الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا، فدخلت جحرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وقيت شركم كما وقيتم شرها»
. وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما
أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات، فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
[المرسلات: 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: 31] إلخ افتتح هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً
قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل المرسلات والعاصفات طوائف، والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عنده انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام، ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا الحديث الرصد
وفي بعض الآثار «نزل إليّ ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي»
فالمرسلات صفة لمحذوف، والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا النَّاشِراتِ ونصب عُرْفاً على الحال والمراد متتابعة، وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه، ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفا واحدا إذا جاؤوا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه. ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيص النكر أي وَالْمُرْسَلاتِ للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم منهم. وعطف النَّاشِراتِ على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف «العاصفات» على «المرسلات» و «الفارقات» على «الناشرات» وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات كما في قوله:
يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب، وترتيب مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنقاذه ظاهر، وأما ترتيب إلقاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء، وقيل لتقدم الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر. ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل، وقيل: إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر، وقيل: إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق.
واستعمال «العاصفات» بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل.
وعُذْراً ونُذْراً في قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة، ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي، وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال، وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر
وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما «الملقيات» أو ذِكْراً وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية من «الملقيات» أو الضمير المستتر فيها على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذِكْراً على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير. وأَوْ في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها بمعنى الواو، وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم، ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلّا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل، وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر الجهل بما أوحين ففرقن إلخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة. وقيل لا مغايرة بين الكل إلّا بالصفات وهم جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال: أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز وجل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا، وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي، ففي كلامه الاكتفاء.
وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلا. وقيل في عطف النَّاشِراتِ بالواو دون الفاء وعطف «الفارقات» به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول، ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية. وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق النَّاشِراتِ حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد هاهنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر. وقيل: أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر، ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه، وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عُذْراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث. وإما (إنذارا) للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد، والمراد ب عُرْفاً متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذِكْراً إما عُذْراً للشاكرين وإما نُذْراً للكافرين. وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16، 17] فتسببن ذِكْراً إما وإما وقيل: أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجّمة فعصفن وأذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين. وقيل: أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب
الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤوا به ففرقوا بين الحق والباطل والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين، ويجوز أن يراد على هذا بعرفا متتابعة. وقيل: أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والاستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكا إلّا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلّا ذكره عز وجل، أو طرحن ذكر غيره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر فيها لما عداه. وقيل: الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس، والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلّا أن المرسلات ملائكة الرحمة، والعاصفات ملائكة العذاب، والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال: الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الرسل ترسل بالمعروف، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الريح والنَّاشِراتِ نَشْراً المطر، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الرسل ومن وجه آخر الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الملائكة فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح العواصف وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عُذْراً أَوْ نُذْراً منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون. وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين، فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل الْمُرْسَلاتِ الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي.
وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب. وروي تفسير الْمُرْسَلاتِ بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت إفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود النَّاشِراتِ الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره. وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع: الملائكة تنشر الناس من قبورهم، قال الضحاك: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون النَّاشِراتِ على معنى النسب. وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك «الفارقات» الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرّقت بين ما يحل وما يحرم. وعن مجاهد أيضا الرياح تفرق بين السحاب فتبدده. وعن ابن عباس وقتادة والجمهور «الملقيات» الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء. وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر «العاصفات» بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها، ومنهم من فسر «الفارقات» بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهر كون المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات» لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو.
وقرأ عيسى «عرفا» بضمتين نحو نكر في نكر وقرأ ابن عباس «فالملّقيات» بالتشديد من التلقية وقيل وهي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وذكر المهدوي أنه رضي الله عنه قرأ «فالملقّيات» بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز وجل. وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر «عذرا أو نذرا» بضم الذالين. وقرأ الحرميان وأبو عامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون الذال في «عذرا» وضمها في «نذرا» وقرأ إبراهيم التيمي «ونذرا» بالواو. وقوله تعالى إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب للقسم وما موصولة وإن كتبت موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وجوز أن يراد بالموصول جميع ما تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أوهن من بيت العنكبوت، وما زعمه المعاصرون منهم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلّا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت كما قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وقيل فتحت كما قال سبحانه وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] وأنشد سيبويه:
الفارجي باب الأمير المبهم ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا، وأدلة استحالة الخرق والالتئام فيها خروق لا تلتئم وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر: فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرأ عمرو بن ميمون «طمّست» و «فرّجت» بتشديد الميم والراء وذكر في الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن المؤقت هو الأحداث لا الجثث، ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما كان الوجه لأن القيامة ليست وقتا يتبين فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إِذَا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل، وقد أشير إليه في ضمن التفسير. وقرأ النخعي والحسن وعيسى وخالد «أقتت» بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا «وقّتت» بالواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بيّن في محله. وقال عيسى: وقتت لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضا «ووقتت» بواوين على وزن فوعلت وإِذَا في جميع ما تقدم شرطية. وقوله تعالى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قيل مقول لقول مقدر هو جواب إِذَا أي يقال لِأَيِّ يَوْمٍ إلخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما
يشعر به الكلام والاستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ما كانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحوالها وفظاعة أمورها وأهوالها. وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار إليها فيما قبل من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل وأن يكون للرسل إلّا أن المعنى على نحو ما تقدم. وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع أُقِّتَتْ أي مقولا فيها لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل: وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله. وجواب إِذَا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وجاء حذف الفاء في مثله. وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أي وقع الفصل أو وقع ما توعدون. واختار هذا أبو حيان ويجوز على احتمال كون الجواب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أو تقدير المقدر مؤخرا كون جملة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم. وقوله تعالى لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل من لِأَيِّ يَوْمٍ مبين له، وقيل: متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي أي شيء جعلك داريا ما هو على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره، وما الثانية خبر مقدم ويَوْمُ مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يَوْمُ الْفَصْلِ أمرا بديعا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي في ذلك اليوم الهائل ووَيْلٌ في الأصل مصدر بمعنى هلاك وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه إلّا أنه رفع على الابتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويَوْمَئِذٍ ظرفه أو
صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود. وقرأ قتادة «نهلك» بفتح النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر في قول العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا
…
هائلة أهواله من أدرجا
لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أو فيه وليناسب ما في الشطر الثاني ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بالرفع على الاستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويه قراءة عبد الله «ثم سنتبعهم» بسين الاستقبال وجوز العطف على قوله تعالى أَلَمْ نُهْلِكِ إلى آخره. وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو «نتبعهم» بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على نُهْلِكِ فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنهم بعد ما كانوا قد أهلكوا والعطف على نُهْلِكِ يقتضيه. وجوز أن يكون قد سكن تخفيفا كما في وَما يُشْعِرُكُمْ [الأنعام: 109] فهو مرفوع كما في قراءة الجمهور إلّا أن الضمة مقدرة كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الفظيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ أهلكناهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا. وقيل: لا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما
سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد. وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا أي فقدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن.
وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي «فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي
…
وأنت غدا تضمك في كفات
وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أَحْياءً وَأَمْواتاً مفعول محذوف لا «لكفاتا» لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاة لا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها. وقيل: هو مصدر كالقتال نعت به للمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل.
وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا ولا يخفى ضعف الاستدلالين.
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت شامِخاتٍ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ك أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلّا الله عز وجل.
وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: 43] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب «انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب. وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات. واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار» بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة
ورقاب فيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى «بشرار» بفتح الشين وألف بين الراءين أيضا فقد قيل إنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيار جمع خير وهو حينئذ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر. وقيل القصر الغليظ من الشجر واحده قصرة نحو جمرة وجمر. وقيل قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلّا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم «كالقصر» بفتح القاف والصاد وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى كَالْقَصْرِ وهو غريب. وقرأ ابن مسعود «كالقصر» بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر. وقرأ ابن جبير والحسن أيضا «كالقصر» بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة
وحوج وبعض القراء «كالقصر» بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى القصر في قراءة الجمهور كَأَنَّهُ أي الشرر جِمالَتٌ بكسر الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صُفْرٌ فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف. وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ فقيل الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة. وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها
…
فدن (1) لأقضي حاجة المتلوم
فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأول على معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلما قيل كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وهو قائم مقام التخصيص في القصر تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا، والتشبيه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضا والأول هو التحقيق على ما في الكشف وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني من البداء في شيء ولا حاجة في شيء منهما إلى اعتبار كون ضمير كأنه للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو العلاء المعري في قوله في مرثية واحد من الأشراف:
الموقدي نار القرى الآصال
…
والإسحار بالإهضام والإشعاف
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
…
ترمي بكل شرارة كطراف
وإن كان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره. وقرأ الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «جمالات» بكسر الجيم وبالألف والتاء جمع جمال أو جمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى
(1) فدن كلبن القصر جمعه أفدان اهـ منه.
على ما سمعت. وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات. وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنها إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام. وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذا باعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الامتداد والالتفاف وقرأ ابن عباس أيضا والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ورويس «جمالة» كقراءة حفص ومن معه إلّا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صُفْرٌ لإرادة الجنس وقرأ الحسن «صفر» بضم الفاء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ الإشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة، ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون، وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطق. وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن عليّ وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية «هذا يوم» بالفتح فقيل هو فتح إعراب على أن هذا إشارة إلى ما ذكر و «يوم» منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذا أي هذا الذي ذكر من الوعيد واقع في يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وقيل هو فتح بناء ويَوْمُ في محل رفع على الخبرية وبني لإضافته للجملة ولما حقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء «يوم» على الفتح مع لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهب كوفي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ قيل في النطق مطلقا أو في الاعتذار. وقرأ زيد بن عليّ كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي «ولا يأذن- الله تعالى- لهم» فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يُؤْذَنُ منتظم معه في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل فيعتذروا بالنصب في جواب النفي قيل ليفيد الكلام نفي الاعتذار مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فيوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه. وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب النفي للمحافظة على رؤوس الآي والوجهان جائزان وظاهره استواء المعنى عليهما وهو مخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل دليله على ذلك هذه الآية، ورد عليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر. والظاهر أن نفي الاعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الاعتذار النافع فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ والمبطل جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلّا إذا جمع بينهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث ظهر أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص مما هم فيه إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاة المؤمنين فِي
ظِلالٍ
جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا
لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه ما هو المعروف، ويؤيده ما تقدم في المقابل انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ إلخ وقراءة الأعمش في «ظلل» جمع ظلة وأيّا ما كان فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقدر بقول هو حال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العظيم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لا جزاء أدنى منه، والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلّا أنه وضع الظاهر موضع الضمير مدحا لهم بصفة الإحسان أيضا مع الإشعار بعلة الحكم، وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله:
إخوتي لا تبعدوا أبدا
…
وبلى والله قد بعدوا
فهو دعاء لإخوته بعدم الهلكة بعد هلاكهم تقريرا بأنهم كانوا أحقاء بذلك الدعاء في حياتهم وأن هلاكهم لحينونة الأجل المسمى لا لأنهم كانوا أحقاء بالدعاء عليهم. وذهب أبو حيان إلى أنه كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير وتهديد وتخسير، ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم وفيه نظر. والظاهر أن قوله سبحانه إِنَّكُمْ إلخ في موضع التعليل وفيه دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب وهلاك أبدا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز وجل بقبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة لا يَرْكَعُونَ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار، وقيل: أي إذا أمر بالصلاة أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ
روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: حط عنا الصلاة فإنّا لا نجبى فإنها مسبة علينا، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما
. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ كأنّه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون واستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين
على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا أو يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قالوا في عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحق الواضح فما بالهم لا يبادرون الإيمان به قبل الفوت وحلول الويل وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت. وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية «تؤمنون» على الخطاب هذا ولما أوجز في سورة الإنسان في ذكر أحوال الكفار في الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الاعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم.
تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله (سورة النبأ)
روح المعاني الجزء الثلاثين