المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (17) * قالَ اللَّه عز وجل: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (17) * قالَ اللَّه عز وجل: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ

‌الآية (17)

* قالَ اللَّه عز وجل: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

* * *

هذه أربعةُ أَوامِرَ: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} وانظُرْ إلى الأوَّل فهو نَهيٌ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ثُمَّ تَحذير بقوله تعالى:{إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} ، ثُمَّ بعد ذلك أَمْرٌ:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} ، ولهذا يُقَال:(التَّخْلِيَةُ قبل التَّحْلِيَة)، يَعنِي: مَعناها: أزِلِ الشَّوَائِب، ثُمَّ ائْتِ بالمُكَمِّلَات.

فقوله تعالى هنا: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أَمْر بإقَامَة الصَّلَاة، ومَعنَى إقامَتِها: أن يَأتِيَ بها الإنسَان تامَّةً بأركانِها وشُروطِها وواجِباتِها ومُكَمِّلاتِها، وقوله تعالى:{الصَّلَاةَ} شامِل للمَفْرُوضَات والنَّوَافِل.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} مَفعول {وَأْمُرْ} مَحذُوف التقدير: النَّاس أو غيرَهم، وَاؤْمُر غيرَك بالمعروف؛ أي: بالقولِ المَعروف والفِعْلِ المَعروف، والمَعْرُوف ما أَمَرَ به الشَّرْع، لأنَّ ما أَمَرَ به الشَّرْع قد أَقرَّهُ الشرع، وأَقَرَّتْه الفِطَرُ السَّلِيمَة.

فالمَعروفُ إِذَنْ: كل ما أُمِرَ به شَرْعًا، سَواءٌ ما يَتَعلَّق بحقِّ اللَّه عز وجل أو بحَقِّ العِباد.

ص: 105

وقولُه تعالى: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} المُنْكَر: كُلُّ ما أَنْكَرهُ الشَّرْع، أي: نَهَى عنه سواءٌ ما يَتعَلَّق بحقِّ اللَّه تعالى، أو بحُقوق العِباد، الأَمْر بالمَعروف والنَّهْي عن المُنكَر واجِبٌ على الكِفَاية؛ لِقوله سبحانه وتعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، إذا جعَلْنا (مِن) للتَّبعيض، أمَّا إن جعَلْنَا (مِن) لِبَيَان الجِنْس والمَعنَى: ولتكونوا أُمَّةً تَأمُرُ بالمعروف وتَنهَى عن المُنكَر، فإنَّه يَكونُ فَرْضَ عَيْن، ولكن الصَّواب أنه فَرْض كِفَايَة؛ لأنَّ المَقصودَ به إصلاحُ الغَيْر، فإذا حَصَل إصلاحُ الغَيْرِ بغَيرِك حَصَل المَقْصُود، أمَّا إذا لم يَحصُل فإنه يَجِب أن تَأمُر، فإِذَا وجَدْنَا مِن الناس تَهاوُنًا في هذا الأَمْرِ وتَكَاسُلًا صار فرضًا علينا، أمَّا إذا رأَيْنا أنَّ الناس قد استَقامُوا على هذا وصاروا يَأمُرُون بالمعروف ويَنهَوْن عَن المُنكَر، فإنه يَكون في حَقِّنا فَرْضَ كِفَاية.

وقوله تعالى: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} حتى والِدَيك تَأمُرُهما بالمَعروف وتَنهاهُما عن المُنكَر، بل إنَّ حقَّ الوالِدين أَعظَمُ مِن حقِّ غيرِهما؛ لأنَّ الأَمْر بالمَعروف والنَّهي عن المُنكَر إحسانٌ للمَأْمُور والمَنْهِيِّ، وليسى إساءة، فإذا كان كذلك فأَحَقُّ مَنْ تُحْسِنُ إِلَيْه وَالِدَاك.

فإن قال قائِل: الأَمْر بالمَعروف والنهيُ عن المُنكَر هل هو المَوْعِظَة فقَطْ أم غيرها؟

فالجَوابُ: لا، نحن ذَكَرْنا فيما سَبَق، أنَّ المُراد: الثَّلَاثَة؛ بَيَانٌ ودَعْوَة، وأَمْر ونَهْي، وتَغْيِير، فالبَيَانُ والدَّعوة واجِبان على كل أحَد، فإنه يَجِب عليه أَنْ يُتين إذا دَعَتِ الحاجَةُ إلى البَيَان أو سُئِلَ عن عِلْم، وكل أحَد عليه أن يُبَلِّغ إذا اقتَضتِ الحالُ ذلك، وأمَّا الأَمْر فهو أخَصُّ مِن الدعوة؛ لأن الأمر أن تُوَجِّهَ أمرًا إلى شَخْص مُعيَّن ما هو

ص: 106

بأن تُبَيِّن أن تَقُوم في الناس، وتَقُول: هذا حَلَال، وهذا حَرَام، هذا يُعْتَبر مَوْعِظَة، وأمَّا التغْيِير: فَأَن تُغَيِّرَ بيدك تَأخُذ هذا المُنكَر تُكَسِّره مثَلًا، نعَمْ، أو تَقول بِلِسانك، إذا عَجَزْت عَن الفِعْل تُغَيِّر باللسان، إمَّا بِرَفْع الأَمْر إلى مَن يَسْتَطيع التغيير، وإمَّا بالانتِهار والتوبِيخ والزَّجْر، فإن لَم تَسْتَطِع هذا ولا هذَا فيَكُون التَّغْيِير بالقَلْب وهو الكراهَة والبَغْضَاء؛ وهذا في الحقيقة لا يَحصُل التغيير المُطْلَق يَعنِي: أنَّ المُنكَر لو تُنكِره بقَلْبِك لا يَزُول، لكن هذا أَدْنى دَرَجاتِ التَّغْيِير، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في ذلك:"وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"

(1)

.

ومن شروط ذلك: الاستِطاعة، وهذا شَرْط في كل واجِب، لقَولِه سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

ومن الشُّرُوط أيضًا: أن لا يَخْشَى ضرَرًا محُقَّقًا، فإن خَشِيَ الضرَر في مالِه أو بدَنِه لم يَلْزَمْهُ، فإن خَشِيَ الأذِيَّة لَزِمَه؛ لأنَّه لا بُدَّ مِن أذًى، لكن أذِيَّة ما فيها ضَرَر؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} هَذَا تَوْطِئَة وتَمْهِيد كَأنَّه يَقُول له: إذا أَمَرْت بالمَعروف ونَهيْت عن المُنكَر فلا بُدَّ أن يَحْصُل لك أَذِيَّة فاصبِرْ على هذا.

وهذا هو الواقِع، فإنَّ الآمِرَ بالمعروف والنَّاهِيَ عن المُنكَر غالبًا يُؤْذَى، يُؤْذِيه المَأمُور والمنْهِيُّ، إمَّا بالقول وإمَّا بالسُّخْرِيَة، ورُبَّما تَصِل الحال إلى أنه يَرْمِيه بالحِجَارة أحيانًا، وربما تَصِل الحال إلى أنَّه يُخَرِّبُ سَيَّارَتَه، أو يَكْسِر بابَه، أو ما أَشبَهَ ذلك، لكن الأخير هذا ضرَرٌ في المال، ولكن لا بُدَّ أن يَكون أمرًا محُقَّقًا، أمَّا إذا كان وَهْمًا عن الضَّرَر فَلَيْسَ بِشَيْء.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم (49)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 107

وقال عز وجل: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} المُشار إلَيه ما سَبَق مِن الأمُورِ الأرْبَعَة {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: مَعْزُومَاتِهَا التي يُعْزَم عليها لِوُجُوبِها].

قوله تعالى: {الْأُمُورِ} بمَعنَى: الشُّؤُون والأَحْوال، والعَزْم هنا مَصدَر بمَعنى اسْمِ المَفْعُول، أي: مَعْزُومَاتِهَا التي يُعْزَمُ عليها؛ لِأنَّها وَاجِبَة، واللَّه أَعلَمُ.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّه يَنْبَغِي للآباء أن يُوصوا أبناءَهم بهذه الخِصَالِ الأربَعِ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّه يَنبَغي لِلأَبِ أن يَقْرُنَ مَوْعِظتَه لِابنِه بالتَّرْغِيب والتَّرْهِيب، فإنَّ قولَه تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} تَأْكيد وحَقّ على الابنِ أن يَقومَ بهذه الوَصَايا الأَرْبَعِ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: مِن كُلِّ هذه الوصايا، قوله تعالى:{يَابُنَيَّ} يُؤْخَذُ مِنه تَلَطُّف الإنسان بِمُخَاطَبة ابنِه، لا سِيَّمَا في مَقَام المَوْعِظَة.

ويَتَفَرَّع على هذا أيضًا: بَيانُ سُوءِ مُعَاملةِ بعض الَاباء إذا أَراد أن يَعِظَ ابنَه عامَلَه بالعُنْف والشِّدَّة، وهذا خَطَأ وقد قال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي بِالرِّفْقِ مَا لَا يُعْطي عَلَى العُنْفِ"

(1)

، وأنتَ إذا عمِلْتَ بهذا الشَيْءِ فإنَّك سوف تَتعَامَل بالرِّفْق؛ لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَخْبَر بأن اللَّه تعالى يُعْطِي بالرِّفْق ما لا يُعْطِي على العُنْف، فإذا كان يَحصُل لك مَقْصُودُك بالعُنْف فإنَّ حصُولَه بالرِّفق مِن بَابِ أَوْلَى.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم (6024)، دون الجملة الأخيرة، وأخرجها مسلم: كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم (2593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 108

وعلى هذا فيَنبَغِي الرِّفْق في الأُمُور لا سِيَّمَا في مَقَامِ الوَعْظ لهوُلَاءِ الأبنَاءِ الذين لا يُحِيطُون عِلْمًا بما هم عليه، أمَّا المُعَانِدُ والمُسْتكْبِرُ فهذا له حَالٌ أُخْرى، لكِنْ كلامُنا في مَقَامِ الدَّعْوة، وفي مَقَامِ التَّوْجِيه والإِرْشَاد، فإنه يَنْبَغي التَّلَطُّف وعَدَم العُنْف.

* * *

ص: 109