الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (28)
* قالَ اللَّه عز وجل: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28].
* * *
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى مُبيِّنًا كَمال قُدْرته بعد أن بَيَّن عُموم مِلْكه، وكمال كلِماته قال:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} خَلْقًا وبَعْثًا، لأنه بكلِمة (كُنْ) فيَكون؛ لأنه يَعلَم الخَلْق والبَعْث؛ فما خَلْقكم جميعًا إلَّا كنَفْسٍ واحِدة، وما بَعثُكم جميعًا إلَّا كنَفْسٍ واحِدة.
إِذَنِ: الكَثْرة لا تُعجِز اللَّه سبحانه وتعالى، لأنَّ الكَثْرة عِنده والقِلَّة على حَدٍّ سَواءٍ، إذِ الكُلُّ تَتَعلَّق به القُدرةُ، وهذا كلُّه سَهْل عليه، لأنه يَكون بكلِمة (كُنْ) فاللَّه عز وجل لمَّا خَلَق السمواتِ والأرضَ لم يَحتَجْ إلى عمال وعوامِلَ، ولهذا يُقال: إذا كان البِناء واسِعًا كان أشَقَّ، وإذا كان ضَيِّقًا كان أهوَنَ، لكن عند اللَّه تعالى فلا؛ إنما هو بكلِمة (كُنْ)، وما كان بكلِمة (كُنْ)، فلا فَرْقَ بين أن يَكون كثيرًا، أو قليلًا، ولهذا قال اللَّه عز وجل في آية أُخرَى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]، يَعنِي: بل هو أَقرَبُ من لمَحِ البصَر، وقال سبحانه وتعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وهذا غاية ما يَكون من السُّرْعة والإنجاز. وقال سبحانه وتعالى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14]، فكُلُّ هذا يَدُلُّ على
كَمال قُدْرته عز وجل.
والجَوابُ عمَّا يُورَد على المَرءِ: لماذا خلَقَ اللَّه تعالى السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّة أيام؟ ولماذا يَخلُق الجَنين في بَطْن أُمِّه لمُدَّة تِسْعة أشهُرٍ؟ وما أَشبَهَ ذلك؟
والجَوابُ: أنَّ أفعاله مَقرونة بحِكْمة، وأنه سبحانه وتعالى جعَل الأسباب مَربوطةً بمُسبَّباتها، فلا بُدَّ من أن يَكون هناك سبَب ويَنتُجُ عنه مُسبَّب، ولا بُدَّ من أن يَكون هذا السبَبُ مُطابِقًا مُوافِقًا؛ حتى يَتِمَّ الخَلْق على كَماله.
فهذا الخَلْق يَحتاج إلى أشياءَ، مُقدِّمات وأَسْباب يَحصُل بها كَمال الخَلْق، فاللَّه سبحانه وتعالى قادِر على أن يَخلُق الجنين في بَطْن أُمِّه بدون أن يَتَناوَلها الرَّجُل كما حصَل في عيسَى عليه السلام، ومع هذا فإن اللَّه تعالى قد جعَل لهذا أسبابًا: اتِّصال ماء الرَّجُل بالمرأة، ثُمَّ بعد ذلك الجنينُ يَتطَوَّر شيئًا فشيئًا حتى يَصِل إلى الغاية، ثُمَّ إذا كان قابِلًا لأَنْ يَخرُج إلى الدنيا خرَج، ثُمَّ مع ذلك يَنمو شيئًا فشيئًا، لا يَأتيه العَقْل كامِلًا دفعة واحِدة، ولا يَأتيه النُّموُّ دفعة واحِدة، ولكنه على وَفْق الحِكْمة.
وقوله تعالى: [{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} يَسمَع كلَّ مَسموع، {بَصِيرٌ} يُبصِر كل مُبصَر، لا يَشغَله شيء عن شيءٍ]؛ قوله سبحانه وتعالى: [{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} يَبصُر كلَّ مُبصَر] وكلُّ مُبصَر فهو خَلْق مخَلوق، فما ثَمَّ إلَّا خالِق أو مخَلوق، فكل مُبصَر يَعنِي: كل ما مِن شَأْنه أن يَتعَلَّق به البصَر، ولو أني أنا ما أُبصِره، لكن اللَّه سبحانه وتعالى يُبصِره، فنَتَفاوَت؛ فهناك شيء يُبصِره زَيْد ولا يُبصِره عَمرٌو.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} تَقدَّم أنَّ السميع يَنقَسِم إلى قِسْمين: قِسْم: بمَعنَى مجُيب، وقِسْم: بمَعنَى سامِع، يَعنِي مُدرِك للأصوات؛ فالسَّميع الذي بمَعنَى مجُيب.
مثل قول إبراهيمَ عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، أي: مجُيبُه، ومن المعلوم أيضًا أنه لا يُجيبه إلَّا بعدَ أن يَسمَعه سَمْعَ إدراكٍ، ولكن الفائِدة من الدُّعاء هي إجابة الداعِي، أمَّا مجُرَّد أن يُسمَع دُعاؤُه؛ فلا فائِدةَ له من ذلك حتى يُجاب.
وتَقدَّم أنَّ سَمْع الإدراك يَنقَسِم إلى ثلاثة أقسام:
ما يُفيد التهديد.
وما يُفيد التَّأْييد.
وما يُفيد سَعةَ سَمْع اللَّه سبحانه وتعالى، وإدراكُه لكل مَسموع.
فمما يُفيد التَّهديد: قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
ومِمَّا يُفيد التأييد قولُه سبحانه وتعالى لمُوسى وهارونَ عليهما السلام: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وممَّا يُفيد الشُّمول؛ أي: شُمول سَمْع اللَّه سبحانه وتعالى لكل ما يُسمَع مثل قول اللَّه عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]؛ ولهذا قالَتْ عائِشةُ رضي الله عنها: تَبارَك الَّذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، إني فِي طرَفِ الحُجْرة وإنه ليَخفَى علَيَّ بَعضُ حَدِيثها
(1)
، واللَّهُ سبحانه وتعالى مِن فَوْقِ سَبْع سَمَواتٍ يَسْمَعُ هَذا الحَديثَ والتَّحاوُرَ كُلَّهُ، ولَمْ يَفُتْهُ سبحانه وتعالى شَيْءٌ.
(1)
علقه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول اللَّه تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، (9/ 117)، ووصله الإمام أحمد (6/ 46)، والنسائي: كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم (3460)، وابن ماجه: في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (188).
أمَّا قوله تعالى: {بَصِيرٌ} فالبَصير بمَعنَى: مُبصِر، أَيْ: مُدرِك ببَصَره عز وجل فلله تعالى بصَرٌ يُبصِر به المُبصَرات، كما جاء في الحديثِ الصحيح:"حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"
(1)
.
وقد يَكون البَصير أيضًا دالًّا على العِلْم، مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]، أي: عَليم به، وعند الناس الآنَ إذا قالوا: فُلان بَصير بالأشياء، يَعنِي: عنده عِلْم بها وخِبْرة.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: إثبات الخَلْق والبَعْث، لقوله تعالى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: كَمال قُدْرة اللَّه تعالى حيث جعَل جل جلاله الخَلْقَ والبَعْث لجميع الخَلْق كنَفْس واحِدة، وهذا في غاية ما يَكون من القُدْرة.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثبات البَعْث، لقوله تعالى:{وَلَا بَعْثُكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: الاستِدْلال بالمَشهود على المَوْعود، فالمَشهود الخَلْق، والمَوْعود البَعْث، وقد قرَنَهما اللَّه سبحانه وتعالى جَميعًا، لإثباتِ كلِّ واحِد منهما، وأنه كما قَدَر على الخَلْق أوَّلًا فهو قادِر على البَعْث ثانيًا.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثبات اسمَي (السَّميع) و (البَصير) للَّه تعالى، وإثبات ما دَلَّا عليه من صِفات، وإثبات الكَمال باجتِماعهما السَّمع والبَصْر، إِذْ ليس كلُّ سَميع بَصيرًا، وليس كلُّ بَصير سميعًا، وقد سَبَق لنا مَعنَى السَّميع ومَعنَى البَصير.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا ينام"، رقم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.