الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا
…
} .
قوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا. .} [الإسراء:
107]
آمنوا: أمر، ولا تؤمنوا: نَهْي. والأمر والنهي نوعان من الطلب، والطلب أن تطلب من الأدنى أن يفعل، والنهي أنْ تطلبَ من الأدنى ألَاّ يفعل، فإنْ كان الطلب من مُساو لك فهو التماس، وإنْ كان من أعلى منك فهو دعاء.
لذلك حينما نقول للطالب أعرب: (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) يقول: اغفر فعل أمر، نقول له: أنت سطحيّ العبارة؛ لأن الأمر هنا من الأدنى للأعلى، من العبد لربه تبارك وتعالى، فلا يقال: أمر، إنما يقال: دعاء.
والطاعة أن تمتثل الأمر والنهي، فهل نقول في قوله تعالى:{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا. .} [الإسراء: 107] أنها للتخيير، فإنْ آمنوا فقد أطاعوا، وكذلك إنْ لم يؤمنوا فقد أطاعوا أيضاً؟
نقول: الأمر والنهي هنا لا يُراد منه الطلب، بل يراد به التهديد أو التسوية كما تقول لابنك حين تلاحظ عليه الإهمال: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر؛ لاشك أنك لا تقصد النهي عن المذاكرة، بل تقصد تهديده وحثّه على المذاكرة.
فقوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تؤمنوا. .} [الإسراء: 107] للتسوية، كما قال:{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ. .} [الكهف: 29]
فهذا ليس أمراً بحيث أن الذي يفعل الأمر أو النهي يكون طائعاً، بل المراد هنا التهديد أو التسوية، فسواء آمنوا أو كفروا؛ لأن الحق سبحانه جعل في ذلك عزاءً لرسوله صلى الله عليه وسلم َ في إيمان أهل الكتاب.
{إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ. .} [الإسراء: 107] أي: اليهود والنصارى الذين ارتاضوا بالكتب السماوية، واستمعوا للتوارة والإنجيل، ونقلوها إلى غيرهم من المعاصرين للقرآن فهؤلاء شاهدون بأن الرسول حَقٌّ بما عندهم من بشارة به في التوراة والإنجيل؛ لذلك يتركون دينهم ويسارعون إلى الإسلام؛ لأنهم يعلمون عِلْم اليقين أنه الدين الحق.
ومن هؤلاء عبد الله بن سلام، وكان من علماء اليهود، وكان يعلم أوصاف رسول الله وزمن بَعْثته؛ لذلك قال: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشدّ.
ولما اختمر الإسلام في نفسه ذهب إلى رسول الله وصارحه بما نوى من اعتناق الإسلام، وقال:«يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ فإن أعلنتُ إسلامي الآن قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فاسألهم عني وأنا ما زلت على دينهم، وانظر ما يقولون، فسألهم رسول الله: ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: حَبْرنا وابن حَبْرنا، ووصفوه بخير الصفات، وأطيب الخصال، فقال عبد الله: يا رسول الله، أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا فأشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، فإذا بهم يذمونه ويتهمونه بأخسِّ الخصال، فقال: يا رسول الله ألم أَقُلْ لك إنهم قوم بُهْتٌ» .
إذن: ففي إيمان عبد الله بن سلام وغيره من اليهود والنصارى الذين عرفوا رسول الله بأوصافه في كتبهم وعرفوا موعد بعثته وأنه حق، في إيمان هؤلاء عَزَاءٌ لرسول الله حين كفر به قومه وكذّبوه لذلك قال تعالى:{قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
ونحن مُكْتفون بشهادة هؤلاء؛ لأنهم قوم صادقون مع أنفسهم، صادقون مع أنبيائهم ومع كتبهم التي تلقوْهَا، فحينما بشَّرت بمحمد ووصفته لم ينكروا هذه الصفات ولم يُحرِّفوها، بل كانوا يسارعون إلى المدينة انتظاراً لمبعث النبي الجديد الذي سيظهر فيها، لقد كانوا يقولون لكفار مكة: لقد أظلَّ زمان نبي جديد نتبعه قبلكم، ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم.
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] إلا أن الله أبقى للحق خلية، وجعل له خميرة استجابت لرسول الله، وتفاعلت مع الدين الجديد.
وقوله تعالى: {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ. .} [الإسراء: 107] أي: القرآن {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107]
كلمة {يَخِرُّونَ} توحي بأنهم يسارعون إلى السجود، وكأنها عملية انفعالية غير إرادية ليس لهم فيها تصرُّف، فبمجرد سماع القرآن يرتمون على الأرض ساجدين؛ لأنهم تفاعلوا معه، واختمر الإيمان في نفوسهم. ليس ذلك وفقط، بل ويخرون {لِلأَذْقَانِ} جمع ذَقَن، وهي أسفل الفَكِّ السفلي، ومعلوم أن السجود يكون على الجبهة، أما هؤلاء فيسجدون بالوجه كله، وهذا دليل على الخضوع والاستسلام لله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ
…
} .
أي: يقولون حال سجودهم: سبحان ربنا الذي وَفّى بوعده في التوراة والإنجيل، وبعث الرسول الخاتم ومعه القرآن، سبحانه حقق لنا وَعْده وأدركناه وآمنا به، وكأن هذه نعمة يحمدون الله عليها.
ويقول الحق سبحانه عنهم: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
…
} .
لقد خَرُّوا ساجدين لله تعالى قبل ذلك لأنهم أدركوا القرآن الذي
نزل على محمد، وتحقَّق لهم وعد الله فعاصروه وآمنوا به. أما هذه المرة فيخرون ساجدين لما سمعوا القرآن تفصيلاً وانفعلوا به، فيكون له انفعال آخر، لذلك يزيد هنا الخشوع والخضوع، فيقول: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
…
} [الإسراء: 109] فكلما قرأوا آية ازدادوا بها خشوعاً وخضوعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى
…
} .
{ادعوا} اذكروا، أو نادوا، أو اطلبوا {الله} عَلَم على واجب الوجود سبحانه، ومعنى: علم على واجب الوجود أنها إذا أُطْلِقَتْ انصرفتْ للذات الواجبة الوجود وهو الحق سبحانه، كما نُسمِّي شخصاً، فإذا أُطْلِق الاسم ينصرف إلى المسمَّى.
والأسماء عندنا أنواع كثيرة: إما اسم، أو كُنْية، أو لَقَب.
الاسم: وهو أغلب الأعلام، ويُطلَق على المولود بعد ولادته ويُعرَف المولود به.
والكُنْية: وتُطلَق على الإنسان، وتُسبَق بأب أو أم أو ابن أو بنت، كما نقول: أبو بكر، وأم المؤمنين.
واللقب: وصف يُشْعِر بالمدح أو الذم، كما نقول: الصِّديق، الشاعر، الفاروق.
فإذا كان الاسم معه شريك غيره لا بُدَّ لتمييزه من وَصْفه وَصْفاً يُعْرف به، كما يحدث أن يألف شخص أن يسمي أولاده جميعاً: محمد فالتسمية في هذه الحالة لا تُشخِّص ولا تُعيِّن المسمّي؛ لذلك لا بُدَّ أن نصف كل واحد منهم بصفة فنقول: محمد الكبير، محمد الصغير. محمد المهندس. فإذا أُطلِق الاسم بصفته ينصرف إلى شخص معين.
وإذا كُنّا نحن نُسمِّي أولادنا: فإن الحق سبحانه سَمَّى نفسه بأسمائه التي قال عنها: الأسماء الحُسْنى، وكلمة (حُسْنى) أفعل تفضيل للمؤنث، مثل: كبرى. والمذكر منها أحسن. لكن لماذا وَصَف أسماءه تعالى بالحسنى؟
الاسم يُبيِّن المسمّي، لكن الأسماء عند البشر قد لا تنطبق على المسمَّى الذي أُطلقت عليه، فقد نُسمِّي شخصاً «سعيد» وهو شقي، أو نسمي شخصاً «ذكي» وهو غبي. وهذا ليس بحَسنٍ في الأسماء، الحسَن في الاسم أنْ يطابق الاسم المسمَّى، ويتوفّر في الشخص الصفة التي أُطلِقت عليه، فيكون الشخص الذي سميناه «سعيد» سعيداً فعلاً.
وهكذا يكون الاسم حسناً، لكنه لا يأخذ الحُسْن الأعلى؛ لأن الحُسن الأعلى لأسماء الله التي سَمّى بها نفسه، فله الكمال المطلق.
فهذه إذن لا تتأتَّى في تسمية البشر، فكثيراً ما تجد «عادل» وهو ظالم، و «شريف» وليس بشريف؛ لذلك قلنا:
وَأَقْبَحُ الظُّلْمَ بَعْد الشِّرْكِ منزلةً
…
أنْ يظلم اسمٌ مُسمّى ضِدّه جُعلَا
فَشَارِع كعِمَادِ الدين تَسْمِية
…
لكِنْه لِعِنَادِ الدِّينِ قَدْ جُعِلَا
فالاسم قد يظلم المسمَّى كما حدث أنْ سَمَّوْا الشارع (عماد الدين) ،
وهذا الشارع كان في الماضي بُؤْرَة للفِسْق والفجور، وما أبعده سابقاً عن هذه التسمية.
فلفظ الجلالة (الله) عَلَم على واجب الوجود، وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه، بحيث إذا أُطلِقَتْ لا تنصرف إلا إليه. فإذا قُلْنا: العزيز على إطلاقه فإنها لا تنصرف إلا لله تعالى، لكن يمكن أن نقول فلان العزيز في قومه، فلان الرحيم بمَنْ معه، فلان النافع لمَنْ يتصل به، إنما لو قُلْت: النافع على إطلاقه فهو الله سبحانه وتعالى.
لذلك؛ حَلَّتْ الصفات محلَّ اسم الذات {الله} ؛ لأنها إذا أُطْلِقَتْ لا تنصرف إلا لله تعالى، فأسماءُ الله الحُسْنى هي في الأصل صفات له سبحانه.
ولو تأملنا هذه الأسماء لوجدناها على قسمين: أسماء ذات، وأسماء صفات فعلية، اسم الذات لا يتصف الله بمقابله، فالعزيز مثلاً اسم ذات فلا نقول في مقابله الذليل، والحيّ اسم ذات فلا نقول: الميت. أما اسم الصفة الفعلية فيكون له مقابل، فالمعزّ صفة فعل يعني يُعِزّ غيره، ومقابلها المذلّ، والضَّارّ مقابلها النافع، والمحيي مقابلها المميت وهكذا. . إنْ وجدتَ للاسم مقابلاً فاعلم أنه اسمٌ لصفة الفعل من الله تعالى، وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات.
لكن تقف مثلاً عند السَّتَّار وهي صفة فعل لأنه يستر غيره، لكن ليس لها مقابل فلا نقول الفضَّاح، لماذا؟ لأنه تبارك وتعالى يريد أنْ يتخلق خَلْقه بهذه الصفة، وأنْ يُربِّب صفة الستر عند الناس للناس، فلو علم الناس، عن أحد أمراً فاضحاً لزهدوا في كل ما يأتي من عنده ولو كان حسنة، وبذلك يُحرَم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير.
لكن حين تستر على صاحب العيب عيبه، فإنك تعطي للمجتمع فرصة لينتفع بما لديه من صفات الخير؛ لذلك الله تعالى يُعصَى ويحب أن يُستَر على عبده العاصي؛ لكي يستمر دولاب الحياة؛ لأنه لا يوجد أحد له كمال إلا النبي صلى الله عليه وسلم َ، وصدق القائل:
مَنْ ذَا الذِي مَا سَاءَ قَطُّ
…
وَمَنْ لَهُ الحُسْنى فَقَطْ
إذن: فمن الحكمة أن يأمر الله تعالى بستر غَيْب خَلْقه عن خَلْقه حتى تستمر حركة الحياة؛ لأن الإنسان ابنُ أغيار، وقلبه سريعاً ما يتقلب، ولربما لو عرفتُ عنك شيئاً مستوراً لتغيَّرْتُ لك وأنت كذلك، ولربما تقطعت بيننا حبال المودة، إنما بالستر ينتفع كُلٌّ مِنّا بالآخر.
ومن هنا قالوا: لو تكاشفتم ما تدافنتم، أي: لو تكشفتْ الأسرار، وعرف كُلٌّ منكم عَيْب أخيه ما دفنتم مَنْ يموت منكم، وهذا منتهى ما يمكن تصوُّره من التقاطع بين الناس.
فقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله. .} [الإسراء: 110] فاختار هذا الاسم بالذات {الله} العَلَم على واجب الوجود، وهو اسم ذات لا يدلُ على صفة معينة، لكنه يحمل في طياته كل صفات الكمال فيه، فإنْ كانت للأسماء الأخرى مجالات، فالقادر في القدرة، والحكيم في الحكمة، والقابض في القبض، والعزيز في العِزّة. فإن لكل اسم مجالاً وسيالاً، فإن {الله} هو الاسم الجامع لكل الصفات.
لذلك في الحديث النبوي الشريف: «كُلُّ شيء لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر» .
لماذا؟ لأنك حين تُقدِم على أيِّ فعل تحتاج أولاً إلى حكمة لتعرف من خلالها لماذا تفعل، وتحتاج إلى قدرة تُعينك على إنجازه، وتحتاج إلى علم بمصير هذا الفعل وعاقبته، إذن: تحتاج إلى صفات كثيرة، فحين تُقبِل على العمل لا تَقُل: يا حكيمُ يا قادرُ يا عليمُ، إنما الحق سبحانه يُريحك، ويكفي أن تقولَ في الإقدام على الفعل: باسم الله.
لأنك ذكرتَ الاسم الجامع لكلِّ صفات الكمال.
{أَوِ ادعوا الرحمن. .} [الإسراء: 110] واختار الرحمن دون الجبار أو القهار؛ لأن الرحمة صفة التحنين للخلق، فالحق سبحانه وتعالى يُظهِر هذه الصفة لعباده حتى في أسماء الجبار والقهار؛ لأنها من خَدَم الرحمة ومن أسبابها؛ لأن العبد إذا عرف لله: صفة الجبروت، وصفة القهر، وصفة الانتقام انتهى عن أسباب الوقوع تحت طائلة هذه الصفات، فكأنه يرحم عباده حتى بصفات القهر والانتقام.
ومن هذا قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب. .} [البقرة: 179] لأنه إذا علم القاتل أنه سيُقتل انتهى عن القتل. وفي الأثر: «القتل أنْفَى للقتل» .
إذن: فتشريع القصاص وإقامة الحدود والعقوبات لا لتعذيب الخلق، وإنما رحمة بهم حتى يقفوا بعيداً عن ارتكاب ما يُوجِب القصاص أو الحد أو العقوبة، حتى الذي يقهره الله مرحوم أيضاً؛ لأنه ما دام قال: أنا قهار. فاحذرني، فهو بذلك يرحمه لأنه يُحذِّره من أسباب الوقوع فيما يستوجب غضبه وانتقامه.
وكذلك اختار اسم {الرحمن} لأن مجال التكليف كله الرحمة، وما نزل المنهج من الله إلا لينظم حياة الناس ويُحقِّق لهم السعادة في
حركة الحياة، فيتكامل الخَلْق فيما بينهم، ويتعاونون، ويتساندون ولا يتعاندون، ويكونون جميعاً على قلب رجل واحد، هذه غاية المنهج الإلهيّ في دنيا الناس أنْ يعيشَ المجتمع المسلم آمناً سالماً.
فالرحمانية الإلهية هي الغالبة في كل التشريع، وهي السِّمَة العامة، أَلَا ترى قوله تعالى:{الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2]
فالقرآن الذي نزل لِيُنظّم حياة الناس ويحكمها، ويصلح حركة الحياة، ويضع السلام بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، هذا القرآن مظهر من مظاهر هذه الرحمانية الإلهية.
وقد اعترض بعض المستشرقين على قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] والآلاء هي النعم، وأنها جاءت تذييلاً لقوله تعالى:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] فالآية تتحدث عن النار والشواظ، فكيف تُختم هذه الخاتمة التي تدلُّ على النعمة؟
ولو تدبَّر القوم ما اعترضوا؛ لأن في الناس والتحذير منها والتخويف بها نعمة، كأن القرآن يقول لك: إياك أنْ تفعل ما يُوجِب النار والشُّواظ فتقلع وترتدع من قريب، أليست هذه من نعم الله على عباده؟ أليست رحمة بهم؟ وماذا كنتم ستقولون إنْ لم يُقدِّم لكم الحق سبحانه تحذيراً وإنذاراً، ثم فاجأكم بالعذاب؟
ونقف على لطيفة أخرى لاستخدام اسم الله {الرحمن} في قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59]
أي: بعد أن خلق الخَلْق كل بسمائه وأرضه وما فيهما استوى على العرش؛ لأن الاستواء على العرش يعني أن كل شيء تَمَّ له سبحانه خَلْقاً وإيجاداً، وانتهى إلى الجلوس على العرش، وهذا تمثيل بالملوك الذين لا يجلسون على العرش إلا بعد أنْ يستتبّ لهم الأمر، فجلوس الملك على العرش يعني أنه الأوحد الذي لا يعارضه أحد.
فالحق سبحانه ينبهنا بقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] واختار صفة الرحمة لِيُوحِي لنا أن قعوده على العرش لا يعني القَهْر والجبروت، إنما قعد على عرشه رحمةً بكم، قعد على العرش ليُنظّم حياتكم، ويرحم بعضكم ببعض، فتسعدوا بالحياة، فالاستواء هنا لا استواءَ قهر وغلبة، بل استواء رحمة لمصلحتكم أنتم.
وفي آية أخرى قال: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5]
وقد ورد استواؤه سبحانه على العرش في سبعة مواضع في كتاب الله، نظمها الناظم في قوله:
وَذكْرُ اسْتواء الله في كَلماتِهِ
…
علَى العَرْشِ فِي سَبْع مَواضِعَ فَاعْدُدِ
فَفِي سُورَة الأعرافِ ثمة يُونُس
…
وفي الرعْدِ مع طَه فلْلعَدِّ أكدِ
وَفِي سُورة الفُرْقانِ ثمة سَجْدة
…
كَذَا فِي الحديدِ افْهَمُوا فَهْم مؤيَّد
وكل صفة من صفات جلاله سبحانه إنما هي في خدمة رحمانيته، لأنه يُخَوِّف عباده بصفات الجلال حتى لا يقعوا في المخالفة، فيأخذوا نعمة الله في الدنيا، ويسعدوا بها، ويأخذوا نعيم الآخرة فيسعدوا بها، فهي إذن الرحمانية المستولية والسمة العامة لمنهج الله في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث «في آخر ليلة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة. .» ولم يقُلْ: تجلى الغفار بالمغفرة، فلماذا آثر صفة الجبار في مجال المغفرة؟
قالوا: لأن المغفرة تُوحِي بوجود ذنب، والذنب يقتضي العقوبة، وهذه من اختصاص صفة الجبار، فهل تغلَّبتْ صفة الغفار على صفة الجبار، وأخذت اختصاصها؟ لا بل تشفع صفة الغفار عند صفة الجبار: الموقف لكِ أيتها الصفة، لكن نستسمحك في أن نشفع في هؤلاء، فكأن صفات الجمال تشفع عند صفات الجلال.
لذلك، فالذين يُفسِّرون الحديث يقولون: شفع المؤمنون، وشفع الأنبياء، وشفعت الملائكة، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فعند مَنْ سيشفع أرحم الراحمين؟ قالوا: تشفع ذاته عند ذاته، وهكذا
تشفع صفة الجمال (الغفار) عند صفة الجلال (الجبار) تبارك وتعالى.
ثم يقول تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى. .} [الإسراء: 110] فأيُّ اسم تدعو به لأن أسماءه كلها حُسْنى، لكن ليكُنْ عندك ذكاء في الدعاء، فتدعو بما يناسب حاجتك، فإنْ أردت عِلْماً فقُلْ: يا عالم علِّمني، وإنْ كنتَ ضعيفاً فقُلْ: يا قوي قَوِّني، وإنْ أردتَ العزة فَقُلْ: يا عزيز أعِزَّني وهكذا. . فإن أردتَ الاختصار فقُلْ: يا الله. تكفيك كل شيء.
ثم يقول تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] الصلاة يراد بها كل أعمال الصلاة {وَلَا تَجْهَرْ} فالجهر منهيٌّ عنه، وكذلك {وَلَا تُخَافِتْ} أي: لا تُسِرَّها بحيث لا يَسْمعك من خلفك، وهذا منهيّ عنه أيضاً.
فكِلَا الطرفين مذموم، وخَيْر الأمور الوسط.
ونُوضِّح هنا: إذا كان الجهر بالصلاة منهيّاً عنه فارتفاع الصوت عالياً من باب أَوْلَى، فلا يليق أبداً رَفْع الصوت بالصلاة، ثم استعمال الميكروفونات أيضاً، وما تُسبِّبه من إزعاج للناس.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]
فأنت حين ترفع صوتك بالقرآن، وخاصة في الميكروفون تلزم الناس بالإنصات، وتُوقِعهم في الإثم والحرج، أو تعطل مصالحهم،
ولعل غيرك في هذا الوقت يريد أن يقرأ هو الآخر، أو يستغفر، أو يُسبِّح أو يصلي، فكيف تجعل الأمر المندوب عندك حاكماً على غيرك؟ هذا لا يجوز، بل اترك الناس وشئونهم فكل منهم حُرّ فيما ينتفّل به، ولا تكُنْ من الذين قال الله في حقهم:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104]
كالذي يُشعِل الميكروفون قبل صلاة الفجر، ويأخذ في إنشاد كلام ما نزل به الشرع، يزعج به الناس، ويُقلق به المريض، ولا يراعي للناس حُرْمة. فمتى يفيق المسلمون؟ ومتى ينتبهون إلى هذه البدع التي تُشوِّش على الناس وتُفسِد عليهم عبادتهم؟
أما إنْ كان رَفْع الصوت بالقرآن لغرض دنيوي ومكْسَب شخص، وأن نجعل الأمر مَعْرضاً للأصوات، ومِضْماراً للسباق، إنْ كان الأمر استغلالاً للدين لحساب الدنيا والعياذ بالله، فقد دخل صاحبه في شريحة أخرى من الإثم، عافانا الله وإياكم.
والحق سبحانه يقول: {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110]
أي: بين الجهر والإسرار، واسلك سبيل الوسطية التي جاء بها الشرع، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم َ حينما كان يتفقد الصحابة ليلاً فوجد أبا بكر رضي الله عنه يقرأ، ولا يكاد يسمع صوته، فلما سأله. قال: يا رسول الله، أناجي ربي وهو عالم بي، فلما ذهب إلى عمر رضي الله عنه وجده يقرأ بصوت عالٍ، فلما سأله قال: يا رسول الله أزجر به الشيطان. عندها أمر صلى الله عليه وسلم َ أبا بكر أنْ يرفع
صوته قليلاً، وأمر عمر أن يخفض صوته قليلاً.
وهذا الاعتدال وهذه الوسطية أُمِرْنَا بها حتى في الدعاء، كما جاء في قوله تعالى:{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول} [الأعراف: 205]
فكلمة: {بَيْنَ ذلك. .} [الإسراء: 110] البينية هذه تكاد تشيع في كل أحكام الدين؛ لأن القرآن جاء لأمة وسط بالأمور الوسط في كل شئون الحياة، ففي قمة المسائل وهي الأمور العَقَدية مثلاً يقف الإسلام موقفَ الوسطية بين مَنْ يُنكِرون وجود الإله ومن يقول بآلهة متعددة، فينفي هذه وهذه ويقول بوجود إله واحد أحد لا شريكَ له.
وفي الإنفاق يختار الوسط، فيقول:{والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}
[الفرقان: 67]
وبذلك ضمن لأهله نظاماً اقتصادياً ناجحاً يُثري حياة الجماعة، ويَرْقَى بحياة الفرد، وقد لخّص هذا المنهج الاقتصادي في قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29] فالممسك المقتّر الذي يقبض يده على الإنفاق يتسبّب في رُكود البضائع وتوقف حركة الحياة، وهذا خطر على المجتمع، وفي التبذير خطر على الفرد حيث ينفق كل مَا معه، ولا يُبقي على شيء