الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إِذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت. .} [الكهف:
63]
ونلحظ أنه قال هنا {نَسِيتُ} وقال في الآية السابقة {نَسِيَا. .} [الكهف: 61] ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى.
فكلام الله تبارك وتعالى يدلُّنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بَدَر منه من نسيان الحوت، ويقول:{وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلَاّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكْر الحوت.
وقوله تعالى: {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} [الكهف: 63] أي: اتخذ الحوتُ طريقه في البحر عَجَباً، في الآية السابقة قال:{سَرَباً} [الكهف: 61] وهذه حال الحوت، وهنا يقول {عَجَباً} لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل، ويتجه صَوْبَ الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجتْ عن المألوف.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ. .} .
أي: قال موسى عليه السلام {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ. .} [الكهف:
64]
أي: نطلب، فهذا المكان الذي فُقِد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عُرف
عنوان المكان، وهو مَجْمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً.
وهذه الصورة لا توجد إلَاّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد.
ثم يقول تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قَصَّاصُو الأثر، ومعنى:{قَصَصاً} [الكهف: 64] أي: بدقة إلى أنْ وصلَا إلى المكان الذي تسرَّب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى عليه السلام حيث سيجد هناك العبد الصالح.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءاتيناه رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
…
} .
سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإنْ كانت لله تعالى فهي العزّ والشرف، وإنْ كانت لغير الله فهي الذلُّ والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ لم يأخذ حَظْوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ. .} [الإسراء: 1]
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خَيْر سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده.
ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال:{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا. .} [الكهف: 65] وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
فكان رَدُّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. .} [الزخرف: 32]
أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل عليه السلام وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى:{آتَيْنَاهُ. .} [الكهف: 65] نحن، وقال:{مِّنْ عِندِنَا. .} [الكهف: 65]
فالإتيان والعندية من الله مباشرة.
ثم يقول بعدها: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً. .} [الكهف: 65] أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرجَ على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، ويُنعِم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أنْ نُفرِّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل الظاهرية، وهذه هي التي اختصَّ الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم َ.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى عليه السلام على هذه الأعمال؛ لأنه لا عِلْم َله بعلتها، ولو أن موسى عليه السلام علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها.