المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (6) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (6) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي

‌الآية (6)

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].

* * *

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : (مِن) للتَّبعيض، والجارُّ والمَجرور خبَر مُقدَّم، و {مَنْ يَشْتَرِي} مُبتَدَأ مُؤخَّر.

وقوله عز وجل: {مَنْ يَشْتَرِي} مَعنَى الاشتِراء: الاختِيار، يَعنِي: مَن يَختار، وعبَّر عن الاختِيار بالاشتِراء إشارةَ إلى حِرْصهم على هذا الأَمرِ؛ لأن الاشتِراء إنما يَكون بالمُعاوَضة، فكأنهم لقُوَّة اختِيارهم هذا الشيءَ بذَلوا فيه أموالهم ليَنالوه.

وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الفَرْق بين (يَشتَري) و (يَشْري) أن (يَشرِي) بمَعنَى: يَبيع، و (يَشتَرِي) بمَعنَى: يَبتاع، وعند الناس أن الشِّرَى هو الاشتِراء، وليس كذلك، قال اللَّه تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يَشرِي نفسه يَعنِي: يَبيعُها، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]، اشتَرَى أَنفُسهم فهم بائِعون.

وقوله رحمه الله: [{لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي: ما يُلهِي منه عمَّا يَعنِي]{لَهْوَ} مُضافة إلى {الْحَدِيثِ} من باب إضافة الشيء إلى نَوْعه، فالإضافة على تَقدير (مِنْ) كما يُقال: ثُوبُ خَزٍّ، ثوبُ صُوفٍ، خاتَمُ حَديدٍ، خاتَمُ فِضةٍ، وما أَشبَه ذلك؛ فهي على

ص: 24

تَقدير (مِنْ) وهكذا كلَّما أُضيف الشيء إلى نَوْعه فالإضافة فيه على تَقدير (مِنْ).

إِذَنْ: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي: لَهْوًا من الحديث، واللَّهْو كل ما يُلهَى به، والذي يُلهَى به أَغلَبُ ما يَكون في الشيء الباطِل، وقد يُلهَى بالخير عن الشَّرِّ، لكن أكثَر ما يُطلَق اللهو في مَقام الذَّمِّ، وكل لَهْوٍ يَلهو به ابنُ آدَمَ فهو باطِل، إلَّا مُداعَبة أهله، وتَرويض فرَسه، وما أَشبَه ذلك ممَّا يَكون فيه مَصلَحة، وإلَّا فإن الأصل أن ما يُلهَى به باطِل.

والذي يُلهَى به نوعان: حديثٌ وهو القول، والثاني: فِعْل. أي: حرَكات، واللَّه سبحانه وتعالى ذكَرَ هنا لهوَ الحديث فقال سبحانه وتعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال رحمه الله: [أي: ما يُلهَى به عمَّا يَعنِي] كل ما يُلهَى به عمَّا يَعنِي فهو مِن لَهْو الحديث، وأمَّا ما يَعنِي الإنسانَ ولكن يَلهو بالمَفضول عن الفاضِل، فليس هذا من لَهْو الحديث؛ لأن له فائِدةً في اللَّهْو في المَفضول، لكنها فائِدة ناقِصة، ولا شكَّ أن الأقوال مَراتِبُ كما أن الأفعال مَراحِلُ، فلو تَلهَّى الإنسان بحديث فيه فائِدة عن حديثٍ أَفيَدَ منه، فليس هذا من لَهْو الحديث؛ لأن فيه فائِدةً، ليس مجُرَّد لَهْوٍ يَلهو به الإنسان، وإذا كان فيه فائِدة فإننا نَقول لهذا الرجُلِ: إن اختيارك للمَفضول عن الفاضِل يُعتَبر سُوء تَصرُّف منك، والذي يَنبَغي أن تَلهو بالأفضل عن المَفْضول.

وقوله رحمه الله: [(لِيَضِلَّ) بفَتْح الياء وضَمِّها] وأمَّا الضادُ فهي مَكسورة على القِراءَتَيْن: (ليَضِلَّ) أي: هو، و {لِيُضِلَّ} ، أي: يُضِلُّ غيره. وفائِدة القِراءَتين هنا اشتِمال هذا الكلِمةِ على المَعنيَيْن، وهُما: الضلال بنَفْسه وإضلال غيرِه.

وقوله رحمه الله: [{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} طريق الإسلام] والصَّواب أن يُقال:

ص: 25

(طريق اللَّه وهو الإِسْلام)؛ فسَبيل اللَّه تعالى طريقه المُوصِّل إليه، والذي وضَعه هو سبحانه وتعالى، وهو الإسلام، فسُمِّيَ سبيل اللَّه أو طريق اللَّه؛ لأنه مُوصِّل إليه، ولأنه سبحانه هو الذي وضَعَه وشرَعه لعِباده؛ ويُطلَق على سبيل المُؤمِنين كما قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115].

ولا تَنافيَ بين الإضافَتين فهو مُضاف إلى اللَّه تعالى؛ لأنه مُوصِّل إليه، وهو الذي وضعه وشرَعه، ومُضاف إلى المُؤمِنين؛ لأنهم همُ الذين يَسلُكونه، ومثله: الصِّراط، أُضيف إلى السالِكين في قوله تعالى:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وأُضيف إلى اللَّه؛ لأنه الذي شرَعه ووضَعَه لعِباده:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53].

قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا لا يَعنِي أن هناك لَهْوًا يَضِلُّ به الإنسان بعِلْم، فهي إِذَنْ: صِفة كاشِفة مُبيِّنة لحقيقة الأَمْر، أي: أن فِعْله هذا ناشِئٌ عن الجَهْل باللَّه عز وجل، وعن الجَهْل بشَرْعه، وعن الجَهْل بحقيقة ما خُلِق له، إذ كيف تَتَلهَّى بأَمْر لا تَستفيد منه؟ ! هذا جَهْل بما يَنبَغي أن تَعلَمه؛ لتَعتَبِر به.

ولم يُمثِّل المُفَسِّر رحمه الله، لكن كثيرًا من المُفسِّرين قال: إن المُراد بلَهْو الحديث هو الغِناء، وممَّن قال بذلك ابنُ مَسعود

(1)

رضي الله عنه، وكذلك ابنُ عبَّاس

(2)

رضي الله عنهما، وجماعة، حتى إن ابنَ مَسعود رضي الله عنه يَحلِف فيَقول: واللَّهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 101)، والطبري في تفسيره (18/ 534)، والحاكم في المستدرك (2/ 411).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 101)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (786)، والطبري في تفسيره (18/ 535).

ص: 26

إنه الغِناءُ، والغِناء يُنبِت النِّفاق في القَلْب.

وتفسير الصَّحابيُّ حُجَّة، حتى ذهَب الحاكِم

(1)

رحمه الله وجماعة من أهل العِلْم إلى أن تفسير الصحابيِّ له حُكْم الرَّفْع، يَعنِي: يَكون كالحديث المَرفوع، والصحيح أنه ليس له حُكْم الرفع، إلَّا أن يَكون ممَّا لا مَجالَ للاجتِهاد فيه، فأمَّا مجُرَّد تفسير آية بمُقتَضى اللغة العربية فإنَّ الصحيح أن تَفسير الصحابيِّ ليس في حُكْم الرَّفْع، لكنه مُقدَّم على غيره.

ثُمَّ اعلَمْ أنَّ المُفسِّرين من الصحابة والتابِعين ومَن بعدَهم قد يَذكُرون تفسير الآية على سبيل المِثال، لا على سبيل الحَصْر، فإذا قال ابنُ مَسعودٍ رضي الله عنه: إن المُراد بلَهْو الحديث الغِناءُ، لا يَعنِي أنه لا يَتَناوَل غيره، قد يَكون هذا على سبيل التَّمثيل فقَطْ.

ويَدُلُّك لهذا قوُله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، قال بعضُ العُلماء رحمهم الله في التَّفسير: الظالِم لنَفْسه هو الذي يُؤخِّر الصلاة عن وقتها. وقال آخَرون: هو الذي لا يُزكِّي، ثُمَّ قال:{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} : إِذَنِ المُقتَصِد هو الذي يَأتِي بالصلاة في آخِر وقتها، وقال آخَرون: هو الذي يُؤدِّي الزكاة المَطلوبةَ فقَطْ، وقوله تعالى:{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قال بعضهم: هو الذي يُصلِّي الصلاة في أوَّل وَقْتها. وقال آخَرون: هو الذي يُؤدِّي الزكاةَ والصدَقاتِ.

وهذا يَدُلُّ على أن العُلَماء رحمهم الله قد يُفسِّرون الآية ببعض الأمثِلة، فلا يُنافِي أن تَكون الآية مُتناوِلة لغيرها، فتَفسير ابنِ مَسعود وابنِ عبَّاس رضي الله عنهما وغيرهما

(1)

معرفة علوم الحديث (ص 20).

ص: 27

لِلَهْو الحديث بأنه الغِناء، لا يَعنِي أنه يَمتَنِع أن يُراد بالآية ما هو أعمُّ.

وعلى هذا فنَقول: الآية تَشمَل كل لهوِ حديثٍ لا نَفْعَ فيه من الغِناء، ومنه أيضا مُطالَعة ما يُكتَب في الصحُف والمَجلَّات من الكلام الهُراء الذي لا فائِدةَ منه فإنه في الحقيقة مَضيَعة للوَقْت، وإذا كان يَشُدُّ الإنسانَ إلى ما هو أبطَلُ، صار أشدَّ.

فعلى كل حال نَقول: لهوُ الحديث كل حديث لا فائِدةَ منه، سواء كان ذلك يَجُرُّ إلى مُحرَّم، أو لا يَجُرُّ إلى مُحرَّم، لكن إن جَرَّ إلى مُحرَّم صار أعظَمَ.

فإذا قال قائِل: الآية يَقول اللَّه تعالى فيها: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، أو (لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وأنت قلت: إن لَهْو الحَديث كل ما لا نَفعَ فيه، وما لا نَفْعَ فيه قد يُضِلُّ وقد لا يُضِلُّ.

فإننا نَقول: إن الإنسان إذا عوَّد نَفْسه على أن يَشتَغِل بهذا اللهوِ الذي لا نَفعَ فيه جرَّته إلى ما فيه مَضرَّة؛ لأن النفس إمَّا أن تَشغَلها بالحَقِّ أو تَشغَلك بالباطِل؛ واللَّام في قوله رحمه الله: (لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أو {لِيُضِلَّ} هل هي للتعليل أو للعاقِبة؟

الجَوابُ: هي صالحِة للأَمْرين، فإن كان الإنسان يَقصِد بلَهْو الحديث أن يُضِلَّ غيره به، فاللَّام للتَّعليل، وإن كان لا يَقصِد ذلك فاللَّام للعاقِبة، مثال التي للعاقِبة:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، فاللَّام هنا لا شَكَّ أنها للعاقِبة؛ لأنهم ما أَرادوا أن يَكون لهم عَدُوًّا وحزَنًا، إنما أَرادوا العَكْس، إنما العاقِبة صارت كذلك.

فإن قال قائِل: تَفسير اللهوِ بالغِناء، هل هو الغِناء المُحرَّم أم كل الغِناء؟

فالجَوابُ: الغِناء المُحرَّم، أمَّا الغِناء الذي ليس مُحرَّمًا فلا يَدُلُّ في الآية إلَّا إن شغَل عن ما هو أهمُّ منه صار داخِلًا فيه.

ص: 28

فإن قيل: ما ليس فيه فائِدة مِثْل بعض الأشعار التي لا يُستَفاد منها اللغة العربية، ولا يُستَفاد منها مَوْعِظة أو ترقيق قَلْب، هل يَدخُل في لَهْو الحديث؟

فالجَوابُ: الظاهِر أنها تَدخُل في لَهْو الحديث الذي لا يَنفَع ولا يَضُرُّ، لكنه قد يَجُرُّ إلى ما يَضُرُّ، وإن لم يَكُن من ضرَره إلَّا أنه يُلهِي عمَّا هو أهَمُّ.

ومن لَهْو الحَديث أيضًا: الذي قد يُضِلُّ عن سبيل اللَّه سبحانه وتعالى ما يُوجَد في قصائِد الصُّوفية البَريئة من الشِّرْك، وإلَّا بعضها شِرْك -والعِياذُ باللَّه- بعضها يُفضِي إلى الحُلول، وأن اللَّه عز وجل حالٌّ في المخلوقات، وهذا مَعروف شأنه حتى لو كان نَثْرًا، فإنه مُحرَّم.

ولكن بعضها ليس كذلك إلَّا أن بعض الناس يَتَلهَّى به عن مَواعِظ القُرآن والسُّنَّة حتى يَكون ذلك دَيدَنَه، وهذا لا يَجوز.

ويُوجَد الآنَ ما يُسمَّى بالأناشيد الإسلامية التي استَوْلت على عُقول كثير من الناس حتى صار كأنما يَقرَأ القرآن، فهي دائِمًا على لِسانه وعلى قَلْبه، وهذا ذَكَر شيخُ الإسلام في الفَتاوى

(1)

: أن ذلك ممَّا يُلهِي عن الكِتاب والسُّنَّة وحذَّر منه تَحذيرًا كثيرًا.

ولكن عندما يَكون عندك مثَلًا ضَعْف وخوَر وكسَل وتُريد أن تَسمَع هذه الأشياءَ، لتُرقِّق قلبك هذا لا بَأسَ به، ولكن قَصْدي بأُولئك الذين اتَّخَذوها دَيْدنًا لهم؛ فالإكثار منها والاشتِغال بها عن مَواعِظ القُرآن والسُّنَّة هو المَحظور.

فإن قال قائِل: إذا كان إنسان قد تَعوَّد على الغِناء فترة، ثُمَّ لمدَّة شَهْر أو شهرين أَراد سَماع الأناشيد للمُعالجِة؟

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 594).

ص: 29

فالجَوابُ: أمَّا إذا كانت للمُعالجَة، فالإنسان قد يُعالَج بالسَّمِّ القَتَّال، يُمكِن أن يُعالَج بالسَّمِّ، وهذا نحن الآنَ نَراهم يُعطون الناس حُبوبًا وجُرعاتٍ تَكون قاتِلة، لكن يَتَّخِذونها للعِلاج، فإذا لم يَكُن طريق إلَّا هذا فلا حرَجَ، لكن أيضًا تَكون مع الحذَر الشديد.

وإن قيل: قد يَكون صوت الغُلام المُنشِد جميلًا، وقد يَكون أشَدَّ تأثيرًا من صوت النِّساء؟

فالجَوابُ: أنَّ مَسأَلة حُسْن الصوت إن كان يُؤدِّي إلى فَساد وثَوَران شَهْوة فهذا مُحرَّم، وإن كان لا يُؤدِّي ولكنه يَزيد الإنسان استِماعًا، هذا فلا بأسَ منه.

ثُمَّ إن بعض الناس يَجعَل أيضًا مع هذه القَصائِدِ دُفًّا، فيَكون إلى اللَّهْو أقرَبَ منه إلى الذِّكْر.

وبعض الناس يَقول: هذِه أَهْونُ من الأغاني! فنَقول: لست مجبرًا على فعل أحَد الأمرَيْن حتى تقول: أنا مخُيَّر بينَهما فأختارُ أَيْسَرُهما؛ فقد يَفعَلها الإنسان وهو يَشعُر أنه مُذنِب فيُحاوِل الإقلاع، لكن هذا يَفعَله على أنه مُتقَرِّب إلى اللَّه تعالى بذلك فيَستَمِرُّ عليه.

وما هذا إلَّا نَظير هؤلاء الذين يَتَحيَّلون على الرِّبا بالخِداع وبيع القماش والهيل وما أشبَهَها، يَقولون: هل هذا أَحسَنُ أمِ الرِّبا الذي في البُنوك؟ !

فنَقول: ليس الإنسان مُخيَّرًا بين هذا أو هذا، والحمد للَّه فهناك أشياءُ مُباحة يَتمَكَّن من فِعْلها دون أن يَفعَل هذه الأشياءَ التي تَصُدُّه عن القُرآن وعن السُّنَّة.

إِذَنِ: الضابِط في لَهْو الحديث هو: كل كلام لا فائِدةَ منه، وأمَّا ما فيه فائِدة

ص: 30

ولكن اشتَغَل به عمَّا هو أَفْيَدُ فليس لَهْوًا، لكنه خِلاف الحِكْمة، إذ إن الحِكْمة أن يَشتَغِل الإنسان بالأفضَل عن المَفضول.

إِذَنْ: لَهْو الحديث هو كل كلام لا فائِدةَ منه، وعاقِبته {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

قوله رحمه الله: [{وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصْب عَطْفًا على (يَضِل)، وبالرفع عَطْفًا على {يَشْتَرِي}] قِراءتان (لِيَضل عن سبيل اللَّه){وَيَتَّخِذَهَا} يَكون عَطْفًا على (يَضل)، أو {وَيَتَّخِذَهَا} عَطفًا على {يَشْتَرِي} يَعنِي: ومن الناس مَن يَتَّخِذها هُزوًا، وبينهما فَرْق؛ لأن قِراءة النصِّ تَجعَل الحامِل على مَن يَشتَرِي لهوَ الحديث أمرين: الضلال، واتِّخاذه هُزوًا، وأمَّا على قِراءة الرفع: فإن الحامِل على شِراء لَهْو الحديث شيء واحِد، لكن من الناس أيضًا مَن يَتَّخِذ آياتِ اللَّه تعالى هُزوًا، أي: مَكانًا للاستِهْزاء.

وقوله رحمه الله: [{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} مَهزوءًا بها] أَشار المُفَسِّر رحمه الله بقوله: [مَهزوءًا] إلى أن المَصدَر هنا بمَعنَى اسم المَفعول، وهو كثيرًا ما يَأتي في اللغة العربية، يَعنِي: مَهزوءًا بها.

واتِّخاذ آيات اللَّه تعالى هُزوًا له أنواعٌ كثيرة:

1 -

منها: أن يَستَهزِئ بالقرآن في نَظْمه وتَرْكيبه.

2 -

ومنها: أن يَستَهزِئ بالقرآن في أَخباره، ويَقول: أساطيرُ الأوَّلين.

3 -

ومنها: أن يَستَهزِئ بالقُرآن في أَحْكامه.

4 -

ومنها: أن يَستَهزِئ بالسُّنَّة.

5 -

ومنها: أن يَستَهزِئ بالرسول عليه الصلاة والسلام.

ص: 31

6 -

ومنها: أن يَستَهزِئ بمَن تمَسَّك بالسُّنَّة، لا لشَخْصه ولكن لعمَله، وهي كثيرة حتى إنَّ بعض أهل العِلْم رحمهم الله يَقول: إنَّ الإنسان إذا صلَّى وهو محُدِث، فهذا استِهْزاء بآيات اللَّه تعالى؛ ويَقول: إنه إذا عمِل مُبطِلًا من مُبطِلات العِبادة فهو مُستَهزِئ بآيات اللَّه تعالى.

وعلى كل حال: كل مَن حوَّل آياتِ اللَّه سبحانه وتعالى إلى هُزءٍ بالقَوْل أو بالفِعْل أو بالهَيْئة، فإنه يُعتبَر مُتَّخِذًا لها هُزؤًا.

والاستِهْزاء بآيات اللَّه عز وجل ليس بالأمر الهَيِّن، حتى إنَّ أهل العِلْم رحمهم الله يَقولون: مَن قال كُفْرًا أو فعَل كُفْرًا ولو هازِلًا فإنه يَكفُر، واستَدَلُّوا لذلك بقوله عز وجل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66].

قال اللَّه عز وجل: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} : (أُولاءِ) اسمُ إشارة للجَمْع، مع أن الضمائِر التي قَبلها للمُفرَد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي} {لِيُضِلَّ} {وَيَتَّخِذَهَا} فهي للمُفرَد، وهنا قال سبحانه وتعالى:{أُولَئِكَ لَهُمْ} جمع؛ لأن {مَنْ} اسم مَوْصول تَصلُح للمُفرَد والجماعة، فإن أَفرَدت ما يَعود عليها صِرْت مُتَّبِعًا للَهْوهم، وإن جمَعْته فأنت مُتَّبع لمَعناه.

ويَجوز أن تُراعِيَ لفظها أو مَعناها في كل الكلام ويَجوز أن تُغيِّر، انظُرْ إلى قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} كل هذا على سبيل الإفراد التاج للَّفْظ {خَالِدِينَ فِيهَا} هذا باعتِبار المَعنَى، {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] باعتِبار اللَّفْظ، فهي آية واحِدة ومع ذلك غُيِّرت فيها الضمائِر من مُراعاة اللَّفْظ إلى مُراعاة المَعنَى إلى مُراعاة اللَّفْظ.

ص: 32

قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} : {أُولَئِكَ} أي: الذين يَفعَلون هذا الفِعْلَ {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَتَى بـ {لَهُمْ} -وهو الخبَر- قبل المُبتَدَأ لإفادة الحَصْر، وأَتَى بالجُمْلة الاسْمِية {أُولَئِكَ لَهُمْ} لإفادة الثُّبوت والدوام والاستِحْقاق لهذا العَذابِ.

وقوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ} العَذاب بمَعنَى: العُقوبة، و {مُهِينٌ} أي: ذو إِهانة. يَعنِي: يُهينهم -والعِياذ باللَّه- فلمَّا كانوا يَستَعِزُّون بأنفُسهم، ويَسخَرون بآيات اللَّه تعالى حتى يَضَعوها عن مَكانها اللائِق بها عُوقبوا بمِثْل جِنايتهم، ودائِمًا: الجزاء من جِنْس العمَل في الدُّنيا والآخِرة، قال سبحانه وتعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وزِيادة بعدها: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] قال صلى الله عليه وسلم: "ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"

(1)

مِثْلًا بمِثْل، وعلى هذا فقِسْ.

فالجَزاءُ من جِنْس العمَل، فهذا الرجُلُ الذي اتَّخَذ آياتِ اللَّه تعالى هُزوًا غرَضُه من ذلك أن يَضَعها بين الناس، وأن يَجعَلها مَحلَّ سُخرية، غير مَعبوءٍ بها، ولا مُهتَمٍّ بها، فصار جَزاؤُه -والعِياذ باللَّه- أن اللَّه تعالى يَجزيه بالعَذاب المُهين الذي يُهينه ويُذِلُّه.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: ذَمُّ مَن يَرْكَن إلى لَهْو الحَديث، وهو ما لا خَيرَ فيه؛ لقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي. . .} إلى آخِره.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: تَحرِيم الغِناء؛ لِأنَّ ابنَ مَسعود رضي الله عنه أَقسَم بالذي لا إلهَ إلَّا هو

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 160)، وأبو داود: كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم (4941)، والترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس، رقم (1924)، من حديث عبد اللَّه ابن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 33

أنَّه الغِناء، وتَفسيرُ الصحابيِّ حُجَّة، حتى ذهَب الحاكِم وجماعة مِن أهل العِلْم رحمهم الله إلى أنَّ تَفسيرَه في حُكْم المَرفوع، ولا شَكَّ أنَّ الغِناء المُشْتَمِل على آلَةِ اللَّهْو لا شَكَّ أنَّه حرام؛ لأن نَفْس آلة اللَّهْو حرام، قرَنَها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالزِّنا والخَمْر والحرير، فقال -كما في صحيح البخاري مِن حديث أبي مالِك الأشعريِّ رضي الله عنه:"لَيَكُونَنَّ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يَسْتَحِلُّونَ الحرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ"

(1)

فكلِمة "يَسْتَحِلُّونَ"، دليل على أنَّها حرام، واستِحْلالهم لها إمَّا باعتِقادِهم أنَّها حلال، وإمَّا بفِعلِهم إيَّاها فِعلَ المُسْتَحِلِّ لها الذي لا يُبالي، والمَوجود الآنَ الأمران، فإنَّ مِن الناس مَنِ استَحَلَّ هذه المَعازِفَ -والعِياذ باللَّه- وقال: إنها حلال، ومنهم مَن يَعتَقِدُ تَحريمها، لكنه يَفعَلها فِعْل المُستَحِلِّ لها بدون مُبالاة.

ولا يَغُرَّنَّكُم ما وقَع فيه الناس اليومَ مِن الانهِماك بِها، فإنَّه أَصبَحَ لها تأثيرٌ عظيم على قُلوبِهم ودِييهم وسُلوكِهم، وانظُرْ إلى المُبْتَلَيْنَ بهذا الأمرِ -والعِياذُ باللَّه- يَكون ما هَمُّهُم إلَّا هذا الأَمرُ، وهُم أَبْعَدُ الناس عن مَعرِفة القُرآن والسُّنَّة ومَواعِظ القُرآن والسُّنَّة.

ولهذا ذَكَر بعضُ أهل العِلْم رحمهم الله أنَّه لا يَجتَمِع حُبُّ الغِناء، وحُبُّ كِتابِ اللَّه عز وجل، قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله:

حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلحَانِ الْغِنَا

فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ

(2)

ولهذا قال هنا: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

(1)

أخرجه معلقًا البخاري: كتاب الأشربة، باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، رقم (5590)، من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

(2)

النونية (ص 326).

ص: 34

والغِناء بدون آلَةِ إن اشتَمَل على مُحرَّم فهو حرام، وقد يَصِل إلى حَدِّ الشِّرْك، كما لو اشتَمَل على الغُلُوِّ في مَدْح أحدٍ غُلُوًّا يَصِل به إلى درجة الخالِق، وقد يَكون مُحَرَّمًا وفِسْقًا كما لو اشتَمَل على تَحقيق الفِسْق والمُجُون وما أَشبَهَ ذلك، وقد يَكون مُحرَّمًا تَحريمَ الغِيبَة كما لو كان يَسُبُّ شَخْصًا مُعَيَّنًا، المُهِمُّ أنَّه درجات.

أمَّا إذا كان مُباحًا فإنَّه لا شَكَّ أنه مِن اللَّهْوِ، لكنَّه إذا اسْتُعِين به على شيء مُباح فلا حرَجَ فيه، مِثْل: غِناء العُمَّال الذين يُغَنُّون لِأَجْل أن يَتَقَوَّوْا على ذلك، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في حَفْرِ الخَندق يَرتَجِزون، والرسول صلى الله عليه وسلم يُجِيبُهُم، يَقولون:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الجهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

والرسول عليه الصلاة والسلام يُجِيبُهُم ويَقول:

اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَه

فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَه

(1)

الرسول عليه الصلاة والسلام يَنقُل التُّراب ويَرْتَجِزُ بقول عبد اللَّه بنِ رواحةَ رضي الله عنه:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا

وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

قال البَراءُ بنُ عازِب رضي الله عنه راوِي الحديث: "يَمُدُّ صوتَه بِآخِرِها"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب حفر الخندق، رقم (2835)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، رقم (1805)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، رقم (4106)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، رقم (1803).

ص: 35

فهذا لا بأسَ به لمِا فيه مِن الإعانَة على العمَل.

ومِنه حُدَاءُ الإبِل فَإِنَّه كان يُحْدَى بين يَدَيِ الرسول عليه الصلاة والسلام في الإِبِل؛ لأنَّ حُدَاءَ الإبِل يَزيدُها مَشْيًا فتُسرِع، فإنهم يَذكُرون مِن أحوالها أَشياءَ عَجيبة عندما يَحدو الحادِي إذا كان حَسَن الصوت تَمشِي مِن غير شُرُود؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يَقول:"يَا أَنْجَشَةُ رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ"

(1)

يَعنِي: بِالنساء، وشَبَّهَهَا بالقوارير لِأَجْل أن يَرْفُقَ بِها أكثَرَ؛ لأنَّ القوارِير مَع الحرَكة تَتكَسَّر.

فالحاصِلُ: أن نَقول: إن الغِناء له الأحوال له التي ذُكِرت، إنِ اقتَرَن بآلة لَهْو كما هو المَوجود الآنَ فهو حرام ولا شَكَّ فِيه؛ لأنَّه داخِل في حديث أبي مالك الأشعريِّ رضي الله عنه إلذي رواه البخاري

(2)

رحمه الله فهو حَرام لا رَيبَ فيه، وإذا خَلا فهو على حَسَب الحال.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ لَهْو الفِعْل أيضًا لا يَجوز التَّساهُل فيه، ويُؤْخَذ ذلك مِن قوله تعالى:{لَهْوَ الْحَدِيثِ} فإنَّ القِياس أنَّ لَهْو الفِعْل كذلك، لأنَّ الكُلَّ لَهْوٌ وضَياعُ وَقْتٍ.

وعلى هذا فالألعاب التي لا تَزِيد الإنسان نَشاطًا ولا قُوَّةً، ويَضيع بها الوقت تَدْخُلُ في هَذا.

مسألة: الشِّطْرَنْج فيه خِلاف بين أهل العِلْم رحمهم الله، والصَّحِيح أنَّه حرام.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز، رقم (6149)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، رقم (2323)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه معلقًا البخاري: كتاب الأشربة، باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، رقم (5590)، من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 36

وقد ادَّعى بعضُهم: أنَّ الشطرنج تَشْحَذُ الأَذْهان، واعتَرَض عليه آخَرُ، فقال: إنَّ الذين يَلعَبونها مِن أبلَدِ الناسِ أَذْهانًا؛ لأنَّهم لا يَعرِفون أشياءَ زائِدةً عمَّا يَتعَلَّق بهذه اللُّعبةِ، فهم بُلَداءُ فيما سواها؛ ولهذا لو نَاقَشْتَهم في أمور لا تَتعَلَّق بهذه اللُّعبةِ لوجَدْتَهم من أبلَدِ الناس؛ لأن أفكارَهم انحَصَرَت في هذه اللُّعبةِ؛ فأينَ ما يُقال: إنه شَحْذ لِلذِّهْن؟ ! .

فالمُهِمُّ: أنَّه يُؤخَذ مِن فَحوى الآية الكريمة: أنَّ لهْو الفِعْل كَلَهْوِ الحَديث.

فإن قال قائِل: هل الكُرَةُ تَدخُل في هذا أو لا؟

فالجَوابُ: أنَّ الكُرَة لا تَدخُل هنا؛ لأنَّ الكُرَة فيها رِياضة بدَنِيَّة إلَّا إذا ترتَّب عليها محذُور شَرعي مِن تَرك واجبٍ أو فِعل محرَّم، أو كانَت تَشتَمِل على كَشْفِ العَورة، كما لو كانوا مثَلًا يُبْدُون أفْخَاذَهم، فإنَّ تكون محرَّمة؛ كالبَيع والشِّراء -الذِي هو جائِز بالإِجْماع- إذا أَلْهى عَن واجِب صارَ حرامًا، لكن إذا انتَفَت عن المَحظُور فلا أَرَى بِها بأسًا؛ لأنَّها تُفِيد البَدَن.

لكن في بعض الأحيان تَكون الكُرَة مُغالَبة بين فريقَيْن يَنتَميان إلى نادِيَيْن، ثُمَّ إذا غُلِبَ أحدُهما بدَأَ الآخَرون يَحذِفون بالحِجارة أحيانًا ويُكَسِّرُون السيَّاراتِ، فهذه رُبَّما نَقول: مِن هذه الناحيةِ قد تَكون مُحرَّمَة؛ فيَحدُث هذا ممَّن يَنْتَمون إلى النَّوادِي حسبَ ما سَمِعت، وبعضهم قد يَكون مُعْتَدِلًا ولا يَحصُل مِنه هذا الشيءُ.

لكن افرِضْ أنَّ جماعة مِن الناس خرَجوا إلى نُزْهة، وكان عندهم فَراغ مَثَلًا، وأَرادوا أن يَفعَلوا هذه، فلا نَقول: هذا حرام.

المُهِمُّ: أنَّها في الأصل هي مُباحة، فإنِ اقتَرَن بها ما يَقتَضِي التَحْرِيم حُرِّمت،

ص: 37

فكل المُباحات إذا اقتَرَن بها ما يَقتَضي التحريم تَكون حرامًا، وإذا اقتَرَن بها ما يَقتَضي الوجوب صارت واجِبًا؛ لأن المُباح لِذَاته قد تَتَعَلَّق به الأحكام الخَمْسة كما هو مَعروف.

وأنا أُحِبُّ أن نَفهَم القواعد، فـ (تَحرِيم الحلال أشَدُّ من تَحليل الحرام)؛ لأن اللَّه تعالى محبُّ أن يُيَسِّر على عِباده ويُوسِّع لهم، فلا يُمكِن أن نُقدِم على شيء ونَقول: هو حرام إلَّا بالدليل؛ لأننا مَسؤُولون عن هذا يوم القِيامة، مَسؤُولون عن نِسبته إلى اللَّه تعالى أنَّ اللَّه تعالى حرَّمه، ومَسؤُولون عن التَّضييق على عِباد اللَّه تعالى فيما أَباحَه اللَّه تعالى لهم، فالمَسأَلة ليست هَيِّنةً.

ولْنَكُن مُعتَدِلين لا نَميل إلى قول مَن يَقول: إن الكُرَة تَصِل إلى درجة الاستِحْباب أو الوُجوب. ولا إلى قول مَن يَقول بالتَّحريم مُطلَقًا، نَقول: هي في الأصل مُباحة. هذا رَأْيِي، وإنِ اقتَرَن بها ما يَقتَضي التحريم صارت حَرامًا وإلَّا فَلا.

فإذا تَضَمَّنت إشغال الإنسان عمَّا هو أهَمُّ، أو عن واجِب لا شَكَّ أنَّها حرام، عمَّا هو أهمُّ خِلَاف العِقْل فيها نوع مِن السَّفَه، ولكن لا نَقول: حرام؛ لأنَّ الإنسان يجوز أن يَشتَغِل بما ليس بأَهَمَّ عن الأهَمِّ إذا لم يَكُن واجِبًا.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: ذَمُّ كُلِّ ما يَصُدُّ عن سبيل اللَّه تعالى؛ لقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، ثُمَّ إن كان يُضِلُّ عن واجِب صار حرامًا، وإن كان يُضِلُّ عن مُسْتَحَبٍّ لم يَكُن حرامًا، لكنَّه يُذَمُّ بلا شكٍّ.

الْفَائِدَةُ الخامِسَةُ: تَحريم الهُزْء بآيات اللَّه تعالى؛ لقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} ، والاستِهْزاء بآيات اللَّه تعالى حُكْمُه الكُفْر، فمَنِ استَهْزَأ بآيات اللَّه تعالى فهو كافِر

ص: 38

بِنَصِّ القُرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] وماذا قال؛ قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، فهو صريح في الكُفْر؛ ولهذا قال العُلَماءُ رحمهم الله: إنَّ مَن قالَ قَوْلَ الكُفْر ولو كان هازِلًا أو مازِحًا فهو كافِر، فمَن سبَّ اللَّه تعالى أو رسولَه أو دِينَه ولو كان هازِلًا فهو كافِر، يَعنِي أن هذا -والعِياذ باللَّه- أَعظَمُ مِن أن يَسُبَّهُ جادًّا.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الوعيدُ الشديد على مَن هذه حالُه؛ لِقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .

* * *

ص: 39