الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفلق
مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس، مدنية في قول ابن عباس في رواية أبي صالح وقتادة وجماعة وهو الصحيح لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسلام بالمدينة كما جاء في الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا الكلام في سورة الناس وآيها الخمس بلا خلاف. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها جيء بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقاته، وهي والسورة التي بعدها نزلتا معا كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس»
. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم تمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.
وجاء في الحديث أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء.
وفي فضلهما أخبار كثيرة غير ما ذكر. وعن ابن مسعود أنه أنكر قرآنيتهما. أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عنه أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله تعالى إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما. وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة
وأثبتتا في المصحف.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن حبان وغيرهم عن زر بن حبيش قال: أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب فقلت له: يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه. فقال: أما والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألت غيرك. فقال: قيل لي قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
. وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين في إعجاز القرآن قال: لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الإعجاز لتميز به غير القرآن فلم يختلف في كونه منه، وأنت تعلم أنه قد وقع الإجماع على قرآنيتهما وقالوا إن إنكار ذلك اليوم كفر، ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك وفي شرح المواقف أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته، فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا
في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وكذلك لا يضر فيما نحن بصدده انتهى.
وعكس هذا القول في السورتين المذكورتين قيل في سورتي الخلع والحفد وفي ألفاظهما روايات منها ما يقنت به الحنفية، فقد روي أنهما في مصحف أبيّ بن كعب وفي مصحف ابن عباس وفي مصحف ابن مسعود فهما إن صح أنهما كلام الله تعالى منسوخا التلاوة وليسا من القرآن كما لا يخفى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ أي ألتجئ وأعتصم وأتحرز بِرَبِّ الْفَلَقِ فعل بمعنى مفعول صفة مشبهة كقصص بمعنى مقصوص من فلق شق وفرّق وهو يعم جميع الموجودات الممكنة فإنه تعالى فلق بنور الإيجاد عنها سيما ما يخرج من أصل كالعيون من الجبال والأمطار من السحاب والنبات من الأرض والأولاد من الأرحام، وخص عرفا بالصبح وإطلاقهم المفلوق عليه مع قولهم فلق الله تعالى الليل عن الصبح على نحو إطلاق المسلوخ على الشاة مع قولهم: سلخت الجلد من الشاة وتفسيره بالمعنى العام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ولفظه الْفَلَقِ الخلق وأخرج الطستي عنه أنه فسره بالصبح.
وأنشد رضي الله تعالى عنه قول زهير:
الفارج الهم مسد ولا عساكره
…
كما يفرج غم الظلمة الفلق
وهو مروي عن جابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبئ عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجلد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه عز وجل، وقيل: إن في تخصيص الْفَلَقِ بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة فالدور كالقبور والنوم أخو الموت، والخارجون من منازلهم صباحا منهم من يذهب لنضرة وسرور، ومنهم من يكون من مطالبة ديون في غموم وشرور إلى أحوال أخر تكون للعباد هي أشبه شيء بما يكون لهم في المعاد، وفي تفسير القاضي: إن لفظ الرب هاهنا أوقع من سائر الأسماء أي التي يجوز إضافتها إلى الفلق على ما قيل لأن الإعاذة من المضار تربية وهو على تعميم الفلق ظاهر لشموله للمستعيذ والمستعاذ منه، وعلى تخصيصه بالصبح قيل لأنه مشعر بأنه سبحانه قادر مغيّر للأحوال مقلق للأطوار فيزيل الهموم والأكدار. وقال الرئيس ابن سينا بعد أن حمل الفلق على ظلمة العدم المفلوقة بنور الوجود: إن في ذكر الرب سرا لطيفا من حقائق العلم وذلك أن المربوب لا يستغني في شيء من حالاته عن الرب كما يشاهد في الطفل ما دام مربوبا، ولما كانت الماهيات الممكنة غير مستغنية عن إفاضة المبدأ الأول لا جرم ذكر لفظ الرب للإشارة إلى ذلك وفيه إشارة أخرى من خفيات العلوم وهو أن العوذ والعياذ في اللغة عبارة عن الالتجاء إلى الغير، فلما أمر بمجرد الالتجاء إلى الغير وعبّر عنه بالرب دل ذلك على أن عدم الحصول ليس لأمر يرجع إلى المستعاذ به المفيض للخيرات، بل لأمر يرجع إلى قابلها فإن من المقرر أنه ليس شيء من الكمالات وغيرها مبخولا به من جانب المبدأ الأول سبحانه،
بل الكل حاصل موقوف على أن يصرف المستعد جهة قبوله إليه وهو المعني بالإشارة النبوية:
«إن لربكم في أيام دهرهكم نفحات من رحمته ألا فتعرضوا لها»
بين أن نفحات الألطاف دائمة وإنما الخلل من المستعد انتهى. وفي رواية عن ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين أن الفلق جب في جهنم.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال: «هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتعوذ بالله تعالى منه» .
وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن عنبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فقال: «يا ابن عنبسة أتدري ما الفلق» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «بئر في جهنم فإذا سعرت البئر فمنها تسعر جهنم لتتأذى منه كما يتأذى ابن آدم من جهنم» .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن كعب قال: الفلق بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره
وعن الكلبي أنه واد في جهنم
وقيل هو جهنم وهو على ما في الكشاف من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان كخلق وخلقان وتخصيصه بالذكر قيل لأنه مسكن اليهود فعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم فقال: لا أبالي أليس من ورائهم الفلق وفسر بما روي آنفا عن كعب ومنهم الذي سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي تعليق العياذ بالرب مضافا إليه عدة كريمة بإعاذته صلى الله عليه وسلم من شرهم. ولا يخفى أن هذا مما لا يثلج الصدر وأظن ضعف الأخبار السالفة ويترجح في نظري المعنى الأول للفلق.
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي من شر الذي خلقه من الثقلين وغيرهم كائنا ما كان من ذوات الطباع والاختيار، والظاهر عموم الشر للمضار البدنية وغيرها. وزعم بعضهم أن الاستعاذة هاهنا من المضار البدنية وأنها تعم الإنسان وغيره مما ليس بصدد الاستعاذة، ثم جعل عمومها مدار إضافة الرب إلى الفلق بالمعنى العام وهو كما ترى. نعم الذي يتبادر إلى الذهن أن عمومه لشرور الدنيا وقال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل، وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ ولا يأبى ذلك نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوز بعضهم جعل ما مصدرية مع تأويل المصدر باسم المفعول وهو تكلف مستغنى عنه، وإضافة الشر إلى ما خَلَقَ قيل لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر الذي أوجد بمجرد أمر كن من غير مادة فهو خير محض منزه عن شوائب الشر بالمرة، والظاهر أنه عنى بعالم الأمر عالم المجردات وهم الملائكة عليهم السلام. وأورد عليه بعد غض الطرف عن عدم ورود ذلك في لسان الشرع أن منهم من يصدر منه شر كخسف البلاد وتعذيب العباد وأجيب بأن ذلك بأمره تعالى فلم يصدر إلّا لامتثال الأمر لا لقصد الشر من حيث هو شر فلا إيراد نعم يرد أن كونهم مجردين خلاف المختار الذي عليه سلف الأمة ومن تبعهم، بل هم أجسام لطيفة نورية ولو سلم تجردهم قلنا بعدم حصر المجردات فيهم كيف وقد قال كثير بتجرد الجن فقالوا: إنها ليست أجساما ولا حالة فيها بل هي جواهر مجردة قائمة بأنفسها مختلفة بالماهية بعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور والآفات، وبالجملة ما خلق أعم من المجرد على القول به وغيره والكل مخلوق له تعالى أي موجد بالاختيار بعد العدم إلّا أن المراد الاستعاذة مما فيه شر من ذلك. وقرأ عمرو بن فائد على ما في البحر «من شر» بالتنوين وقال ابن عطية: هي قراءة عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم
يخلق الشر. وحملوا ما على النفي وجعلوا الجملة في موضع الصفة أي من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى. وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولا يتعين في هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شَرِّ على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ما قبله عليه أي من شر شر ما خلق. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى إلى الإعاذة والغاسق الليل إذا اعتكر ظلامه، وأصل الغسق الامتلاء يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعا. وقيل: هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حدّ نهاره صائم. وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه إِذا وَقَبَ أي إذا دخل ظلامه في كل شيء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل في الدخول، ومنه قوله:
وقب العذاب عليهم فكأنهم
…
لحقتهم نار السموم فأخمدوا
وكذا في المغيب لما أن ذلك كالدخول في الوقب أي النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجيء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر، ومن أمثالهم الليل أخفى للويل وتفسير الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه. أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبي حاتم عن الضحاك. وروي عن الحسن أيضا وإليه ذهب الزجاج إلّا أنه جعل الغاسق بمعنى البارد وقال: أطلق على الليل لأنه أبرد من النهار. وقال محمد بن كعب: هو النهار، ووَقَبَ بمعنى دخل في الليل وهو كما ترى، وقيل القمر إذا امتلأ نورا على أن الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده. وقيل: التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان، وقيل التعبير عنه بذلك لأن جرمه مظلم وإنما يستنير من ضوء الشمس ووقوبه على القولين المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للمرض إلّا في ذلك الوقت. قيل: وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر بما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله تعالى من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب»
. ومن سلم صحة هذا لا ينبغي له العدول إلى تفسير آخر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت، وكأن اطلاق الغاسق عليها لامتلائها نورا. ونقل ابن زيد عن العرب أن الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند ذلك، وروى تفسيره بذلك غير واحد عن أبي هريرة مرفوعا
وفي الحديث: «إذا طلع النجم ارتفعت العاهة»
.
وفي بعض الروايات زيادة عن جزيرة العرب
وفي بعضها: «ما طلع النجم ذات غداة إلّا رفعت كل آفة أو عاهة أو خفت» .
وفيه روايات أخر فليراجع شرح المناوي الكبير للجامع الصغير. وقيل أريد بذلك الحية إذا لدغت وإطلاق الغاسق عليها لامتلائها سما وقتل، أريد سمها إذا دخل في الجسد، وأطلق عليه الغاسق لسيلانه من نابها وكلا القولين لا يعول عليه. وقيل هو كل شر يعتري الإنسان، والشر يوصف بالظلمة والسواد، ووقوبه هجومه. وذكر المجد الفيروزآبادىّ في القاموس في مادة وقب قولا في معنى الآية زعم أنه حكاه الغزالي وغيره عن ابن عباس ولا أظن صحة نسبته إليه لظهور أنه عورة بين الأقوال وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي ومن شر النفوس السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر إنما هو من جهة النفوس الخبيثة
والأرواح الشريرة وسلطانه منها. وقدر بعضهم النساء موصوفا والأول أولى ليشمل الرجال ويتضمن الإشارة السابقة ويطابق سبب النزول، فإن الذي سحره صلى الله عليه وسلم كان رجلا على المشهور كما ستسمع إن شاء الله تعالى.
وقيل: أعانه بعض النساء ولكون مثل ذلك من عمل النساء وكيدهن غلب المؤنث على المذكر هنا وهو جائز على ما فصله الخفاجي في شرح درة الغواص. والنفث النفخ مع ريق كما قال الزمخشري. وقال صاحب اللوامح: هو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه فإن كان يريق فهو تفل والأول هو الأصح لما نقله ابن القيم من أنهم إذا سحروا واستعانوا على تأثير فعلهم بنفس يمازجه بعض أجزاء أنفسهم الخبيثة. وقرأ الحسن «النّفّاثات» بضم النون وقرأ هو أيضا وابن عمر وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية «النافثات» وأبو الربيع والحسن أيضا «النفثات» بغير ألف كالحذرات، وتعريفها إما للعهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما
روى البخاري ومسلم وابن ماجة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا ثم قال:«أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجه الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال في بئر ذي أروان» .
قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال: «يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين» . قالت: فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: «لا أما أنا فقد عافاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت»
. وهذان الملكان على ما يدل عليه رواية ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، ومن حديثهما
في الدلائل للبيهقي بعد ذكر حديث الملكين فما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا ومعه أصحابه إلى البئر فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوفة فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مشاطة رأسه، وإذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فيها إبر مغروزة وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوذتين فقال: يا محمد قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وحل عقدة مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وحل عقدة حتى فرغ منهما وحل العقد كلها وجعل لا ينزع إلّا وجد لها ألما ثم يجد بعد ذلك راحة، فقيل: يا رسول الله لو قتلت اليهودي؟ قال: «قد عافاني الله تعالى وما يراه من عذاب الله تعالى أشد» .
وفي رواية إن الذي تولى السحر لبيد بن الأعصم وبناته، فمرض النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره، فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه والزبير وعمارا فنرحوا ماء البئر وهو كنقاعة الحناء ثم رفعوا راعوثة البئر فأخرجوا أسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاؤوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد عليه الصلاة والسلام خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين.
فقال صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال الخبر.
والرواية الأولى أصح من هذه.
وقال الإمام المازري: قد أنكر ذلك الحديث المبتدعة من حيث إنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، وإن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وأجيب بأن الحديث صحيح وهو غير مراغم للنص ولا يلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها لأن الكفار أرادوا بقولهم مسحور أنه مجنون وحاشاه، ولو سلم إرادة ظاهره فهو كان قبل
هذه القصة أو مرادهم أن السحر أثر فيه وأن ما يأتيه من الوحي من تخيلات السحر وهو كذب أيضا لأن الله تعالى عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها وهي مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له، وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة، وقيل إنه يخيل أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته عليه الصلاة والسلام على السداد. وقال القاضي عياض: قد جاءت روايات حديث عائشة مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده الشريف صلى الله عليه وسلم وظواهر جوارحه لا على عقله عليه الصلاة والسلام وقلبه واعتقاده، ويكون معنى ما في بعض الروايات حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وفي بعض أنه يخيل إليه أنه إلخ: أنه يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور، وكل ما جاء في الروايات من أنه عليه الصلاة والسلام يخيل إليه فعل شيء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الضلالة انتهى. وبعضهم أنكر أصل السحر ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، ومذهب أهل السنة وعلماء الأمة على إثباته وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام مخصوصة. والمزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلّا الساحر وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة ومع ذلك لا يخلو من تأثير نفساني، ثم إن القائلين به اختلفوا في القدر الذي يقع به فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلا له، فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة إلّا بأعلى أحوال المذكور، ومذهب الأشاعرة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك وهو الصحيح عقلا لأنه لا فاعل إلّا الله وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض، ولورود الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول. وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا، والفرق بين الساحر وبين النبيّ والولي على قول الأشاعرة بأنه يجوز خرق العادة على يد الساحر مبين في الكتب الكلامية وغيرها من شروح الصحاح. وقيل في الآية المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وهو يقرب من بدع التفاسير وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادي الإضرار بالمحسود قولا وفعلا ومن ذلك على ما قيل النظر إلى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب فإن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة ربما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شرا قد يصل إلى حد الإهلاك، ورب حاسد يؤذي بنظره بعين حسده نحو ما يؤذي بعد الحيات بنظرهن. وذكروا أن العائن والحاسد يشتركان في أن كلّا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو
من تريد أذاه إلّا أن العائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين والمعاينة والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور. وأيضا العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان وزرع وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه والتقييد بذلك إذ لا ضرر، بل قيل إن ضرر الحسد إنما يحيق بالحاسد لا غير كما
قال علي كرم الله تعالى
وجهه: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
وقال ابن المعتز:
اصبر على حسد الحسو
…
د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
وليعلم أن الحسد يطلق على تمني زوال نعمة الغير وعلى تمني استصحاب عدم النعمة ودوام ما في الغير من نقص أو فقر أو نحوه، والإطلاق الأول هو الشائع والحاسد بكلا الإطلاقين ممقوت عند الله تعالى وعند عباده عز وجل آت بابا من الكبائر على ما اشتهر بينهم، لكن التحقيق أن الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقا بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهدا نفسه لا إثم فيه بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه وحسن معاملته أخاه ثوابا عظيما لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى ويطلق الحسد على الغبطة مجازا وكان ذلك شائعا في العرف الأول وهي تمني أن يكون له مثل ما لأخيه من النعمة من غير تمني زوالها وهذا مما لا بأس به، ومن ذلك ما
صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله تعالى مالا وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس» .
وقال أبو تمام:
هم حسدوه لا ملومين مجده
…
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال أيضا:
وأعذر حسودك فيما قد خصصت به
…
إن العلا حسن في مثلها الحسد
هذا وقال الرئيس ابن سينا: الغاسق القوة الحيوانية فهي ظلمة غاسقة منكدرة على خلاف النفس الناطقة التي هي المستعيذة فإنها خلقت في جوهرها نقية صافية مبرأة عن كدورات المادة وعلائقها قابلة لجميع الصور والحقائق، وإنما تتلوث من الحيوانية والنفاثات في العقد إشارة إلى القوى النباتية من حيث إنها تزيد في المقدار من جميع جهاته الطول والعرض والعمق فكأنها تنفث في العقد الثلاث، ولما كانت العلاقة بين النفس الإنسانية والقوى النباتية بواسطة الحيوانية لا جرم قد ذكر القوى الحيوانية على القوى النباتية والشر اللازم من هاتين القوتين في جوهر النفس هو استحكام علائق البدن وامتناع تغذيها بالغذاء الموافق لها واللائق بجوهرها وهو الإحاطة بملكوت السماوات والأرض والانتقاش بالنقوش الباقية. وعنى بقوله تعالى وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ النزاع الحاصل بين البدن وقواه وبين النفس، فالحاسد هو البدن من حيث له القوتان والمحسود هو النفس فالبدن وبال عليها فما أحسن حالها عند الإعراض عنه وما أعظم لذتها بالمفارقة إن لم تكن تلوثت منه.
وقيل: الغاسق إشارة إلى المعدن والنفاثات إلى النباتات والحاسد إلى الحيوان، ولما كان الإنسان لا يتضرر عن الأجسام الفلكية وإنما يتضرر عن الأجسام العنصرية وهي إما معدن أو نبات أو حيوان أمر بالاستعاذة من شر كل منها وكلا القولين كما ترى والله تعالى أعلم.