الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {جَزَاءً مَّوْفُوراً} أي: وافياً مكتملاً لا نقصَ فيه، لا من العذاب، ولا من المعذبين.
والحق سبحانه يقول مخاطباً إبليس: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
…
} .
فقوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:
64]
هذا كما تستنهض ولدك الذي تكاسل، وتقول له: فِزّ يعني انهض، وقُمْ من الأرض التي تلازمها كأنها مُمسكة بك، وكما في قوله تعالى:{ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض. .} [التوبة: 38]
فتقول للمتثاقل عن القيام: فِزّ أي: قُمْ وخِفّ للحركة والقيام بإذعان. فالمعنى: استفزز مَنِ استطعت واستخفّهم واخدعهم {بِصَوْتِكَ} بوسوستك أو بصوتك الشرير، سواء أكان هذا الصوت من جنودك من الأبالسة أمثالك، أو من جنودك من شياطين الإنس الذين يعاونوك ويساندونك.
ثم يقول تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. .} [الإسراء: 64]
أجْلَبَ عليهم: صاح به، وأجلبَ على الجواد: صاح به راكبه ليسرع والجَلْبة هي: الصوت المزعج الشديد، وما أشبه الجَلْبة بما نسمعه من صوت جنود الصاعقة مثلاً أثناء الهجوم، أو من أبطال الكاراتيه.
وهذه الأصوات مقصودة لإرهاب الخصم وإزعاجه، وأيضاً لأن هذه الصيحات تأخذ شيئاً من انتباه الخصم، فيضعف تدبيره لحركة مضادة، فيسل عليك التغلّب عليه.
وقوله تعالى: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. .} [الإسراء: 64]
أي: صَوِّتْ وصِحْ بهم راكباً الخيل لتفزعهم، والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان، كما في الحديث النبوي الشريف:«يا خيل الله اركبي» .
وما أشبه هذا بما كنا نُسمِّيهم: سلاح الفرسان {وَرَجِلِكَ} من قولهم: جاء راجلاً. يعني: ماشياً على رِجْلَيْه و (رَجِل) يعني على سبيل الاستمرار، وكأن هذا عمله وديدنه، فهي تدل على الصفة الملازمة، تقول: فلانٌ رَجْل أي: دائماً يسير مُترجّلاً. مثل: حاذر وحَذِرْ، وهؤلاء يمثلون الآن «سلاح المشاة» .
ثم يقول تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال. .} [الإسراء: 64] فكيف يشاركهم أموالهم؟ بأن يُزيِّن لهم المال الحرام، فيكتسبوا
من الحرام وينفقوا في الحرام (والأولاد) المفروض في الأولاد طهارة الأنساب، فدَوْر الشيطان أنْ يُفْسِدَ على الناس أنسابهم، ويُزيِّن لهم الزنا، فيأتون بأولاد من الحرام. أو: يُزيِّن لهم تهويد الأولاد، أو تنصيرهم، أو يُغريهم بقتْلِ الأولاد مخافةَ الفقر أو غيره، هذا من مشاركة الشيطان في الأولاد.
وقوله تعالى {وَعِدْهُمْ} أي: مَنيِّهم بأمانيك الكاذبة، كما قال سبحانه في آية أخرى:{الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]
وقوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلَاّ غُرُوراً} [الإسراء: 64] أي: لا يستطيع أن يَغُرَّ بوعوده إلا صاحب الغِرّة والغفلة، ومنها الغرور: أي يُزيّن لك الباطل في صورة الحق فيقولون: غَرَّهُ. وأنت لا تستطيع أبداً أن تُصوّر لإنسان الباطل في صورة الحق إلا إذا كان عقله قاصراً غافلاً؛ لأنه لو عقل وانتبه لتبيَّن له الحق من الباطل، إنما تأخذه على غِرَّة من فكره، وعلى غَفْلة من عقله.
لذلك كثيراً ما يُخاطبنا الحق سبحانه بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ. .} [القصص: 60]{أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ. .} [النساء: 82] وينادينا بقوله: {ياأولي الألباب} [الطلاق: 10]
وهذا كله دليل على أهمية العقل، وحثٌّ على استعماله في كل أمورنا، فإذا سمعتم شيئاً فمرِّروه على عقولكم أولاً، فما معنى أن يطلب الله مِنَّا ذلك؟ ولماذا يُوقِظ فينا دائماً ملكة التفكير والتدبُّر في كل شيء؟
لا شكَّ أن الذي يُوقِظ فيك آلة الفكر والنقد التمييز، ويدعوك
إلى النظر والتدبر واثق من حُسْن بضاعته، كالتاجر الصدوق الذي يبيع الجيد من القماش مثلاً، فيعرض عليك بضاعة في ثقة، ويدعوك إلى فحصها، وقد يشعل النار لِيُريك جودتها وأصالتها.
ولو أراد الحق سبحانه أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصُّر ما دعانا إلى التفكُّر والتدبُّر.
وهكذا الشيطان لا يُمنّيك ولا يُزيّن لك إلا إذا صادف منك غفلة، إنما لو كنت متيقظاً له ومُسْتصحباً للعقل، عارفاً بحيله ما استطاع إليك سبيلاً، ومن حيله أن يُزيِّن الدنيا لأهل الغفلة ويقول لهم: إنها فرصة للمتعة فانتهزها وَخذْ حظك منها فلن تعيش مرتين، وإياك أن تُصدّق بالبعث أو الحساب أو الجزاء.
وهذه وساوس لا يُصدّقها إلا مَنْ لديه استعداد للعصيان، وينتظر الإشارة مجرد إشارة فيطيع ويقع فريسة لوعود كاذبة، فإنْ كان يوم القيامة تبرّأ إبليس من هؤلاء الحمقى، وقال:{إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلَا تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]
إذن: في الآيتين السابقتين خمسة أوامر لإبليس: اذهب، استفزز، وأَجْلب، وشاركهم، وعِدْهم. وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها، بل للتهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة،