المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (22) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (22) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى

‌الآية (22)

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22].

* * *

قوله رحمه الله: [{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي: يُقبِل على طاعته {وَهُوَ مُحْسِنٌ} مُوحِّد {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}](مَن) هذه شَرْطية جوابها قَولُه تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} وقُرِن الجواب بالفاء؛ لأنَّه اقتَرَن ب (قَدْ)، والجوابُ يَقتَرِن بالفاء إذا كان أحَدَ أمور سَبْعة:

اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدٍ

وَبِـ (مَا) وَ (قَدْ) وبـ (لنْ) وَبِالتَّنْفِيسِ

وهنا اقتَرَن بالجواب (قَدْ)، فوجَب أن يُقرَن بالفاء.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} مَعناه: يَنقاد له تَمام الانقِياد، بحيثُ يُسلِمه إليه، وهذا غاية ما يَكون من التَّذلُّل والتَّوكُّل فقال تعالى:{يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} ، ولم يَقُل: للَّه؛ لأنَّ قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ} أَبلَغُ، كأنه أَعْطاه اللَّه عز وجل وبلَغ غايته بالوصول إلى اللَّه تعالى.

وقوله تعالى: {وَجْهَهُ} المُراد: وجهُ قَلْبه، وليس وجهَ بدَنِه، يَعنِي: اتِّجاهَه، فهو من الوجهة أي: مَن يَتَّجِه إلى اللَّه قَصْدًا وتَوَكُّلًا واعتِمادًا.

وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} الجُمْلة هذه حالية، حال من فاعِل {يُسْلِمْ} ،

ص: 133

يَعنِي: والحال أنه مُحسِن. والمُراد بالإحسان، يَقول المُفَسِّر رحمه الله:[مُوحِّد] أي: التوحيد، ولكن الصواب خِلاف كلامه، لأنَّ التَّوْحيد مَفهوم من قوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} ، لكن قوله تعالى:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: مُحسِن باتِّباع شريعة اللَّه سبحانه وتعالى، فيَكون في الآية إشارة إلى الحُكْمين الأَساسِيَّين في العِبادة، وهما: الإخلاص والمُتابَعة، فقوله تعالى:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} يَعنِي: في اتِّباع الشريعة، يَعنِي: مُتَّبع لشريعته على وجهِ الإحسان.

وقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} استَمْسَك بمَعنَى: تمَسَّك، لكنها أتتْ بهذه الصِّيغةِ (استَفعَل) للمُبالَغة، أي: للمُبالَغة في التَّمسُّك، لأن (استَمْسَك بكذا) أَقوَى من قولك: تمَسَّك به؛ لأنهم يَقولون: إن زيادة المَبنَى تَدُلُّ على زِيادة المَعنَى؛ فلمَّا كثُرَت حروف (استَمْسَك) صارت أَقوى في مَعناها من: (تمَسَّكَ).

وقوله تعالى: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} بالطرف الأَوْثَق، الذي لا يَخاف انقِطاعه، الإنسان عندما يَتمَسَّك بالحبْل، فتارةً يَتَمسَّك به بطرَفه وليس له عُروة، وتارة يَتمَسَّك به بطرَفه وهو مَعقود، وتارةً يَتَمسَّك به بطرَفه وهو مَثنِيٌّ كالعُروة؛ فالأَبلَغُ العُروة؛ لأنَّ الإنسان لو تمَسَّك بطرَفه ربما يُزلَق فيَسقُط، وكذلك بطرَفه مَعقودًا لا يَتمَكَّن مثلما يَتَمكَّن بطرَفه إذا كان عُروة.

{الْوُثْقَى} مُؤنَّث (أَوثَق)؛ لأنَّ العروة التي هي أَوْثَق شيء، ولا ريبَ أن مَن أَسلَم وجهه للَّه تعالى وهو مُحسِن فإنه سيَنجو من كل مَكروهٍ، ويَفوز بكُلِّ مَطلوب؛ لأنَّ هذا هو الطريق الأمثل الذي يُوصِل إلى اللَّه سبحانه وتعالى: أن تُسلِم وجهَكَ إليه وأنت مُحسِن.

وورد مِثلُها في القُرآن قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ

ص: 134

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256].

قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} لمَّا بيَّن أنَّ الذي يُسلِم وجهَه إلى اللَّه تعالى وهو مُحسِن أنه مُستَمْسِك بالعُروة الوُثْقى، وأن الإنسان في حال الإسلام إلى اللَّه تعالى والإحسان قد يَعتَريه أمور يَشُكُّ هل هو مُستَمْسِك بالعُروة الوثقى أم لا؟ مثل أن يَتَخلَّف عنه النَّصر في يوم من الأيام وما أَشبَه ذلك، فيَخشَى أن يَكون على غير حَقٍّ، فبَيَّن اللَّه تعالى أنَّ عاقِبة الأمور إلى اللَّه تعالى.

وهذا كقوله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40 - 41]؛ لأنَّ الإنسان قد يَقول: ما قيمة هذه الأشياءِ بالنِّسبة للقَنابل والصواريخ، وما أَشبَه ذلك؟ فبَيَّن اللَّه تعالى أن عاقِبة الأمور للَّه تعالى؛ فأنت ما دُمْت قُمْت بأسباب النَّصْر التي بيَّنها اللَّه تعالى لك؛ فلا يَخْدَعَنَّك ما أُعطِيَ أعداءُ اللَّه سبحانه وتعالى من القُوَّة المادِّية؛ لأنَّ هذه القُوَّة المادِّية تَتَضاءَل بكلِمة من اللَّه سبحانه وتعالى، فإذا أَراد عز وجل أن يَخسِف بهم جميعًا الأرض، أو يُفسِد عليهم مُعدَّاتهم قال:(كُنْ فيَكون)، ولهذا أَعقَبَها بقوله سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} ، حتى لا يَستَبعِد الإنسان نَصْر اللَّه عز وجل بسبب ما أُوتِيَ أعداؤُه من القُوَّة؛ لأنَّ العاقِبة للَّه سبحانه وتعالى؛ وهذه مِثلُها أيضًا، فيُسلِم الإنسان وجهَهْ للَّه تعالى وهو مُحسِن، ويَنتابُه بعضَ الأحيان شُكوك، وهل هو على حَقٍّ أم على غير حَقٍّ، وهل هذا الاستِمْساك حقيقيٌّ أم لا؛ فبَيَّن اللَّه تعالى أن عاقِبة الأمور إلى اللَّه تعالى، وأنك متى أَسلَمْت وجهَك إلى اللَّه تعالى وأنت مُحسِن فلا بُدَّ أن تَنجوَ.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} : (إلى) تُفيد الغاية؛ يَعنِي:

ص: 135

غاية عاقِبة الأمور إلى اللَّه تعالى لا إلى غيره، فهو الذي يُدبِّر الأمور كيف يَشاء حتى تَصِل إلى ما يُريده سبحانه وتعالى.

وقوله سبحانه وتعالى: {الْأُمُورِ} جَمْع أَمْر، واحِد الأمور، يَعنِي: الشُّؤون، كل الشُّؤون الدِّينية والدُّنيوية العامة والخاصة، كلُّها عاقِبَتها إلى اللَّه تعالى.

هذا قِسْم من الناس: الذي أَسلَم وجهَه إلى اللَّه تعالى وهو مُحسِن؛ والثاني: الكافِر؛ قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ} يا محُمَّدُ {كُفْرُهُ} لا تَهتَمَّ بكُفْره {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}. . .] إلخ.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَةُ الأُولَى: الفائِدةُ العَظيمة في الإخلاص والمُتابَعة؛ الإخلاص من قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} ، والمُتابَعة من قوله تعالى:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ مَن لم يَكُن كذلك فهو هالِكٌ لا مُتَمَسَّكَ له؛ لأنه رَتَّب الاستِمْساك على هَذَيْن: إسلام الوجهِ للَّهِ تعالى مع الإحسان؛ وعلى هذا فمَنْ لم يَأتِ بهما فلَيْس له نَجاةٌ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ أَوْثَقَ ما يَستَمْسِكُ به الإنسان من نَجاة هو الإخلاصُ والمُتابَعة؛ لأنَّ كلِمة (الوُثْقَى) اسمُ تَفضيل، فهي مِثْل (أَوثَق) في المُذكَّر.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فضيلة الإحسان؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ، وقد سبَقَ لنا أنَّ الإِحْسان يَكون في عِبادة اللَّه تعالى، ويَكون في مُعامَلة عباد اللَّه تعالى.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ عواقِبَ الأُمور إلى اللَّه عز وجل، فهو الذي بيَدِه مَلكوت السمَواتِ والأَرْض، وكَمْ مِن إنسان يُقدِّر، ولكن أَمْر اللَّه تعالى يَأْتي على خِلاف

ص: 136

تَقديره؛ والدَّليلُ قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الإشارة إلى أنَّه يَنبَغي لمَن أَسلَم وجهَهُ للَّه تعالى وهو مُحسِن أن يَصبِر، لأن العاقِبة له، فلا يَتعَجَّل أو يَستَبعِد الفرَجَ، أو يَستَبْعِد النَّصْر؛ لأنَّ الأمورَ كلَّها تَرجِع إلى ربِّ العِزَّة سبحانه وتعالى.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّه لا أحَدَ يَستَطيع أن يُدَبِّر في الكون، ويُؤخَذ ذلك من تَقديم الخبَر الدالِّ على الحَصْر.

* * *

ص: 137