الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة القلم
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:
1] ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر. وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثني منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ- إلى- يَعْلَمُونَ [القلم: 17- 33] ومن فَاصْبِرْ- إلى- الصَّالِحِينَ [القلم: 48- 50] فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به. وقال الجلال السيوطي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 19، 20] وقال جل وعلا هنا إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] إشارة إلى أنه يسرى عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة انتهى، ولا يخلو عن حسن. وقال أبو حيان فيه: إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع، وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلى الله عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو وَالْقَلَمِ بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقرىء بكسر النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه، أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى وَالْقَلَمِ للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف أن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف. وقالوا: يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به، وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء في المختار والحاكم وصححه. وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ إلخ. وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الاستعمال المعتد به، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم
…
ألقت النون بالدمع السجوم
والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين، وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي، ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم
وعن معاوية بن قرة يرفعه: «إن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وعن جعفر الصادق: إنه نهر من أنهار الجنة.
وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس، ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الاعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة راوية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الاختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن، وأن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف بادنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت عن الزمخشري لغة لم تثبت، والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات. وأنّى به، وذكر
صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي، وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه، وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل، وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر، وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه. والضمير في قوله سبحانه وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون إما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط، فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا، والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه، ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك، وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي، ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة، وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك، ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلى الله عليه وسلم وهل المراد إلّا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوقات وهو المراد، وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلى الله عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر، وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الالتباس المذكور، وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلى الله عليه وسلم بالنعمة، ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الانتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا، وقيل: إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى:
ظهور نار القرى ليلا على علم ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل. وجوز كون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب، أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور، واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه
صلّى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلى الله عليه وسلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة، فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون وَإِنَّ لَكَ بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة لَأَجْراً لثوابا عظيما لا يقادر قدره غَيْرَ مَمْنُونٍ أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز وجل أكرم الأكرمين، ومن شيمة الأكارم أن لا تمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
…
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم.
وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن
وأرادت بذلك على ما قيل إن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلى الله عليه وسلم، وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة والسلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] وربما يرجع إلى هذا قولها كما
في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه
وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها: كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها. وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلى الله عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز وجل بقوله سبحانه عَظِيمٍ وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون، وأن كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون، ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد، وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخبيل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما. والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد، وأيد الاعتراض بأن قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ خطاب له عليه الصلاة والسلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلى الله عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الاختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين، وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ، وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» وأيّا ما كان فالظاهر أن بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ معمول لما قبله على سبيل التنازع، والمراد فستعلم ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك
مهيبا معظما في قلوب العالمين، وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر. وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى وَيُبْصِرُونَ ثم استأنف قوله سبحانه بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ على أنه استفهام يراد به الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهم وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد، أي هو سبحانه أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال، وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وَهُوَ عز وجل أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين عن كل محذور، وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وفي الكشاف إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين. قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هُوَ أَعْلَمُ بالمجنون. وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الاعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم، وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بِمَنْ ضَلَّ أقيم مقام (بهم) وبِالْمُهْتَدِينَ أقيم مقام (بكم) ولعل ما اعتبرناه أملا بالفائدة، وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه
الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء. والفاء في قوله تعالى فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فضل من أول السورة، وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك، وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة، وينبىء عنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لأنه تعليل للنهي أو للانتهاء، وإنما عبر عنه بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طعما في ادهانك، فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها، وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك، ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولَوْ فيه غير مصدرية، وعلى الثاني هي مصدرية، والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم، وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تُدْهِنُ على أنه داخل معه في حيز لو متمنى مثله، والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب ادهانك وما تقدم أبعد عن القيل والقال، وأيّا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الادهان الذي هو لإظهار الملاينة وإضمار خلافها، وإما في جانبه عليه الصلاة والسلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط، وأما إضمار خلافها فليس في حيز الاعتبار بل هم في غاية الكراهة له، وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون «فيدهنوا» بدون نون الرفع، فقيل: هو منصوب في جواب التمني المفهوم من وَدُّوا وقيل إنه عطف على تُدْهِنُ بناء على أن لَوْ بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا كأنه قبل ودوا أن تدهن فيدهنوا، ولعل هذا مراد من قال إنه عطف على توهم أن، وجمهور النحاة على أن
لَوْ على حقيقتها وجوابها محذوف. وكذا مفعول وَدُّوا أي ودوا ادهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثالب وأساس الباقي، وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز وجل وهو أم كل شر عقدا وعملا، وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه، وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف مَهِينٍ حقير الرأي والتدبير. وقال الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: هو المكثار في الشر. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب هَمَّازٍ عياب طعان قال أبو حيان: هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها، ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم، فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. وقيل: النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة، ومنه اسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف، فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب عُتُلٍّ قال ابن عباس الشديد الفاتك، وقال الكلبي: الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر وقتادة: الفاحش اللئيم، وقيل: هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة، ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن «عتلّ» بالرفع على
الذم بَعْدَ ذلِكَ أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبَعْدَ هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه زَنِيمٍ دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس، والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد الحسان:
زنيم تداعته الرجال زيادة
…
كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد:
زنيم ليس يعرف من أبوه
…
بغيّ الأم ذو حسب لئيم
من الزنمة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة، وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم: «فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة»
فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة. وقال بعض الأجلة: هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني، وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين
لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر»
فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا. وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض
فضل الله تعالى ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بالزنمة. وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمال واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الاستشهاد في هذا الباب. وفي قول الشاعر الاكتفاء وهو:
ولكم بذلت لك المودة ناصحا
…
فغدرت تسلك في الطريق الأعوج
ولكم رجوتك للجميل وفعله
…
يوما فناداني النهي لا ترتج
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك، ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كُلَّ ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده، أو الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الأخنس بن سريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود بن عبد يغوث، أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال.
وقوله تعالى أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تُطِعْ أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين وقوله سبحانه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب، ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان إلخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولعل من يقول باطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية. وقال أبو علي الفارسي: يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف، وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين، وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر «أأن كان» على الاستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر. وقال بعض: قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان إلخ. وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه «إن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له، أو على أن الشرط للمخاطب. وحاصل المعنى لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة. وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات، وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة. والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل: هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم، والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله:
فإن عثرت بعدها إن وألت
…
نفسي من هاتا فقولا لا لعا
وقرأ الحسن «أئذا» على الاستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ سنجعل له سمة وعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه، وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل
…
فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين.
وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
…
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي لفظ الْخُرْطُومِ استهانة لأنه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال، وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلّا أنهم قالوا: المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بيّنا كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بيّنا فيك، وزاد ذلك حسنا ذكر الْخُرْطُومِ انتهى. وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض: هو في الآخرة، ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار، وذكر الْخُرْطُومِ والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وروي هذا عن ابن عباس، والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم، وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل. وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد:
تظل يومك في لهو وفي لعب
…
وأنت بالليل شراب الخراطيم
وإن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأنه أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
كَما بَلَوْنا أي مثل ما بلونا، فالكاف في محل نصب صفة مصدر مقدر و (ما) مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه أَصْحابَ الْجَنَّةِ المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها، فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال
بنوه: إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين. وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال عز وجل إِذْ أَقْسَمُوا معمول لبلونا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله وَلا يَسْتَثْنُونَ قيل أي ولا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد. وقال الإمام أصل الاستثناء من الثني وهو الكف والرد وفي التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا ينثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أَقْسَمُوا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء، وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم، وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل: المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى لَيَصْرِمُنَّها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مُصْبِحِينَ الحال وهو معنى لا غبار عليه فَطافَ عَلَيْها أي أحاط نازلا على الجنة طائِفٌ أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف، وقول قتادة طائِفٌ أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل: الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي «طيف» مِنْ رَبِّكَ مبتدىء من جهته عز وجل وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة. وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس: كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة، وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا. وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة: الصريم الليل، والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري:
كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه عنه فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ لقسمهم السابق أَنِ اغْدُوا أي اخرجوا على أن أَنِ تفسيرية واغْدُوا بمعنى اخرجوا، أو بأن اغدوا على أن أَنِ مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح عَلى حَرْثِكُمْ أي بستانكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي
قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا، وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك. وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي هاهنا بعلى لتضمين الغد، ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع، ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الاستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله:
وقد نغدو على ثبة كرام
…
نشاوى واجدين لما نشاء
وكذا بكر مرادفه كما في قوله:
بكرت عليه غدوة فرأيته
…
قعودا لديه بالصريم عواذله
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة، وخفى بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ أي الجنة عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية، والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها، وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يَتَخافَتُونَ لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله، وأيّا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك هاهنا وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي منع كما قال
أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قّلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادِرِينَ قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلّا على المنع والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان كونهم قادرين على الانتفاع، والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم، وجوز أن يكون عَلى حَرْدٍ متعلقا بغدوا، والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادِرِينَ من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قرىء به وهو بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد:
إذا جياد الخيل جاءت تردي
…
مملوءة من غضب وحرد
أي لم يقدروا إلّا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم: 30] وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي. وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد:
أقبل سيل جاء من أمر الله
…
يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس ف عَلى حَرْدٍ ظرف مستقر حال من ضمير غَدَوْا وقادِرِينَ حال أيضا إلّا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت: وقال الأزهري حَرْدٍ اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الانفراد يقال: حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم، وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة فَلَمَّا رَأَوْها أول ما وقع نظرهم عليها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة: وقيل لَضَالُّونَ عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأن التسبيح ذكر الله تعالى وإِنَّا كُنَّا إلخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة، والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة، وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء
لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز وجل لأن الاستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تستثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق، ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه، ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز وجل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفى أن يكون له فتاوى.
واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه. وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الاستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال: لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى. وقيل: المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله تعالى عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة خَيْراً مِنْها أي من تلك الجنة إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره سبحانه راغِبُونَ راجون العفو طالبون الخير وإِلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود: بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا، وحكي عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال: لا أدري أكان قولهم إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة. وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل: لقد كلفتني تعنتا وقرأ نافع وأبو عمرو «يبدلنا» مشددا كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وال للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا، والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز وجل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤول حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه أن خبث النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار وقوله تعالى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ وقوله سبحانه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نعى عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة فإنها مختصة به عز وجل إذ لا يتصرف فيها غيره جل
جلاله أو في جوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النَّعِيمِ لإفادتها التميز من جنات الدنيا لغالب عليها النغص:
طبعت على كدر وأنت تريدها
…
صفوا من الأقذار والأكدار
وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلّا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف والعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لَكُمْ أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل من السماء فِيهِ أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تَدْرُسُونَ أي تقرءون فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتَدْرُسُونَ مستأنف أو حال من ضمير الخطاب وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال: تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تَدْرُسُونَ إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة «أن» وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل إنه لا بد من تضمين تَدْرُسُونَ معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فِيهِ على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أو الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فِيهِ لا يساعده للاستغناء بفيه أولا من غير حاجة إلى جعل ضمير فِيهِ ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ وعلى الاستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تَدْرُسُونَ على أن قوله تعالى إِنَّ لَكُمْ إلخ استئناف على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى. والظاهر أن أَمْ لَكُمْ إلخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة واللام في لَما زائدة كقراءة من قرأ «الا انهم ليأكلون الطعام» (1) بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج «أن لكم» بالاستفهام على الاستئناف أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي إقسام، وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم بالِغَةٌ أي أقصى ما يمكن، والمراد متناهية في التوكيد. وقرأ الحسن وزيد بن علي «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير المستتر في عَلَيْنا أو لَكُمْ وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالمقدر في لَكُمْ أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو
(1) سورة الفرقان، الآية:20.
متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم لأن معنى أم لكم إيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج «آن لكم» بالاستفهام أيضا سَلْهُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارجي عن دائرة العقول زَعِيمٌ قائم يتصدى لتصحيحه، والجملة الاستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الاستفهام، وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ كِتابٌ إلخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا إلخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز وجل أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فليأتوا بشركهم» والمراد به ما أريد بشركائهم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ متعلق بقوله تعالى فَلْيَأْتُوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيّا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
…
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الراجز:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها
…
ومن طواء الخيل عن أرزاقها
في سنة كشفت عن ساقها
…
حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلّا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
صبرا عناق إنه شر باق
…
قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه
البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للاستعارة باق على حقيقته وتنكير ساقٍ قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني. وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وأن الآية من المتشابه. واستدل على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا»
وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال: «إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد» وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز وجل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز وجل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا: بلى قال: «فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قال: وما هي؟ قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك» . الحديث
وهو ونظائره من المتشابه عند السلف. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا للفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز «نكشف» بالنون وقرىء «يكشف» بالياء التحتية مضمونة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه اكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا. وقرىء «تكشف» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول: كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف، وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشفت زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد. وقيل عليه إن الإذهاب حينئذ ادعائي ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عَنْ ساقٍ بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه.
والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عَنْ ساقٍ نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك فَلا يَسْتَطِيعُونَ لزوال القدرة
عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم، وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا. والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من مرفوع يُدْعَوْنَ على أن أبصارهم مرتفع شديدة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل. والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير: كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إليّ واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلي همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه، وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الاستكفاء مبالغة وإنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الاستكفاء وقيل: قوله (ذرني) وأبرز ترك الاستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه إلّا بلغ وجه ومَنْ في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في (ذرني) أو على أنه مفعول معه وقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يُكَذِّبُ باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الاحتيال لكونه في صورته حيث إنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز وجل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران أَمْ تَسْأَلُهُمْ على الإبلاغ والإرشاد أَجْراً دنيويا فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ أي غرامة مالية مُثْقَلُونَ مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي المغيبات أو للوح وأطلق الْغَيْبُ عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما يحكمون به ويستعنون بذلك عن علمك فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلّا أنه فرق بين ذي
وصاحب بأن «ذي» أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ [الأنبياء: 87]
والنهي عن اتباعه وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ذا النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان إِذْ نادى في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة:
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا
…
عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه آمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإِذْ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلي بنحو بلائه عليه السلام لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقرىء «رحمة» وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير. وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش «تدّاركه» بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا، وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144] ولا يخفى بعده وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لَوْلا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والانتهاء كانت مخالفة لحالة الإلامة والابتداء لقوله سبحانه فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله سبحانه فَاجْتَباهُ رَبُّهُ عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فَاجْتَباهُ أي اصطفاه بأن رد عز وجل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للاجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا، واستدل بالآية على خلق الأفعال لأن جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالإخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق عليه الفريقان فتدبر وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن
…
نظرا يزل مواطىء الأقدام
أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم
أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك، فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم وأنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا
…
وأخال أنك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية، وقد قيل إن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الاستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما
أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه»
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال إن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم. وقال بعض أصحاب الطبائع إنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيما نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه. ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال:
كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وكان أبو بكر صديقا، وكان عمر فاروقا، وعثمان حييا، ومعاوية حليما، ويزيد صبورا، وعبد الملك سائسا، والوليد جبارا، وأنا الملك الشاب، وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل إنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين، فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه، وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر، وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز وجل وكم طوي فيه أسرار وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلّا مجنون أو جهول، ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية هاهنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة والسلام فلا تتأتي لهم إصابته بالعين وفيه نظر. وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفّا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال. هذا وقرأ نافع «ليزلقونك» بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى «ليزهقونك» بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه. ولَمَّا كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال إنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلم
رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرّا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعموم العالمين لما فيه من الاعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم.