المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الكافرون وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٥

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة الكافرون وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة

‌سورة الكافرون

وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق. وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من أنه قائل بمكيتها وأيّا ما كان فقول الدواني إنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط، وأمر صلى الله عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه.

وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا «ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تعالى تقرءون قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون:

1] عند منامكم»

.

وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ

ويسن قراءتها أيضا مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب (1) وهي حجة على من قال من الأئمة إنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة.

وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن

ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع

(1) قوله وهي حجة الضمير عائد على مضروب عليه في نسخة المؤلف نصه، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين مرة- وفي لفظ شهرا- فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

وفي حديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: «نعم السورتان مما يقرآن في الركعتين قبل الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

إلى غير ذلك من الأخبار وهي حجة إلخ اه منه.

ص: 484

القرآن، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة. وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل: إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه، وذكر بعض أجلّة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع:

عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات، والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا. وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة. وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها. ولا يرد على الحصر أن من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عدّ أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قال أجلة المفسرين: المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبدا.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا، فأنزل الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى انقضت السورة

.

وفي رواية أن رهطا من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فقال عليه الصلاة والسلام:

«معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره» . فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت فعدا صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا

. ولعل نداءهم «بيا

ص: 485

أيها» للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم، «وبالكافرون» دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم، أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ. وقيل: هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن يكون في هذه الإشارة إنكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد، والمراد حقيقة الأمر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد، فالجملة الثالثة المنفية على ما في البحر توكيد للأولى على وجهه أبلغ لاسمية المؤكدة، والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبي وذهب إليه الفرّاء وقال: إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى بلى والممتنع لا لا. وعليه قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3] وأنشد قوله:

كائن وكم عندي لهم من صنيعة

أيادي سنوها عليّ وأوجبوا

وقوله:

نعق الغراب ببين ليلى غدوة

كم كم وكم بفراق ليلى ينعق

وقوله:

هلا سألت جموع كن

دة يوم ولوا أين أينا

وهو كثير نظما ونثرا، وفائدة التأكيد هاهنا قطع أطماع الكفار وتحقيق أنهم باقون على الكفر أبدا.

واعترض بأن تأكيد الجمل لا يكون مع العاطف إلّا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم، والظاهر أن من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة، وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الأوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للأول بما فيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلا يرد ما ذكر، ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الأول من الثاني للجزء الأول من الأول وتأكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الأول، وإلّا فظاهر ما في البحر مما لا يكاد يجوز كما لا يخفى والذي عليه الجمهور أنه لا تكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري لا أَعْبُدُ أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لأن لا لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال، والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي، وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه، وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. والظاهر أنه اعتبر في الجملة الأخيرة استمرار النفي وأنه حمل المضارع فيها على إفادة الاستمرار والتصوير، وفي الثانية استغرق النفي للأزمنة الماضية. وقال الطيبي: إنه جعل القرينتين للأوليين للاستقبال والأخريين للماضي، واعترض عليه بأن الحصرين اللذين ذكرهما في لا وما غير صحيح وإن كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه. وقال الخفاجي: ما ذكر أغلبي أو مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه، أو هو كلي ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وإن قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الأول وعدم ضرر فقده في الثاني لأن النصب به للمشاكلة وقيل: القرينتان الأوليان للاستقبال كما مر،

ص: 486

والأخريان للحال واختاره أبو حيان أي ولست في الحال بعابد معبوديكم، ولا أنتم في الحال بعابدي معبودي.

وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيي السنة. وقيل الأوليان للماضي والأخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخاري وغيره، ونقل أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن المراد بقوله سبحانه لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وبقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله صلى الله عليه وسلم لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة والسلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي إمكانه الشرعي، ونوقش في إفادة الجملة الاسمية نفي القبول ولا يبعد أن يقال إن معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين، والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا من غير تعرض للزمان كأنه قيل: أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لا يصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر. وقيل: الأوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون، والأخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى، ولا أنتم عابدون رجاء أن أعبد صنمكم. ثم قيل: ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض بوجه من الوجوه، وكذا أنتم لا تعبدون الله تعالى لغرض من الأغراض وإيثار ما في ما أعبد قيل على جميع الأقوال السابقة على من لأن المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته، وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الأصنام أولا وهو إطلاق في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول إن ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب إلى سيبويه لا يحتاج إلى ما ذكر وقال أبو مسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي مفعول به، والمقصود المعبود أي لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله تعالى. وفي الأخريين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وإن شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقة ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وإن شئت قلت على التوحيد والإخلاص، وعليه لا يكون تكرار أيضا.

وقال بعض الأجلّة في هذا المقام إن قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إما كلاهما نفي الحال أو كلاهما نفي الاستقبال، أو أحدهما للحال والآخر للاستقبال، وعلى التقادير فلفظ ما إما مصدرية في الموضعين وإما موصولة أو موصوفة فيهما، وإما مصدرية في أحدهما وموصولة أو موصوفة في الآخر وهذه ستة احتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. ولم يلتفت إلى تقسيم صورة الاختلاف إلى الفرق بين الأولى والأخرى، ولا إلى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الأقسام لأن صور الاختلاف متساوية الاقدام في دفع التكرار، ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفى بإحداهما وكذا الحال في قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الموضعين ومعلوم أنه لا تكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون ما في أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الآخر مصدرية ونفي عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة والسلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الإشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل:

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

ومن هنا قال بعض الأفاضل في إخراج الآية عن التكرار: يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي عبادة الأصنام، ومن قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ نفي عبادة الله تعالى من غير تعرض لشيء آخر، ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة ما نعبد وعنا عبادة ما تعبد ونحن أيضا نعبد الله تعالى غاية ما في الباب أنا نعبد معه غيره، أردف ذلك

ص: 487

بقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إلخ للإشارة إلى أنهم ما عبدوا الله حقيقة وإنما عبدوا شيئا قالوا إنه الله، والله عز وجل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الأوقات الإله الذي عبدتم لأنكم عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ما تخيلتم ليس بالإله الذي أعبده، ولا أنتم عابدون في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته لأني إنما أعبد الإله المتصف بالصفات التي قام البرهان على أنها صفات الإله. النفس الأمري ويعلم منه وجه غير ما تقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكأنه لم يؤت بالقرينتين الأوليين بهذا المعنى ويكتفى بهما عن الأخريين لأنهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الأسلوب أنكى لهم فلا تغفل. ومن الناس من اختار كون ما في القرينتين الأوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا إلهه عليه الصلاة والسلام، والمراد نفي العبادة ملاحظا معها التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب، ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق بالجواب أيضا، ويكون قد تم بهم فكأنه قيل لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال من الآلهة أي لا أحدث ذلك حسبما تطلبونه مني وتدعوني إليه، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الأخريين مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الإشارة إلى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر إلى تعلقها بالمفعول وإن كانت لا تخلو عنه في الواقع إثر الإشارة إلى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول، ويراد استمرار النفي في كلتيهما كما في قول تعالى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62 وغيرها] وفي ذلك من إنكائهم ما ليس في الاقتصار على ما تم به الجواب، فكأنه قيل: ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم التي أذهبتم بها أعماركم لأن عبادتي مأمور بها وعبادتكم منهي عنها، ولا أنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لأنكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم وإني الحبيب المبعوث بالحق، فلا زلتم في عبادة منهي عنها ولا زلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر، واعتبار الاستمرار في ما أَعْبُدُ يشعر به العدول عن ما عبدت الذي يقتضيه ما عبدتم قبله إليه، وعن العدول في الثانية إلى ذلك لأن أنواع عبادته عليه الصلاة والسلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددي للإشارة إلى حقية جميع ما يأتي به صلى الله عليه وسلم من ذلك. وقال الزمخشري: لم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، وتعقب بأن فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة.

ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلى الله عليه وسلم كان متدينا قبل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام، وأما بعد البعث فقال ابن الجوزي في كتاب الوفاء: فيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولا نقلهم ولا كتبهم المبدلة، واختارها أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية إن لم يكن متعبد إلّا بما يوحى إليه من شريعته وهو قول المعتزلة والأشعرية، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين، والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل: كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام وعليه أصحاب الشافعي، وقيل بشريعة موسى عليه السلام إلا ما نسخ في شرعنا. وظاهر كلام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه لقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا دين إسماعيل عليه السلام كالحج والختان وإيقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من

ص: 488

الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم انتهى. والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم أن فيه مفسدة وهو إيجاب النفرة. نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عز وجل ولا يمكن أن يخلى صلى الله عليه وسلم بذلك. وفي الكشف العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الواقعة على سبيل القربة فالإيمان والنية والإخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. واختلف أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشر أو لا فميل الإمام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا، وأجابوا عن الطواف والتحنث وغيرهما من المكارم أنها لا تحرم من غير شرع حتى يقال الآتي بها لا بد أن يكون متعبدا بل هي من اقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر إلى قربة، والزمخشري اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره. وقد ظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلي بالنظر في الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة، ثم قال: والظاهر حمل ما أَعْبُدُ على إفادة الاستمرار والتصوير على أنهم ما كانوا ينكرون ما كان عليه صلى الله عليه وسلم فيما مضى عبادة كانت أو لا، بل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالأمين إنما كان المنكر ما كان عليه بعد النبوة فلذلك قيل ثانيا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إذ لو قيل ما عبدت لم يطابق المقام، وفيه أن ما كانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل إنما كان ذلك لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة انتهى. فتدبره. وزعم بعضهم أن تغاير الأساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشيء، وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بإفادته الاستمرار على الكفر بالإيمان بحث مذكور في كتب الأصول إن أردته فارجع إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة تبت إشارة ما إلى ذلك.

وقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى وَلِيَ دِينِ عندهم تقرير لقوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها، أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما. وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفى أو المراد المتاركة على معنى إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف. وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر. وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي. قيل: والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك؟ فقيل لَكُمْ إلخ. والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير، لكن أتى باللام في لَكُمْ للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضا، ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفى. وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره

ص: 489

أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم، ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ. والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر.

وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدى به، وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين، وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه. وقرأ سلام ويعقوب «ديني» بياء وصلا ووقفا وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم.

ص: 490