الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الإخلاص
وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالأساس فإن التوحيد أصل لسائر أصول الدين. وعن كعب كمال قال الحافظ ابن رجب: أسست السماوات السبع والأرضون السبع على هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ورواه الزمخشري عن أبي وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك، وكيف كان فالمراد به كما قال: ما خلقت السماوات والأرضون إلّا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته التي تضمنتها هذه السورة. وقيل: معنى تأسيسها عليها أنها إنما خلقت بالحق كما قال تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: 16] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39] وهو العدل والتوحيد وهو إن لم يرجع إلى الأول لا يخلو عن نظر. وقيل: المراد أن مصحح إيجادهما أي بعد إمكانهما الذاتي ما أشارت إليه السورة من وحدته عز وجل واستحالة أن يكون له سبحانه شريك إذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لإمكان التمانع كما قرره بعض الأجلّة في توجيه برهانية قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وفيه بعد. وتسمى أيضا سورة قل هو الله أحد كما هو مشهور يشير إليه الأثر أيضا، والمقشقشة لما سمعت في تفسير سورة الكافرون، وسورة التوحيد، وسورة التفريد، وسورة التجريد، وسورة النجاة، وسورة الولاية، وسورة المعرفة لأن معرفة الله تعالى إنما تتم بمعرفة ما فيها.
وفي أثر أن رجلا صلى فقرأها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا عبد عرف ربه» .
وسورة الجمال قيل لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله جميل يحب الجمال» فسألوه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أحد صمد لم يلد ولم يولد»
ولا أظن صحة الخبر، وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال: انسب لنا ربك على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وقيل لما
أخرجه الطبراني من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرايفي عن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل شيء نسبة ونسبة الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد»
وهو كما قال الحافظ ابن رجب ضعيف جدا وعثمان يروي المناكير. وفي الميزان أنه موضوع، وسورة الصمد، وسورة المعوذة لما
أخرج النسائي والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن عبد الله بن أنيس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدري ثم قال: «قل» فلم أدر ما أقول، ثم قال:«قل هو الله أحد» فقلت حتى فرغت منها ثم قال: «قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق» فقلت حتى فرغت منها، ثم قال:«قل أعوذ برب الناس» فقلت حتى فرغت منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط»
. وسورة المانعة قيل لما روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع كربات القبر ونفحات النيران. والظاهر عدم صحة هذا الخبر، ويعارضه ما
أخرجه ابن الضريس عن أبي أمامة: «أربع آيات نزلت من
كنز العرش لم ينزل منه غيرهن أم الكتاب وآية الكرسي وخاتمة سورة البقرة والكوثر» .
وحكمه حكم المرفوع بل أخرجه الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما بالسند عن أبي أمامة مرفوعا وسورة المحضر قيل لأن الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها إذا قرئت، وسورة المنفرة قيل لأن الشيطان ينفر عند قراءتها، وسورة البراءة قيل لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يقرؤها فقال: «أما هذا فقد برىء من الشرك»
ولم أدر من روى ذلك. نعم
روى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر قال: سمعت رجلا يقول: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فقال: «قد برىء من الشرك» ، وسمع آخر يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال «غفر له»
وعليه فألحق بهذا الاسم سورة الكافرون ولعل الأولى أن يقال: سميت بذلك لما
في حديث الترمذي عن أنس: «من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كتب الله تعالى له براءة من النار»
. وسورة المذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد، وسورة النور قيل لما
روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد» .
وسورة الإيمان لأنه لا يتم بدون ما تضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الأسماء الإمام الرازي وبين وجه التسمية بها بما بيّن، والرجل رحمه الله تعالى ليس بإمام في معرفة أحوال المرويات لا يميز غثها من سمينها أو لا يبالي بذلك فيكتب ما ظفر به وإن عرف شدة ضعفه وهي مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك قاله في البحر. وخبر ابن عباس السابق إن صح ظاهر في أنها عنده مكية. وفي الإتقان فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية اه. وعلى ما في الكتابين لا يخفى ما في قول الدواني إنها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الاطلاع. وآيها خمس في المكي والشامي، أربع في غيرهما. ووضعت هنا قيل للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الأولى أنها متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات ولذا يسميان المقشقشتين، وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ما قاله بعض الأئمة كركعتي الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة إلّا أنه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في إيلائها سورة تبت ردا على أبي لهب بخصوصه وجاء فيها أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها منها ما تقدم آنفا.
وروى مبارك بن فضالة عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] قال: «إن حبك إياها أدخلك الجنة» .
وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي النضر عن مبارك المذكور عن أنس. وذكر البخاري أن حبها يوجب دخول الجنة تعليقا.
وروى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وجبت» قلت: وما وجبت؟ قال: «الجنة» . وأخرجه النسائي والترمذي
وقال حديث صحيح لا نعرفه إلّا من حديث مالك.
وأخرج أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»
.
وفي المسند عن محجن بن الأدرع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول: إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا
أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: «قد غفر له قد غفر له قد غفر له»
.
وأخرج البخاري ومالك وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»
.
وأخرج أحمد والنسائي في اليوم والليلة من طريق هشيم عن أبيّ بن كعب أو رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ بثلث القرآن» .
وفي رواية يوسف بن عطية الصفار بسنده عن أبيّ مرفوعا: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن.
وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله تعالى وآمن به» .
وجاء أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار مرفوعة وموقوفة.
وفي المسند من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليلة كله بقل هو الله أحد فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل نصف القرآن أو ثلثه»
وحمل على الشك من الراوي والروايات تعين الثلث. واختلف في المراد بذلك فقيل: المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ إلى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن وإلى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا في بيان ذلك فقيل إن القرآن يشتمل على قصص وأحكامها وعقائد وهي كلها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار. وقال الغزالي في الجواهر ما حاصله: هي عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة التي هي أم ما في القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم ما بينهما أعني الصراط المستقيم. وقال الجوني: المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ويحصل الإيمان وهي معرفة الله تعالى والاعتراف بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الأصل الأول فهي ثلثه من هذا الوجه. وقيل القرآن قسمان خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى. وأيّا ما كان قيل لا تنافي بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة في الكشاف على تقدير ثبوتها لجواز أن يقال هي عدل القرآن باعتبار أن المقصود التوحيد وما عداه ذرائع إليه. ويؤيد اعتبار الأجزاء أنفسها دون الثواب ما
في صحيح مسلم من طريق قتادة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن» ؟ قالوا: نعم. قال: «فإن الله تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فقل هو الله أحد ثلث القرآن» .
وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا لظواهر الأحاديث. وضعف ذلك ابن عقيل وقال: لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات»
فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة، والدواني أورد هذا إشكالا على هذا القول ثم أجاب بأن للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قراءة الحروف وإجماليا بسبب ختمه القرآن فثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعدل ثلث ثواب الختم الإجمالي لا غيره، ونظيره إذا عيّن أحد لمن يبني له دارا في كل يوم دنانير وعيّن له إذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية. وفي شرح البخاري للكرماني فإن قلت المشقة في قراءة الثلث أكثر منها في قراءتها فكيف يكون حكمه حكمها؟ قلت: يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب مرة منها لأن التشبيه في الأصل دون الزائد وتسع منها في مقابلة زيادة المشقة. وقال الخفاجي بعد أن قال ليس فيما ذكر ما يثلج الصدر ويطمئن له البال والذي عندي في ذلك أن للناظر في معنى كلام الله تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالي له وإن لم يفهمه ثواب آخر، فالمراد أن من تلاها مراعيا حقوق أدائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تأملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر في معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة
الله تعالى وتوحيده. ولا بدع في أشرف المعاني إذا ضم لبعض من أشرف الألفاظ أن يعدل من جنس تلك الألفاظ مقدارا كثيرا كلوح ذهب زنته عشرة مثاقيل مرصع بأنفس الجواهر يساوي ألف مثقال ذهبا فصاعدا انتهى. ولا أرى له كثير امتياز على غيره مما تقدم.
والذي اختاره أن يقال لا مانع من أن يخص الله عز وجل بعض العبادات التي ليس فيها كثير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو جنسها وأشق منها بأضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذي لا حجر عليه ولا يتناهى جوده وكرمه فلا يبعد أن يتفضل جل وعلا على قارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك أضعافا مضاعفة جدا لقارىء الإخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارئ ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة، ويفوض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه وكذا يقال في أمثالها وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وليس هذا بأبعد ولا أبدع من تخصيص بعض الأزمنة والأمكنة المتحدة الماهية بأن للعبادة منه ولو قليلة من الثواب ما يزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة في مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الأزمنة والأمكنة بوجوب العبادة فيه وبعضها بحرمتها فيه وله سبحانه في كل ذلك من الحكم ما هو به أعلم. وقال ابن عبد البر السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم (1) ، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي الذي افتتح به الإمام الكلام في هذه السورة الكريمة خرجه الطبراني وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والأحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفي في فضلها، بل قيل لذلك إنها أفضل سورة في القرآن ومنهم من استدل عليه بما
روى الدارمي في مسنده عن أبي المغيرة عن صفوان الكلاعي قال: قال رجل:
يا رسول الله أي سور القرآن أعظم؟ قال: «قل هو الله أحد»
.
وفي المسند من طريقي معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم» ؟ قلت: بلى. قال: فأقرأني قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ثم قال:«يا عقبة لا تنساهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن» .
وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسّنه ولا يدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقا بل على أنها من الأفضل. وقال ابن الحصاد: العجب ممن ينكر الاختلاف في الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه، واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم: الفضل راجع إلى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا. وقيل: بل يرجع لذات اللفظ فإن تضمنته سورة الإخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا في تبت مثلا، فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها. ونقل الحليمي عن البيهقي أن معنى التفضيل بين الآيات
(1) قوله السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم وكذلك حديث معاوية إلخ كذا في النسخ لكن في نسخة المؤلف بعد قوله وأسلم ما نصه ثم أسند إلى إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل
قوله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن
ما وجهه فلم يقم فيها على أمر ثم ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما وهما إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة وقد سئلا عنها ومراده من ذلك تأييد ما ادعي من أن السكوت أسلم وهو كذلك لكن على الوجه الذي قررناه وقد ورد في تكرار قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك وعشر مرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها كما قال الحافظ ابن رجب ضعف وكذلك حديث إلخ لكنه مضروب عليه في نسخته ولا يخفى عليك الحال في كلا الأمرين اه منه.
والسور يرجع إلى أشياء أحدها أن يكون العمل بها أولى من العمل بأخرى وأعود على الناس وعلى هذا يقال في آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأنه إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتنشير ولا غنى للناس عن هذه الأمور وقد يستغنون عن القصص فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يجعل تبعا لما لا بد منه. الثاني أن يقال الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته عز وجل أفضل بمعنى أنها أسنى وأجلّ قدرا مما لا تشتمل على ذلك.
الثالث أن يقال سورة خير من سورة، أو آية خير من آية بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ويتأدى منه بتلاوتها عبادة كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله تعالى، ويتأدى بتلاوتها عبادة الله سبحانه لما فيها من ذكره تعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر وبركته. وأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم. وقد يقال إن سورة أفضل من سورة لأن الله تعالى جعل قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب سبحانه لغيرها وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا وهذا نظير ما يقال في تفضيل الأزمنة والأمكنة بعضها على بعض على ما سمعت آنفا. وبالجملة التفضيل بأحد هذه الاعتبارات لا ينافي كون الكل كلام الله عز وجل ومتحد النسبة إليه سبحانه كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ المشهور أن هو ضمير الشأن ومحله الرفع على الابتداء خبره الجملة بعده ومثلها لا يكون لها رابط لأنها عين المبتدأ في المعنى، والسر في تصديرها به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة التحقيق والتقرير فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلّا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن.
وقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن له مع إن حسنا بل لا يصح بدونها غير مسلّم. نعم قال الشهاب القاسمي: إن هاهنا إشكالا لأنه إن جعل الخبر مجموع معنى الجملة المبين في باب القضية أعني مجموع الله ومعنى أَحَدٌ والنسبة بينهما ففيه أن الظاهر أن ذلك المجموع ليس هو الشأن وإنما الشأن مضمون الجملة الذي هو مفرد أعني الوحدانية وإن جعل مضمون الجملة الذي هو مفرد فتخصيص عدم الرابط بالجملة المخبر بها عن ضمير الشأن غير متجه إذ كل جملة كذلك لأن الخبر لا بد من اتحاده بالمبتدأ بحسب الذات، ولا يتحد به كذلك إلّا مضمون الجملة الذي هو مفرد. وأجيب باختيار الشق الأول كما يرشد إليه تعبيرهم عن هذا الضمير أحيانا بضمير القصة ضرورة أن مضمون الجملة الذي هو مفرد ليس بقصة، وإنما القصة معناها المبين في باب القضية، وأيضا هم يعدون مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: «أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
من الجمل التي هي عين المبتدأ في المعنى الغير المحتاجة إلى الضمير لذلك. ومن المعلوم أن يقال ليس المضمون الذي هو مفرد بل
هو الجملة بذلك المعنى، ولذا تراهم يوجبون كسر همزة إن بعد القول وكذا تمثيلهم لها بنطقي الله حسبي وكفى أي منطوقي الذي أنطق به ذلك إذ من الظاهر أن ما نطق به هو الجملة بالمعنى المعروف، وقد دل كلام ابن مالك في التسهيل على المراد بكون الجملة التي لا تحتاج إلى رابط عين المبتدأ أنها وقعت خبرا عن مفرد مدلوله جملة وهو ظاهر فيما قلنا أيضا، وكون ذلك شأنا أي عظيما من الأمور باعتبار ما تضمنه ووصف الكلام بالعظم ومقابله بهذا الاعتبار شائع ذائع. وقال العلامة أحمد الغنيمي: إن أريد أنها عينه بحسب المفهوم فهو مشكل لعدم الفائدة، وإن أريد عينه بحسب المصدق مع التغاير في المفهوم كما هو شأن سائر الموضوعات مع محمولاتها فقد يقال إنه مشكل أيضا إذ ما صدق ضمير الشأن أعم من الله أحد والخاص لا يحمل على العام في القضايا الكلية، ودعوى الجزئية في هذا المقام ينبو عنه تصريحهم بأن ضمير الشأن لا يخلو عن إبهام. وبعبارة أخرى وهي إن ما صدق عليه ضمير الشأن مفرد وما صدق الجملة مركب ولا شيء من المفرد بمركب، ولذا تراهم يؤولون الجملة الواقعة خبرا بمفرد صادق على المبتدأ ليصح وقوعها خبرا والتزام ذلك في الجملة الواقعة خبرا عن ضمير الشأن ينافيه تصريحهم بأنها غير مؤولة بالمفرد وإن كانت في موقعه.
وأجيب بأن معنى قولهم هو ضمير الشأن أنه ضمير راجع إليه وموضوع موضعه وإن لم يسبق له ذكر للإيذان بأن من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد وإليه يشير كل مشير وعليه يعود كل ضمير، وقولهم في عد الضمائر التي ترجع إلى متأخر لفظا ورتبة منها ضمير الشأن فإنه راجع إلى الجملة بعده مسامحة ارتكبوها لأن بيان الشأن وتعيين المراد به بها فما صدق الضمير هو بعينه ما صدق الشأن الذي عاد هو عليه فيختار الشق الثاني، فإما أن يراد بالشأن الشأن المعهود ادعاء وتجعل القضية شخصية نظير هذا زيد، وإما أن يراد المعنى الكلي وتجعل القضية مهملة وهي في قوة الجزئية كأنه قيل بعض الشأن الله أحد.
وجاء الإبهام الذي ادعي تصريحهم به من عدم تعين البعض قبل ذكر الجملة وحملها عليه وما صدق عليه الشأن كما يكون مفردا يكون جملة فليكن هنا كذلك، واستمجد الأول واحتمال الكلية مبالغة نحو كل الصيد في جوف الفرا كما ترى فليتأمل. وجوزوا أن يكون هو ضمير المسئول عنه أو المطلوب صفته أو نسبته،
فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والبخاري في تاريخه والترمذي والبغوي في معجمه وابن عاصم في السنة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد انسب لنا ربك؟
فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ السورة
.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن وآخرون عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
إلخ.
وفي المعالم عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى الله» قالا: صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة أو من حديد أو من خشب؟ فنزلت هذه السورة فأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامرا بالطاعون
.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله تعالى السورة
. وكون السائلين اليهود مروي عن الضحاك وابن جبير وقتادة ومقاتل وهو ظاهر في أن السورة مدنية. وجاز رجوع الضمير إلى ذلك للعلم به من السؤال وجرى ذكره فيه وهُوَ عليه مبتدأ، والاسم الجليل خبره، وأَحَدٌ خبر بعد خبر. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من الاسم الجليل على ما هو المختار من جواز إبدال النكرة من المعرفة، وأن يكون
خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد. وأجاز أبو البقاء أن يكون الاسم الأعظم بدلا من هُوَ وأَحَدٌ خبره واللَّهُ تعالى وتقدس علم على الذات الواجب الوجود كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وغيرهم خلافا للمعتزلة حيث قالوا: العلم في حقه سبحانه محال لأن أحدا لا يعلم ذاته تعالى المخصوص بخصوصية حتى يوضع له وإنما يعلم بمفهومات كلية منحصرة في فرد، فيكون اللفظ موضوعا لأمثال تلك المفهومات الكلية فلا يكون علما، ورد بأنه تعالى عالم بخصوصية ذاته فيجوز أن يضع لفظا بإزائه بخصوصه فيكون علما وهذا على مذهب القائلين بأن الوضع هو الله تعالى ظاهر إلّا أنه يلزم أن يكون ما يفهم من لفظ الله غير ما وضع له إذ لا يعلم غيره تعالى خصوصية ذاته تعالى التي هي الموضوع له على هذا التقدير، والقول بأنه يجوز أن يكون المفهوم الكلي آلة للوضع ويكون الموضوع له هو الخصوصية التي يصدق عليها المفهوم الكلي كما قيل في هذا ونظائره يلزم عليه أيضا أن يكون وضع اللفظ لما لا يفهم منه فإنّا لا نفهم من أسمائه تعالى إلّا تلك المفهومات الكلية. والظاهر أن الملائكة عليهم السلام كذلك لاحتجاب ذاته عز وجل عن غيره سبحانه ومن هنا استظهر بعض الأجلّة ما نقل عن حجة الإسلام أن الأشبه أن الاسم الجليل جار في الدلالة على الموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي مجرى الإعلام، أي وليس بعلم وقد مر ما يتعلق بذلك أول الكتاب فارجع إليه، بقي في هذا المقام بحث وهو أن الاعلام الشخصية كزيد إما أن يكون كل منها موضوعا للشخص المعين كما هو المتبادر المشهور، فإذا أخبر أحد بتولد ابن له فسماه زيدا مثلا من غير أن يبصره يكون ذلك اللفظ اسما للصورة الخيالية التي حصلت في مخيلته، وحينئذ إذا لم يكن المولود بهذه السورة لم يكن إطلاق الاسم عليه بحسب ذلك الوضع، ولو قيل بكونه موضوعا للمفهوم الكلي المنحصر في ذلك الفرد لم يكن علما كما سبق. ثم إذا سمعنا علما من تلك الأعلام الشخصية ولم نبصر مسماه أصلا فإنّا لا نفهم الخصوصية التي هو عليها بل ربما تخيلناه على غير ما هو عليه من الصور، وإما أن يكون جميع تلك الصور الخالية موضوعا له فيكون من قبيل الألفاظ المشتركة بين معان غير محصورة، وإما أن يكون الموضوع له هو الخصوصية التي هو عليها فقط فيكون غيرها خارجا عن الموضوع له فيكون فهم غيرها من الخصوصيات منه غلطا، فإما أن يترك دعوى كون تلك الأعلام جزئيات حقيقية ويقال إنها موضوعات للمفهومات الكلية المنحصرة في الفرد، أو يلتزم أحد الاحتمالات الأخر وكلا الوجهين محل تأمل كما ترى فتأمل. وأَحَدٌ قالوا همزته مبدلة من الواو وأصله وحد وإبدال الواو المفتوحة همزة قليل ومنه قولهم: امرأة أناة يريدون وناة لأنه من الونى وهو الفتور وهذا بخلاف أحد الذي يلازم النفي ونحوه. ويراد به العموم كما في قوله تعالى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة:
47]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي»
وقوله تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم: 98] وقوله سبحانه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] وقوله عز وجل وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] فإن همزته أصلية. وقيل الهمزة فيه أصلية كالهمزة في الآخر، والفرق بينهما قال الراغب إن المختص بالنفي منهما لاستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا مفترقين، ولهذا لم يصح استعماله في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ولا يصح إثباتهما. فلو قيل: في الدار أحد، لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين وذلك ظاهر الإحالة ولتناول ذلك ما فوق الواحد يصح أن يقال ما من أحد فاضلين وعليه الآية المذكورة آنفا. والمستعمل في الإثبات على ثلاثة أوجه: الأول أن يضم إلى العشرات نحو أحد عشر وأحد وعشرون. والثاني أن يستعمل مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول كما في
قوله تعالى أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [يوسف: 41] وقولهم يوم الأحد أي يوم الأول. والثالث أن يستعمل مطلقا وصفا وليس ذلك إلّا في وصف الله تعالى وهو وإن كان أصله واحدا إلّا أن أحدا يستعمل في غيره سبحانه نحو قول النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنس وحد
انتهى. وقال مكي: أصل أحد واحد فأبدلوا الواو همزة فاجتمع ألفان لأن الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا. وفرق ثعلب بين أحد وواحد بأن أحدا لا يبنى عليه العدد ابتداء فلا يقال أحد واثنان كما يقال واحد واثنان، ولا يقال رجل أحد كما يقال رجل واحد ولذلك اختص به سبحانه وفرق بعضهم بينهما أيضا بأن الأحد في النفي نص في العموم بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره، فيقال: ما في الدار أحد ولا يقال بل اثنان. ويجوز أن يقال ما في الدار واحد بل اثنان ونقل عن بعض الحنفية أنه قال في التفرقة بينهما إن الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال، والواحدية تحتملها لأنه يقال مائة واحدة وألف واحد ولا يقال مائة أحد إلّا ألف أحد وبني على ذلك مسألة الإمام محمد بن الحسن التي ذكرها في الجامع الكبير إذا كان لرجل أربع نسوة فقال: والله لا أقرب واحدة منكن صار موليا منهن جميعا ولم يجز أن يقرب واحدة منهن إلّا بكفارة، ولو قال: والله لا أقرب إحداهما كن لم يصر موليا إلّا من إحداهن والبيان إليه. وفرق الخطابي بأن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، ونقل عن المحققين التفرقة بعكس ذلك ولما لم ينفك في شأنه تعالى أحد الأمرين من الآخر قيل الواحد الأحد في حكم اسم واحد، وفسر الأحد هنا ابن عباس وأبو عبيدة كما قال الجوزي بالواحد وأيد بقراءة الأعمش «قل هو الله الواحد» . وفسر بما لا يتجزأ ولا ينقسم. وقال بعض الأجلّة: إن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك، فالمراد به هنا حيث أطلق المتصف بالواحدية التي لا يمكن أن يكون أزيد منها ولا أكمل فهو ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية، وهو مأخوذ من كلام الرئيس أبي علي بن سينا في تفسيره السورة الجليلة حيث قال إن أحدا دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية (1) وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول وكثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة، والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم وذلك يتضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وقال ابن عقيل الحنبلي: الذي يصح لنا من القول مع إثبات الصفات أنه تعالى واحد في إلهيته لا غير. وقال غيره من السفليين كالحافظ ابن رجب: هو سبحانه الواحد في إلهيته وربوبيته فلا معبود ولا رب سواه عز وجل، واختار بعد وصفه تعالى بما ورد له سبحانه من الصفات أن المراد الواحدية الكاملة وذلك على الوجهين كون الضمير للشأن وكونه للمسؤول عنه، ولا يصح أن يراد الواحد بالعدد أصلا إذ يخلو الكلام عليه من الفائدة. وذكر بعضهم أن الاسم الجليل يدل على جميع
(1) قوله لا كثرة معنوية إلخ كذا في النسخ ولعله سقط من قلم المؤلف ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية وليحرر المنقول عن ابن سينا اه.
صفات الكمال وهي الصفات الثبوتية. ويقال لها صفات الإكرام أيضا. والأحد يدل على جميع صفات الجلال وهي الصفات السلبية ويتضمن الكلام على كونهما خبرين الإخبار بكون المسئول عنه متصفا بجميع الصفات الجلالية والكمالية. وتعقب بأن الإلهية جامعة لجميع ذلك بل كل واحد من الأسماء الحسنى كذلك لأن الهوية إلهية لا يمكن التعبير عنها لجلالتها وعظمتها إلّا بأنه هو هو، وشرح تلك الهوية بلوازم منها ثبوتية ومنها سلبية واسم الله تعالى متناول لهما جميعا فهو إشارة إلى هويته تعالى والله سبحانه كالتعريف لها فلذا عقب به، وكلام الرئيس ينادي بذلك وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وقرأ عبد الله وأبي «هو الله أحد» بغير «قل» وقد اتفقوا على أنه لا بد منها في قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] ولا تجوز في تبت، فقيل: لعل ذلك لأن سورة الكافرين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو موادعته عليه الصلاة والسلام لهم ومثل ذلك يناسب أن يكون من الله تعالى لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالإنذار والجهاد، وسورة تبت معاتبة لأبي لهب والنبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم وأدب جسيم، فلو أمر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه صلى الله عليه وسلم وهذه السورة توحيد وهو يناسب أن يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى. وقيل في وجه قل في سورة الكافرون إن فيها ما لا يصح أن يكون من الله تعالى ك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: 3] فلا بد فيها من ذكر قل وفيه نظر لأنه لا يلزم ذكره بهذا اللفظ فافهم. وقال الدواني في وجه ترك قل في تبت: لا يبعد أن يقال إن القول بمعاتبة أبي لهب إذا كان من الله تعالى كان أدخل في زجره وتفضيحه. وقيل: فيه رمز إلى أنه لكونه على العلات عمه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يهينه بمثل هذا الكلام إلّا الذي خلقه إذ لا يبعد أن يتأذى مسلم من أقاربه لو سبه أحد غيره عز وجل
فقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر المنقول عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل، فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب. فأقبلت عليه فقالت: ذكر الله تعالى أبي بنباهته وشرفه وترك أباك بجهالته ثم ذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: «لا يؤذين مسلم بكافر»
ثم إن إثبات قل على قراءة الجمهور في المصحف والتزام قراءتها في هذه السورة ونظائرها مع أنه ليس من دأب المأمور بقل أن يتلفظ في مقام الائتمار إلّا بالمقول. قال الماتريدي في التأويلات: لأن المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل أحد ابتلي بما ابتلى به المأمور فأثبت ليبقى على مر الدهور منّا على العباد. وقيل يمكن أن يقال المخاطب بقل نفس التالي كأنه تعالى أعلم به أن كل أحد عند مقام هذا المضمن ينبغي أن يأمر نفسه بالقول به وعدم التجاوز عنه فتأمل والله تعالى الموفق.
وقوله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ مبتدأ وخبر وقيل الصَّمَدُ نعت والخبر ما بعده وليس بشيء. والصَّمَدُ قال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أنه السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم. وقال الزجاج: هو الذي ينتهي إليه السؤدد ويصمد إليه أي يقصده كل شيء وأنشدوا:
لقد بكر الناعي بخير بني أسد
…
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقوله:
علوته بحسام ثم قلت له
…
خذها خزيت فأنت السيد الصمد
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وعن أبي هريرة
هو المستغني عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد، وعن ابن جبير هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وعن الربيع هو الذي لا تعتريه الآفات، وعن مقاتل بن حيان هو الذي لا عيب فيه، وعن قتادة هو الباقي بعد خلقه ونحوه قول معمر هو الدائم وقول مرة الهمداني: هو الذي لا يبلى ولا يفنى، وعنه أيضا: هو الذي يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: لا أعلمه إلّا قد رفعه قال: «الصمد الذي لا جوف له» وروي عن الحسن ومجاهد ومنه قوله:
شهاب حروب لا تزال جياده
…
عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال: الصمد الذي ليس له أحشاء وهو رواية عن ابن عباس وعن عكرمة هو الذي لا يطعم. وفي رواية أخرى الذي لم يخرج منه شيء. وعن الشعبي هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وعن طائفة منهم أبي بن كعب والربيع بن أنس أنه الذي لم يلد ولم يولد كأنهم جعلوا ما بعده تفسير إله والمعول عليه تفسيرا بالسيد الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج والمطالب، وتفسيره بالذي لا جوف له وما عداهما إما راجع إليهما أو هو مما لا تساعد عليه اللغة. وجعل معنى كونه تعالى سيد أنه مبدأ الكل وفي معناه تفسيره بالغنى المطلق المحتاج إليه ما سواه. وقال: يحتمل أن يكون كلا المعنيين مرادا فيكون وصفا له تعالى بمجموع السلب والإيجاب وهو ظاهر في جواز استعمال المشترك في كلا معنييه كما ذهب إليه الشافعي، والذي اختاره تفسيره بالسيد الذي يصمد إليه الخلق وهو فعل بمعنى مفعول من صمد بمعنى قصد فيتعدى بنفسه وباللام، وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خلاف فيه وإن كان في إطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح إطلاقه عليه عز وجل كما
في الحديث: «السيد الله» .
وقال السهيلي: لا يطلق عليه تعالى مضافا فلا يقال سيد الملائكة والناس مثلا وقصد الخلق إياه تعالى بالحوائج أعم من القصد الإرادي والقصد الطبيعي والقصد بحسب الاستعداد الأصلي الثابت لجميع الماهيات إذ هي كلها متوجهة إلى المبدأ تعالى في طلب كمالاتها منه عز وجل وتعريفه دون أحد قيل: لعلمهم بصمديته تعالى دون أحديته.
وتعقب بأنه لا يخلو عن كدر لأن علم المخاطب بمضمون الخبر لا يقتضي تعريفه بل إنما يقتضي أن لا يلقى إليه إلا بعد تنزيله منزلة الجاهل لأن إفادة لازم فائدة الخبر بمعزل عن هذا المقام، فالأولى أن يقال إن التعريف لإفادة الحصر كقولك: زيد الرجل ولا حاجة إليه في الجملة السابقة بناء على أن مفهوم أحد المنزه عن أنحاء التركيب والتعدد مطلقا إلى آخر ما تقدم مع أنهم لا يعرفون أحديته تعالى ولا يعترفون بها. واعترض بأنه يقتضي أن الخبر إذا كان معلوما للمخاطب لا يخبر به إلّا بتنزيله منزلة الجاهل أو إفادته. لازم فائدة الخبر أو إذا قصد الحصر وهو ينافي ما تقرر في المعاني من أن كون المبتدأ والخبر معلومين لا ينافي كون الكلام مفيدا للسامع فائدة مجهولة لأن ما يستفيده السامع من الكلام هو انتساب أحدهما للآخر، وكونه هو هو فيجوز أن يقال هنا إنهم يعرفونه تعالى بوجه ما ويعرفون معنى المقصود سواء كان هو الله سبحانه أو غيره عندهم ولكن لا يعرفون أنه هو سواء كان بمعنى الفرد الكامل أو الجنس فعينه الله تعالى لهم. وقيل: إن أحد في غير النفي والعدد لا يطلق على غيره تعالى فلم يحتج إلى تعريفه بخلاف الصمد فإنه جاء في كلامهم إطلاقه على غيره عز وجل، أي كما في البيتين السابقين فلذا عرف. وتكرار الاسم الجليل دون الإتيان بالضمير قيل للإشعار بأن من لم يتصف بالصمدية لم يستحق الألوهية وذلك على ما صرح به الدواني مأخوذ من إفادة تعريف الجزأين الحصر، فإذا قلت: السلطان العادل، أشعر بأن من لم يتصف بالعدل لم يستحق السلطنة، وقيل ذلك لأن تعليق الصمد
بالله يشعر بعلية الألوهية بناء على أنه في الأصل صفة وإذا كانت الصمدية نتيجة للألوهية لم يستحق الألوهية من لم يتصف بها، وبحث فيه بأن الألوهية فيما يظهر للصمدية لأنه إنما يعبد لكونه محتاجا إليه دون العكس إلّا أن يقال المراد بالألوهية مبدأها وما تترتب عليه لا كونه معبودا بالفعل، وإنما لم يكتف بمسند إليه واحد لأحد، والصمد هو الاسم الجليل بأن يقال الله الأحد الصمد للتنبيه على أن كلّا من الوصفين مستقل في تعيين الذات، وترك العاطف في الجملة المذكورة لأنها كالدليل عليه فإن من كان غنيا لذاته محتاجا إليه جميع ما سواه لا يكون إلّا واحد أو ما سواه لا يكون إلّا ممكنا محتاجا إليه، أو لأنها كالنتيجة لذلك بناء على أن الأحدية تستلزم الصمدية والغنى المطلق. وبالجملة هذه الجملة من وجه تشبه الدليل ومن وجه تشبه النتيجة فهي مستأنفة أو مؤكدة. وقرأ أبان بن عثمان وزيد بن عليّ ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وأبو عمر وفي رواية يونس ومحبوب والأصمعي واللؤلؤي وعبيد أحد الله بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب، وأكثر ما يوجد في الشعر كقول أبي الأسود الدؤلي:
فألفيته غير مستعتب
…
ولا ذاكر الله إلّا قليلا
وقول الآخر
عمرو الذي هشم الثريد لضيفه
…
ورجال مكة مسنتون عجاف
والجيد هو التنوين وكسره لالتقاء الساكنين. وقوله تعالى لَمْ يَلِدْ إلخ على نحو ما سبق ونفى ذلك عنه تعالى لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه وذلك يقتضي التركيب المنافي للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه تعالى أحد لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن لأن الولد على ما قيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك والاقتصار على الماضي دون أن يقال لن يلد لوروده ردا على من قال إن الملائكة بنات الله سبحانه أو المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي، وعبر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى وَلَمْ يُولَدْ وهو لا بد أن يكون بصيغة الماضي ونفي المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق والأحدية الحقيقية أو لاقتضائها سبق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة على واجب الوجود وقدم نفي الولادة لأنه الأهم لأن طائفة من الكفار توهموا خلافه بخلاف نفي المولودية أو لكثرة متوهمي خلاف الأول دون خلاف الثاني بناء على أن النصارى يلزمهم بواسطة دعوى الاتحاد القول بالولادة والمولودية فيمن يعتقدونه إلها وذلك على ما تضمنته كتبهم أنهم يقولون الأب هو الأقنوم الأول من الثالوث، والابن هو الثاني الصادر منه صدورا أزليا مساويا بالأزلية له، وروح القدس هو الثالث الصادر عنهما كذلك، والطبيعة الإلهية واحدة وهي لكل من الثلاثة وكل منها متحد معها ومع ذلك هم ثلاثة جواهر لا جوهر واحد، فالأب ليس هو الابن، والابن ليس هو الأب، وروح القدس ليس هو الأب ولا الابن وهما ليسا روح القدس ومع ذا هم إله واحد إذ لهم لاهوت واحد وطبيعة واحدة وجوهر واحد وكل منهم متحد مع اللاهوت وإن كان بينهم تمايز، والأول هو الوجود الواجب الجوهري، والثاني هو العقل الجوهري ويقال له العلم، والثالث هو الإدارة الجوهرية ويقال لها المحبة، فالله ثلاثة أقانيم جوهرية وهي على تمايزها تمايزا حقيقيا وقد يطلقون عليه إضافيا أي بإضافة بعضها إلى بعض جوهر وطبيعة واحدة هو الله وليس يوجد فيه غيره بل كل ما هو داخل فيه عين ذاته، ويقولون إن فيه تعالى عما يقولون أربع إضافات أولاها فاعلية التعقيل في الأقنوم الأول، ثانيتها
مفعولية التعقل في الأقنوم الثاني الذي هو صورة عقل الأب، ثالثتها فاعلية الانبثاق في الأقنوم الأول والثاني اللذين لهما الإرادة، رابعتها مفعولية هذا الانبثاق في الأقنوم الثالث الذي هو حب الإرادة الإلهية التي للأقنوم الأول والثاني وزعموا أن التعبير بالفاعلية والمفعولية في الأقانيم الإلهية على سبيل التوسع وليست الفاعلية في الأب نحو الابن إلّا الأبوة وفيه وفي الابن نحو روح القدس ليست إلّا بدء صدوره منهما وليست المفعولية في الابن وروح القدس إلّا البنوة في الابن والانبثاق في الروح ويقولون كل ذلك مما يجب الإيمان به وإن كان فوق الطور البشري، ويزعمون أن لتلك الأقانيم أسماء تلقوها من الحواريين فالأقنوم الأول في الطبع الإلهي يدعى أبا، والثاني ابنا وكلمة وحكمة ونورا وضياء وشعاعا، والثالث روح القدس ومغريا وهو معنى قولهم باليونانية أراكليط. وقالوا في بيان وجه الإطلاق: إن ذلك لأن الأقنوم الأول بمنزلة ينبوع ومبدأ أعطى الأقنوم الثاني الصادر عنه بفعل يقتضي شبه فاعله وهو فعل العقل طبيعته وجوهره كله حتى أن الأقنوم الثاني الذي هو صورة الأول الجوهرية الإلهية مساو له كمال المساواة وحد الإيلاد هو صدور حي من حي بآلة ومبدأ مقارن يقتضي شبه طبيعته وهنا كذلك بل أبلغ لأن للثاني الطبيعة الإلهية نفسها فلا بدع إذا سمي الأول أبا والثاني ابنا، وإنما قيل للثاني كلمة لأن الإيلاد ليس على نحو إيلاد الحيوان والنبات بل يفعل العقل أي يتصور الأب لا هوته وفهمه ذاته ولا شك أن تلك الصورة كلمة لأنها مفهومية العقل ونطقه، وقيل لها حكمة لأنه كان مولودا من الأب بفعل عقله الإلهي الذي هو حكمة، وقيل له نور وشعاع وضياء لأنه حيث كان حكمة كان به معرفة حقائق الأشياء وانكشافها كالمذكورات
، وقيل للثالث روح قدس لأنه صادر من الأب والابن بفعل الإرادة التي هي واحدة للأب والابن، ومنبثق منهما بفعل هو كهيجان الإرادة بالحب نحو محبوبها فهو حب الله والله نفسه هو الروح الصرف والتقدس عينه، ولكل من الأول والثاني وجه لأن يدعى روحا لمكان الاتحاد لكن لما دعي الأول باسم يدل على رتبته وإضافته إلى الثاني والثاني كذلك اختص الثالث بالاسم المشاع ولم يدع ابنا وإن كان له طبيعة الأب وجوهره كالابن لأنه لم يصدر من الأب بفعل يقتضي شبه فاعله، يعني بفعل العقل، بل صدر منه فعل الإرادة فالثاني من الأول كهابيل من آدم، والثالث كحواء منه والكل حقيقة واحدة لكن يقال لهابيل ابن ولا يقال لها بنت، وقيل له مغزى لأنه كان عتيدا لأن يأتي الحواريين فيغريهم لفقد المسيح عليه السلام وأما الفاعلية والمفعولية فلأنهما غير موجودين حقيقة والأبوة والنبوة هاهنا لا تقتضيهما كما في المحدثات ولذا لا يقال هنا للأب علة وسبب لابنه وإن قيل هناك فالثلاثة متساوية في الجوهر والذات واستحقاق العبادة والفضل من كل وجه. ثم إنهم زعموا تجسد الأقنوم الثاني وهو الكلمة واتحاده بأشرف أجزاء البتول من الدم بقوة روح القدس فكان المسيح عليه السلام المركب من الناسوت والكلمة، والكلمة مع اتحادها لم تخرج عن بساطتها ولم تتغير لأنها الحد الذي ينتهي إليه الاتحاد فلا مانع في جهتها من الاتحاد وكذا لا مانع في جانب الناسوت فلا يتعاصى الله تعالى شيء. زعموا أن المسيح عليه السلام كان إلها تاما وإنسانا تاما ذا طبيعتين ومشيئتين قائمتين بأقنوم إلهي وهو أقنوم الكلمة ومن ثم تحمل عليه الصفات الإلهية والبشرية معا لكن من حيثيتين، ثم إنهم زادوا في الطنبور رنة وقالوا: إن المسيح أطعم يوما الحواريين خبزا وسقاهم خمرا فقال: أكلتم لحمي وشربتم دمي فاتحدتم معي وأنا متحد مع الأب. إلى رنات أخر هي أشهر من أن تذكر.
ويعلم مما ذكرنا أنه لا فرق عندهم بين أن يقال إن الله تعالى هو المسيح وبين أن يقال إن المسيح ابنه وبين أن يقال إنه سبحانه ثالث ثلاثة ولذا جاء في التنزيل كل من هذه الأقوال منسوبا إليهم ولا حاجة إلى جعل كل قول لقوم منهم كما قال غير واحد من المفسرين والمتكلمين، ثم لا يخفى منافاة ما ذكروه للأحدية والصمدية
وقولهم إن الأقانيم مع كونها ثلاث جواهر متمايزة تمايزا حقيقيا جوهر واحد لبداهة بطلانه لا يسمن ولا يغني.
وما يذكرونه من المثال لإيضاح ذلك فهو عن الإيضاح بمعزل وبعيد عن المقصود بألف ألف منزل وكنا ذكرنا في ضمن هذا الكتاب ما يتعلق ببعض عقائدهم مع رده إلّا أنه كان قبل النظر في كتبهم وقد اعتمدنا فيه ما ذكره المتكلمون عنهم واليوم لنا عزم على تأليف رسالة تتضمن تحرير اعتقاداتهم في الواجب تعالى وذكر شبههم العقلية والنقلية التي يستندون إليها ويعولون في التثليث عليها حسبما وقفنا عليه في كتبهم، مع ردها على أكمل وجه إن شاء الله تعالى ونسأل الله تعالى التوفيق لذلك وأن يسلك سبحانه بنا في جميع أمورنا أقوم المسالك فهو سبحانه الجواد الأجود الذي لم يجبه من توجه إليه بالرد.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها. وقيل هو نفي للكفاءة المعتبرة بين الأزواج وهو كما ترى. ولَهُ صلة كُفُواً على ما ذهب إليه المبرد وغيره والأصل أن يؤخر إلّا أنه قدم للاهتمام لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته عز وجل، وللاهتمام أيضا قدم الخبر مع ما فيه من رعاية الفواصل. قيل له إن الظرف هنا (1) وإن لم يكن خيرا مبطل سقوطه معنى الكلام لأنك لو قلت لم يكن كفوا أحد لم يكن له معنى، فلما احتيج إليه صار بمنزلة الخبر فحسن ذلك. وقال أبو حيان:
كلام سيبويه في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا وهو الظرف التام وما هنا ليس كذلك. وقال ابن الحاجب قدم الظرف للفواصل ورعايتها ولم يقدم على أحد لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره وفيه نظر ظاهر، وجوز أن يكون الظرف حالا من أَحَدٌ قدم عليه رعاية للفاصلة ولئلا يلتبس بالصفة أو الصلة وأن يكون خبرا ليكن، ويكون كُفُواً حالا من أَحَدٌ قدم عليه لكونه نكرة أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا، وهذا الوجه نقله أبو علي في الحجة عن بعض النحاة ورد بأنه كما سمعت آنفا عن أبي حيان ظرف ناقص لا يصح أن يكون خبرا، فإن قدر له متعلق خاص وهو مماثل ونحوه مما تتم به الفائدة يكون كُفُواً زائدا ولعل وقوع الجمل الثلاث متعاطفة دون ما عداها من هذه السورة لأنها سيقت لمعنى وغرض واحد وهو نفي المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه وما تضمنته أقسامها لأن المماثل إما ولد أو والد أو نظير غيرهما فلتغاير الأقسام واجتماعها في المقسم لزم العطف فيها بالواو كما هو مقتضى قواعد المعاني. وفي كُفُواً لغات ضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء وضم الكاف مع ضم الفاء. وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية «كفؤا» بالهمز والتخفيف وحفص بالحركة وإبدال الهمزة واوا وباقي السبعة بالحركة مهموزا، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع في رواية، وفي أخرى عنه «كفى» من غير همز نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس «كفاء» بكسر الكاف وفتح الفاء والمد كما في قول النابغة:
لا تقذفني بر كن لا كفاء له أي لا مثل له كما قال الأعلم، وهذه السورة الجليلة قد انطوت مع تقارب قطرها على أشتات المعارف
(1) قوله من رعاية الفواصل قيل له إن إلخ في نسخة المؤلف بعد رعاية الفواصل وعن سيبويه أنه اختار أن لا يقدم الظرف إذ لم يكن خبرا وفي شرح الكتاب للسيرافي إن قال قائل قد اختار سيبويه أن لا يقدم الظرف إذا لم يكن خبرا وكتاب الله تعالى أولى بأفصح اللغات قيل له إلخ لكنه مضروب عليه وهو كما لا يخفى محتاج إليه اه منه.
الإلهية والعقائد الإسلامية، ولذا جاء فيها ما جاء من الأخبار وورد ما ورد من الآثار، ودل على تحقيق معنى الآلهة بالصمدية التي معناها وجوب الوجود أو المبدئية لوجود كل ما عداه من الموجودات، ثم عقب ذلك ببيان أنه لا يتولد عنه غيره لأنه غير متولد عن غيره، وبيّن أنه تعالى وإن كان إلها لجميع الموجودات فياضا للوجود عليها فلا يجوز أن يفيض الوجود على مثله كما لم يكن وجوده من غيره، ثم عقب ذلك ببيان أنه ليس في الوجود ما يساويه في قوة الوجود فمن أول السورة إلى الصَّمَدُ في بيان ماهيته تعالى ولوازم ماهيته ووحدة حقيقته وإنه غير مركب أصلا ومن قوله تعالى لَمْ يَلِدْ إلى أَحَدٌ في بيان أنه ليس ما يساويه من نوعه ولا من جنسه لا بأن يكون سبحانه متولدا، ولا بأن يكون متولدا عنه، ولا بأن يكون متوازي في الوجود، وبهذا المبلغ يحصل تمام معرفة ذاته عز وجل انتهى. وأشار فيه إلى أنه وَلَمْ يُولَدْ كالتعليل لما قبله وكأن قد قال قبل إن كل ما كان ماديا أو كان له علاقة بالمادة يكون متولدا من غيره فيصير تقدير الكلام لم يلد لأنه لم يتولد، والإشارة إلى دليله بهو أول السورة فإنه لما لم يكن له ماهية واعتبار سوى أنه هو لذاته وجب أن لا يكون متولدا عن غيره وإلّا لكانت هويته مستفادة عن غيره فلا يكون هو لذاته، وظاهر العطف يقتضي عدم اعتبار ما أشار إليه من العلية وقد علمت فيما سبق وجه ذكره وجعل بعضهم العطف فيه قريبا من عطف لا يستقدمون على لا يستأخرون. وأشار بعض السلف إلى أن ذكر ذلك لأنه جاء في سبب النزول أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه من أي شيء هو أمن كذا أم من كذا وممن ورث الدنيا ولمن يورثها؟ وقال الإمام: إن هو الله أحد ثلاثة ألفاظ، وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين، فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله تعالى، وهؤلاء نظروا بعيون عقولهم إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي فما رأوا موجودا سوى الحق لأنه الذي يجب وجوده لذاته وما عداه ممكن لذاته فهو من حيث ذاته ليس، فقالوا: هو إشارة إلى الحق إذ ليس هناك في نظرهم موجود يرجع إليه سواه عز وجل ليحتاج إلى التمييز والمقام الثاني لأصحاب اليمين هؤلاء شاهدوا الحق سبحانه موجودا وكذا شاهدوا الخلق فحصلت كثرة في الموجودات في نظرهم فلم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق بل لا بد من مميز فاحتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة الله بلفظ فقيل لأجلهم هو الله. والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد والإله كذلك فجيء بأحد ردا عليهم وإبطالا لمقالتهم انتهى. وبعض الصوفية عد لفظة هو من عداد الأسماء الحسنى بل قال إن هاء الغيبة هي اسمه تعالى الحقيقي لدلالته على الهوية المطلقة مع كونه من ضروريات التنفس الذي به بقاء حياة النفس وإشغار رسمه بالإحاطة ومرتبته من العدد إلى دوامه وعدم فنائه. ونقل الدواني عن الإمام أنه قال: علمني بعض المشايخ يا هو يا من هو يا من لا إله إلّا هو وعلى ذلك اعتقاد أكثر المشايخ اليوم ولم يرد ذلك في الأخبار المقبولة عند المحدثين والله تعالى أعلم.