الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البلد
مكية في قوله الجمهور بتمامها، وقيل مدنية بتمامها، وقيل مدنية إلّا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2] قيل ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح، وهي عشرون آية بلا خلاف. ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لمّا ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه هاهنا بعض ما يحصل به الاطمئنان فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد. وقوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ على ما اختاره في الكشاف اعتراض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلاك وادماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل
بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك، وفي تأكيد كون الإنسان في كيد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم، وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره: وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به. وأما غيرك فلا. وقال مجاهد: أحله الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل لا تؤاخذ به، وروي نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه: يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت أو دع وذلك يوم الفتح، وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعيد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب السير، ثم
قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد» فقال العباس: يا رسول الله إلّا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام: «إلّا الإذخر»
وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس. وحِلٌّ على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن الجمهور على الأول، وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالإقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أحل له وفي الإقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الإقسام بالبلد تعظيمه، وفي الاعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكنا فيه مباينا لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل: أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهله لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره. وقيل: الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول، والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشىء من قلة التتبع. والاعتراض لتشريفه صلى الله عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطا لإعظام البلد بالإقسام به وجعل بعض الأجلّة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلّا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل إن النزول ساعة أحلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأيّا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما.
وَوالِدٍ عطف على هذا البلد المقسم به وكذا قوله تعالى وَما وَلَدَ والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه جماعة أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير. وقيل: المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته، وقيل نوح عليه السلام وذريته، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم ادعى أنه ينبىء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن أجمعين. وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، وما ولد أمته
لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد»
ولقراءة عبد الله وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم، ونسب ذلك لابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال: الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء، ونسب إلى ابن جبير أيضا فما عليه نافية فيحتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل وَوالِدٍ والذي ما ولد وإضمار الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر، ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه أو المشهور في ذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتنكير والِدٍ على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد ب ما وَلَدَ العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي أي مولود عظيم الشأن وضعته، والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلا قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة. وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظّم يتعجب منه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال: كبد الرجل كبدا فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشدائد، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد يرثي أخاه:
يا عين هل بكيت أربد إذ
…
قمنا وقام الخضوم في كبد
أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفا ولم نجعله منكبا على وجهه. وقال ابن كيسان: أي منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلقناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن، وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه الأربعة السابقة في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ والمراد بالإنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان
آدم عليه السلام، وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء وأكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلا. والضمير في قوله تعالى أَيَحْسَبُ على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق مما يكابد منه صلى الله عليه وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة والسلام. وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغترا بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبن عشرة فينقطع قطعا ويبقى موضع قدميه، وقيل عمرو بن عبد ود، وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل أبو جهل بن هشام، وقيل الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل. وجعل عصام الدين الاستفهام للتعجيب على معنى أيظن أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه أَحَدٌ مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وأن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع، أي يقول ذلك وقت الاغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الاتفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعا وقيل: يقول ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مريدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل: يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام، فعن مقاتل أن الحارث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة. فقال: لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد ما تقدم أولا إلّا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة، والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ. وقرأ أبو جعفر «لبّدا» بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي «لبدا» بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد «لبدا» بضم اللام والباء.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس أو حرصا على معاداته صلى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز وجل يسأله عنه ويجازيه عليه.
. وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية الوجدان اللازم له، ولَمْ بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك. وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى: أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته ومحاسبته والاطلاع على حاله بقوله جل وعلا أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَلِساناً يفصح به عما في ضميره وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا
والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس:
فريقان منهم جازع بطن نخلة
…
وآخر منهم قاطع نجد كبكب
وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبيّن له تعالى شأن ما إن سلكه نجا وما إن سلكه هلك، ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير. وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروي ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور، والعرب تقسم بثديي الأم فتقول: أما ونجديها ما فعلت. ونسب هذا التفسير لعليّ كرم الله تعالى وجهه أيضا. والمذكور في الدر المنثور من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا
في مجمع البيان عنه كرم الله تعالى وجهه أن أناسا يقولون: إن النجدين الثديان، فقال: لا هما الخير والشر.
ولعل القائل بذلك رأى أن اللفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جدا فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال: قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية.
والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا، والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام المراد به الفعل والكسب ترشيح، ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه فَكُّ رَقَبَةٍ إلخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ وقال بعضهم: يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه وما أَدْراكَ إلخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فَكُّ رَقَبَةٍ وهو كما ترى. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار، وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء، ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال: بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة، وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ. وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه، ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤود يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله. وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال: ويدل عليه أنه لما قال سبحانه وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى. نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة. والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر:
فيا رب مكروب كررت وراءه
…
وعان فككت الغل منه ففداني
وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفرّاء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة بالإعتاق.
وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن «أعرابيا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: «أعتق النسمة وفك الرقبة» قال: أو ليسا بواحد؟ قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها» الحديث.
وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى، ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه. وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما
أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج»
. وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام. وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره. وقال الإمام: في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان: وهو الجوع العام، وقد يقال: سغب الرجل إذا جاع. وقال الراغب: هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له. ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب، وليل نائم ذو نوم، ونهار صائم ذو صوم يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى. قال الزجاج: وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر. قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
…
وذو قرابته في الحي مسرور
وفيه بحث. وفي إِطْعامٌ هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما. وقيل: إنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل أثرى. وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء. وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا بيت له وهو قريب مما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا: «هو الذي مأواه المزابل»
فإن صح لا يعدل عنه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلّا التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه إنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد، والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في البحر للتنويع. وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] وقول الحطيئة:
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
…
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وشذ قوله:
لا هم إن الحارث بن جبله
…
جنى على أبيه ثم قتله
وكان في جاراته لا عهد له
…
فأي أمر سيىء لا فعله
وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظا أو معنىّ، وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الاقتحام فيكون: فلا اقتحم العقبة في معنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما إلخ.
وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمرو لأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه الزجاج والفرّاء: يجوز أن يكون منه قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فإنه عطف على المنفي أعني اقْتَحَمَ فكأنه قيل فلا اقتحم ولا آمن، ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك مفسد للمعنى، ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه. وقيل: إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير. وقيل لا مخفف إلا للتخضيض كهلا، فكأنه قيل: فهلا اقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا اقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم. وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
…
عدد الرمل والحصى والتراب
وقولهم: لو أريد النفي لم يتصل الكلام بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه، قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكي لتحقق الوقوع عبر بالماضي. ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك. وقال: هي كلم والتكرر في نحو فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا يدل على الوجوب كما في لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] وعلى عدم التكرار جاء قول أمية السابق:
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبد لك لا ألما
والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير والنحويان «فكّ» فعلا ماضيا «رقبة» بالنصب «أو أطعم» فعلا ماضيا أيضا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض. ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل وقرأ أبو رجاء كذلك إلّا أنه قرأ «ذا مسبغة» بالألف على أن «ذا» منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسغبة، ويكون يتيما بدلا منه أو صفة له. وقرأ هو أيضا والحسن «أو إطعام في يوم ذا» بالألف أيضا على أنه مفعول ب للمصدر. وقرأ بعض التابعين «فكّ رقبة» بالإضافة «أو أطعم» فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر لتأويله به.
والتراخي المفهوم من ثُمَّ في قوله تعالى ثُمَّ كانَ إلخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سببا للنجاة وشكرا بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه. وقوله سبحانه وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به، والصبر على المعاصي وعلى المحن التي يبتلى بها الإنسان وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من
الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف. وذكر أن تَواصَوْا بِالصَّبْرِ إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمر أن اصدق مع الحق وخلق مع الخلق أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه لما مر غير مرة، أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم عَلَيْهِمْ نارٌ عظيمة مُؤْصَدَةٌ مطبقة من آصدت الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد. وظاهر كلام ابن عباس عدم الاختصاص بهم، ومن ذلك قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي
…
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده
ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز. فيظهر أنه من أوصدت وقيل: يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر:
قوما يعالج قملا أبناؤهم
…
وسلاسلا ملسا وبابا موصدا
والمراد مغلقة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم. وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام، والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين. ونقل عن الشمني أنه قال: الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
…
من نسل شيبان بين الضال والسلم
ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى. وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر، فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر. وبالجملة ما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر.