المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الشمس مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي - تفسير الألوسي = روح المعاني - جـ ١٥

[الألوسي، شهاب الدين]

الفصل: ‌ ‌سورة الشمس مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي

‌سورة الشمس

مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأول وخمس عشرة في الباقية. ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] وفي هذه فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة، وختم جل وعز هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من قائل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي ضوءها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها. وقال بعض المحققين: حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة في وقته، ثم إنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد، فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا، ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها، وتعقبه أبو حيان بقوله: لعله مختلق عليه لأن المبرد أجلّ من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من أخرى. وأجيب بأنه لم يرد الاشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير. وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل المراد به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من

ص: 357

الأفق الشرقي بعد طلوعها وذلك أول الشهر، فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره، فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته. وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤوسنا كان القمر في التحتاني منه أعني ما يلي أقدامنا، فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروي عن قتادة. وقولهم: سمي بدرا لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب، ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه. وقال ابن زيد: تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب، ومراده ما ذكر في القولين. وقيل: المراد تبعها في الإضاءة بأن طلع وظهر مضيئا عند غروبها آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروي عن ابن سلام واختاره الزمخشري. وقال الحسن والفرّاء كما في البحر: أي تبعها في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك، وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس وزعم أنه رأي المنجمين لا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها. وكون الاختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير مضيء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجا، وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى. وقال الزجاج وغيره تَلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في الاستدارة وكمال النور.

وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار ومضى منه مدة، فالإسناد مجازي كالإسناد في نحو صام نهاره. وقيل: الضمير المنصوب يعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه، وقيل: يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى الذكر المرجع واتساق الضمائر. وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جَلَّاها عليه عائدا على الله عز وجل كأنه قيل والنهار إذا جل الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر. وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا. وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها، قال أبو حيان: رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهما فإنه يقال: غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل. وقال بعض الأجلّة: جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه. وقال الخفاجي: الأول أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدم الضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدل على المراد. واستصعب الزمخشري الأمر في نصب إِذا بأن ما سوى الواو الأولى إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم، وعطف الظرف أعني إِذا في إِذا جَلَّاها على نظيرتها في إِذا تَلاها المعمولة لفعل القسم وإن كانت

ص: 358

قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفي ما لزمه، فقال: إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا فكان لها شأن خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى، فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما معا والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب، فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول: ضرب زيد عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى. وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف هاهنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى وَالشَّمْسِ وَضُحاها والشمس وضوءها إذا أشرقت وفيه أيضا أنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل. وأيضا الإشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوّز مطلقا أو بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك:

في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال، وأيضا هو مبني على قبول هذا الاستكراه وعدم إمكان التخلص من الاجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أو قبل وقدر لكل جواب لم يبق إشكال.

وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في قوله:

وبعد غد يا لهف نفسي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

أن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به، كأن يقدر وتلو القمر إذا تلاها، وتجلية النهار إذا جلاها، وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها، وبالليل كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث وأيضا يردّ على الزمخشري مثل قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 17، 18] لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا، وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لإظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار، وأيضا إذا كان الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالاستعارة إما تبعية أو تمثيلية، وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به وليظهر ما أريد منه مؤكدا فلا لغوية وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن بناها وإيثار ما على من لإرادة الوصفية تفخيما على ما تقدم في وَما وَلَدَ [البلد: 3] كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلك ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره ببانيها لإشعاره بالمراد من البناء. وكذا الكلام في قوله تعالى وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها، ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة:

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

وبمعنى أشرف وارتفع ومن أيمانهم لا والقمر الطاحي. ويقال: طحا يطحو طحوا وطحى يطحي طحيا.

وقوله سبحانه وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة

ص: 359

والباطنة والتنكير للتكثير، وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي، ومن ذهب إلى ذلك جعله من الاستخدام. وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاثة مصدرية أي وبنائها وطحوها وتسويتها. وتعقبه الزمخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في الحواشي لما يلزم من عطف الفعل على الاسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه. واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بَناها وطَحاها سَوَّاها على أن دلالة السياق كافية في صحة الإضمار، وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الاسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه على ما بعد ما كأنه قيل:

ونفس وتسويتها فإلهامها فجورها وتقواها. واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهلة، والتسوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التسوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية استعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجودا على أن المهلة في نحوها عرفي وقد يعد متعقبا دون تراخ ثم إنه مشترك الإلزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز، ونفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى فَأَلْهَمَها جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه. وأبى القاضي عبد الجبار إلّا المصدرية دون الموصولية قال لما يلزم منها تقديم الإقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز وجل.

وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أوج كبريائه جل شأنه، وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي له بنيت السماء وطحيت الأرض وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى، ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا، وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين وإلهامهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها من ضلالها، وروي ذلك عن ابن عباس كما في البحر، وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فُجُورَها وَتَقْواها بيّنهما لها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادئ تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل:

قدم مراعاة للفواصل وأضيفا إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجور وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم الاستعداد، وقيل رعاية للفواصل أيضا. وقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره، وحذف اللام كثير لا سيما عند طول الكلام المقتضى للتخفيف أو لسدّه مسدها. وفاعل زَكَّاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وتكرير قَدْ فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة، والتزكية التنمية والتدسية الإخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأطلق بعضهم فقال: أبدل من ذلك حرف علة كما قالوا في تقضض تقضى ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى قال الشاعر:

ص: 360

ودسست عمرا في التراب فأصبحت

حلائله منه أرامل ضيّعا

وفي الكشاف: التزكية الإنماء والإعلاء، والتدسية النقص والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور جهلا وفسوقا.

وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولى والتدسية بالإخفاء فيه والتلوث به وأيّا ما كان ففي الوعد والوعيد المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز وجل ويذكر عظائم آلائه وجلائل نعمائه جلا وعلا من اللطف بعباده ما لا يخفى.

وقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وجعل الزمخشري قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ إلخ تابعا لقوله تعالى فَأَلْهَمَها إلخ على سبيل الاستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل: ليدمن من الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام، فقيل: إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصودة بالإقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالعقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب، ولو سلم عدم الاختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا سيما في الكتاب العزيز. وتعقب بأن حذف اللام كثير لا سيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] فما حدا مما بدا وأن التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الاعتناء ببعض المقدمات أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في

فَأَلْهَمَها ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا

وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها»

ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل إن ما له إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها إلخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالاستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زَكَّاها وكذا في دَسَّاها لله عز وجل والبارز لمن بتأويل النفس. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله. بل

أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم

ص: 361

يقول في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها الآية: «أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله من كل خير»

.

وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» .

وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام إذا تلا هذه الآية وقف وقال ذلك

. ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم: إن ذلك هو المرجح، ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في وَالسَّماءِ وَما بَناها إلخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] أوفق به لأن تزكى مطاوع زكى فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى، ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى السابق هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر، نعم هو نص في تكذيب الزمخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل. والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلي من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزيا وفي الاسم تقوى وطغوى كذا في الكشاف وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى وأوى ويأتي حيث قال: يقال طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل. والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول: ظلمني الخبيث بجراءته على الله تعالى.

وجعلها الزمخشري للاستعانة والأمر سهل، وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة، ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في قوله تعالى فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة «طغواها» بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعى والحسنى في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يفرق فيه بين الاسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء واوا، وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية.

إِذِ انْبَعَثَ متعلق بكذبت أو بطغوى وانْبَعَثَ مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقة أَشْقاها أي أشقى تمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم فَقالَ لَهُمْ أي لثمود أو لأشقاها على ما قيل بناء أن المراد به جمع ولا يأباه وَسُقْياها كما لا يخفى رَسُولُ اللَّهِ هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته وبيانا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه ناقَةَ اللَّهِ وهو نصب على التحذير وشرطه ليس تكرير المحذر منه أو كونه محذرا بما بعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير، بلى شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو المعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو الزموا ناقة الله وليس بشيء وَسُقْياها أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها

ص: 362

فَكَذَّبُوهُ أي في وعيده إياهم كما حكي عنه بقوله تعالى وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف: 73] فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب إن فعلوا ما حذرهم منه وقيل: إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة، ومآل ذلك أنه قال لهم إنه قال الله تعالى ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به فَعَقَرُوها أي فنحروها أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم.

فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب وقالوا: دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم: ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها. وقال في القاموس: معناه أتمّ العذاب عليهم. وقال مؤرخ: الدمدمة إهلاك باستئصال. وفي الصحاح: دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته. وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين والمعنى كما تقدم بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب فَسَوَّاها الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة كما في (طغواها) وأَشْقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض وَلا يَخافُ أي الرب عز وجل عُقْباها أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته. وهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للاستئناف، وجوز أن يكون ضمير لا يَخافُ للرسول والواو للاستئناف لا غير على ما هو الظاهر، أي ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وحذرهم. وقال السدّي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي: الواو للحال والضمير عائد على أَشْقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير. وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء وقرىء «ولم يخف» بواو وفعل مجزوم بلم. هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصّل في موضع آخر. وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في فصوصه: إنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم. ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم. وذكر بعض أهل التأويل أن الشَّمْسِ إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى وَضُحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية وَالْقَمَرِ إشارة إلى ماهية الممكن المستفيدة للوجود من شمس الذات وَالنَّهارِ إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله وَاللَّيْلِ إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت بر صفات جمال الذات وجلاله وكماله وَاللَّيْلِ إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات الساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق وَالسَّماءِ إشارة إلى عالم العقل وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الجسم والنفس معلومة وناقَةَ اللَّهِ إشارة إلى راحلة الشوق الموصولة إلى سبحانه وَسُقْياها إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض: آخر الشمس إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس الله نور السماوات والأرض. وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره:

ص: 363

ظاهر أنت ولكن لا ترى

لعيون حجبتها النقط

وَضُحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته وَالْقَمَرِ إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشَّمْسِ إشارة إلى الذات وَضُحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الاعتباري وَالْقَمَرِ إشارة إلى أول التعينات وَالنَّهارِ إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس وَاللَّيْلِ إشارة إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال وَالسَّماءِ إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد مع دخولها في هذا العالم للاعتناء بشأنها وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الكثافة وناقَةَ اللَّهِ إشارة إلى الطريقة وَسُقْياها مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 364