الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المائدة: 173] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَنَالُ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ لِمُتَنَاوِلِهَا إِمَّا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ فِيهِمَا، وَاسْتَثْنَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كما قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119] قال بعدها يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كما فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، ويحرم عليهم الخبائث، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطَّائِيَّيْنِ، سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال سعيد: يَعْنِي الذَّبَائِحَ الْحَلَالَ الطَّيِّبَةَ لَهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ: الطيبات مَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يُصِيبُوهُ وَهُوَ الْحَلَالُ مِنَ الرِّزْقِ، وَقَدْ سُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ شُرْبِ الْبَوْلِ لِلتَّدَاوِي فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ بَيْعِ الطير الَّذِي يَأْكُلُهُ النَّاسُ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الذَّبَائِحُ الَّتِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ، وَأُحِلَّ لكم ما صدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَهُنَّ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ، وَالْبَازِي، وَكُلُّ طَيْرٍ يُعَلَّمُ لِلصَّيْدِ وَالْجَوَارِحُ، يَعْنِي الْكِلَابَ الضَّوَارِي وَالْفُهُودَ وَالصُّقُورَ وَأَشْبَاهَهَا «1» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عن خيثمة وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: الْبَازُ وَالصَّقْرُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مَثَلُهُ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قوله وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ والسُّدِّيِّ، ثُمَّ قَالَ «2» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَّا مَا صَادَ مِنَ الطَّيْرِ الْبُزَاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيْرِ، فَمَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ لَكَ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ.
قُلْتُ: وَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد
(1) تفسير الطبري 4/ 429.
(2)
تفسير الطبري 4/ 430.
بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق، وهو مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ هَنَّادٍ «1» ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن صَيْدِ الْبَازِي فَقَالَ: «مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ» وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِمَّا يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» «2» .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ، اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدٍ بَهِيمٍ» «3» وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يُصْطَادُ بِهِنَّ جَوَارِحَ مِنَ الْجُرْحِ، وَهُوَ الْكَسْبُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ جَرَحَ أَهْلَهُ خَيْرًا، أَيْ كَسَبَهُمْ خَيْرًا، وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَا جَارِحَ لَهُ أَيْ لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: 60] أَيْ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي سبب نزول هذه الآية الشريفة الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، حدثنا زيد بن حباب، حدثني يونس بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَلْمَى أَمِّ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقلت: فَجَاءَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت، فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كلبه وسمى، فأمسك عليه، فيأكل مَا لَمْ يَأْكُلْ» وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «4» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: «قَدْ أَذِنَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
أَجَلْ وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ» قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْتُهُ رَحْمَةً لَهَا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاؤوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لَنَا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ به، وقال:
(1) المصدر السابق. [.....]
(2)
صحيح مسلم (صلاة حديث 265) .
(3)
سنن أبي داود (أضاحي باب 21) وصحيح مسلم (مساقاة حديث 47) ومسند أحمد 3/ 333 وسنن الترمذي (صيد باب 16 و 17) .
(4)
تفسير الطبري 4/ 428.