المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الليل لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية، واختلف في - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٥

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة الليل لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية، واختلف في

‌سورة الليل

لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية، واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على أنها مكية، وقال علي ابن أبي طلحة مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني. وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما

وقال السدّي إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم، فقال له صلى الله عليه وسلم:«دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة» فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة» . فقال صلى الله عليه وسلم: «افعل» فوهبها فنزلت وروى نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس

بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي. وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] إلخ نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه. ونقل عن بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وإن زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما له نزل. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9] إلخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى. فقال عز من قائل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا

ص: 365

يَغْشاها

[الشمس: 4] أو النهار كقوله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54، الرعد: 3] أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشي النهار أو كل ما يوارى إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام. والثاني على تقدير كونه الشمس إذ مآله اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعلين مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه. وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «تتجلى» بتاءين على أن الضمير للشمس وقرىء «تجلى» بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم. وقال ابن عباس والحسن والكلبي: المراد بالذكر آدم عليه السلام، وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيّا ما كان فما موصولة بمعنى من وأوثرت عليها لإرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك. وقرىء «والذي خلق» . وقرأ ابن مسعود

«والذكر والأنثى» وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن النجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعليّ كرم الله تعالى وجهه

.

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء ممّن أنت؟ فقال: من أهل الكوفة قال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ قال علقمة: «والذكر والأنثى» فقال أبو الدرداء: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء

يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبيّ عليه الصلاة والسلام في حكم المتواترة نجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ «وما خلق الذكر» بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. قيل: وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله:

تطوف العفاة بأبوابه

كما طاف بالبيعة الراهب

بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة. إِنَّ سَعْيَكُمْ أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى لَشَتَّى فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق، ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعله عين الافتراق مبالغة. وأيّا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة. وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مرّ غير مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء. وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إلخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك، وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته. والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد: المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى. قتادة: المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية وَاتَّقى أي واتقى الله عز وجل كما قال ابن عباس، وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهي عنه. وفي رواية محارم الله تعالى. وقال مجاهد: واتقى البخل وهو كما ترى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس: لا

ص: 366

إله إلا الله، أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم: وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام. وقال عكرمة وجماعة: وروي عن ابن عباس أيضا هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد: الجنة، وقيل: المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة المالية، والاتقاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيئات مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها، وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:

قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقيمون دونك. فقال: يا أبه إنما أريد ما أريد، فنزلت فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إلى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - إلى قوله سبحانه- إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح. ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في نفسه أخر عن الاتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.

وقيل: المراد أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الدالّة على الحق ككلمة التوحيد. وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل أخر لأن من جملة إعطاء الطاعة بالإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلّا بها. ومن جملة الاتقاء عن الإشراك وهما متقدمان على ذلك وليس بشيء فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيئه للخلصة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه، من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ووصفها باليسرى إما على الاستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد.

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه وَاسْتَغْنى أي وزهد فيما عنده عز وجل كأنه مستغنى عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى. كما أن قوله تعالى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى في مقابلة وصدق بالحسنى والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومبادئه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر، وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة. والسين في فَسَنُيَسِّرُهُ قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن الجزاء الموعود معظمه يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ، وتقديم البخل فالاستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم. وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلّا منهما أدنى رتبة مما بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلّا منهما أصيل فيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء. وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى الخذلان، واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره، والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ فسنخذله ونمنعه الإلطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125] ، وأصل هذا

ص: 367

فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني التعسير لا الموصوف أعني الطاعة، ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة. وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة فيه على حاله. وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والإعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومبادئهما من الصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار

أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: «ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء» ثم قرأ عليه الصلاة والسلام «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى» الآيتين

وكان حاصل ما أراده صلى الله عليه وسلم بقوله: «اعملوا» إلخ عليكم شأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها. وأيّا ما كان فالمراد بمن أعطى إلخ وبمن بخل إلخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا وإن كان السبب خاصا إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ومن بخل أمية بن خلف. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفى وفي هذا نظر لأن أبا سفيان أسلم وقوي إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة. وفي رواية الطستي عنه أن وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص.

وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي ولا يغني عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغني عنه ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية إِذا تَرَدَّى أي هلك تفعل من الردى وهو الهلاك قاله مجاهد. وقيل تردى في حفرة القبر.

وقال قتادة وأبو صالح: تردى في جهنم أي سقط وقال قوم تردى بأكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مريد عليه فلا يتم الاستدلال بالآية على الوجوب عليه عز وجل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة. وقيل: المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا. وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل إن المراد ثم إن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] أي من سلك السبيل القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أو أن لنا كل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الاهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا، أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل

ص: 368

عليها فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم وتَلَظَّى بمعنى تلتهب وأصله تتلظى بتاءين فحذفت منه إحداهما. وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق وَتَوَلَّى وأعرض عن الطاعة وَسَيُجَنَّبُهَا أي سيبعد عنها الْأَتْقَى المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها. واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلى المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى الموصوف بما ذكر وأن سيجنبها الأتقى يقتضي بمفهومه أن غير الأتقى أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها، فبيّن الحصرين مخالفة. وأجيب بأن الصلى ليس مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية، فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلى أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية، ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب. ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب، بل غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلى الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا كذا قيل. واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها، ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها. وقرر الزمخشري الاستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلى بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين وذلك. وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى

غير مجنب بالكلية، واستحسنه في الكشف فقال: هو معنى حسن وأنت تعلم أن مبنى ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في النار. وقال القاضي: إن قوله تعالى لا يَصْلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلّا الكفار كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها، فالمراد أن نارا من النيران لا يصلاها إلّا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون.

وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد، ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحضر في لا يصلاها إلخ فإنه كالنص في بادىء النظر فيها يدعيه المرجئة لحملهم الصلى فيه على مطلق الدخول. وأيدوه بما

أخرج الإمام أحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلّا من شقي» قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية»

. وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعواهم

ص: 369

وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بيّن في موضعه. وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة:

تمنى رجال أن أموت فإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلّا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره من أنه خلاف المذهب الحق، وأيضا أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره والمكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتنبونها وقيل غير ذلك. ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن إن قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل. وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضميرها هنا المفعول الثاني، والأتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل. ويقال: جنب فلان خيرا وجنب شرا، وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه، وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى.

الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي يعطيه ويصرفه يَتَزَكَّى طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولا سمعة أو متطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي، وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب، وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع فيه. وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد. وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبّه على بعضه الرضي أما عن الأول فبأن المراد أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث إنه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبأن الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتى بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان، ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى: المراد بقولهم كل ثان أعرب إلخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر ولا تغفل. وجوز أن يكون يَتَزَكَّى بتقدير لأن يتزكى متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت. وأيّا ما كان يدل الكلام على أن المراد بإيتائه صرفه في وجوه البر والخير.

وقرأ الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم «يزكى» بإدغام التاء في الزاي

وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للتزكي خالصا لله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من

ص: 370

شأنها أن تجزى وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتى مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تُجْزى للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجز به إياها أو يجزيها إياه إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى منصوب على الاستثناء المنقطع من نعمة لأن الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة. وقرأ يحيى بن وثاب «ابتغاء» بالرفع على البدل من محل «من نعمة» فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله:

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس

وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم:

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها

إلا الجآذر والظلمان تختلف

وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتى ما له لأجل شيء من الأشياء إلّا لأجل طلب رضا ربه عز وجل لا لمكافأة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب، وإنما أول لأن الكلام أعني يُؤْتِي مالَهُ موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى وَما لِأَحَدٍ وقد قال سبحانه أو لا يَتَزَكَّى متضمنا نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور. وقرأ ابن أبي عبلة «إلا ابتغا» مقصور وفيه احتمال. النصب والرفع. وهذه الآيات على ما ما سمعت نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب، وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد. وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال: أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى. وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لأمية بن خلف يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلّا ليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عبيس وأمة بني المؤمل وفيه نزلت وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة واستدل بذلك الإمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي كرم الله تعال وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يَرْضى جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى والضمير فيه للأتقى المحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلّا لطلب رضوان الله تعالى ولسوف يرضى الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز وجل، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] انتهى. والظاهر هو الأول وقد قرىء «ولسوف يرضى» بالبناء للمفعول من الإرضاء وما أشار إليه في معنى راضِيَةً مَرْضِيَّةً غير متعين كما سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

ص: 371