المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (31) * قالَ اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (31) * قالَ اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ

‌الآية (31)

* قالَ اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31].

* * *

قوله رحمه الله: [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ} السُّفُن {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ} يا مخُاطَبِين بذلك {مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} عِبَرًا {لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن مَعاصِي اللَّه تعالى {شَكُورٍ} لنِعْمَته].

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ} هذا الاستِفْهامُ للتَّقرير؛ لأن هذا أَمْرٌ مَرئِيٌّ، فلا يَسأَل عن ثُبوته، ولكن يُقرِّر ثُبوتَه، والخِطاب في قوله تعالى:{تَرَ} يَعود إمَّا للرسولِ صلى الله عليه وسلم، وإمَّا لكُلِّ مَن يَصِحُّ منه الخِطاب، وهذا أَعَمُّ.

وقوله تعالى: {أَنَّ الْفُلْكَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [السُّفُن]، فكأنه حمَلَه على الجَمْع مع أنه يُحتَمَل أن يُراد به المُفرَد؛ لقوله تعالى:{تَجْرِي} والفُلْك كما سبَق كلِمة تُطلَق على الجمْع وعلى الواحِد قال اللَّه سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، فالفُلْك هنا للجَمْع، فقوله:{وَجَرَيْنَ} نونُ النِّسوة جَمْع، ولم يَقُل: وجَرَتْ، وأمَّا هنا أن (الفُلْك تَجرِي) فظاهِر الآية الكَريمة أن المُرادَ بها المُفرَد، إذ لم يَقُلْ:(ألَمْ ترَى أن الفُلْك يَجرِينَ)، ومع ذلك فالمُفرَد يُراد به الجَمْع من حيثُ المَعنَى؛ لأن الفُلْك ليس واحِدًا بالعَيْن، لكنه واحِدٌ بالجِنْس.

ص: 182

وقوله سبحانه وتعالى: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} : {فِي} للظَّرْفية، وهل هي على بابها أو بمَعنَى (على)؟

الجَوابُ: أن الفُلْك التي تُحمَل الأنعام هذه على سَطْحه، لكنها في الحَقيقة في وسَطه في الواقِع لا يُغطِّيها، لكن أَسفَلها مُغطًّى بالماء.

وقوله تعالى: {فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} الباء مُتعَلِّقة بـ {تَجْرِي} يَعنِي: تَجرِي بالنَّعَم أي: حامِلةً النَّعَم، ويُحتَمَل أن تَكون الباء للسبَبِيَّة، أي: تَجرِي بسبَب نِعْمة اللَّه تعالى، أي: أن اللَّه تعالى أَنعَمَ على عِباده بجرَيانها، وبين المَعنيَيْن فَرْق؛ لأنها على المَعنَى الأوَّلِ تُفيد أن هذه السُّفُنَ تَحمِل النَّعَم، وأمَّا المَعنَى الثاني تُفيد أن السُّفُن تَجرِي بنِعْمة اللَّه تعالى، يَعنِي: أن جَرَيانها من إنعام اللَّه تعالى علَيْنا.

والآية تَحتَمِل المَعنَيَيْن بدون مُناقَضة، وقد ذكَرْنا مِرارًا وتَكرارًا: أن الآيَةَ إذا كانَتْ تَحْتَمِل المَعنيَيْن بدون مُناقَضة حُمِلَت على المَعنَيَيْن.

فإنها قد تَجرِي فارِغةً ليس فيها شيء، ومجُرَّد تمَكين اللَّه عز وجل لهذه السُّفُن من أن تَجرِي في الماء والماء ليس جِرْمًا صُلْبًا يَحمِل، بل هو جِرْم لَيِّن، لولا أن اللَّه تعالى أن يَسير عليه هذه السُّفُنِ تمَشِي عليه ما مشَتْ، وإذا كانت رُكَّابًا فقط فهي تَكون في المَعنَى الأوَّلِ بإنعام اللَّه سبحانه وتعالى، والغالِب أنه يَكون فيها من نِعَمِ اللَّه تعالى مِن الأرزاق ما هو شيء كثير، لكن -واللَّهُ أَعلَمُ- أنها المَعنَى الثاني.

قوله تعالى: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} اللَّامُ مُتَعلِّقة بـ {تَجْرِي} وهي لامُ التَّعليل، أي: لأَجْل أن يُرِيَكم، ومَعنَى {لِيُرِيَكُمْ} يُظهِرَه حتى ترَوْه؛ يَعنِي: لأَجْل أن ترَوْا من آيات اللَّه تعالى ما يُبهِر عُقولكم.

ص: 183

وقوله تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} : {مِنْ} هنا للتَّبْعيض؛ إِذْ إن السُّفُن والراكِبَ عليها لا يَرَى كلَّ آيات اللَّه تعالى، ولكنه يَرَى بعضًا منها.

وقوله تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} أي: ممَّا يَدُلُّ على كَماله في القُدرة والإنعام وغيرِ ذلك، والآياتُ جَمْع آيةٍ وهي في اللُّغة: العَلامة، والمُراد بها كلُّ ما يُستَدَلُّ به على كَمال اللَّه عز وجل في ذاته وصِفاته.

والآياتُ التي ترى: ما في البَحْر من الأسماك والحِيتان العَظيمة المُتنَوِّعة، وكذلك أيضًا من آياته ما يُشاهَد في البَحْر في أَمواجه وشِدَّتها وخِفَّتها، وكذلك أيضًا ما يُشاهَد من البحر من الأبخِرة التي تَتَصاعَد وتَتكوَّن سَحابًا بإذن اللَّه عز وجل.

المُهِمُّ: أن هذه الآياتِ العَظيمةَ أيضًا هي ليسَتْ كلَّ الآيات، ولكنها من آيات اللَّه تعالى بعض آياتِه.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} : {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المُشار إليه: ما ذُكِر في البَحْر من جرَيان السُّفُن بنِعَم اللَّه، وما يُشاهَد في البَحْر من آيات اللَّه تعالى.

وقولُه تعالى: {لَآيَاتٍ} أي: لعَلاماتٍ كَثيرة و {آيَاتٍ} هذه اسمُ (إِنَّ) مُؤخَّر و {فِي ذَلِكَ} جارٌّ ومَجرور خبَرها مُقدَّمٌ.

يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [{لَآيَاتٍ} عِبَرًا] يَعتَبِر بها الإنسانُ، وَيَستَدِلُّ بها على كَمال قُدْرة اللَّه سبحانه وتعالى [{لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن مَعاصِي اللَّه {شَكُورٍ} لنِعَمِه].

وقوله تعالى: {صَبَّارٍ} صِيغة مُبالَغة، يَعنِي: كثير الصَّبْر.

وقوله تعالى: {شَكُورٍ} صِيغة مُبالَغة أيضًا، أي: كثير الشُّكْر.

والمُناسَبة لذِكْر (الصَّبَّار الشَّكور) بعد ذِكْر أن (الفُلْك تَجرِي في البَحْر بنِعْمة اللَّه)

ص: 184

ظاهِرة جِدًّا، لأن هذه الفُلْكَ التي تَجرِي في البَحْر تارةً تَعصِف بها الأمواجُ ويَتأَذَّى الإنسان بذلك وربما يَتَضرَّر فيُقابِل ذلك بالصَّبْر، وقد يَكون الأمر بالعَكْس فيَشْمَل العبورَ على البَحْر، ويَحصُل بذلك خير كثير، فيُقابِل ذلك بالشُّكْر، فلمَّا كانت هذه السُّفُنُ بها سرَّاءُ وضرَّاءُ ختَمَ اللَّه تعالى الآية بقوله:{لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .

وعلى هذا فنَقول في قول المُفَسِّر رحمه الله: [{لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن مَعاصِي اللَّه] فيه شيء من القُصور، بل نَقول: لكل صبَّار عن مَعاصيه وعلى أقدارِه المُؤلمِة.

وفي قوله: {شَكُورٍ} أي: [لنِعَمِه]، كما قال المُفَسِّر رحمه الله.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: تَقريرُ المُخاطَب بهذه النِّعْمةِ وهي جرَيانُ الفُلْك في البَحْر بنِعْمة اللَّه تعالى.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن جرَيانَ الفُلْك على هذا الماءِ السَّيَّال مع أنها تَحمِل الأثقال الثَّقيلة، من نِعْمة اللَّه، بِناءً على أن الباء للسَّبَبية.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: حِماية اللَّه سبحانه وتعالى للخَلْق في إظهار آياته لهم، لقوله تعالى:{لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} .

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الآياتِ إنما يَنتَفِع مَن جَمَع بَيْن الصَّبْر والشُّكْر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ؛ صبَّار عند الضَّرَّاء وشَكور عند السَّرَّاء.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن آياتِ اللَّه سبحانه وتعالى في خَلْقه: حِسِّيَّة ومَعْنوية؛ فالفُلْك الذي في البَحْر حِسِّيٌّ، وقد جعَلَه اللَّه تعالى مِن آياته، لقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} .

ص: 185