المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء:‌ ‌ - تفسير الشعراوي - جـ ١٤

[الشعراوي]

الفصل: قوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء:‌ ‌

قوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء:‌

‌ 51]

أي: هاتوا الأعظم فالأعظم، وتوغّلوا في التحدِّي والبُعْد عن الحياة، فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها.

وقوله: {مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء: 51]

يكبر: أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر. ومنه قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] أي: عَظُمت. والمراد: اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد.

ونلاحظ في قوله تعالى: {مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء: 51] جاء هذا الشيء مُبْهَماً؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كُلّ واحد كل على حَسْب ما يرى.

بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي

ص: 8601

يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها.

دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول: الحديد أقوى. ومنهم من يقول: بل الحجارة. وآخر يقول: بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يَقُل: أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال: أشد جنود الله عشرة.

فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه، مُرتَّبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه، وأخذ يعدّ هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً.

قال: «أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهم» .

فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. .} [الإسراء: 51] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء.

ثم يقول تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. .} [الإسراء: 51]

ص: 8602

أي: أن الذي خلقكم بدايةً قادرٌ على إعادتكم، بل الإعادة أَهْوَن من الخَلْق بدايةً، ولكن الجواب لا يكون مُقنِعاً إلا إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مُسلّمة. فهل هم مقتنعون بأن الله تعالى فطرهم أوّل مرة؟

نعم، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كُفْرهم، بدليل قولهم:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا: مَنْ يُعيدنا؟ فإنْ قلت لهم: الذي فطركم أول مرة. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ. .} [الإسراء: 51]

معنى يُنغِض رأسه: يهزُّها من أعلى لأسفل، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخريةً مما تقول، والمتأمل في قوله {فَسَيُنْغِضُونَ} يجده فِعْلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ، والمقام مقام جَدلٍ بين الكفار وبين رسول الله، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم:{الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. .} [الإسراء: 51] فسينغضون رؤوسهم.

فكان في وُسْع هؤلاء أنْ يُكذِّبوا هذا القول، فلا يُنغِضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة، ولهم بعد ذلك أنْ يعترضوا على هذا القول ويتهموه، ولكن الحق سبحانه غالبٌ على أمره، فهاهي الآية تُتْلىَ عليهم وتحْتَ سَمْعهم وأبصارهم، ومع ذلك لم يقولوا، مما يدلُّ على غباء الكفار وحُمْق تفكيرهم.

وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة

ص: 8603

حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم َ: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا. .} [البقرة: 144]

ثم أخبره بما سيحدث من الكفار، فقال:{سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلَاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]

وهذا قَوْلٌ اختياريّ في المستقبل، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية أَلاّّ يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مِأْخَذاً على القرآن، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة:{وَيَقُولُونَ متى هُوَ. .} [الإسراء: 51]

والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجُّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث، وهذا تراجعٌ منهم في النقاش، فقد كانوا يقولون: مَنْ يُعيدنا؟ والآن يقولون: متى؟ فيأتي الجواب: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء: 51]

عسى: كلمة تفيد الرجاء، والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه، فإذا قُلْت مثلاً: عسى فلاناً أنْ يعطيك كذا، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما؛ لأنه رجاء من غيري لك، أما لو قلْت: عسى أنْ أُعطيك كذا، فهي أقرب في

ص: 8604

الرجاء؛ لأنني أتحدَّث عن نفسي، وثقة الإنسان في نفسه أكثر من ثقته في الآخرين، ومع ذلك قد يتغير رأييِّ فلا أعطيك، أو يأتي وقت الإعطاء فلا أجد ما أعطيه لك.

لكن إذا قُلْتَ: عسى الله أن يعطيك فلا شكَّ أنها أقربُ في الرجاء؛ لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء. وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى، فالرجاء منه سبحانه مُحقَّق وواقع لا شكَّ فيه؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة، ومن الإنسان لغيره رتبة، ومن الله تعالى للغير رتبة.

وقد شرح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم َ مسألة القرب فقال: «بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسَّبابة والوسطى؛ لأنه ليس بعده رسول، فهو والقيامة متجاوران لا فاصلَ بينهما، كما أننا نقول: كُلُّ آتٍ قريب، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب؛ لأنه قادم لا محالةَ.

ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً} .

ص: 8605

هذا في يوم القيامة، حيث لا يستطيع أحدٌ الخروجَ عن مُرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا؛ لأن الخالق سبحانه حين خلق الخَلْق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية، فهو مُخْتَار يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويترك ما يشاء، فإرادته أمير على جوارحه، أما الأمور القهرية فلا دَخْل للإرادة بها.

فإذا جاء اليوم الآخر انحلَّتْ الإرادة عن الجوارح، ولم يَعُدْ لها

ص: 8605

سلطان عليها، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة:{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ. .} [فصلت: 21]

لقد كانت لكم وَلَاية علينا في دُنْيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبِّب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة:{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]

ففي الدنيا ملَّك الناس، وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملْك كله لله وحده لا شريك له.

فقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ. .} [الإسراء: 52] أي: يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصُّور {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. .} [الإسراء: 52] أي: تقومون في طاعة واستكانة، لا قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس، فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة.

ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: {فَتَسْتَجِيبُونَ. .} [الإسراء: 52] ولم يقل: فتُجيبون؛ لأن استجاب أبلغُ في الطاعة والانصياع، كما نقول: فهم واستفهم أي: طلب الفَهْم، وكذلك {فَتَسْتَجِيبُونَ} أي: تطلبون أنتم الجواب، وتُلحُّون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبَّوْن عليه، فتُسرعون في القيام.

ليس هذا وفقط، بل:{فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. .} [الإسراء: 52] أي: تُسرعون في القيام حامدين الله شاكرين له، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب؟

ص: 8606

نعم، إنهم يحمدون الله تعالى؛ لأنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكَّرهم به، ودعاهم إلى الإيمان به، والعمل من أجله، وطالما ألحَّ عليهم ودعاهم، ومع ذلك كله جحدوا وكذَّبوا، وها هم اليوم يَروْنَ ما كذَّبوه وتتكشّف لهم الحقيقة التي أنكروها، فيقومون حامدين لله الذي نبَّههم ولم يُقصِّر في نصيحتهم. كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والاجتهاد، ثم يخفق في الامتحان فيأتيك معتذراً: لقد نصحتني ولكني لم أستجبْ.

إذن: فبيانُ الحق سبحانه لأمور الآخرة من النِّعَم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة، ويعرفون أنها من أعظم نِعَم الله عليهم، ولكن بعد فوات الأوان.

لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة (الرحمن) : {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 34] بعد قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 34] فالآية في نظرهم تتحدث عن نِقْمة وعذاب، فكيف يناسبها:

{فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35]

والمتأمّل في الآية يجدها منسجمة كل الانسجام؛ لأن من النعمة أن نُنبِّهك بالعِظَة للأمر الذي ينتظرك والعذاب الذي أُعِدَّ لك حتى لا تقعَ في أسبابه، فالذي يعلم حقيقة العذاب على الفِعْل لا يقترفه.

ثم يقول تعالى: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 52]

الظن: خبر راجح؛ لأنهم مذبذبون في قضية البعث لا يقين عندهم بها.

ص: 8607

{إِن لَّبِثْتُمْ} أي: أقمتُم في الدنيا، أو في قبوركم؛ لأن الدنيا متاع قليل، وما دامتْ انتهت فلن يبقى منها شيء. وكذلك في القبور؛ لأن الميت في قبره شِبْه النائم لا يدرك كم لَبِثَ في نومه، ولا يتصوّر إلا النوم العادي الذي تعوّده الناس.

ولذلك كل مَنْ سُئِل في هذه المسألة: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، فهذا هو المعتاد المتعارف عليه بين الناس، ذلك لأن الشعور بالزمن فرع مراقبة الأحداث، والنوم والموت لا أحداثَ فيها، فكيف إذن سنراقب الأحداث والملَكة الواعية مفقودة؟

وقد قال تعالى في آية أخرى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]

وقال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين} [المؤمنون: 112 - 113]

أي: لم يكُنْ لدينا وَعْيٌ لنعُدّ الأيام، فاسأل العَادّين الذين يستطيعون العدَّ.

وفي قصة العزيز الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه:{قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. .} [البقرة: 259] على مُقْتضى العادة التي أَلفَها في نومه، فيُوضِّح له ربه:{بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ} [البقرة: 259]

فالمدّة في نظر العزيز كانت يوماً أو بعض يوم، والحق سبحانه أخبر أنها مائة عام، فالبَوْنُ شاسع بينهما، ومع ذلك فالقوْلَان

ص: 8608

صادقان. والحق سبحانه أعطانا الدليل على ذلك، فقد بعث العُزَيز من موته، فوجد حماره عظاماً بالية يصدُق عليها القول بمائة عام، ونظر إلى طعامه وشرابه فوجده كما هو لم يتغير، وكأنّ العهدَ به يوم أو بعض يوم، ولو مَرّ على الطعام مائة عام لتغيَّر بل لتحلَّل ولم يَبْقَ له أثر.

وكأن الخالق سبحانه قبض الزمن وبَسَطه في وقت واحد، وهو سبحانه القابض الباسط، إذن: قَوْلُ الحق سبحانه مائة عام صِدْق، وقول العُزَيز {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} صِدْق أيضاً، ولا يجمع الضِّدَّيْن إلا خالق الأضداد سبحانه وتعالى.

وبعد أن تكلم القرآن عن موقف الكفار من الألوهية، وموقفهم من النبوة وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم َ، ثم عن موقفهم من منهج الله وكفرهم بالبعث والقيامة، أراد سبحانه أنْ يُعطينا الدروس التي تُربِّب منهج الله في الأرض، فقال تعالى:{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} .

ص: 8609

وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين عبيد وعباد، وأنهما جَمْع عبد، لكن عبيد تدل على مَنْ خضع لسيّده في الأمور القهرية، وتمرَّد عليه في الأمور الاختيارية، أما عباد فتدلّ على مَنْ خضع لسيده في كُلِّ

ص: 8609

أموره القهرية والاختيارية، وفضَّل مراد الله على مُرَاده، وعنهم قال تعالى:{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَاماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 63 - 64]

وهذا الفَرْق قائم بينهما في الدنيا دون الآخرة، حيث في الآخرة تنحلّ صفة الاختيار التي بنينا عليها التفرقة، وبذلك يتساوى الجميع في الآخرة، فكلهم عبيد وعباد؛ لذلك قال تعالى في الآخرة للشيطان:{أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17]

فسمَّاهم عباداً رغم ضلالهم وكفرهم.

وقوله تعالى: {يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]

أي: العبارة التي هي أحسن، وكذلك الفِعْل الذي هو أحسن. والمعنى: قُلْ لعبادي: قولوا التي هي أحسن يقولوا التي هي أحسن؛ لأنهم مُؤتمرون بأمك مُصدِّقون لكَ.

و {التي هِيَ أَحْسَنُ} تعني: الأحسن الأعلى الذي تتشقَّق منه كُل أَحْسَنيات الحياة، والأحسن هو الإيمان بالله بشهادة أن لا إله إلا الله، هذه أحسن الأشياء وأولها، لذلك كان صلى الله عليه وسلم َ يقول:«خَيْرُ ما قُلْتُه أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله» «.

لأن من باطنها ينبتُ كل حسن، فهي الأحسن والكبيرة؛ لأنك ما دُمْتَ تؤمن بالله فلن تتلقّى إلا عنه، ولن تخاف إلا منه، ولن ترجوَ إلا هو، وهكذا يحسُن أمرك كلُّه في الدنيا والآخرة.

ص: 8610

وأنت حين تقول: لا إله إلا الله، لا تقولها إلا وأنت مؤمن بها؛ لأنك تريد أنْ تُشيِعها فيمن سمعك، ولا تكتفي بنفسك فقط، بل تحب أنْ يُشاركك الآخرون هذا الخير؛ لذلك إذا أردنا أن ننطقَ بهذه الكلمة نقول: أشهد أن لا إله إلا الله. فمعنى أشهد يعني عند مَنْ لم يشهد، فكأن إيمانك بها دَعاك إلى نَقْلها إلى الناس، وبثِّها فيما بينهم.

ويمكن أن نقول {التي هِيَ أَحْسَنُ} الأحسن هو: كل كلمة خير، أو الأحسن هو: الجدل بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:{وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]

أو نقول: الأحسن يعني التمييز بين الأقوال المتناقضة وفَرْزها أمام العقل، ثم نختار الأحسن منها، فنقول به.

فالأحسن إذن تَشيُع لتشمل كُلَّ حَسَن في أيِّ مجال من مجالات الأقوال أو الأفعال، ولنأخذ مثلاً مجال الجدل، وخاصة إذا كان في سبيل إعلاء كلمة الله، فلا شكّ أن المعارض كَارِهٌ لمبدئك العام، فإنْ قَسَوْتَ عليه وأغلظْتَ له القول أو اخترتَ العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلاف بينكما من خلاف في مبدأ عام على عَدَاء شخصي.

وإذا تحوَّلَتْ هذه المسألة إلى قضية شخصية فقد أججَّتَ أُوَار غضبه؛ لأنه في حاجة لأنْ تَرْفُقَ به، فلا تجمع عليه مرارة أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يكره، بل حاول أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يحب لتطفئ شراسته لعداوتك العامة، وتُقرِّب من الهُوّة بينك وبينه فيقبل منك ما تقول.

يقول تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحسنة وَلَا السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ

ص: 8611

فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]

وقد يطلُع علينا مَنْ يقول: لقد دفعتُ بالتي هي أحسن، ومع ذلك لا يزال عدوي قائماً على عداوتي، ولم أكسب محبته. نقول له: أنت ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، ولكن الواقع غير ذلك، إنك تحاول أنْ تُجرِّب مع الله، والتجربة مع الله شَكٌّ، فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة، وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق.

وما أروعَ قول الشاعر:

يَا مَنْ تُضَايِقُه الفِعَالُ مِنَ التيِ ومِنَ الذِي

ادْفَع فَدَيْتُك بالتِي حتَّى تَرَى فَإذَا الذِي

لكن، لماذا نقول التي هي أحسن؟

لأن الشيطان ينزغ بينكم: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ. .} [الإسراء: 53] والنزْغ هو نَخْس الشيطان ووسوسته، وقد قال تعالى في آية أخرى:{وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200]

فإن كنْت مُنتبِهاً له، عارفاً بحيله فذكرتَ الله عند نَخْسه ونَزْعه انصرف عنك، وذهب إلى غيرك؛ لذلك يقول تعالى عن الشيطان:{مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 4] أي: الذي يخنس ويختفي إذا ذُكِرَ الله، لكن إذا رأى منك ضعفاً وغفلة ومرَّتْ عليك حِيَلُة،

ص: 8612

واستجبتَ لوساوسه، فقد أصبحت فريسة سهلة بين أنيابه ومخالبه.

وعادةً تأتي خواطر الشيطان وكأنها مِجَسٌّ للمؤمن واختبار لانتباهه وحَذَّره من هذا العدو، فينزغه الشيطان مرَّة بعد أخرى لِيُجرّبه ويختبره. فإذا كان النزغ هكذا، فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن لا تعطي للشيطان فُرْصة لأنْ يُؤجِّج العداوة الشخصية بينكما، فيُزيّن لك شَتْمه أو لَعْنه، وهكذا يتحول الخلاف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية.

لذلك إذا رأيتَ شخصين يتنازعان لا صِلَة لك بهما، ولكن ضايقك هذا النزاع، فما عليك إلا أنْ تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً، وأتحدّى أن يستمر النزاع بعدها، إنها الماء البارد الذي يُطفئ نار الغضب، ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس، وما أشبهك في هذا الموقف برجل الإطفاء الذي يسارع إلى إخماد الحريق، وخصوصاً إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الإصلاح، وليس لك مأرَبٌ من هذا التدخّل.

والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ. .} [الإسراء: 53]

تلاحظ أن نَزْغ الشيطان لا يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي، بل ينزغ بين الإخوة والأهل والأحبة، ألم يَقُل يوسف:{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} [يوسف: 100]

لقد دخل الشيطان بين أولاد النبوة، وزرع الخلاف حتى بين الأسباط وفيهم رائحة النبوة، ولذلك لم يتصاعد فيهم الشر، وهذا دليل على خَيْريتهم، وأنت تستطيع أنْ تُميِّّز بين الخيِّر والشرير، فتجد الخيِّر يهدد بلسانه بأعنف الأشياء، ثم يتضاءل إلى أهون

ص: 8613

الأشياء، على عكس الشرير تراه يُهدد بأهونِ الأشياء، ثم يتصاعد إلى أعنف ما يكون.

انظر إلى قوْل إخوة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] فقال الآخر وكان أميل إلى الرفق به: {وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب} [يوسف: 10] وقد اقترح هذا الاقتراح وفي نيته النجاة لأخيه، بدليل قوله تعالى:{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10]

وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم.

ثم يقول تعالى: {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء: 53]

أي: أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم عليه السلام فهي عداوة مسبقة، قال عنها الحق سبحانه:{إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117]

لذلك يجب على الأب كما يُعلِّم ابنه علوم الحياة ووسائلها أنْ يُعلّمه قصة العداوة الأولى بين الشيطان وآدم عليه السلام ويُعلمه أن خواطر الخير من الله وخواطر الشر من الشيطان، فليكُنْ على حَذَر من خواطره ووساوسه، وبذلك يُربِّي في ابنه مناعة إيمانية، فيحذر كيد الشيطان ونَزْغه، ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان، وهذه التربية من الآباء تحتاج إلى إلحاح بها على الأبناء حتى ترسخ في أذهانهم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإسراء: 53] أي: كان ولا يزال. وإلى يوم القيامة بدليل قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]

أي: لأتعهّدنّهم بالإضلال والغواية إلى يوم القيامة.

ص: 8614

في هذه الآية إشارة إلى طلاقة المشيئة الإلهية، فالحق سبحانه إنْ شاء يرحمنا بفضله، وإنْ شاء يُعذِّبنا بعدله؛ لأن الحق سبحانه لو عاملنا بميزان عدله ما نجا منّا أحد، ولو جلس أحدنا وأحصى ماله وما عليه لوجد نفسه لا محالةَ واقعاً تحت طائلة العقاب؛ لذلك يَحسُن بنا أن ندعوُ الله بهذا الدعاء:«اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب» .

والحق تبارك وتعالى لا يُيئس العُصَاة من فضله، ولا يملي لهم بعدله، بل يجعلهم بين هذه وهذه ليكونوا دائماً بين الخوف والرجاء.

وحينما كان المسلمون الأوَّلون يتعرضون لشتى ألوان الإهانة والتعذيب ولا يجدون مَنْ يمنعهم من هذا التعذيب، فكانوا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يشكون إليه ما ينزل بهم، فرسول الله ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثاً عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلاء المضطهدون، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول:«إن فيها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ» .

ص: 8615

لقد كانوا في مرحلة لا يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم، فالضعيف منهم عاجز عن المواجهة، والقوي منهم لا يستطيع حماية الضعيف؛ لأنه كان يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيقترح عليه الرد على الكفار ومواجهتهم بكذا وكذا، فكان صلى الله عليه وسلم َ يقول لهم:«لم أومر، لم أومر. .» . .

لأن الله تعالى أراد أَلَاّ يبقي للإيمان جندي إلا وقد مَسَّه العذاب، وذاق ألوان الاضطهاد ليربي فيهم الصبر على الأذى وتحمُّل الشدائد؛ لأنهم سيحملون رسالة الانسياح بمنهج الله في الأرض، ولا شكَّ أن القيام بمنهج الله يحتاج إلى صلابة وإلى قوة، فلا بُدَّ من تمحيص المؤمنين، لذلك حدث للإسلام في عصر النبوة أحداث وشدائد، ومرَّت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث الإسراء والمعراج.

وكانت الحكمة من هذه الأحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين الله، حتى لا يبقى إلا القوي المأمون على حَمْل منهج الله، والانسياح به في شتَّى بقاع الأرض، وحتى لا يبقى في صفوف المؤمنين مَنْ يحمل راية الإيمان لمغنَم دنيوي، فالغنيمة في الإسلام ليست في الدنيا بل في جنة عَرْضُها السماوات والأرض.

لذلك، ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. «قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فماذا قال لهم رسول الله؟ أقال لهم تملكون الدنيا؟

ص: 8616

لا، بل قال:» لكم الجنة «قالوا: فلك ذلك» .

فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن؛ لأنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد أن أعطى رسول الله هذا العهد ولم يدرك شيئاً من خير الدنيا في ظل الإسلام، إذن: فالنبي صادق في هذا الوعد. وما دام الجزاء هو الجنة فلا بُدَّ لها من جنود أقوياء يصبرون على الأحداث، ويُواجهون الفتن والمكائد.

فالمعنى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54] بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار الأمن في الحبشة {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ. .} [الإسراء: 54] أي: عذاباً مقصوداً لكي يُمحِّص إيمانكم ويُميِّز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة الله ومنهجه.

ثم يقول تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [الإسراء: 54]

الوكيل: هو المفوَّض من صاحب الشأن بفعل شيء ما، والمراد: ما أرسلناك إلا للبلاغ، ولستَ مسئولاً بعد ذلك عن إيمانهم، ولستَ وكيلاً عليهم؛ لأن الهداية والتوفيق للإيمان بيد الحق سبحانه وتعالى.

إذن: قول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [الإسراء: 54]

ليست قهراً لرسول الله، وليست إنقاصاً من قَدْره، بل هي رحمة به ورأفة، كأنه يقول له: لا تُحمِّل نفسك يا محمد فوق طاقتها، كما خاطبه في آية أخرى بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ

ص: 8617

مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] فالحق تبارك وتعالى في هذه المسألة لا يعتب على رسوله، بل يعتب لصالحه، والمتتبع لمواقف العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم َ يجده عِتَاباً لصالحه صلى الله عليه وسلم َ رحمةً به، وشفقةً عليه، لا كما يقول البعض: إن الله تعالى يُصحّح للرسول خطئاً وقع فيه.

ومثال لهذا قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 1 - 3] الله تعالى يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم َ؛ لأنه ترك الرجل الذي جاءه سائلاً عن الدين، وشَقَّ على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلاء الصناديد، وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله أن يشقَّ على نفسه، فالعتاب هنا حِرْصاً على رسول الله وعلى راحته.

وكذلك في قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم: 1]

والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم َ؛ لأنه ضيَّق على نفسه، وحرَّم عليها ما أحلَّه الله لها. كما تعتب على ولدك الذي سَهِر طويلاً في المذاكرة حتى أرهقَ نفسه، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض

} .

ص: 8618

قوله تعالى: {أَعْلَمُ} أفعل تفضيل تدلُّ على المبالغة في العلم، وإنْ كان الحق سبحانه أعلم فما دونه يمكن أنْ يتصفَ بالعلم، فنقول: عالم. ولكن الله أعلم؛ لأن الله تعالى لا يمنع عباده أن تشرئب عقولهم وتطمح إلى معرفة شيء من أسرار الكون.

والمعنى أن الحق سبحانه وتعالى لا يقتصر علمه عليك يا محمد وعلى أمتك، وقد سُبِقت الآية بقوله تعالى:{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ. .} [الإسراء: 54] ولكن علمه سبحانه يسَع السماوات والأرض عِلْماً مُطْلقاً لا يغيب عنه مثقال ذرة، وبمقتضى هذا العلم يُقسِّم الله الأرزاق ويُوزِّع المواهب بين العباد، كُلّ على حسب حاله، وعلى قَدْر ما يُصلحه.

فإنْ رأيتَ شخصاً ضيَّق الله عليه فاعلم أنه لا يستحق غير هذا، ولا يُصلحه إلا ما قَسَمه الله له؛ لأن الجميع عبيد لله مربوبون له، ليس بين أحد منهم وبين الله عداوة، وليس بين أحد منهم وبين الله نسب.

فالجميع عنده سواء، يعطي كُلاً على قَدْر استعداده عطاءَ ربوبية، لا يحرم منه حتى الكافر الذي ضاق صدره بالإيمان، وتمكّن النفاق من قلبه حتى عشق الكفر وأحب النفاق، فالله تعالى لا يحرمه مِمّا أحبّ ويزيده منه.

إذن: لعلمه سبحانه بمَنْ في السماوات والأرض يعطي عباده على قَدْر مَا يستحقّون في الأمور القَهْرية التي لا اختيارَ لهم فيها، فهُمْ فيها سواء. أما الأمور الاختيارية فقد تركها الخالق سبحانه لاجتهاد العبد وأَخْذ بالأسباب، فالأسباب موجودة، والمادة موجودة، والجوارح موجودة، والعقل موجود، والطاقة موجودة. إذن: على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قَدْر استطاعته.

ص: 8619

ثم يقول تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} [الإسراء: 55]

مَن الذي فضَّل؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يُفضّل بعض النبيين على بعض، وليس لنا نحن أن نُفضّل إلا مَنْ فضَّله الله؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك أن يُجازي على حَسْب الفضل، أما نحن فلا نملك أنْ نجازي على قَدْر الفضل.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم َ: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» .

لأن الذي يُفضِّل هو الله تعالى، وقد نُصّ على هذا التفضيل في قوله تعالى:{تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} [البقرة: 253]

فالتفضيل على حسب ما يعلمه الله تعالى من أن أُولى العزم من الرسل قد فّضَّلهم عن غيرهم لِمَا تحمّلوه من مشقة في دعوة أقوامهم، ولما قاموا به من حمل منهج الله والانسياح به، أو من طول مُدّتهم من قومهم. . الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل.

ثم يقول تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55]

ص: 8620

فلماذا ذكر داود بالذات مقترناً بالكتاب الذي أُنِزل عليه؟ قالوا: لأن داود عليه السلام أُوتِي مع الكتاب المُلْك، فكان نبياً ملكاً، فكأن الحق سبحانه يشير إلى أن تفضيل داود لا من حيث أنه مِلك، بل من حيث هو نبي صاحب كتاب.

وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم َ: «لقد خُيِّرْتُ بين أن أكون عبداً نبياً أو نبياً ملكاً، فاخترت أن أكون عبداً نبياً» .

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} .

ص: 8621

الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: قل للذين يُعارضونك في الوحدانية إذا مسَّكم ضُرٌ فلا تلجأوا إلى مَنْ تكفرون به، بل الجأوا إلى مَنْ زعمتم أنهم شركاء وآمنتم بهم. فإنهم لن يستمعوا إليك؛ لأن الإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولو علموا أن الذين يتخذونهم آلهة من دون الله ينفعونهم في شيء لما دَعَوْا ربهم الذين يكفرون به وتركوا الذين يؤمنون بهم، لماذا؟

لأن الإنسان لا يتمرد ولا يطغى إلا إذا كان مُسْتغنياً بكل ملكاته، بمعنى أن تكون ملكاته كلها على هيئة الاستقامة والانسجام، فإذا

ص: 8621

اختلتْ له ملكة من الملكات ضَعُفَ طغيانه، وحاول أن يستكمل هذا النقص، وحينئذ لن يخدع نفسه بأن يطلب الاستكمال مِمَّن لا يملكه، بل يطلبه ممَّنْ يعتقد أنه يملكه.

لذلك يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ. .} [الإسراء: 67]

وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ. .} [الزمر: 8]

لماذا؟ لأن ما أصابه من ضُرٍّ أضعفه، وكسر عنده غريزة الاستعلاء والاستكبار، لقد كفر بالله من قبل حينما حمله التكاليف، ولكن الآن وبعد أن نزل به الضُّر وأحاط به البلاء فلا بُدَّ أن يكون صريحاً مع نفسه لا يخدعها.

وضربنا لهذه المسألة مثلاً بحلاق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولاً عن صِحَّة الناس، ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت، فإذا ما عُيِّن بالقرية طبيب هاجمه الحلاق وأفسد ما بينه وبين الناس، وأشاع عنه عدم العلم وقِلَّة الخبرة ليخلوَ له وجه الناس، ولا يشاركه أحد في رزقه، ومرَّت الأيام وأصيب الحلاق بضُرٍّ، حيث مرض ولد له، فإذا به يحمله خُفْيةً بليْل، ويتسلل به إلى الطبيب، ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويُفتضح بين الناس.

إذن: الإنسان في ساعة الضر لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فقل لهم: إذا مسكم الضر فاذهبوا إلى مَن ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم، فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم، ولو دَعَوْهم فلن يكشفوا عنهم ضرهم:{فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ. .} [الإسراء: 56]

ص: 8622

وقوله تعالى: {وَلَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56] أي: ولا يملكون تحويل حالكم من الضر إلى النفع أو النعمة أو الرحمة، أو: لا يملكون تحويل هذا الضر إلى أعدائكم، فهم إذن لا يملكون هذه ولا هذه.

فالحق سبحانه يُلقِّن رسوله صلى الله عليه وسلم َ الحجة، ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم، ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم، فإن أصابهم الضر في ذواتهم لا يلجأون إلى آلهتهم؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ولن تسمعهم، وإن سمعتهم فرضاً ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، بل يلجأون إلى الله الذي يملك وحده كَشْف الضُّر عنهم.

ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة

} .

ص: 8623

فهؤلاء الذين تعتبرونهم آلهة وتتخذونهم شركاء لله، هؤلاء أيضاً عبيد لله، يتقربون إليه ويتوسَّلون إليه، فالمسيح الذي أشركتموه مع الله، وكذلك الملائكة هم عباد لله:{لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلَا الملائكة المقربون} [النساء: 172]

ص: 8623

هؤلاء لا يرفضون ولا يتأبَّوْن أن يكونوا عباداً لله، ويريدون التقرُّب إليه سبحانه، فكيف إذن تتوجهون إليهم بالعبادة وهم عباد؟

وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة. .} [الإسراء: 57] أي: يطلبون الغاية والقربى إليه تعالى {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي: كلما تقر ّب واحد منهم إلى الله ابتغى اللهَ أكثرَ من غيره وأقبل عليه، فإذا كان الأقرب إلى الله منهم يبتغي القُرْبى، فما بال الأبعد؟

وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57]

أي: يجب الحذر منه وتجنُّب أسبابه؛ لأن العذاب إذا كان من الله فلا فِكاكَ منه ولا مهرب، وأيضاً فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذِّب ضعفاً وشدة، فإذا نُسِب العذاب إلى الله فلا شكَّ أنه أليم شديد، لا طاقة لأحد به، كما قال تعالى:{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]

والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة، ولم يطلب منا الاعتراف بها إلا بعد أنْ شهد بها لنفسه سبحانه، وبعد أن شهد بها الملائكة وأولو العلم، قال تعالى:{شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18]

فشهد الله سبحانه شهادة الذات للذات، وشهدتْ الملائكة شهادة المشهد والمعاينة، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، فهذه شهادات ثلاث قبل أنْ يطلب مِنّا الشهادة.

وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون، وما دام {لَا إله إِلَاّ هُوَ} يقول للشيء: كُنْ فيكون، قالها لأنه يعلم أنه لا إله إلا هو، وبها يحكم على الأشياء ويُغيِّر من وضع

ص: 8624

إلى وضع، فإنْ صحَّتْ هذه الشهادة الثلاثة فقد انتهت المسألة. وإنْ لم تصح وهناك إله آخر فأين هو؟! إنْ كان لا يدري فهو إله نائم لا يصلح لهذه المكانة، وإن كان يدري فلماذا لم يطالب بحقه.

إذن: فهذه الدَّعْوى قد سلمتْ للحق سبحانه لأنه لم يدَّعها أحد لنفسه، فهي للحق تبارك وتعالى حتى يقوم مَنْ يدعيها لنفسه.

قال تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42]

أي: لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الإله الذي استقرتْ له الأمور واستتبّ له الحال، ليُجادلوه في هذه المسألة، أو لطلبوه ليتقربوا إليه.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً

} .

ص: 8625

ساعةَ أنْ تسمعَ {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ} فاعلم أن الأسلوب قائم على نفي وإثبات، فالمعنى: لا توجد قرية إلا والله مُهلِكها قبل يوم القيامة، أو مُعذِّبها عذاباً شديداً، لكن هل كل القرى ينسحب عليها هذا الحكم؟

نقول: لا، لأن هذا حكم مطلق والإطلاقات في القرآن تُقيّدها قرآنيات أخرى، وسوف نجد مع هذه الآية قول الحق سبحانه:{ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]

ص: 8625

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]

فهذه آيات مُخصِّصة تُوضِّح الاستثناء من القاعدة السابقة، وتُقيِّد المبدأ السابق والسور العام الذي جاءت به الآية، فيكون المعنى إذن وإنْ من قرية غير غافلة وغير مُصلِحة إلا والله مُهلكها أو مُعذِّبها.

وقوله: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا} [الإسراء: 58]

{مُهْلِكُوهَا} أي: بعذاب الاستئصال الذي لا يُبقِى منهم أحداً.

{مُعَذِّبُوهَا} أي: عذاباً دون استئصال.

لأن التعذيب مرحلة أولى، فإنْ أتى بالنتيجة المطلوبة وأعاد الناس إلى الصواب فبها ونِعْمتْ وتنتهي المسألة، فإنْ لم يقتنعوا وأصرُّوا ولم يرتدعوا وعاندوا يأتي الإهلاك، وهذا واضح في قول الحق سبحانه:{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]

والواقع أن في حاضرنا شواهدَ عدة على هذه المسألة، فلا بُدَّ لأيِّ قرية طغتْ وبغَتْ أن ينالها شيء من العذاب، والأمثلة أمامنا واضحة، ولا داعيَ لذكرها حتى لا ننكأ جراحنا.

وطبيعي أن يأتي العذاب قبل الإهلاك؛ لأن العذاب إيلام حيّ

ص: 8626

يشعر بالعذاب ويُحِسّ به، والإهلاك إذهاب للحياة، وهذا يمنع الإحساس بالعذاب.

وباستقراء تاريخ الأمم السابقة نلاحظ ما حاق بهم من سُنّة إهلاك الظالمين، فقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط نزل بهم عذاب الله الذي لا يُرَدُّ عن القوم الكافرين، ولكنه كان عذاب استئصال؛ لأن الأنبياء في هذا الوقت لم يكونوا مُطَالَبين بحمل السلاح لنشر دعوتهم، فكان عليهم البلاغ، والحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى تأديب المخالفين. إلا إذا طلب أتباع النبي الجهاد معه لنشر دعوته، كما حدث من أتباع موسى عليه السلام:{إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلَاّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 246]

وهكذا طلب بنو إسرائيل القتال وحَمْل السلاح، ولكن حذّرهم نبيهم، وخشي أنْ يفرضَ عليهم ثم يتقاعسوا عنه، وهذا ما حدث فعلاً ولم يَبْق معه إلا قليل منهم، وهذا القليل سرعان ما تراجع هو أيضاً واحداً بعد الآخر.

إذن: الهِمَّة الإنسانية في هذا الوقت لم يكُنْ عندها استعداد ونضج لأنْ تحملَ سلاحاً في سبيل الله، فكان على الرسول أنْ يُبلِّغ، وعلى السماء أنْ تُؤدِّب بهذا اللون من العذاب الذي يستأصلهم فلا يُبقى منهم أحداً.

ص: 8627

أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ فقد رحمنا ربنا تبارك وتعالى من هذا العذاب، فقال:{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]

وهذه هي كرامات الله تعالى لرسوله، فلم يأخذ قومه بعذاب الاستئصال، لماذا؟ لأن رسولهم آخر الرسل وخاتم الأنبياء، وسوف يُنَاطُ بهم حَملُ رسالته ونَشْر دعوته، والانسياح بمنهج الله في شتى بقاع الأرض.

ذلك لأن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل منهجه إلى الأرض يُقدِّر غفلة الناس عن المنهج، ويُقدِّر فكرة التأسِّي بالجيل السابق، فهذان مُعوِّقان في طريق منهج الله، يقول تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173]

فأوضح لنا الحق سبحانه أن الإنسان يتخبّط أو ينحرف عن المنهج، إما بسبب تقليد أعمى لأُسْوة سيئة، فأول مَنْ تلقى عن الله آدم، ثم بلّغ ذريته منهج الله، وبمرور الأجيال حدثتْ الغفلة عن بعض المنهج نتيجة ما رُكِّب في الإنسان من حُبٍّ للشهوات، وهذه الشهوات هي التي تصرفه عن منهج ربه، فإنْ حدثت غفلة في جيل فإنها سوف تزداد في الجيل التالي، وهكذا؛ لأن الجيل سيقع تحت مُؤثِّرين: الغفلة الذاتية فيه، والتأسي بالجيل السابق.

إذن: بتوالي الأجيال وازدياد الغفلة عن المنهج لا بُدَّ أن الحق سبحانه سيبعث في مواكب الرسل مَنْ يُنبّه الناس.

ص: 8628

ومن هنا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ خَيْر أمة أُخرِجَتْ للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. .} [آل عمران: 110] لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله} [آل عمران: 110] فخيرية هذه الأمة ناشئة من حَمْل رسالة الدعوة، وقد كرَّم الله أمة محمد بأنْ جعل كل مَنْ آمن به يحمل دعوته إلى يوم القيامة، لقد بلّغ الرسول من عاصروه مَنْ أمته، وعلى أمته أن تُبلّغ مَنْ بعده؛ لذلك يشهد علينا رسول الله، ونشهد نحن على الناس.

وفي الحديث الشريف «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فَرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع» .

وهكذا تظل في الأمة هذه الخيرية وتحمل دعوة رسولها حيث لا رسول من بعده إلى يوم القيامة، ولأهمية هذا الدور الذي يقوم به المسلمون في كل زمان ومكان يُنبِّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى مسألة هامة في مجال حَمْل الدعوة ونَشْرها، فيقول:

«إن كل واحد منكم يقف على ثغرة من ثغرات هذا الدين، فإياكم أن يؤتى الدين من ثغرة أحدكم» أو كما قال.

فليعلم كل مسلم أنه محسوب للدين أو عليه، فالعيون تتطلع إليه وتَرْصُد تصرفاته في مجتمعه، فهو صورة للدين وسفير له، وعليه أن يراعي هذه المسئولية ويقوم بها على أكمل وجه ليكون أداة جَذْب، وليكون وجهاً مشرقاً لتعاليم هذا الدين.

ص: 8629

فأنت حارس على باب من الأبواب، وعليك أنْ تسدَّه بصدق انطباعك عن الإيمان، وبصدق انقيادك لقضايا الإسلام، وبهذا السلوك تكون وسيلة إغراء للآخرين الذين يراودهم الايمان، ويتراءى لهم منهج الله من بعيد.

ويحلو للبعض أن يأخذوا الإسلام بجريرة أهله، ويحكموا عليه بناءً على تصرفات المنتسبين إليه، وهذا خطأ، فَمنْ أراد الصورة الحقيقية للإسلام فليأخذْها من منابع الدين في كتاب الله وسنة رسوله، فإنْ رأيتَ بين المنتسبين للإسلام سارقاً فلا تقُلْ: هذا هو الإسلام؛ لأن الإسلام حرَّم السرقة، وجعل لها عقوبة وحَدّاً يُقَام على السارق، وليس لأحد أن يكون حجة على دين الله.

لذلك فإن كبار العلماء والمفكرين الذين درسوا في الدين الإسلامي لم ينظروا إلى تصرُّفات المسلمين وحاضرهم، بل أخذوه من منابعه الأصلية. ومنهم «جينو» الفرنسي الذي قال: الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين. لأنه في الحقيقة لو اطلع على أحوالنا الآن لَكَان في المسألة كلام آخر.

إذن: الذين نظروا إلى قضايا الإسلام نظرة عَدْل وإنصاف لا بُدَّ أن يهتدوا إلى الإسلام، لكن منهم مَنْ نظر إليه نظرة عَدْل وإنصاف إلا أنهم أبعدوا قضية التديّن من قلوبهم، وإن اقتنعتْ بها عقولهم، وفَرْق كبير بين القضية العقلية والقضية القلبية.

ومن هؤلاء الكاتب الذي ألَّفَ كتاباً عن العظماء في التاريخ وأسماه: «العظماء مائة أعظمهم محمد بن عبد الله» وهو كاتب غير

ص: 8630

مؤمن، لكنه أخذ يستقرئ صفحة التاريخ، ويسجِّل أصحاب الأعمال الجلية التي أثَّرت في تاريخ البشرية، فوجدهم مائة، وبالمقارنة بينهم وجد أن أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم َ، ومع ذلك لم يتربَّ محمد في مدرسة، ولم يتخرج في جامعة، ولم يجلس إلى مُعلم.

ألم تسأل نفسك أيها المؤلف: من أين أتى محمد بهذه الأوليّة؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة؟ لقد ذكرتَ حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك، من تربية ودراسة في جامعات وعلى أساتذة وإطلاع وأبحاث، فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول الله؟ ألم تعلم أنه أُميّ في أمة أُميّة؟ مما يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله لا بقلبه.

نعود إلى مسألة الإهلاك والعذاب؛ لأنها أثارتْ خلافاً بين رجال القانون في موضوع إقامة حَدِّ الرجْم على الزاني المحصن والجَلْد للزاني غير المحصن، فقد رأى جماعة منهم أن الجلد ثابت بالقرآن، أما الرجم فثابت بالسنة، لذلك قال بعضهم بأن رجم الزاني المحصَن سنة.

وهذا قول خاطئ وبعيد عن الصواب، لأن هناك فرقاً بين سُنية الدليل وسُنية الحكم، فسُنية الدليل أن يكون الأمر فَرْضاً، لكن دليله من السنة كهذه المسألة التي معنا. وكصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات وهي فَرْض لكن دليلها من السنة، أما سُنية الحكم فيكون الحكم نفسه سُنة يُثَاب فاعله، ولا يُعَاقب تاركه كالتسبيح ثلاثاً في الركوع مثلاً.

ص: 8631

إذن: فرجْم الزاني المحصَن فَرْض، لكن دليله من السنة، فالسُّنة هنا سُنية دليل، لا سنية حكم.

فمَنْ يقول: إن الرجْم لم يَرِدْ به نصٌّ في كتاب الله، تقول: الدليل عليه جاء في السنة، وهي المصدر الثاني للتشريع، حتى على قول مَنْ قال بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع، ففي القرآن:{وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7]

إذن: ففِعْل الرسول صلى الله عليه وسلم َ كنصِّ القرآن سواء بسواء، وهل رجم في عهد رسول الله أو لم يرجم؟ رجم فعلاً في عهد رسول الله، فإنْ قال قائل: فهذا ليس نصّاً في الرجْم. نقول: بل الفعل أقوى من النص قد تتأول فيه، أما الفعل فهو صريح لا يحتمل تأويلاً.

ودليل آخر على فرضية الرجم، وهو الشاهد في هذه الآية، في قوله تعالى عن إقامة الحد على الأمة:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب. .} [النساء: 25]

فيقولون: الرجْم لا يُنصَّف. إذن: ليس هناك رَجْم. نقول: أنتم لم تُفرِّقوا بين الرجم وبين العذاب، فالرجم إماتة، والعذاب إيلام لحيٍّ يشعر ويُحِسُّ بهذا الإيلام، والمقصود به (الجَلْد) .

ص: 8632

إذن: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب. .} [النساء: 25] أي: من الجَلْد، وهو الذي يُنصَّف، ولو كان الحكم عاماً لَقَال: فعليهن نصف ما على المحصنات. فقوله: {مِنَ العذاب. .} [النساء: 25] دليل على وجود الرَّجْم الذي لا فَرْق فيه بين حُرة وأمة.

وكذلك نلحظ التدرج من العذاب إلى الإهلاك في قول سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تفقّد الطير، واكتشف غياب الهدهد:{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ. .} [النمل: 21]

ولسائل أنْ يسأل: هل لا بُدَّ للقرى الظالمة أن ينالها الإهلاك أو العذاب قبل يوم القيامة؟

نعم لا بُدَّ أن يمسَّهم شيء من هذا؛ لأن الله تعالى لو أخَّر كل العذاب لهؤلاء إلى يوم القيامة لاستشرى الظلم وعمَّ الفساد في الكون، وحين يرى الناس الظالم يرتع في الحياة، وينعم بها مع ظلمه لأغراهم ذلك بالظلم، أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله، ونزلت به النوازل لارتدعوا عن الظلم، ولَعلِموا أن عاقبته وخيمة، ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. أما لو تأخر عذاب الظالمين إلى الآخرة، فالوَيْل مِمَّنْ لا يؤمنون بها.

لذلك لما مات رَأْسٌ من رؤوس الظلم في الشام، ولم يَرَ الناس أثراً لعذاب أو نقمة، قال أحدهم: إن وراء هذا الدار داراً يُجَازى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته؛ لأنه يستحيل أنْ يُفلِتَ الظالم من العذاب.

وفي مناقشتي مع الشيوعيين في بروكسل قلت لهم: لقد قسوتُمْ

ص: 8633

على المخالفين لكم من الرأسماليين والإقطاعيين عام 1917 وما بعدها، فقالوا: إنهم يستحقون أكثر من ذلك، فقد فعلوا كذا وكذا، قُلْت: منذ متى؟ قالوا: طوال عمرهم وهم يفعلون ذلك، فقلتُ: إذا كنتم أخذتم المعاصرين لكم بذنوبهم، فما بال الذين سبقوهم؟ وما حظّهم من العقاب الذي أنزلتموه بإخوانهم؟ قالوا: ما أدركناهم.

قلت: إذن كان من الواجب عليكم أنْ تؤمنوا باليوم الآخر، حيث سيعذب فيه هؤلاء، فإنْ أفلتوا من عذاب الدنيا جاءت الآخرة لتُصفّي معهم الحساب، كما يقول تعالى:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ. .} [الطور: 47] وأريد منكم أنْ تطلعوا على تفسير هذه الآية التي نحن بصددها: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الإسراء: 58]

راجعوا تفسيرها في كتاب النسفي، وسوف تجدون به أمثلة تُؤيّد هذه الآية، يقول: قرية كذا سيحدث لها كذا، وقرية كذا سيحدث لها كذا. وقد جاء الواقع على وفق ما قال، إلى أن ذكر مصر وقال عنها كلاماً طويلاً أظن أنه يُمثِّل ما أصاب مصر منذ سنة 1952، وكان مما قال عنها: ويدخل مصر رجل من جهينة فويْلٌ لأهلها، وويل لأهل الشام، وويل لأهل أفريقيا، وويل لأهل الرملة، ولا يدخل بيت المقدس. اقرأوا هذا الكلام عند النسفي.

ثم يقول تعالى: {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الإسراء: 58]

ص: 8634

أي: مُسجّل ومُسطّر في اللوح المحفوظ، ولا يقول الحق سبحانه:{كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الإسراء: 58] وتأتي الأحداث بغير ذلك، بل لا بُدَّ أنْ يؤكد هذه الحقائق القرآنية بأحداث كونية واقعية.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون

}

ص: 8635

الآيات: جمع آية، وهي الأمر العجيب الذي يلفت النظر ويسترعى الانتباه، وهذه الآيات إما أن تكون آيات كونية نستدل بها على قدرة المدبِّر الأعلى سبحانه مثل المذكورة في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر. .} [فصلت: 37]

وقد تكون الآيات بمعنى المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه تعالى، وقد تكون الآيات بمعنى آيات القرآن الكريم، والتي يسمونها حاملة الأحكام.

فالآيات إذن ثلاثة: كونية، ومعجزات، وآيات القرآن. فأيها

ص: 8635

المقصود في الآية: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات} [الإسراء: 59]

الآيات الكونية وهي موجودة لا تحتاج إلى إرسال، الآيات القرآنية وهي موجودة أيضاً، بقي المعجزات وهي موجودة، وقد جاءت معجزة كل نبي على حَسْب نبوغ قومه، فجاءت معجزة موسى من نوع السحر الذي نبغ فيه بنو إسرائيل، وكذلك جاءت معجزة عيسى مما نبغ فيه قومه من الطب.

وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم َ في الفصاحة والبلاغة والبيان؛ لأن العرب لم يُظِهروا نبوغاً في غير هذا المجال، فتحدّاهم بما يعرفونه ويُجيدونه ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم.

إذن: فما المقصود بالآيات التي منعها الله عنهم؟

المقصود بها ما طلبوه من معجزات أخرى، جاءت في قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93]

والمتأمل في كل هذه الاقتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل البُعْد عن مجال المعجزة التي يُراد بها في المقام الأول تثبيت الرسول، وبيان صِدْق رسالته وتبليغه عن الله، وهذه لا تكون إلا في أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام، وهم أمة كلام وفصاحة وبلاغة، وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع من الأرض؟ وهل إسقاط السماء

ص: 8636

عليهم كِسَفاً يقوم دليلاً على صدْق الرسول؟ أم أنه الجدل العقيم والاستكبار عن قبول الحق؟

إذن: جلس كفار مكة يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات، والحق سبحانه وتعالى يُنزِل من المعجزات ما يشاء، وليس لأحد أن يقترح على الله أن يُجبره على شيء، قال تعالى:{قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. .} [يونس: 16]

فالحق تبارك وتعالى قادر أن يُنزل عليهم ما اقترحوه من الآيات، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.

والحق سبحانه يقول: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا.

.} [الإسراء: 59]

مبصرة: أي آية بينة واضحة.

لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله وأنزلها لهم، فما كان منهم إلا أن استكبروا عن الإيمان، وكفروا بالآية التي طلبوها،

ص: 8637

بل وأكثر من ذلك ظلموا بها أي: جاروا على الناقة نفسها، وتجرّأوا عليها فعقروها.

وهذه السابقة مع ثمود هي التي منعتنا عن إجابة أهل مكة فيما اقترحوه من الآيات، وليس عَجْزاً مِنَّا عن الإتيان بها.

وقوله تعالى عن الناقة أنها آية {مُبْصِرَةً} لبيان وضوحها كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً. .} [الإسراء: 12] فهل آية النهار مُبصِرة، أم مُبْصِر فيها؟

كانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى الشيء من شعاع ينطلق من عينة إلى الشيء المرئيّ فتحدث الرؤية، إلى أن جاء ابن الهيثم وأثبت خطأ هذه المقولة، وبيّن أن الإنسان يرى الشيء إذا خرج من الشيء شعاع إلى العين فتراه، بدليل أنك ترى الشيء إذا كان في الضوء، ولا تراه إذا كان في ظلمة، وبهذا الفهم نستطيع القول بأن آية النهار هي المبصرة؛ لأن أشعتها هي التي تُسبّب الإبصار.

ثم يقول تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلَاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59]

أي: نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفاً للكفار والمعاندين، فمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم َ اضطهده أهل مكة ودبَّروا لقتله جهاراً وعلانية، فخيّب الله سَعْيهم ورأوا أنهم لو قتلوه لَطالبَ أهله بدمه، فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به بليل، واقترحوا أنْ يُؤْتَى من كل قبيلة بفتى جَلْدٍ، ويضربوه ضَرْبة رجل واحد.

ولكن الحق سبحانه أطلع رسوله على مكيدتهم، ونجّاه من غدرهم، فإذا بهم يعملون له السحر لِيُوقِعوا به، وكان الله لهم

ص: 8638

بالمرصاد، فأخبر رسوله بما يدبر له، وهكذا لم يفلح الجهر ولم يفلح التبييت، ولم يفلح السحر، وباءت محاولاتهم كلها بالفشل، وعلموا أنه لا سبيلَ إلى الوقوف في وجه الدعوة بحال من الأحوال، وأن السلامة في الإيمان والسير في ركابه من أقصر الطرق.

إذن: للحق سبحانه آيات أخرى تأتي لِرَدْع المكذبين عن كذبهم، وتُخوّفهم بما حدث لسابقيهم من المُكذِّبين بالرسل، حيث أخذهم الله أَخْذ عزيز مقتدر، ومن آيات التخويف هذه ما جاء في قوله تعالى:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]

فكل هذه آيات بعثها الله على أمم من المكذبين، كُلّ بما يناسبه.

ثم يقول الحق سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم َ: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس

} .

ص: 8639

أي: اذكر يا محمد، وليذكر معك أصحابك إذ قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس، فلا يمكن أن يتصرفوا تصرُّفاً، أو يقولوا قولاً يغيب

ص: 8639

عن عِلْمِه تعالى، لأن الإحاطة تعني الإلمام بالشيء من كُلّ ناحية.

وما دام الأمر كذلك فاطمئن يا محمد، كما نقول في المثل (حُط في بطنك بطيخة صيفي) ، واعلم أنهم لن ينالوا منك لا جهرة ولا تبيتاً، ولا استعانة بالجنس الخفي (الجن) ؛ لأن الله محيط بهم، وسيبطل سَعْيَهم، ويجعل كَيْدهم في نحورهم.

لذلك لما تحدَّى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدَّى الجن أيضاً، فقال:{قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]

ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من الأمور له شيطان يُلهمه، وكانوا يدَّعُون أن هذه الشياطين تسكن وادياً يسمى «وادي عبقر» في الجزيرة العربية، فتحدّاهم القرآن أنْ يأتوا بالشياطين التي تُلهمهم.

وهكذا يُطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ بأنه يحيط بالناس جميعاً، ويعلم كل حركاتهم ظاهرة أو خفيّة من جنس ظاهر أو من جنس خفيّ، وباطمئنان رسول الله تشيع الطمأنينة في نفوس المؤمنين.

وهذا من قيوميته تعالى في الكون، وبهذه القيومية نردُّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الخالق سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة، فخلق النواميس، وهي التي تعمل في الكون، وهي التي تُسيّره.

والرد على هذه المقولة بسيط، فلو كانت النواميس هي التي

ص: 8640

تُسيِّر في الكون ما رأينا في الكون شذوذاً عن الناموس العام؛ لأن الأمر الميكانيكي لا يحدث خروجاً عن القاعدة، إذن: فحدوث الشذوذ دليل القدرة التي تتحكم وتستطيع أن تخرق الناموس.

ومثال ذلك: النار التي أشعلوها لحرق نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام فهل كان حظ الإيمان أو الإسلام في أن ينجو إبراهيم من النار؟

لا. . لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلام، وإلا لما مكَّنهم الله من الإمساك به، أو سخر سحابة تطفئ النار، ولكن أراد سبحانه أن يُظهر لهم آية من آياته في خَرْق الناموس، فمكّنهم من إشعال النار ومكّنَهم من إبراهيم حتى ألقوْه في النار، ورأَوْهُ في وسطها، ولم يَعُدْ لهم حجة، وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتسلب النار خاصية الإحراق:{قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]

إذن: فالناموس ليس مخلوقاً ليعمل مطلقاً، وما حدث ليس طلاقة ناموس، بل طلاقة قدرة للخالق سبحانه وتعالى.

فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي رسوله ويُؤْنِسه بمدد الله له دائماً، ولا يفزعه أن يقوم قومه بمصادمته واضطهاده، ويريد كذلك أنْ يُطمئن المؤمنين ويُبشِّرهم بأنهم على الحق.

وقوله تعالى: {أَحَاطَ بالناس. .} [الإسراء: 60]

الإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم، فلن يُفلتوا من علم الله ولا من قدرته، ولا بُدَّ من العلم مع القدرة؛ لأنك قد تعلم شيئاً

ص: 8641

ضاراً ولكنك لا تقدر على دَفْعه، فالعلم وحده لا يكفي، بل لا بُدَّ له من قدرة على التنفيذ، إذن: فإحاطته سبحانه بالناس تعني أنه سبحانه يُعلِّمهم ويقدر على تنفيذ أمره فيهم.

كلمة (الناس) تُطلَق إطلاقاتٍ متعددة، فقد يراد بها الخلْق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة، كما في قوله الحق تبارك وتعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس مِن شَرِّ الوسواس الخناس الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس} [الناس: 1 - 6]

وقد يُراد بها بعض الخَلْق دون بعض، كما في قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54]

فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين قال عنه كفار مكة: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]

وكما في قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم. .} [آل عمران: 173] فهؤلاء غير هؤلاء.

وقد وقف العلماء عند كلمة الناس في الآية: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس. .} [الإسراء: 60] وقصروها على الكافرين الذين يقفون من رسول الله موقف العداء، لكن لا مانع أن نأخذ هذه الكلمة على عمومها، فُيَراد بها أحاط بالمؤمنين، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأحاط بالكافرين وعلى رأسهم صناديد الكفر في مكة.

ص: 8642

لذلك فالإحاطة هنا ليست واحدة، فلكل منهما إحاطة تناسبه، فإنْ كنتَ تريد الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله فهي إحاطة عناية وحماية حتى لا ينالهم أذى، وإنْ أردتَ بها الكافرين فهي إحاطة حصار لا يُفلِتون منه ولا ينفكُّون عنه، وهذه الإحاطة لها نظير، وهذه لها نظير.

فنظير الإحاطة بالكافرين قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]

أي: حُوصِروا وضُيِّق عليهم فلا يجدون منفذاً.

ونظير الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171 - 172]

فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صلى الله عليه وسلم َ إحاطة عناية، وكأنه يقول له: امْضِ إلى شأنك وإلى مهمتك، ولن يُضيرك ما يُدبِّرون.

لذلك كان المؤمنون في أَوْج فترات الاضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]

حتى أن عمر رضي الله عنه الذي جاء القرآن على وَفْق رأيه يقول: أيّ جَمْع هذا؟! ويتعجب، كيف سنهزم هؤلاء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول الله وتبشير

ص: 8643

للمؤمنين، فمهما نالوكم بالاضطهاد والأذى فإن الله ناصركم عليهم.

وكما قال في آية أخرى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173]

فاذكر جيداً يا محمد حين تنزل بك الأحداث، ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك، وأنهم قادرون عليك، اذكر أن الله أحاط بالناس، فأنت في عناية فلن يصيبك شرٌّ من الخارج، وهم في حصار لن يُفلِتوا منه.

ثم يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ. .} [الإسراء: 60]

كلمة {الرؤيا} مصدر للفعل رأى، وكذلك (رؤية) مصدر للفعل رأى، فإنْ أردتَ الرؤيا المنامية تقول: رأيتُ رُؤْيا، وإنْ أردتَ رأى البصرية تقول: رأيتُ رؤية.

ومن ذلك قول يوسف عليه السلام في المنام الذي رآه: {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100]

ولم يَقُلْ رؤيتي. إذن: فالفعل واحد، والمصدر مختلف.

وقد اختلف العلماء: ما هي الرؤيا التي جعلها الله فتنة للناس؟

جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبتتْ في أول السورة: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] أي: حادثة الإسراء والمعراج.

ص: 8644

وبعضهم رأى أنها الرُّؤْيا التي قال الله فيها: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27]

فقد وعد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام، ولكن مُنِعوا من الدخول عند الحديبية، فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أنْ يعدهم رسول الله وَعْداً ولا ينجزه لهم.

ثم بيّن الحق تبارك وتعالى لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام، فأنزل على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة:{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25]

إذن: الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية؛ لأنهم لو دخلوا مكة مُحاربين حاملين السلاح، وفيها مؤمنون ومؤمنات

ص: 8645

لا يعلمهم أحد، وسوف يصيبهم من الأذى وينالهم من هذه الحرب؛ لأنهم لن يُميِّزوا بين مؤمن وكافر، فقد يقتلون مؤمناً فتصيبهم مَعَرَّةٌ بقتله، ولو أمكن التمييز بين المؤمنين والكفار لدخول مكة رَغْماً عن أُنُوف أهلها.

لذلك كان من الطبيعي أنْ يتشكَّكَ الناس فيما حدث بالحديبية، وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين، حتى إن الفاروق ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟ ألستَ رسول الله؟ فيقول أبو بكر: الزم غَرْزَِه يا عمر، إنه رسول الله.

وقد ساهمتْ السيدة أم سلمة أم المؤمنين في حَلِّ هذا الإشكال الذي حدث نتيجة هذه الفتنة، فلما اعترض الناس على رسول الله في عودته من الحديبية دخل عليها، فقال:«يا أم سلمة، هلك المسلمون، أمرتُهم فلم يمتثلوا» . فقالت: يا رسول الله إنهم مكروبون، جاءوا على شَوْق للبيت، ثم مُنِعوا وهم على مَقْرُبة منه، ولا شكَّ أن هذا يشقّ عليهم، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فإذا رأوك عازماً امتثلوا، ونجح اقتراح السيدة أم سلمة في حل هذه المسألة.

ص: 8646

وقال بعضهم: إن المراد بالرؤيا التي جعلها الله فتنة ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قبل غزوة بدر، حيث أقسم وقال:«» والله لكأني انظر إلى مصارع القوم «. وأخذ يومِئ إلى الأرض وهو يقول:» هذا مَصْرع فلان، وهذا مَصْرع فلان، وهذا مَصْرع فلان «» .

وفعلاً، جاءت الأحداث موافقة لقوله صلى الله عليه وسلم َ فَقُلْ لي: بالله عليك، مَنِ الذي يستطيع أنْ يتحكَّم في معركة كهذه، الأصل فيها الكَرّ والفَرّ، والحركة والانتقال لِيُحدد الأماكن التي سيقتل فيها هؤلاء، اللهم إنه رسول الله.

لكن أهل التحقيق من العلماء قالوا: إن هذه الأحداث سواء ما كان في الحديبية، أو ما كان من أمر الرسول يوم بدر، هذه أحداث حدثتْ في المدينة، والآية المرادة مكية، مما يجعلنا نستبعد هذين القولين ويؤكد أن القول الأول وهو الإسراء والمعراج هو الصواب.

وقد يقول قائل: وهل كان الإسراء والمعراج رؤيا منامية؟ إنه كان رؤية بصرية، فما سِرّ عدول الآية عن الرؤية البصرية إلى

ص: 8647

الرؤيا المنامية؟ وكيف يعطي الحق سبحانه وتعالى للكفار والمشككين فرصة لأن يقول: إن الإسراء والمعراج كان مناماً؟

نقول: ومَنْ قال إن كلمة رؤيا مقصورة على المنامية؟ إنها في لغة العرب تُطلق على المنامية وعلى البصرية، بدليل قول شاعرهم الذي فرح بصيد ثمين عنَّ له:

فَكَبَّر لِلْرُؤْيَا وهَاش فُؤَادُهُ

وَبشَّرَ نَفْساً كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا

أي: قال الله اكبر حينما رأى الصيد الثمين يقترب منه، فعبَّر بالرؤيا عن الرؤية البصرية.

لكن الحق سبحانه اختار كلمة (رُّؤيَا) ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلاً: هذا شيء لا يحدث إلا في المنام. وهذا من دِقّة الأداء القرآني، فالذي يتكلم رَبّ، فاختار الرؤيا؛ لأنها معجزة الإسراء وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم َ من مكة إلى بيت المقدس في ليلة.

فَوَجْه الإعجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لأن كثيراً من كفار مكة قد ذهب إليها في رحلات التجارة أو غيرها، بل وَجْه الإعجاز في الزمن الذي اختُصِر لرسول الله، فذهب وعاد في ليلة واحدة، بدليل أنهم سألوا رسول الله «صِفْ لنا بيت المقدس» .

ص: 8648

ولو كانوا يشكُّون في الحدث ما سألوا هذا السؤال، إذن: فاعتراضهم على وقت هذه الرحلة التي كانوا يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، ويخبر محمد أنه أتاها في ليلة واحدة، ولأن الإسراء حدث في هذا الزمن الضيق المختصر ناسب أن يُطلق عليه رؤيا، لأن الرؤيا المنامية لا زمنَ لها، ويختصر فيها الزمن كذلك.

ولقد توصّل العلماء الباحثون في مسألة وعي الإنسان أثناء نومه، وعن طريق الأجهزة الحديثة إلى أنْ قالوا: إن الذهن الإنساني لا يعمل أثناء النوم أكثر من سبع ثوان، وهذه هي المدّة التي يستغرقها المنام.

في حين إذا أردتَ أن تحكي ما رأيتَ فسيأخذ منكم وقتاً طويلاً. فأين الزمن إذن في الرؤيا المنامية؟ ولا وجود له؛ لأن وسائل الإدراك في الإنسان والتي تُشعِره بالوقت نائمة فلا يشعر بوقت، حتى إذا جاءت الرؤيا مرَّتْ سريعة حيث لا يوجد في الذهن غيرها.

لذلك مَنْ يمشي على عجل لا يستغرق زمناً، كما نقول:(فلان يفهمها وهي طايرة) وهذا يدل على السرعة في الفعل؛ لأنه يركز كل إدراكاته لشيء واحد.

ومن ناحية أخرى، لو أن الإسراء والمعراج رؤيا منامية، أكانت توجد فتنة بين الناس؟ وهَبْ أن قائلاً قال لنا: رأيت الليلة أنني ذهبتُ من القاهرة إلى نيويورك، ثم إلى هاواي، ثم إلى اليابان، أنُكذِّبه؟!

إذن: قَوْل الله تعالى عن هذه الرؤيا أنها فتنة للناس عَدَّلَتْ المعنى

ص: 8649

من الرؤيا المنامية إلى الرؤية البصرية، وكأن الحق سبحانه اختار هذه الكلمة ليجعل من الكافرين بمحمد دليلاً على صدقه، فيقولون: نحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً وأنت تدعي أنك أتيتها في ليلة؟ فلو كانت هذه الحادثة مناماً ما قالوا هذا الكلام.

لكن، ما الحكمة من فتنة الناس واختبارهم بمثل هذا الحدث؟

الحكمة تمحيص الناس وصَهْرهم في بوتقة الإيمان لنميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، فلا يبقى في ساحتنا إلا صادق الإيمان قويُّ العقيدة، لأن الله تعالى لا يريد أن يسلم منهجه الذي سيحكم حركة الحياة في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، إلا إلى قوم موثوق في إيمانهم ليكونوا أهلاً لحمل هذه الرسالة.

فكان الإسراء هو هذه البوتقة التي ميَّزَتْ بين أصالة الصِّدِّيق حينما أخبروه أن صاحبك يُحدِّثنا أنه أتى بيت المقدس، وأنه عُرِج به إلى السماء وعاد من ليلته، فقال:«إنْ كان قال فقد صدق» هكذا من أقرب طريق، فميزان الصدق عنده مجرد أن يقول رسول الله. وكذلك ميزت الزَّبَد الذي زلزلته الحادثة وبلبلته، فعارض وكذب.

ثم يقول تعالى: {والشجرة الملعونة فِي القرآن} [الإسراء: 60]

أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنةً للناس أيضاً، وإنْ كانت الفتنة في الإسراء كامنَة في زمن حدوثه، فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج في أصل الجحيم، في قَعْر جهنم،

ص: 8650

ومعلوم أن الشجرة نبات لا يعيش إلا بالماء والري، فكيف تكون الشجرة في جهنم؟

ومن هنا كانت الشجرة فتنة تُمحِّص إيمان الناس؛ لذلك لما سمع أبو جهل هذه الآية جعلها مُشكلة، وخرج على الناس يقول: اسمعوا ما يحدثكم به قرآن محمد، يقول: إن في الجحيم شجرة تسمى «شجرة الزقوم» ، فكيف يستقيم هذا القول، والنار تحرق كل شيء حتى الحجارة؟

وهذا الاعتراض مقبول عقلاً، لكن المؤمن لا يستقبل آيات الله استقبالاً عقلياً، وإنما يعمل حساباً لقدرته تعالى؛ لأن الأشياء لا تأخذ قوامها بعنصر تكوينها، وإنما تأخذه بقانون المعنصِر نفسه، فالخالق سبحانه يقول للشجرة: كوني في أصل الجحيم، فتكون في أصل الجحيم بطلاقة القدرة الإلهية التي قالت للنار: كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم.

وقد قال ابن الزَّبْعَري حينما سمع قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} [الصافات: 62 - 64]

فقال: والله ما عرفنا الزقوم إلا الزُّبْد على التمر، فقوموا تزقَّموا

ص: 8651

معي، أي: استهزاءً بكلام الله، وتكذيباً لرسوله صلى الله عليه وسلم َ.

أما المؤمن فيستقبل هذه الآيات استقبالَ الإيمان والتسليم بصدق كلام الله، وبصدق المبلِّغ عن الله، ويعلم أن الأشياء لا تأخذ صلاحيتها بعنصر تكوينها، وإنما بإرادة المعنْصِر أن يكون؛ لأن المسألة ليست ميكانيكا، وليست نواميس تعمل وتدير الكون، بل هي قدرة الخالق سبحانه وطلاقة هذه القدرة.

ولسائل أن يقول: كيف يقول الحق سبحانه عن هذه الشجرة أنها (ملعونة) ؟ ما ذنب الشجرة حتى تُلْعَن، وهي آية ومعجزة لله تعالى، وهي دليل على اقتداره سبحانه، وعلى أن النواميس لا تحكم الكون، بل ربّ النواميس سبحانه هو الذي يحكم ويُغيِّر طبائع الأشياء؟ كيف تُلْعَن، وهي الطعام الذي سيأكله الكافر ويتعذب به؟ إنها أداة من أدوات العقاب، ووسيلة من وسائل التعذيب لأعداء الله.

نقول: المراد هنا: الشجرة الملعون آكلها، لأنه لا يأكل منها إلا الأثيم، كما قال تعالى:{إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43 - 44] والأثيم لا شَكَّ معلون.

لكن، لماذا لم يجعل المعلونية للآكل وجعلها للشجرة؟

ص: 8652

قالوا: لأن العربي دَرَجَ على أن كل شيء ضار ملعون، أي: مُبْعَد من رحمة الله، فكأن الكافر حينما يرى هذه الشجرة هو الذي يلعنها، فهي ملعونة من آكلها. وقد أكل منها لأنه ملعون، إذن: نستطيع القول إنها ملعونة، وملعون آكلها.

من الإشكالات التي أثارتها هذه الآية في العصر الحديث قول المستشرقين الذين يريدون أن يتورّكوا على القرآن، ويعترضوا على أساليبه، مثل قوله تعالى عن شجرة الزقوم:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 65]

ووَجْه اعتراضهم أن التشبيه إنما يأتي عادةً لِيُوضِّح أمراً مجهولاً من مخاطب بأمر معلوم له، أما في الآية فالمشبَّه مجهول لنا؛ لأنه غَيْب لا نعلم عنه شيئاً، وكذلك المشبَّه به لم نَرَهُ، ولم يعرف أحد مِنّا رأس الشيطان، فكيف يُشبِّه مجهولاً بمجهول؟ لأننا لم نَرَ شجرة الزقوم لنعرف طَلْعها، ولم نَرَ الشيطان لنعرف رأسه.

ثم يقولون: الذي جعل المسلمين يمرُّون على هذه الآية أنهم يُعطون للقرآن قداسة، هذه القداسة تُربّى فيهم التهيُّب أنْ يُقبلوا على القرآن بعقولهم ليفتشوا فيه، ولو أنهم تخلصوا من هذه المسألة وبدأوا البحث في أسلوب القرآن دون تهيُّب لاستطاعوا الخروج منه بمعطيات جديدة.

ص: 8653

وللردِّ على قَوْل المستشرقين السابق نقول لهم: لقد تعلمتم العربية صناعة، وليس عندكم الملَكَة العربية أو التذوّق الكافي لفهم كتاب الله وتفسير أساليبه، وفَرْقٌ بين اللغة كملَكَة واللغة كصناعة فقط.

الملَكة اللغوية تفاعل واختمار للغة في الوجدان، فساعة أنْ يسمعَ التعبير العربي يفهم المقصود منه، أما اللغة المكتسبة خاصة على كِبَر فهي مجرد دراسة لإمكان التخاطب، فلو أن عندكم هذه الملكة لما حدث منكم هذا الاعتراض، ولعلمتم أن العربي قبل نزول القرآن قال:

يَغُطُّ غَطِيطَ البكْر شُدّ خِنَاقُه

لِيقتُلَنِي والمرْءُ ليسَ بقتَّالِ

أَيقتُلِني وَالمشْرفيُّ مُضَاجِعِي

وَمسْنُونَةٍ زُرْقٍ كأنْيَابِ أَغْوَالِ

فهل رأيتم الغول؟ وهل له وجود أصلاً؟ لكن الشاعر العربي استساغ أن يُشبّه سلاحه المسنون بأنياب الغول؛ لأن الغول يتصوَّره الناس في صورة بشعة مخيفة، فهذا التصوّر والتخيُّل للغول أجاز أنْ نُشبّه به.

وكذلك الشيطان، وإنْ لم يَرَهُ أحد أن الناس تتخيله في صورة بشعة وقبيحة ومخيفة، فلو كلّفنا جميع رسّامي الكاريكاتير في العالم برسم صورة مُتخيّلة للشيطان لرسم كل واحد منهم صورة تختلف

ص: 8654

عن الآخر؛ لأن كلاً منهم سيتصوره بصورة خاصة حَسْب تصوره للشيطان وجهة البشاعة فيه.

فلو أن الحق سبحانه شبَّه طَلْع شجرة الزقوم بشيء معلوم لنا لَتصوّرناه على وجه واحد، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أنْ يُشيعَ بشاعته، وأنْ تذهب النفس في تصوُّره بشاعته كل مذهب، وهكذا يؤدي هذا التشبيه في الآية مَا لا يُؤديّه غيره، ويُحدث من الأثر المطلوب ما لا يُحدِثه تعبير آخر، فهو إبهام يكشف ويجليِّ.

ثم يقول تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء: 60]

أي: نُخوّفهم بأنْ يتعرّضوا للعقوبات التي تعرّض لها المكذِّبون للرسل، فالرسل نهايتهم النصر، والكافرون بهم نهايتهم الخُذْلان. وأنت حينما تُخوّف إنساناً أو تُحذره من شر سيقع له، فقد أحسنتَ إليه وأسديتَ إليه جميلاً ومعروفاً، كالولد الذي يُخوِّف ابنه عاقبة الإهمال، ويُذكّره بالفشل واحتقار الناس له، إنه بذلك ينصحه ليلتفت إلى دروسه ويجتهد.

فقوله تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ. .} [الإسراء: 60] التخويف هنا نعمة من الله عليهم، لأنه يُبشّع لهم الأمر حتى لا يقعوا فيه، وسبق أن ذكرنا أن التخويف قد يكون نعمة في قوله تعالى، في سورة الرحمن:

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36]

فجعل النار والشُّوَاظ هنا نعمة؛ لأنها إعلام بشيء سيحدث في المستقبل، وسيكون عاقبة عمل يجب أن يحذروه الآن.

ص: 8655

وقوله تعالى: {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء: 60]

أي: يزدادون بالتخويف طغياناً، لماذا؟ لأنهم يفهمون جيداً مطلوبات الإيمان، وإلا لو جهلوا هذه المطلوبات لقالوا: لا إله إلا الله وآمنوا وانتهت القضية، لكنهم يعلمون تماماً أن كلمة لا إله إلا الله تعني: لا سيادةَ إلا لهذه الكلمة، ومحمد رسول الله لا بلاغَ ولا تشريعَ إلا منه، ومن هنا خافوا على سيادتهم في الجزيرة العربية وعلى مكانتهم بين الناس، كيف والإسلام يُسوِّي بين السادة والعبيد؟!

إذن: كلما خوَّفْتهم وذكّرتهم بالله ازدادوا طغياناً ونفوراً من دين الله الذي سيهدم عليهم هذه السلطة الزمنية التي يتمتعون بها، وسيسحب بساط السيادة من تحت أقدامهم؛ لذلك تجد دائماً أن السلطة الزمنية لأعداء الرسل، وتأتي الرسل لهدم هذه السلطة، وجَعْل الناس سواسية.

وقد اتضح هدم الإسلام لهذه السلطة الزمنية للكفار عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ المدينة، وكان أهلها يستعدون لتنصيب عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليهم، فلما جاء رسول الله المدينة انفض الناس عن ابن أُبيٍّ، وتوجهت الأنظار إليه صلى الله عليه وسلم َ، وطبيعي إذن أن يغضب ابن أُبيٍّ، وأن يزدادَ كُرْهه لرسول الله، وأن يسعى لمحاربته ومناوأته،

ص: 8656

وأنْ يحسده على ما نال من حُبِّ الناس والتفافهم حوله.

ثم أراد الحق سبحانه أن يقول: إن هذه سُنّة من سُنَن المعاندين للحق والكائدين للخير دائماً، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ

} .

ص: 8657

أي: تذكّروا أن الحسد قديم قِدَم وجود الإنسان على هذه الأرض، تذكّروا ما كان من أمر آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله، فهي مسألة قديمة ومستمرة في البشر إلى يوم القيامة.

والمعنى: واذكُرْ يا محمد، وليذكر معك قومك إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. وسبق أنْ تكلمنا عن السجود، ونشير هنا إلى أن السجود لا يكون إلا الله تعالى، لكن إذا كان الأمر بالسجود لغير الله من الله تعالى، فليس لأحد أن يعترض على هذا السجود؛ لأنه بأمر الله الذي يعلم أن سجودهم لآدم ليس عَيْباً وليس قَدْحاً في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى؛ لأن العبودية طاعة أوامر.

والمراد بالملائكة المدبرات أمراً، الذين قال الله فيهم:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله. .} [الرعد: 11]

وقد أمرهم الله بالسجود لآدم؛ لأنه سيكون أبا البشر، وسوف يُسخّر له الكون كله، حتى هؤلاء الملائكة سيكونون في خدمته؛ لذلك أمرهم الله بالسجود له سجودَ طاعة وخضوع لما أريده منكم، إذن: السجود لآدم ليس خضوعاً لآدم، بل خضوعاً لأمر الله لهم.

ص: 8657

وقوله تعالى: {إَلَاّ إِبْلِيسَ. .} [الإسراء: 61]

فهِم البعض منها أن إبليس كان من الملائكة، ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الآية عن بقية الآيات التي تحدثتْ عن هذه القضية، لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا، فيجب استحضار جميع الآيات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة.

فإذا كان دليل أصحاب هذا القول: الالتزام بأن الله قال: {فَسَجَدُواْ إَلَاّ إِبْلِيسَ. .} [الإسراء: 61]

وقد كان الأمر للملائكة فهو منهم، سوف نُسلِّم لهم جدلاً بصحة قولهم، لكن ماذا يقولون في قَوْل الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم:{فسجدوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. .} [الكهف: 50]

فإنْ كان دليلكم الالتزام، فدليلنا نصٌّ صريح في أنه من الجن، فإنْ قال قائل: كيف يكون من الجن ويُؤاخَذ على أنه لم يسجد؟

نقول: إبليس من الجن بالنصِّ الصريح للقرآن الكريم، لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم السجود لآدم واعتبره من الملائكة؛ لأنه كان مطيعاً عن اختيار، والملائكة مطيعون عن جِبلَّة وعن طبيعة.

فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملائكة، لأنه مختار أن يطيع أو أن يعصي، لكنه أطاع مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملائكة، بل طاووس الملائكة الذي يزهو عليهم ويتباهى

ص: 8658

بأنه صالح للاختيار في العصيان، ومع ذلك ألزم نفسه منهج الله.

فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملائكة وأصبح في حضرتهم، فإن الأمر إذا توجَّه إلى الأدنى في الطاعة فإن الأعلى أَوْلَى بهذا الأمر، وكذلك إن اعتبرناه أقلّ منهم منزلة، وجاء الأمر للملائكة بالسجود فإن الأمر للأعلى أمر كذلك للأدنى، وهكذا إنْ كان أعلى فعليه أن يسجد، وإنْ كان أدنى فعليه أنْ يسجدَ.

وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى إذا دخل رئيس الجمهورية على الوزراء فإنهم يقومون له إجلالاً واحتراماً، وهَبْ أن معهم وكلاء وزارات فإنهم سوف يقومون أيضاً؛ لأنهم ارتفعوا إلى مكان وجودهم.

ومن الإشكالات التي أثارها المستشرقون حول هذا الموضوع اعتراضهم على قول القرآن عن إبليس مرة {أبى} ومرة أخرى {استكبر} ومرة {أبى واستكبر} ، وكذلك قوله مرة:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ. .} [ص: 75] ومرة أخرى يقول: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ. .} [الأعراف: 12]

وقد سبق أن تحدثنا عن قصور هؤلاء في فَهْم أساليب العربية؛ لأنها ليستْ لديهم ملَكَة، والمتأمل في هذه الأساليب يجدها منسجمة يُكمل بعضها بعضاً.

فالإباء قد يكون مجرد امتناع لا عن استكبار، فالحق سبحانه يريد أن يقول: إنه أبى استكباراً، فتنوّع الأسلوب القرآني ليعطينا هذا المعنى.

أما قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ. .} [ص: 75] و {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ. .} [الأعراف: 12]

ص: 8659

صحيح أن في الأولى إثباتاً وفي الأخرى نفياً، والنظرة العَجْلَى تقول: إن ثمة تعارضاً بين الآيتين، مما حمل العلماء على القول بأن (لا) في الآية الثانية زائدة، فالأصل {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ. .} [ص: 75]

والقول بوجود حروف زائدة في كتاب الله قول لا يليق، ونُنزّه المتكلم سبحانه أن يكون في كلامه زيادة، والمتأدب منهم يقول (لا) حرف وَصْل، كأنه يستنكف أن يقول: زائدة.

والحقيقة أن (لا) هنا ليست زائدة، وليست للوَصْل، بل هي تأسيس يضيف معنى جديداً، لأن {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ. .} [ص: 75] كأنه همَّ أن يسجد، فجاءه مَنْ يمنعه عن السجود، لأنه لا يقال: ما منع من كذا إلا إذا كان لديك استعداد للفعل، وإلا من أيّ شيء سيمنعك؟

أما و {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ. .} [الأعراف: 12] تعني: ما منعك بإقناعك بأن لا تسجد، فالمعنيان مختلفان، ونحن في حاجة إليهما معاً.

ثم يقول تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. .} [الإسراء: 61]

والهمزة للاستفهام الذي يحمل معنى الاعتراض أو الاستنكار، وقد فُسِّرت هذه الآية بآيات أخرى، مثل قوله تعالى:{أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]

فالمخلوقية لله مُتفق عليها، إنما الاختلاف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين، لكن من قال لك يا إبليس: إن النار فوق الطين، أو خير منه؟ من أين أتيتَ بهذه المقولة وكلاهما مخلوق لله، وله مهمة في الكون؟ وهل نستطيع أن نقول: إن العين خير من الأذن مثلاً؟ أم أن لكل منهما مهمتها التي لا تؤديها الأخرى؟

ص: 8660

وسبق أنْ قُلْنا مثلاً: إنك تفضل الحديد إنْ كان مستقيماً، أما إنْ أردتَ خُطَّافاً فالاعوجاج خير من الاستقامة، أو: أن اعوجاجه هو عين الاستقامة فيه، فكل شيء في الوجود مخلوق لغاية ولمهمة ولا يكون جميلاً ولا يكون خَيْراً إلا إذا أدى مهمته في الحياة، فمن أين جاء إبليس بخيرية النار على الطين؟

والنار الأصل فيها الخشب الذي توقد به، والخشب من الطين، إذن: فالطين قبل النار وأفضل منه، فقياس إبليس إذن قياس خاطئ.

ومعنى: {خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] يعني: خلقته حال كونه من الطين، أو خلقتَه من طين، والخَلْق من الطين مرحلة من مراحل الخَلْق؛ لأن الخَلْق المباشر له مراحل سبقته.

فقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي. .} [الحجر: 29]

سبقتْه مراحل متعددة، قال عنها الخالق سبحانه مرة: من الماء. ومرة: من التراب. ومرة: من الطين. والماء إذا خُلِط بالتراب صار طيناً، وبمرور الوقت يسودُّ هذا الطين، وتتغير رائحته، فيتحول إلى حمأ مسنون.

وما أشبهَ الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب، حيث يخلطون الماء بالتراب بالقشِّ، ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضاً، وتتغير رائحته ويعطَن، ثم يصبُّونه في قوالب. فإذا ما تُرِك الطين حتى يجفّ، ويتحول إلى الصلابة يصير صَلْصَالاً كالفخَّار، يعني يُحدث رنّة إذا طرقت عليه.

وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]

إذن: لا وَجْه للاعتراض على القرآن في قوله عن خلق الإنسان

ص: 8661

مرة أنه: من: ماء، أو من تراب، أو طين، أو حمأ مسنون، فهذه كلها مراحل للمكوّن الواحد.

ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ. .} .

ص: 8662

{قَالَ} أي: إبليس {أَرَأَيْتَكَ} الهمزة للاستفهام، والتاء للخطاب، وكذلك الكاف، وجمع بينهما في الخطاب للتأكيد، كما تقول: أنت أنت تفعل ذلك. والمعنى: أخبرني، لأن رأي البصرية تُطلق في القرآن على معنى العلم؛ لأن علم العين علم مُؤكّد لا شكَّ فيه.

لذلك قالوا: (ليس مع العين أَيْن) فما تراه أمامك عياناً، وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية؛ لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب.

وقد ورد هذا المعنى في قَوْله الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]

واستخدم الفعل ترى، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كان في عام الفيل وليداً لم يَرَ شيئاً، فالمعنى: ألم تعلم، ولكن الحق سبحانه عدل عن «تعلم» إلى «تَرَ» كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم َ: إذا أخبرك الله بمعلوم، فاجعل إخبار الله لك فوق رؤيتك بعينك.

ص: 8662

فقوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ. .} [الإسراء: 62] أي: أعلمني، لماذا فضلته عليَّ، وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربّه عز وجل، ولكنه تعجَّل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]

وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مُسْبقة فلم ينتظر الجواب.

ومعنى: {أَخَّرْتَنِ} أخَّرت أجلي عن موعده، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جنٍّ أجلاً معلوماً، فطلب أنْ يُؤخِّره الله عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد، فلم يتوعدهم ويُهدّدهم مدة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً.

فالعداوة بين إبليس وآدم، فما ذنب ذريته من بعده؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد، وهذه العداوة على آدم، ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده، إنه الغيظ الدفين الذي يملأ قلبه.

وقد أمهله الحق سبحانه بقوله: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 15]

ومعنى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] اللام للقسم، كما أقسم في آية أخرى:{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]

وعجيب أمر إبليس، يقسم بالله وهو يعلم أن العمر والأجل بيده سبحانه، فيسأله أن يُؤخّره، ومع ذلك لا يطيع أمره.

ص: 8663

والاحتناك: يَرِد بمعنيين: الأول: الاستئصال. ومنه قولهم: احتنك الجراد الزرع. أي: أتى عليه كله واستأصله، والآخر: بمعنى القهر على التصرف، مأخوذ من اللجام الذي يُوضَع في حنَك الفرس، ويسمونه (الحنكة) وبها تستطيع أن تُوجّه الفرس يميناً أو يساراً أو تُوقِفه، فهي أداة التحكّم فيه، والسيطرة عليه قَهْراً.

فالاحتناك قد يكون استئصالاً للذات، وقد يكون قهراً لحركتها.

وقوله سبحانه: {إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] فيها دليل على عِلْم إبليس ومعرفته بقدرة الله تعالى، فعرف كيف يقسم به حين قال:{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] والمعنى: بعزتك عن خَلْقك: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .

سأدخل من هذا الباب، أما عبادك الذين هديتهم واصطفيتهم فلا دَخْلَ لي بهم، وليس لي عليهم سلطان، لقد تذكر قدرة الله، وأن الله إذا أراد إخلاص عبده لنفسه لا يستطيع الشيطان أنْ يأخذَه، فقال:{إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83]

فقوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] هذا القليل المستثنى هم المؤمنون الذين اختارهم الله وهداهم، ولم يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.

ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} .

ص: 8664