الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البروج
لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي القصور كما قال ابن عباس وغيره، والمراد بها عند جمع البروج الاثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية، وقيل: شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل: هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها. وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة: هي النجوم.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم
والله تعالى أعلم بصحته. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال: هي
النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم، وقيل: هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم، وبرج الثور ليس إلّا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه، ولذا يسمى فلك البروج وقيل: السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل: السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والاثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال: البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، وقيل: لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44] أو يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال
والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه، وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14]
وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة» وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين
.
وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا: «الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم»
.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال: هل سألت أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة
، قال: لا ولكن الشاهد محمد. وفي رواية جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة. وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة. وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس. وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام، وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم. وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الاثنين ويوم الجمعة، وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر، وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج، وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلّا ينادي إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: أمة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم. وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 20، 21] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال: يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك. وقيل: وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب، وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصوم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج، وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك. وقال الشهاب: الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبيّن كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو إن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي. واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد عليه
فيه، وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وأن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل. وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] وقال المبرد هو قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 120] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر
…
لناموا فما إن من حديث ولا صالي
وقيل: على خدف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلّا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] بعد قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: 1] إلخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها، وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيّا ما كان فالجملة خبرية. وقال بعض المحققين: إن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز وجل في كونهم ملعونين مطرودين، فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا. وقال بعضهم: الأظهر أن يقدر أنهم لمقتولون كما قتال أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتردين لإعلاء دينه، ويكون معجزة بقتل رؤوسهم في غزوة بدر انتهى. وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكي في البحر أن الجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والْأُخْدُودِ الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه: «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله تعالى. فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام إنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا قال لك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس من قتلها؟ فقالوا: الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا
الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم، فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردّون حتى لم يبق منهم إلّا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى، فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك: أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخدّ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال: يقول الله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- حتى بلغ- الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ،
وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجيّ قال: شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا، وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به فيها ومن تابعهم ترك. وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي: يا أمه اصبري ولا تماري، فوقعت
.
وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟ قالت:
المخرج منه أن تخطب الناس فتقول: أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات، فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب، فرجع إلى صاحبته وقال: ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك، قالت: إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، قالت: فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا، قالت: فخدّ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخدّ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه. وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حيمر فخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد
وقيل سبعين ألفا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا، ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا
في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير، وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجيّ السابق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن
، وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكي فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة، ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة، ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن ابن عباس، وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن، فقد قال عصام الدين: لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له فلا تغفل. وقرأ الحسن وابن مقسم «قتّل» بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء.
النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير، أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل. وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك. وقرأ قوم «النّار» بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول وقوله:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن، وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود، وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه، وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النَّارِ خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلّا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم، وذو النون يأباه وكذا ذو العرش. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى «الوقود» بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه. وقوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها
…
وباب على النار الندى والمحلق
وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه، والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة، أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم. وقيل عَلى بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم، ومن زعم
أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بِالْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضمير هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال: نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل. ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه. وفي المنتخب إنما قال سبحانه إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عز وجل: إلّا أن يدوموا على إيمانهم انتهى.
وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة، ووصفه عز وجل بكونه عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك بقوله سبحانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل: المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا قال ابن عطية: يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أي بسبب فتنهم ذلك وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة: أي فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى.
وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما
سببين في جانب الخبر على الترتيب، وقيل: أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلّا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر، وعليه إنما أخر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوزونه. وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمعبودين جدا عن رحمته عز وجل، وعلى أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا. والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلّا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف. وقال بعضهم: لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب، ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل. وجملة فَلَهُمْ عَذابُ إلخ وقعت خبرا لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش. واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على الإطلاق من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة، قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلِكَ إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الآخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة والظلمة، وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي إنه عز وجل هو يبدأ الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك، أو يبدىء كل ما يبدي ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما، ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة.
أو يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق
ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه، وقيل: وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك. وعن ابن عباس يبدىء العذاب بالكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقا جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور. واستعمال يبدىء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله. وحكى أبو زيد أنه قرىء «يبدأ» من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة وَهُوَ الْغَفُورُ لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلّا الله تعالى للتائبين الْوَدُودُ المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بإنعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه، ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان، وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة. وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قوله:
وأركب في الروع عريانة
…
ذلول الجماح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى ذُو الْعَرْشِ أي صاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات.
وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه: لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلّا قليل
. وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول. وقال القفال ذُو الْعَرْشِ ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز، وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا. وقرأ ابن عامر في رواية «ذي العرش» بالياء على أنه صفة ل رَبِّكَ وحينئذ يكون قوله تعالى إِنَّهُ هُوَ إلخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف، وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ. وقد قال ابن مالك في التسهيل: يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض مباينته. نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلّا الفرقدان
الْمَجِيدُ العظيم في ذاته عز وجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان «المجيد» بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه، فإنه قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم. وجاز على قراءة «ذي العرش» بالياء أن يكون صفة ل ذي وجوز كونه صفة ل رَبِّكَ وليس بذلك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين فَعَّالٌ لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعال غيره عز وجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم إنه سبحانه وتعالى إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى هُوَ الْغَفُورُ وجوز أن يكون الْوَدُودُ وذُو الْعَرْشِ والْمَجِيدُ صفات ل (غفور) ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدءات للمذكورات. وأطلق الزمخشري القول بأن فَعَّالٌ خبر لمبتدأ محذوف أي هو
فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى هُوَ الْغَفُورُ لأن قوله سبحانه فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء، ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة اه. وهو تدقيق لطيف.
وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان، ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد ب الْجُنُودِ هاهنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على أذيتهم فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من الْجُنُودِ بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. وقيل:
البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر. وقال السمين: يجوز كونه منصوبا بأعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه، وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الإشكال. وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال، والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤونه سبحانه، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قومك فِي تَكْذِيبٍ إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبىء عنه العدول عن يكذبون إلى فِي تَكْذِيبٍ المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله. فكأنه قيل: ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب، أو كأنه قيل:
ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ جوز أن يكون اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق، والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد، وكان المعنى أنه عز وجل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى. وذكر عصام الدين أن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن ربهم إلى من ورائهم.
وقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به. وقيل: إضراب وانتقال عن الإخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء، والأول أولى. وزعم بعضهم أن الإضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم، وفيه من تسليته صلى الله عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب. وقرأ ابن السميفع «قرآن مجيد» بالإضافة قال ابن خالويه:
سمعت ابن الأنباري يقول: معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر:
ولكن للغنى رب غفور أي غنى رب غفور وقال ابن عطية: قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه، وجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان: وهذا أولى لتوافق القراءتين فِي لَوْحٍ أي كائن في لوح مَحْفُوظٍ أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وهو معقود بالعرش، وأصله في حجر مالك يقال له ساطريون لله عز وجل فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وأنه كتب في صدره لا إله إلّا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. وقال مقاتل: إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه إخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك. نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيّز وإنه كالمرآة للصور العليّة مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع «لوح» بضم اللام، وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا مجازا ما فوق السماء السابعة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه «محفوظ» بالرفع على أنه صفة لقرآن وفِي لَوْحٍ قيل متعلق به، وقيل صفة أخرى لقرآن.
وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم.