الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة، فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المانعة.
وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر»
وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟
قال: بلى قال اقرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر.
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المناعة وهي مكية على الأصح. وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرج ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، وفي قول غريب إنها مدنية وآيها إحدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق: 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له»
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ومنها ما
جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم: «من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب»
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر
، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة. والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم، وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول. ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه، ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها. قيل: ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وقد مرّ تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والاستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته، أو أن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والاستيلاء كما قيل، ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة الاستيلاء على كل موجود. وقوله تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز وجل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي، فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عزّ سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها
وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي، وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال: أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت، وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال: وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الاحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه، وأما عند القائلين بأن علة الاحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الاختيار يستدعي سبق العدم. وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الاختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ مطلق. وقوله سبحانه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا، ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم، وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود، وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم. وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلو عن نظر فليتأمل. ومن الناس من حمل الْمُلْكُ على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف، وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز وجل مالكه فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ مالك الملك وفسر الراغب الْمُلْكُ في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى.
وقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز وجل. وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ. والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة، واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام. وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. وقيل: هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الاستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي، أو أن الْمَوْتَ ليس عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه، أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات، أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الْمَوْتَ وَالْحَياةَ خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الاحتمالات. ومن الغريب ما قيل إنه كنى بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها، وبالحياة عن الآخرة
من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة، وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحثّ على حسن العمل، ولذا
ورد: «أكثروا من ذكر ذم اللذات والحياة»
وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك، فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر. وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارئ وحياتكم أيها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم. وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل وحمل الكلام على ما ذكر، ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا
قال صلى الله عليه وسلم في الآية: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل»
أي أيكم أتمّ فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات. والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له، وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت لوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب، وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى. وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] ليس بذاك وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم، وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا؟ قيل: فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال: إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين، وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق، وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا. والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن. وأيضا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال
الخليل، فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ وإليه ذهب الطيبي ثم قال: وقد أنصف صاحب الانتصاف حيث قال: التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى. والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين. وفي الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق، فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور. وأما الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى. وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسأل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق.
وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء الْغَفُورُ لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل.
واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليمه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] وقوله تعالى طِباقاً صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها، وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا، والجملة في موضع الصفة. وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سَبْعَ سَماواتٍ لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك، وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة. وأيّا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض، ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى. واختلف في موادها فقيل: الأولى من موج مكفوف، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء. وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء، وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز وجل على كل شيء قدير. وقوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خَلْقِ الرَّحْمنِ موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها، وبأنه عز وجل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا، وبأن في إبداعها نعما جليلة. وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغني من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا
الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله، والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره. واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا مِنْ تَفاوُتٍ أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالاختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى
…
بهن اختلافا بل أتين على قدر
وقال السدي: أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار: أي من عدم استواء، وقيل أي من اضطراب، وقيل أي من اعوجاج، وقيل أي من تناقض. ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت يسببه بعضها عن بعض، وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض، لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والارتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا.
واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك. وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش «من تفوّت» بشد الواو مصدر تفوت، وحكى أبو زيد عن العرب «في تفاوت» فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر. وقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة، فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فأرجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له. والفطور قال مجاهد: الشقوق جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر. والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب. وفي معناه قول أبي عبيدة: الصدوع، وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه
…
هواك فليط فالتأم الفطور
وقول السدي: الخروق، وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هَلْ تَرى إلخ قال أبو حيان: في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فَارْجِعِ الْبَصَرَ معنى فانظر ببصرك ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض، وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله:
لوعد قبر وقبر كان أكرمهم
…
بيتا وأبعدهم عن منزل الذام
فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس
بشيء. ويؤيد الأول قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا، والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل إنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة، لكن في الصحاح يقال: خسا بصره خسا وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسِئاً بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب، وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. يقال: حسر بعيره يحسر حسورا أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور. وقال الراغب: الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع أي كشفت، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر. وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة، ونوق حسرى، والحاسر أيضا المعنى لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه. وقرأ الخوارزمي عن الكسائي «ينقلب» بالرفع، وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة. وقوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس بِمَصابِيحَ جمع مصباح وهو السراج، وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب، وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. وقيل للتنويع والأول أولى. والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا، وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده. وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه ف زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كقول القائل:
زينت السقف بالقناديل وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح. ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي، أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة، أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه، أو كل منها في فلك وسماء غير السبع. والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال: إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم، فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب، ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة
ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا، وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ، والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها. قال:
يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء، وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا، أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر. وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع. نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه، وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه.
وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى (جعلنا منها) أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع. وقيل إنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا. والمراد بالشياطين مسترقو السمع، ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض، فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسائط. وقال الشهاب: لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة، ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى. وأقول لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك، وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء، فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء، وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها. وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة، وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها، وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك. ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد
لها من الانقضاض، وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل.
والضمير المنصوب في جَعَلْناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا، وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا. ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك، وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها. والكلام نحو قولك أسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي، ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمي به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه، وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو، وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلّا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين، وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها. وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر. وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلّا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر. وقيل: معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه أن أردته فإنه نفيس جدا.
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ وهيأنا للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار. واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة: لا يعذب غير الكفرة. وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه «عذاب» بالنصب عطفا على عَذابَ السَّعِيرِ أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم إِذا أُلْقُوا فِيها أي وطرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة سَمِعُوا لَها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى شَهِيقاً لأنه في الأصل صفته فلما صارت حالا أي سَمِعُوا كائنا لَها شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمير وهو
حسيسها المنكر الفظيع، ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة. واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون:
108] . وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعها منهم قبل تَكادُ تَمَيَّزُ أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وَهِيَ تَفُورُ أي ينفصل بعضها من بعض مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الْغَيْظِ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح إنه الغضب أو أسوؤه، وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية، ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ. وجوز أن يكون الإسناد في تَكادُ تَمَيَّزُ إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية، وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك، وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تَكادُ كما في قوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل تَفُورُ أو خبر آخر وقرأ طلحة «تتميّز» بتاءين وأبو عمرو «تكاد تميز» بإدغام الدال في التاء والضحاك «تمايز» على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن على وابن أبى عبلة «تميز» من ماز كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها، وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام، والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع، وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالُوا اعترافا بأنه عز وجل قد أزاح عللهم بالكلية بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير، وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك، أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاء لها نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته.
فَكَذَّبْنا ذلك النذير من جهته تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ بعيد عن الحق والصواب. وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير. والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما، وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر
تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم. كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام، وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض؟ هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر. وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره، أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية. ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث. وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بيّن فإما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وإما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إِنْ أَنْتُمْ وقوله سبحانه وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عطف على (كذبنا) قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى.
واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول وَقالُوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلاما أَوْ نَعْقِلُ شيئا ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ وقيل الكفار مطلقا واختصاص اعداد السعير ممنوع لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: 4] . والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل. ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم، وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة، واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال:
أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ. وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأَوْ للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع.
وقيل: أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها، واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل. وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من العسير، وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا. واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عز وجل فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي «فسحقا» بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر:
يجول بأطراف البلاد مغربا
…
وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقيل: هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله:
وإن أهلك فذلك كان قدري أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا، أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله:
وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع
…
من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم تدع فلم يبق إلّا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج، وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر. واللام في لِأَصْحابِ للتبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب، ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بيّن أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ثم بيّن أحوال الكفار حيث قال عز وجل وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ والأوفق بقراءة النصب والأبعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا. ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الاختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق، بلى يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين. وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية، لكنه عدل وغلب أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر، ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم، فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم، وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترقب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير. وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا، وقد عدّ ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الأفهام. إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني وقوله تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا لِيَبْلُوَكُمْ عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني
جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ إلخ فأثبت لهم كمال العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وكمال التقوى لقوله تعالى بِالْغَيْبِ وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي، ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون، واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ إلخ استطراد عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وَأَسِرُّوا أَوِ اجْهَرُوا على سبيل الالتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفا على قوله تعالى
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت، وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء، أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وَأَسِرُّوا إلخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عز وجل المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلّا وهو أو مبادئه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل إنه عز وجل مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به، ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عَلِيمٌ بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يَعْلَمُ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها. وقوله تعالى وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خَلَقَ والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطي ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت إلا يكون عالما من هو خالق وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم. وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللَّطِيفُ الْخَبِيرُ من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الاستغراق والإطلاق. وتعقب بأن الاستغراق غير
لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] . الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول، فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة، ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة إن قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فربط المعنى أن يقال أَلا يَعْلَمُ هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها، ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة، ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس. وقال ابن عطية: الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى. وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول، واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم: يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا
أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن. والفاء في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما: جبالها. وقال الحسن: طرقها وفجاجها. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي، ثم قال: فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذَلُولًا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق، والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة، والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل. وفي الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وإنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل، والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعير عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم. وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى (امشوا) وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك، واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب
وفي الحديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف»
وهذا لا ينافي التوكل. بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال:
من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتاكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل. وتمام الكلام في هذا الفصل في محله. والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى.
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عز وجل فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر، أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها، وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم. وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله عز وجل كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام
الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه»
ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عز وجل في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عز وجل، والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا وشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام؟ انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار. ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة. وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر. فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى. وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عز وجل بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك.
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي
…
دع الجهول يظن الجهل عدوانا
وقرأ نافع «أأمنتم» بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا. وقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ بدل اشتمال من مَنْ وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] . أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وأن الْأَرْضَ نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك فَإِذا هِيَ حين الخسف تَمُورُ ترتج وتهتز اهتزازا شديدا، وأصل المور التردد في المجيء
والذهاب أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ألا ترى إلى قوله تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب إنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم، والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم، ولعل ما أشير إليه أولا أولى فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان:
فأنذر مثلها نصحا قريشا
…
من الرحمن إن قبلت نذيري
وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة، والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرىء شاذا «فسيعلمون» بالياء التحتانية وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبرار الإعراض عنهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نَكِيرِ كالكلام في نَذِيرِ وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى أَوَلَمْ يَرَوْا أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافَّاتٍ على الحال من الطير أو من ضميرها في فَوْقَهُمْ وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه، وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير، ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة وَيَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافَّاتٍ لأن المعنى يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلّا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله:
بات يعشيها بعضب باتر
…
يقصد في أسوقها وجائر
فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للاستظهار به على التحرك، جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا إثر حين كما يكون من السابح ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يَقْبِضْنَ وقرأ الزهري «ما يمسّكهن» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ دقيق
العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها، وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه، ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة، وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال: نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول إنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط، وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بِكُلِّ شَيْءٍ على بَصِيرٌ للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ متعلق عند كثير بقوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه و (أم) منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة يَنْصُرُكُمْ صفة لجند باعتبار لفظه ومِنْ دُونِ الرَّحْمنِ على الوجه الأول أما حال من فاعل يَنْصُرُكُمْ أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: 63] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، وأن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ أي الله عز وجل رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر مبادئه كالذي مر وقوله تعالى بَلْ لَجُّوا إلخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فِي عُتُوٍّ في عناد واستكبار وطغيان وَنُفُورٍ شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو إلخ عديلا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى ألم ينظروا في
أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله أن أرسل عليكم عذابه. وقال إنه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلّا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم اشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى (أم) متصلة و (من) استفهامية وجعل في الثانية (أم) منقطعة و (من) موصولة وهذَا الَّذِي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم، وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين. وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ [الرعد: 16] وأَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:
84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي. والزمخشري قال في الموضعين: أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن (أم) منقطعة والاستفهام تهكم، وكذلك لما قيل أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا، وكذلك قوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء، وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال، وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال: فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاعتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم
…
انتهى
ولعمري قد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع ويعجبني طرف تدر دموعه.
على فضله العالي فلله دره. وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل. وقرأ طلحة في الأولى «أمن» بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة وقوله تعالى أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغروز وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة، وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ و (من) موصولة مبتدأ ويَمْشِي صلته ومُكِبًّا حال من الضمير المستتر فيه، وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأَهْدى خبر (من) و (من) الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو، وقيل: مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت. والمكب الساقط على وجهه يقال: أكب خرّ على وجهه وهو من باب الأفعال، والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال: كبّه الله تعالى فأكب، وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته، واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته، وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها، وأنسل ريش الطائر ونسلته. وقال بعضهم: التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في ألأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة، ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره، وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة، وحكى ابن الأعرابي: كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس، والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخرّ على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته، أعني مكبا للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا. وفسر بعضهم السوي بمستوي الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك: العسل أحلى من الخل. والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك. وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة.
وروي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» .
وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله.
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك وَيَقُولُونَ من فرط عتوهم ونفورهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي العلم بوقته عِنْدَ اللَّهِ عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، وهذا نظير قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40] إلّا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى زُلْفَةً حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة، وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر. وقال الراغب:
الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين، وقيل زلفة لهم. واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى. ولا زلفة في كلا القولين سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسبها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل الساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع الكسائي كسر سين «سيئت» الضم وَقِيلَ توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر. وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب «تدعون» بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: 32] إلخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله:
ولا يقيم على خسف يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
وبالحاصب الحصى وقد رمى صلى الله عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور، أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة والسلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي بالنصرة عليكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي فمن يجيركم من عذاب النار، وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنّى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم، والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وأن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين، وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري. ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه، ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك وهذا فيه الأول من حيث إنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من عذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا، والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه، والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وأن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد قُلْ أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه هُوَ الرَّحْمنُ أي الله الرحمن آمَنَّا بِهِ أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجاز البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمَنَّا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد هاهنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة، وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في إلخ وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ وقوله سبحانه قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤول باسم الفاعل. وأيّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي
إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة
وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى، وأنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فَمَنْ يَأْتِيكُمْ
إلخ قال تجيء به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.