الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأيْن عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ إذن: فالآية قضية قولية، لها من الواقع ما يُصدِّقها.
وقوله: {مِن بَعْدِ نُوحٍ. .} [الإسراء:
17]
دَلَّ على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لأن الناس كانوا قريبي عَهْد بخَلْق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب. الذي لم يسبق له مثيل.
ولنا وَقْفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم َ بقوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6]
و {أَلَمْ تَرَ} بمعنى: ألم تعلم؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد، فلماذا عدل السياق القرآني عن: تعلم إلى تَرَ؟
قالوا: لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته، ومثلها قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]
حيث وُلِد رسول الله في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً.
وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلُّنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظمَ من حضارة الفراعنة التي لفتتْ أنظار العالم كله؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8]
أي: لا مثيلَ لها في كل حضارات العالم، في حين قال عن حضارة الفراعنة:{وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] مجرد هذا الوصف فقط. وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون. .} [الإسراء: 17]
كَمْ: تدل على كثرة العدد.
والقرون: جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام، ويُطلَق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه الناس فيما بينهم.
وقد يُطلَق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول: قرن نوح، قرن هود، قرن فرعون. أي: الفترة التي عاشها.
وقوله: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً. .} [الإسراء: 17]
أي: أنه سبحانه غنيّ عن إخبار أحد بذنوب عباده، فهو أعلم بها، لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء:{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19]
فلا يحتاج لمَنْ يخبره؛ لأنه خبير وبصير، هكذا بصيغة المبالغة.
وهنا قد يقول قائل: طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم؟
نقول: لأن السؤال يَرِدُ لإحدى فائدتين:
الأولى: كأنْ يسألَ الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه، فالهدف أنْ يعلم ما جهل.
والأخرى: كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما علم.
وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال:{اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14]
وقوله تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ. .} [الإسراء: 17]
كما تقول: كفى بفلان كذا، أي: أنك ترتضيه وتثقُ به، فالمعنى: يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره، وقد سبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي: السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، وهو سبحانه غنيّ عن الشهود والبينة والدليل.
إذن: كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً. ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده، فعقابه عَدْل لا ظلمَ فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} .
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، خلق له الكون كُلّه بما فيه، وخلق له جميع مُقوّمات حياته، ووالى عليه نِعَمه إيجاداً من عدم، وإمداداً من عُدم، وجعل من مُقوّمات الحياة ما ينفعل له وإنْ لم يُطلب منه، كالشمس والقمر والهواء والمطر. . الخ فهذه من مُقوّمات حياتك التي تُعطيك دون أنْ تتفاعلَ معها.
ومن مُقوّمات الحياة مَا لا ينفعل لك، إلا إذا تفاعلتَ معه،
كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلتْ لك، وأعطتْك الإنتاج الوفير.
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم، فتتفاعل معهم مُقوِّمات الحياة، ويحدث التقدم والارتقاء.
وقد يرتقي الإنسان ارتقاءً آخر، بأن يستفيد من النوع الأول من مُقوّمات الحياة، والذي يعطيه دون أنْ يتفاعل معه، استفادة جديدة، ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
إذن: فهذه نواميس في الكون، الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة، وبذلك يُثري الإنسان حياته ويرتقي بها، وهذا ما أَسْمَيناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة. .} [الإسراء: 18]
أي: عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها.
{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ. .} [الإسراء: 18]
أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا.
ولا بُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن
والكافر، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها، ويتقدم على المؤمن، ويمتلك قُوته ورغيف عيشه، بل وجميع متطلبات حياتهم، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة.
وهذا حال لا يليق بالمؤمن، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها.
في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله.
إذن: فمن الدين ألَاّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك، وألَاّ تجعلَهم يتفوقون عليك.
وقوله: {مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ. .} [الإسراء: 18]
أي: أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقاً، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة، فقد تفعل، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية.
ومعنى {مَا نَشَآءُ. .} للمعجَّل و {لِمَن نُّرِيدُ} للمعجَّل له.
وما دام هذا يريد العاجلة، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها، إذن: فالآخرة ليستْ في باله، وليست في حُسْبانه؛ لذلك
لم يعمل لها، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صِفْراً لا نصيب له فيها؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدّم، وهذا قدَّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ والتقدّم والتكريم.
قال تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39]
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئاً، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئاً من عمله؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا.
ثم تأتي المفاجأة: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39]
وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَاّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18]
فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب، ومرة يُشبِّهه بالرماد؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً، وهو مادة الخِصْب والنماء، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
ووصفه بقوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْداً لَاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لَا يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264]
والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر، فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} [الإسراء: 18]
أي: أعددناها له، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها {مَذْمُوماً} أي: يذمُّه الناس، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه.
و {مَّدْحُوراً} [الإسراء: 18] وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة، وما انتهى إليه من العذاب، يعطينا صورة مقابلة، صورة لمن كان أعقل وأكيس، ففضَّل الآخرة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} .
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يُعطيِ الصورة ومقابلها؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله، والضِّد يظهر حُسْنه الضّد، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى
كما في: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14]
وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة. .} [الإسراء: 19] في مقابل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة. .} [الإسراء: 18]
قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا. .} [الإسراء: 19]
أي: أراد ثوابها وعمل لها.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ. .} [الإسراء: 19]
لأن الإيمان شَرْط في قبول العمل، وكُلُّ سعي للإنسان في حركة الحياة لا بُدَّ فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يُقبَل العمل، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة، فالعامل يأخذ أجره ممَّنْ عمل له.
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم، حينما قدّموا هذا الإنجازات لم يكُنْ في بالهم أبداً العمل لله، بل للبشرية وتقدُّمها؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة، فأقاموا لهم التماثيل، وألّفوا فيهم الكتب. . الخ.
إذن: انتهت المسألة: عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم.
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً، وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:«من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة» .
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول: أنشأه فلان، وافتتحه فلان. . الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة!! وهكذا يُفسد الإنسان على نفسه العمل، ويُقدم بنفسه ما يُحبطه، إذن: فقد فعل ليقال وقد قيل. وانتهت القضية.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً. .} [الإسراء: 19]
وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نِعَمه، كما قال تعالى:{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. .} [إبراهيم: 7]
فما بالك إنْ كان الشاكر هو الله تعالى، يشكر عبده على طاعته؟
وهذا يدل على أن العمل الإيماني يُصادف شُكْراً حتى من المخالف له، فاللص مثلاً إنْ كان لديه شيء نفيس يخاف عليه، فهل يضعه أمانة عند لصٍّ مثله، أم عند الأمين الذي يحفظه؟
فاللصّ لا يحترم اللص، ولا يثق فيه، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له، وكذلك الكذاب يحترم الصادق، والخائن يحترم الأمين.
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم َ وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم؛ لأنهم واثقون من أمانته، ويلقبونه «بالأمين» ، رغم ما بينهما من خلاف عقديّ جوهري، فهم فعلاً يكذبونه، أما عند حفْظ الأمانات فلن يغشُّوا أنفسهم، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم َ.