60] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ
[النَّمْلِ: 62] وَقَوْلِهِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] وَقَوْلِهِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَافِ: 129] وَقَوْلِهِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أَيْ فَاوَتَ بَيْنَكُمْ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْمُسَاوِئِ وَالْمُنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كقوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف: 32] وقوله انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] .
وقوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيَخْتَبِرَكُمْ فِي الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ وَامْتَحَنَكُمْ بِهِ، لِيَخْتَبِرَ الْغَنِيَّ فِي غِنَاهُ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَالْفَقِيرَ في فقره ويسأله عن صبره. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كانت في النساء» «1» .
وقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع، فيمن عَصَاهُ وَخَالَفَ رُسُلَهُ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ وَالَاهُ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مَنْ خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق: ليرحم الْعِبَادُ عَلَى مَا فِيهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم، وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين، كقوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد: 6] وَقَوْلُهُ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الْحِجْرِ: 49] إِلَى غير ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَتَارَةً يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّهْبَةِ وَذِكْرِ النَّارِ وَأَنْكَالِهَا وَعَذَابِهَا وَالْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَتَارَةً بهما لِيَنْجَعَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ أَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سَمِيعُ الدُّعَاءِ جَوَادٌ كَرِيمٌ وَهَّابٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «2» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من العقوبة ما طمع بجنته أَحَدٌ، وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الرحمة ما قنط أحد من الجنة، خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَعِنْدَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ» «3» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدراوردي عن العلاء به، وقال: حسن، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جعفر، عن العلاء.
(1) أخرجه مسلم في الذكر حديث 99.
(2)
المسند 2/ 484.
(3)
أخرجه مسلم في التوبة حديث 23، والترمذي في الدعوات باب 99.
وعنه أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» «1» وعنه أيضا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية من أن تصيبه» «2» رواه مسلم.
آخر تفسير سورة الأنعام، ولله الحمد والمنة.
(1) أخرجه مسلم في التوبة حديث 14، 16.
(2)
أخرجه مسلم في التوبة حديث 7، 20.