المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البيّنة وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٥

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة البيّنة وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية

‌سورة البيّنة

وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن. قال في البحر: مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار: مدنية قاله ابن عطية، وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى. وقال ابن الفرس: الأشهر أنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية، واستدل على ذلك بما

أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها قال جبريل عليه السلام: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه: «إن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة» فقال أبي: أو قد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال: «نعم» فبكى

وهذا هو الأصح. وآيها تسع في البصري وثمان في غيره.

وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يسمع قراءة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول: أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» .

ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل: إنّا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل.

ص: 424

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم، وقيل: للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد. وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز وجل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الاعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى، وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل إنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه. وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، وقال بعض: لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب. وَالْمُشْرِكِينَ وهم من اعتقدوا لله سبحانه شريكا صنما أو غيره، وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر. وأيّا ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلّة. واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء. وقرىء «والمشركون» بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على ذلك واعتبار أو الجر للجوار لا يخفى حاله. والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقوله تعالى مُنْفَكِّينَ خبر يكن والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر. وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه. وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة. وقوله تعالى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين. فقوله تعالى رَسُولٌ بدل منها بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ في موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية. وقوله تعالى يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً صفة أخرى له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما أن قوله سبحانه فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ صفة ثانية ل صُحُفاً أو حال من الضمير في صفتها الأولى أعني مُطَهَّرَةً ويجوز أن يكون الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة والسلام على المعنى الأول ظاهر، وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال. وأشار إليه البوصيري بقوله:

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة والسلام يتيما أو باعتبار كثرة معجزاته صلى الله عليه وسلم غير ما ذكر وظهورها.

وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت للمدعى، وروي ذلك عن قتادة وابن زيد، و

ص: 425

رَسُولٌ عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت، وجوز أن يكون رَسُولٌ مبتدأ لوصفه وخبره جملة يَتْلُوا إلخ. وجملة المبتدأ وخبره مفسرة للبينة. وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع ضميرها فكانت الرابط. وقرأ أبي وعبد الله «رسولا» بالنصب على الحالية من البينة، والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء، والمراد بتطهيرها تنزيهها عن الباطل على سبيل الاستعارة المصرحة. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلّا المطهرون والمراد بالكتب المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقة بالحق. وفي التيسير هي كتب الأنبياء عليهم السلام والقرآن مصدق لها فكأنها فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على المشهور من أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ الكتاب كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة إلى المفعول لأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه قرأها. وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير استعارة مكنية بتشبيهه عليه الصلاة والسلام لتلاوته مثل ما فيها بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول. ففي ضمير فِيها استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي. وقيل المراد بالرسول جبريل عليه السلام، وبالصحف صحف الملائكة عليهم السلام المنتسخة من اللوح المحفوظ، وبتطهيرها ما سبق، والمراد بتلاوته عليه الصلاة والسلام إياها ظاهر وجعلها مجازا عن وحيه إياها غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المروي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما. وقد اختلفوا في المعنى المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط: إنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبيّن ذلك بناء على أن الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحَتَّى لانتهاء الغاية فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلّا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز وجل ذلك فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلّا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما. وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال: هذا هو الثمرة. وظاهره أنه أراد بتفرقهم عن الحق وحمل على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى. وقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ. وفي التعبير ب مُنْفَكِّينَ إشارة إلى وكادة وعدهم

وهو

ص: 426

من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول: قد أظل زمانه وإنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب، ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته. والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] أي تلت. وقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين.

ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبّر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك، وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم. وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية إلّا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق. وقال القاضي عبد الجبار: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء، ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وأن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلّا أنه عبّر بما ذكر لأنه أخصر، وفيه أيضا ما لا يخفى. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولا زورا، وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك. وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصرّ على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى.

وتعقب بأن ظاهر وَما تَفَرَّقَ إلخ ذمّ لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى. وقيل: معنى مُنْفَكِّينَ هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلّا بعد قيام الحجة علهيم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى. وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه. وقال أبو حيان: الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم

ص: 427

مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه، وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله (بل كان كل منهم) إلخ في حيّز المنع. وأيضا حمل وَما تَفَرَّقَ على ما حمله عليه غير ظاهر. وقال ابن عطية: هاهنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا. ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بيّن أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عز وجل لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول، ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بيّنه سبحانه بقوله جل وعلا وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلّا من بعد ما جاءتهم البينة. وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق، ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال: إن مُنْفَكِّينَ يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتَأْتِيَهُمُ يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فأعمل فيه تَأْتِيَهُمُ وحذف معمول مُنْفَكِّينَ لدلالته عليه فكأنه قيل: لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة، وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم. ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة

مُنْفَكِّينَ عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلّا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

وقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل، والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى. وقال الفرّاء:

العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن

ص: 428

أي إلّا بأن يعبدوا الله وأيّد بقراءة عبد الله إلّا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي: هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز وجل فالدين مفعول لمخلصين، وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مُخْلِصِينَ محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين. وقرأ الحسن «مخلصين» بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول. نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل لِيَعْبُدُوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه، فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين. وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا. وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام. وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام، وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني. وقال الزجاج: أي الأمة القيمة أي المستقيمة. وقال غير واحد: أي الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة، وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل الْقَيِّمَةِ بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة. وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه «الدين القيمة» فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل. ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلّا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب، وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب

ص: 429

المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم عظيم. وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار أُولئِكَ إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي الخلقية وقيل أي البشر، والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيّز التعليل لخلودهم في النار. وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم، ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين. وأيّا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا المشركون والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] وقال بعض: لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة. وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الإشكال بإبليس ونحوه. وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون مآلا أو حالا. وقيل: يراد بالبرية البشر. ويراد بشريتهم شريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة، وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام، وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل. وقيل: ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع «البريئة» هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة، لكن عامة العرب إلّا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا: البرية كما قالوا الذرية والخابية. وقيل: ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البرى المقصور يعني التراب فهو أصل

برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر، ومختلفان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر، وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط وأيّا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله عليه وسلم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا. وقال عصام الدين: إن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ كالتأكيد لقوله تعالى ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ إذا لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلّا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند أُولئِكَ أي المنعوتون بما هو

ص: 430

الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد «هم خيار البرية» وهو جمع خير كجياد وجيد جَزاؤُهُمْ بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تقدمت نظائره. وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما، وتأكيد الخلود بالأبد من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى. والظاهر أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلّة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر. وقوله تعالى رضي الله عنهم استئناف نحوي وإخبار عمل تفضل عز وجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم، ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلِكَ أي ما ذكره من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي. وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر، بل الموصل له خشية الله تعالى وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولذا قال الجنيد قدس سره: الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين: الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح، وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى ذلِكَ إلخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. واستدل بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر، وفي الآثار ما يدل على ذلك.

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا: «أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا إن شئتم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى؟ قال: يا عائشة أما تقرئين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»

وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الاستدلال ثم إنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول به فليتفطن. والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث، ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيّز المنع. ثم الظاهر أن المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا إلخ مقابل الَّذِينَ كَفَرُوا والأقوم من الذين

ص: 431

أنصفوا بما في حيّز الصلة بخصوصهم وزعم بعضهم أنهم مخصوصون.

فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تسمع قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ؟ هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين» وروى نحوه الإمامية عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه

. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه.

وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين»

. وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في مجمع البيان عن مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية: نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته. وهذا إن سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأما ما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه أن يكون علي كرم الله تعالى وجهه خيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمامية وإن قالوا إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيرتيهم. وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وإن دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله تعالى أعلم.

ثم إن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها

أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فقرأ فيها: «ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره»

.

وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم اقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة إن أقوم الدين الحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلّا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه

. أخرج ذلك ابن مردويه عن أبيّ رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث.

ص: 432