المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المسد وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٥

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة المسد وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف

‌سورة المسد

وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه.

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

كذا قيل في وجه الاتصال، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الإمام في ذلك إنه تعالى لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إلهي فما جزائي» فقال الله تعالى: لك النصر والفتح فقال: «فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام» فقال: تبت يداه. وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى وَلِيَ دِينِ والوعيد راجعا إلى قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ على حد يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] الآية. فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عز وجل ثم قال: ووجه آخر وهو أنه لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فكأنه قيل: إلهي ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح. ثم قيل: فما جزاء العاصي؟ قال: الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة، وعن الأول أيضا خابت، وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة. وقال الشهاب: إن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به. وقال الراغب: هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفلان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك يَدا أَبِي لَهَبٍ هو عبد العزّى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما

في

ص: 496

المجمع عن طارق المحاربي قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد صلى الله عليه وسلم يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب

وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي» لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال:«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي» ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فنزلت

.

ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم وإسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشا: إن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ

ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما. وقوله سبحانه وَتَبَّ دعاء بهلاك كله وجوز أن يكونا إخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع.

وقال الفرّاء: الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا، وفي قوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطي لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو، والثاني إخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة:

جزاني جزاه الله شر جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس في سبب النزول فنزلت هذه السورة «تبت يدا أبي لهب وقد تب» وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن «قد» لا تدخل على أفعال الدعاء. وقيل: الأول إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا. والثاني إخبار عن هلاك نفسه. وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد، وإن كان لقريش فكذلك، فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بعناده له ويده التي عند قريش أيضا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ والمراد بالثاني الإخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب» كما قيل عليّ بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنه كما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فذكر بذلك تهكما به وبافتخاره بذلك، أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى.

ص: 497

والقول بأنه ليس بتجنيس لفظي لأنه ليس في الفاصلة وهم فإنهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمي فكأنه قيل: تبت يدا جهنمي، وذلك لأن انتسابه إلى اللهب كانتساب الأب إلى الولد يدل على ملابسته له وملازمته إياه كما يقال: هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الأمور ويلازمها، وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميا لزما عرفيا فإن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم، فالانتقال من أبي لهب إلى جهنمي انتقال من الملزوم إلى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الكناية فإن التلازم بينهما في الجملة متحقق في الخارج والذهن إلّا أن هذا اللزوم إنما هو بحسب الوضع الأول أعني الإضافي دون الثاني أعني العلمي، وهم يعتبرون في الكنى المعاني الأصلية. فأبو لهب باعتبار الوضع العلمي مستعمل في الشخص المعين وينتقل منه باعتبار وضعه الأصلي إلى ملابس اللهب وملازمه لينتقل منه إلى أنه جهنمي فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ما اختاره العلامة الثاني فعنده كناية بلا واسطة لأن معناه الأصلي أعني ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمي وأحق مع العلامة لأن أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعاني الأصلية في الكنى ينتقل منه إلى المعنى الأصلي ثم ينتقل منه إلى الجهنمي ولا يلاحظ معه معناه الأصلي وإلّا لكان لفظ أبي لهب في الآية مجازا سواء لوحظ معه معناه الأصلي بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع، وما قيل إن المعنى الحقيقي لا يكون مقصودا في الكناية وأن مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثاني. وهاهنا قصد الذات المعين فليس بشيء لأن الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فيجوز هاهنا أن يكون كلا المعنيين مرادا. وفي المفتاح تصريح بأن المراد في الكناية هو المعنى الحقيقي ولازمه جميعا وزعم السيد أيضا أن الكناية في أبي لهب لأنه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميا فدل اسمه على كونه جهنميا دلالة حاتم على أنه جواد فإذا أطلق وقصد به الانتقال إلى هذا المعنى يكون كناية عنه، وفيه أنه يلزم منه أن تكون الكناية في مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فإنهم ينتقلون من الكنية إلى ما يلزم مسماها باعتبار الأصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر:

قصدت أنا المحاسن كي أراه

لشوق كاد يجذبني إليه

فلما أن رأيت رأيت فردا

ولم أر من بنيه ابنا لديه

على أن فيه بعد ما فيه. وقرأ ابن محيصن وابن كثير «أبي لهب» بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على ما في الكشاف. وقال أبو البقاء: الفتح والسكون لغتان وهو قياس على المذهب الكوفي ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ أي لم يغن عنه ماله حين حل به التباب على أن ما نافية، ويجوز أن تكون استفهامية في محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أو مفعول مطلق أي أي إغناء أو أي شيء أغنى عنه ماله وَما كَسَبَ أي والذي كسبه على أن ما موصولة، وجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه وقال أبو حيان: إذا كان ما الأولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أي وأي شيء كسب أي لم يكسب شيئا. وقال عصام الدين: يحتمل أن تكون نافية، والمعنى ما أغنى عنه ماله مضرة وما كسب منفعة، وظاهره أنه جعل فاعل كَسَبَ ضمير المال وهو كما ترى. واستظهر في البحر موصوليتها فالعائد محذوف أي ولذي كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع، أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو ماله والذي كسبه من عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال الضحاك، أو من عمله الذي يظن أنه منه على

ص: 498

شيء كقوله تعالى وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] كما قال قتادة،

وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»

وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح، وسرّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما، وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الألباء:

كرهت عتيبة إذ أجرما

وأحببت عتبة إذ أسلما

كذا معتب مسلم فاحترز

وخف أن تسب فتى مسلما

وكانت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتيبة ورقية أختها عند أخيه عتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم فطلقاهما إلا أن عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال: لآتين محمدا عليه الصلاة والسلام وأوذينه فأتاه فقال: يا محمد إني كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصبه عليه الصلاة والسلام شيء وطلق ابنته أم كلثوم فأغضبه عليه الصلاة والسلام بما قال وفعل. فقال صلى الله عليه وسلم:«اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» .

وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال له: ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم: إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب: أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفا من الأسد، فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان:

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السبع بالراجع

وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوي وكانت قريش تتقيها كالطاعون، فبقي ثلاثا حتى أنتن فلما خافوا العار استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه، وفي رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه وفي أخرى أنهم لم يحفروا له وإنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلفه حتى توارى فكان الأمر كما أخبر به القرآن. وقرأ عبد الله «وما اكتسب» بناء الافتعال سَيَصْلى ناراً سيدخلها لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أي نارا عظيمة ذاتَ لَهَبٍ ذات اشتعال وتوقد عظيم وهي نار جهنم، وجملة ما أَغْنى إلخ قال في الكشف: استئناف جوابا عما كان يقول أنا أفتدي بمالي، ويتوهم من صدقه وفيه تحسير له وتهكم بما كان يفتخر به من المال والبنين، وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم إغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ما كسب بالولد. وقال بعض الأفاضل: الأولى إشارة لهلاك عمله وهذه إشارة لهلاك نفسه، وهو أيضا على بعض الأوجه السابقة فتذكر ولا تغفل. وقوله تعالى وَامْرَأَتُهُ عطف على المستكن في سَيَصْلى لمكان الفصل بالمفعول. وقوله تعالى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافة غير حقيقية للاستقبال على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان.

أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب

ولا أظن صحة هذا الخبر

ص: 499

عن الصادق لأن فيه ما فيه وكانت على ما في البحر عوراء، ووسمت بذلك لأنها على ما أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.، وقيل: كانت تحمل حزمة الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريقه عليه الصلاة والسلام، وكان رسول الله يطؤه كما يطأ الحرير. وروي عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضا. وروي عن ابن عباس والسدي ويقال لمن يمشي بها يحمل الحطب بين الناس أي يوقد بينهم النائرة ويؤرث الشر، فالحطب مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة ومن ذلك قوله:

من البيض لم تصطد على ظهر لامة

ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

وجعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز:

إن بني الأدرم حمالو الحطب

هم الوشاة في الرضاء والغضب

وقال ابن جرير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلان يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا، والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلّا منهما مبدأ للإحراق. وقيل: الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم:

«سيصلّى» بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام «ومريئته» بالتصغير والهمز وقرىء «ومريته» بالتصغير وقلب الهمزة ياء وإدغامها. وقرأ الحسن وابن إسحاق «سيصلى» بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء في «امرأته» أبو عمر. وفي رواية وقرأ أبو قلابة «حاملة الحطب» على وزن فاعلة مضافا. وقرأ الأكثرون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ بالرفع والإضافة وقرىء «حمالة للحطب» بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر في الحطب وقوله تعالى فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في حَمَّالَةَ وقيل من امْرَأَتُهُ المعطوف على الضمير. وقيل: الظرف حال منها وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية. وقيل له خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير، وحَبْلٌ فاعل. وعلى قراءة حَمَّالَةَ بالرفع قيل امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ خبر. وفِي جِيدِها حَبْلٌ خبر ثان أو حال من ضمير حَمَّالَةَ أو الظرف كذلك وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية أو امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو امْرَأَتُهُ عطف على الضمير وحَمَّالَةَ خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر. وفي التركيب غير ذلك من أوجه الاعراب سيذكر إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هاهنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل. والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل، وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله:

ومسد أمر من أيانق

ليست بأنياب ولا حقائق

أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال، والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بغض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال:

ص: 500

ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي

أم ما تعير من حمالة الحطب

غراء شادخة في المجد غرتها

كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

وقد أغضبها ذلك، فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول:

مذمما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا

وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

فروي أن أبا بكر قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت:

أتهزأ بي لا أرى غيرك. فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول: قريش تعلم أني بنت سيدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها»

. وقيل: إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في حمالة الحطب. وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان. وأمر الاعراب على ما في الكشف أنه إن نصب حَمَّالَةَ يكون حالا هو والجملة أعني فِي جِيدِها حَبْلٌ عن المعطوف على الضمير سَيَصْلى أي ستصلى امرأته على هذه الحالة أو يكون حَمَّالَةَ نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته في جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير، ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف. وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وأن يكون امْرَأَتُهُ عطفا على الفاعل، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانا لكيفية صليها، أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل. وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] والجيد مع الحلي كقوله:

أو أحسن من جيد المليحة حليها ولو قال عنقها كان غثا من الكلام. قال في الروض الآنف: لأنه تهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] أي لا جيد لها فيحلى، ولو كان لكانت حليته هذه. ولتحقيرها قيل امْرَأَتُهُ ولم يقل زوجه انتهى. وهو بديع جدا إلّا أنه يعكر على آخره قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [هود:

71] ولعله استعان هاهنا على ما قال بالمقام. وعن قتادة أنه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز. وقال ابن المسيب: كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت: واللات والعزّى لأنفقنها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها لأنفقنها إلخ. وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى:

حَمَّالَةَ الْحَطَبِ على ما نقلناه سابقا عن قتادة ويحتمل غير ذلك، ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى. وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو من الذهن مناط الثريا. نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا. واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى سَيَصْلى إلخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه

ص: 501

بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلّا الكافر فالإخبار بذلك يتضمن الإخبار بأنه لا يؤمن أصلا فمتى كان مكلفا بالإيمان بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفا بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الإمكان. وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبيّ عليه الصلاة والسلام إجمالا لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلخ بالإيمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:

3] إلخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام. وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى سَيَصْلى إلخ ليس نصا في أنه لا يؤمن أصلا فإن صلي النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره، ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار. وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله عليه وسلم. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية إن المعنى سيصلى نارا ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن، وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام، واستدل بقوله تعالى وَامْرَأَتُهُ على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم.

ص: 502