المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (11) * قالَ اللَّه عز وجل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (11) * قالَ اللَّه عز وجل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي

‌الآية (11)

* قالَ اللَّه عز وجل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11].

* * *

قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} المُشَار إليه ما سبَق، وهي خَلْقُ السمَواتِ بغيرِ عَمَد، وإلقاء الرواسِي في الأرض، وبثُّ الدابَّة، والإِنزال الماء مِن السَّمَاء، والإنبات فيها مِن كُلِّ زَوْج كَريم.

فهذه خمسة أَشياءَ مُشاهَدَةٌ مَحسوسة؛ ولهذا أَشار إليها بالإشارة الحِسِّية فقال: [{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي: مَخْلُوقُه] فهو مِن باب إطلاق المَصدَر وإرادة اسم المَفعول، وليس المُرادُ به خَلْقَ اللَّه الذي هو فِعْلُه؛ فإنَ فعلَه لا يُشاهَد وأنَّ المُشاهَد مَفعولُه.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَأَرُونِي} أَخبِروني يا أهلَ مَكَّةَ {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}] قوله تعالى: {فَأَرُونِي} فسَّر الإراءة هنا بالإخبار، ولكن الأَوْلَى إبقاؤُها على ظاهِرها أنَّ المُراد بالإرَاءَة يَعني: أَبصِروني، أَروني شيئًا خَلَقَه أحدٌ سِوى اللَّهِ عز وجل؛ فقوله تعالى:{فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أبلغُ مِن تَفسير المُفَسِّر رحمه الله بقوله: [أَخبِروني]؛ لأنَّ التَّحَدِّيَ فيها ظاهِر، إِذْ مِن المُمْكِن أن يُخْبِرُوه بأمرٍ وهُمْ كاذِبون، فيَقولون: نعَمْ، إنه يُوجَد كذا وكذا خلَقَهُ كذا وكذا. لكن إذا قال:(أَروني) بِالتَّحدِّي بما يُرَى فحِينَئَذٍ يُبْهَتُون.

ص: 67

وقوله سبحانه وتعالى: {فَأَرُونِي} قال رحمه الله: [يا أهلَ مَكَّةَ] بِناءً على أنَّ كُلَّ خِطاب في سُورةٍ مَكِّيَّة يَتعَلَّق بالكُفَّار فالمُراد به أهلُ مكَّةَ، والصواب: أنَّه عامٌّ؛ ويُمكِن حتى الآنَ أن نَقول بهذا التَّحدِّي في عصرِنا الحاضِر، والأَمْر هنا في قوله تعالى:{فَأَرُونِي} لِلتَّعجيز والتَّهديد.

وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} غيرِه؛ أي: آلهَتِكم حتى أَشرَكْتُموها به تعالى] يَعنِي: أَروني ماذا خَلَقوا، فإذا أَرَيْتُموني أنَّها خَلَقَت شيئًا، فإنَّه قد يَكون عُذْرًا لكم في تَشْرِيكِها مع اللَّه تعالى في العِبادة، أَمَا والأمر ليس كذلك ولا يُمكِن أن يُوجَد خَالِقٌ سِوى الربِّ عز وجل، فإنه لا يَجوز أن يُعْبَد معه غيرُه؛ لأنَّه إذا أَقرَرْتم بأنه لا خالِقَ إلَّا اللَّه تعالى يَجِب أن تُقِرُّوا بأنَّه لا مَعبودَ إلَّا اللَّه تعالى، وأنه كما أَقرَرْتم بالربوبية يَجِب أن تُقِرُّوا بِالأُلُوهِيَّة.

وقوله سبحانه وتعالى: {مَاذَا خَلَقَ} يَقول رحمه الله: [(ما) استِفْهامُ إنْكَار مُبتَدَأٌ، و (ذا) بمَعنَى (الذي) بِصِلتِه خَبَرُه، و (أَروني) مُعَلَّقٌ عَنِ العَمَل، وما بعده سَدَّ مَسَدَّ المَفعولَيْن].

قوله سبحانه وتعالى: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أَعرَبَه المُفَسِّر إعرابًا صحيحًا، ونَقول:(ما) اسمُ استِفْهام و (ذا) اسمٌ مَوْصول مَبنيٌّ على السكون في مَحلِّ رَفْع، و {خَلَقَ} فِعْل ماضٍ، والجملة صِلة المَوْصول لا مَحَلَّ لها مِن الإعراب، والعائِد محَذوف، والتقدير: ماذا خلقَهُ الذين مِن دونه، والجُملة {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} جُملة استِفْهام مُعَلِّقَة عَنِ عمَل {فَأَرُونِي} .

وقوله: [وما بعدَه سَدَّ مَسَدَّ المَفعولين] هذا إذا قُلْنا: إنَّ الرؤيا بمَعنَى العِلْم، أمَّا إذا قُلْنا: إنَّ الرُّؤيا بمَعنَى: رُؤَية البصَر، فإنَّ ما بعده سَدَّ مَسَدَّ مَفعولٍ واحِد فَقَط.

ص: 68

وقوله تعالى: {مَاذَا} : (ما) أَعْرَبَها على أنَّها غير مُلغَاة، ويَجوز إلغاؤُها، بل قد يُقَال: إن إلغاءَها أَوْلى؛ لأنك إذا ألغَيتَها جعَلْت {مَاذَا} مَفعول مُقدَّم لِـ {خَلَقَ} وحِينئذ لا نَحتاج إلى هذا، والأصل عدَمُ الحذْف، وإلغاؤُها لَه وجهان: إمَّا أن تَكون (ما) اسمَ استِفهام و (ذا) زائِدة، أو تَقول:(ماذا) جميعًا اسمُ استِفْهام.

وقوله تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: مَن سِوى اللَّه عز وجل، وهذا التَّحَدِّي وكلُّ تحَدِّ في القرآن لا يُمكِن أن يَكون مَوجودًا؛ لأنَّه لو كان الشيء مُمكِنًا لكان التَّحدِّي لَغوًا لا فائِدةَ فِيه.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{بَلِ} للانتِقال {الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بَيِّن بإِشْراكِهم وأنتم مِنْهم] يَعنِي: أنَّ الأمرَ واضِحٌ، وأنَّه لا خالِقَ إلَّا اللَّه تعالى، وأنه لا يُمكِن أن يُوجَد أحَد يَخلُق، ولكن استِمْرار المُشرِكين في شِرْكهم يُعتَبَرُ ظُلمًا وضلالًا مُبِينًا؛ ولهذا قال تعالى:{بَلِ الظَّالِمُونَ} أي: المُشرِكون الذين أَشرَكوا مع اللَّه تعالى في العِبادة مع أنَّهم مُؤمِنون بأنَّه لا شريكَ له في الخَلْق.

وقوله تعالى: {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [بَيِّن] وكلِمة (مُبِين) تَأتِي بمَعنى: بَيِّن، أي: ظاهِر، وبمَعنَى: مُظْهِر؛ لأنها مُشتَقَّة من (أَبَانَ) الرُّباعِيِّ، و (أَبَان) الرُّباعِيُّ يَأتي مُتَعَدِّيًا، ويَأتي لازِمًا، فيَأتي (أَبَانَ) بمَعنَى:(بَان)، أي: ظَهَر، وحينئذٍ يَكون لازِمًا، ويَأتي بمَعنَى:(أَظهَر) أَبان الشيءَ: أَظهَرَه، وحينَئِذٍ يَكون مُتعَدِّيًا، وفي هذه الآيةِ:{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} مِن اللازِم؛ ولهذا فسَّرها بقوله: [بَيِّن].

ومثاله من المُتعَدِّي في القرآن الكريم؛ قوله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يَعنِي: البَيَّن بنَفْسِه المُبِين لِلحَقِّ، وكذلك:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ؛ أي: مُظْهِر.

فالحاصِلُ: أنَّ (مُبِين) لا يُظَنُّ أنها دائِمًا مُتَعدِّيَة، فقد تَكون لازِمةً بمَعنَى: بَيِّن،

ص: 69

وقد تَكون مُتعدِّيَة بمَعنَى: مُظْهِر.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: الاستِدلال بِتوحيد الرُّبوبية على توحيد الأُلوهية، لِقولِه تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} ، يَعنِي: مَخْلُوقَه، وهم يُقِرُّون بأنه خَلْقُ اللَّه تعالى، فإذا أَقَرُّوا به يَلزَمُهم الإقرار بِتوحيد الأُلوهية، وعلى هذا فنَقول: يُؤخَذ مِن هذه الآية الاستِدلالُ بتوحيدِ الربوبية على تَوحيد الأُلُوهية، ولهذا نَظَائِرُ في القرآن؛ مِنها قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فقال تعالى:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} كأنَّه يَسْتَدِلُّ بكَونِه ربًّا خالِقًا على أنَّه يَجِب أن تَكُون العِبَادَةُ لَه وَحْدَه، وهذا دَلِيلٌ عَقْليٌّ مُلْزِم.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الاسْتِدْلَال بالأظْهَر على ما يُنْكِره الخَصْم، فإنَّ هَذَا اسْتِدْلال بأمْر ظاهِر وَاضِح على أمرٍ يُنكِرُه الخَصم، وهو إنكار انفِراد اللَّه تعالى بالأُلُوهِيَّة.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: استعمالُ التَّحَدِّي في المناظرة، لِقوله سبحانه وتعالى:{فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ أولَئِكَ المُنْكِرين لِتوحِيد الأُلُوهية في ضَلال، أنَّهم ظَالمِون وفي ضَلَالٍ مُبِين؛ لِقوله تعالى:{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: عَجْزُ جَمِيعِ الأصْنَامِ المعْبُودة أن يَخْلُقُوا مِثْل خَلقِ اللَّه تعالى؛ لِقوله تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ، وإذا كانت عاجِزةً عنِ الخَلْق كانت غيرَ مُستَحِقَّةٍ لِلعبَادة، قال اللَّه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} زِدْ على ذلك: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

ص: 70