المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (27) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ - تفسير العثيمين: لقمان

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (27) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ

‌الآية (27)

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].

* * *

{وَلَوْ} هذه شَرْطية، وفِعْل الشَّرْط مَحذوف؛ أي: ولو ثبَت أن ما في الأَرْض من شجَرة. . إلى آخِره، و (ما) اسمٌ مَوْصول بمَعنَى: الذي، و {فِي الْأَرْضِ} جارٌّ ومجَرور مُتعَلِّق بمَحذوف صِلة المَوْصول، يَعنِي: ولو أنَّ الذي استَقَرَّ في الأرض، و {مِنْ شَجَرَةٍ} جارٌّ ومجَرور بيانٌ لـ (ما) الاسْمِ المَوْصول؛ لأن الاسمَ المَوْصول مُبهَم يَحتاج إلى بيانٍ؛ فـ {مِنْ شَجَرَةٍ} بيانٌ له؛ يَعنِي: لو أن الذي في الأَرْض من الشجَر.

وقوله تعالى: {أَقْلَامٌ} خبَر (أن)، يَعنِي: ولو أنَّ الذي في الأرض من الأشجار كان أقلامًا هذا المَعنَى، كان أقلامًا يُكتَب بها، (والبَحْرَ) يَقول المُفَسِّر رحمه الله:[عطف على اسم (أنَّ)]، وفي قِراءة:{وَالْبَحْرُ} وهي المَوْجودة في المُصحَف، لكن المُفَسِّر رحمه الله هنا قال: مَنْصوبة. قال: [عطف على اسْمِ (أنَّ)]، {وَالْبَحْرُ} إذا كانت بالرَّفْع فهي مُبتَدَأ، قال ابنُ مالِك رحمه الله

(1)

:

وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوْفًا عَلَى

مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتكْمِلَا

وَأُلْحِقَتْ بِإِنَّ لكِنَّ وَأَنْ

. . . . . . . . . . . . . .

(1)

الألفية (ص: 22).

ص: 162

وهذه (أن).

قال رحمه الله: [(والبَحْرَ) عطف على اسم (أنَّ)]، فتكون بالنَّصْب.

وقوله تعالى: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الخبَر مَحذوف قدَّرَه المُفَسِّر رحمه الله بقوله: [مِدادًا] يَعني: لو أن ما في الأرض من الأشجار أقلامٌ، وما فيها من البِحار مِدادٌ، يَعنِي: حِبرًا يُكتَب به، وجوابُ الشَّرْط قوله تعالى:{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} المُعبَّر بها عن مَعلومات. . . إلى آخِره.

قوله سبحانه وتعالى: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} : (نفِد) مَعناه: انتَهَى، و {كَلِمَاتُ} فاعِل؛ فـ {نَفِدَتْ} الكَوْنية، وأمَّا الشَّرْعية فلا تَنفَد؛ لأنه عز وجل لم يَزَل ولا يَزال مُتكَلِّمًا، والخَلْق لا نِهايةَ له؛ لأنَّه إذا دخَل الناس الجَنَّة أو النار يَكون خُلودًا دائِمًا سَرْمَديًّا أبدِيًّا.

فإِذَن: كل شيء يَخلُقه اللَّه تعالى فإنما يَخلُقه بالكلِمة: (كُنْ فيَكون).

فإذا كانَتِ المَخلوقاتِ لا تَنتَهي، وكذلك أيضًا أفعال اللَّه سبحانه وتعالى في الأزَل لا نِهايةَ لها، فإنها لا يُمكِن أن تَنفَد أبَدًا، حتى لو فُرِض أنَّ البَحْر ومِن بعده سَبْعةُ أَبحُرٍ تَمُدُّه، والشجَر -كل الشجَر الذي في الأرض- أَقْلام وصار يُكتَب بها، فإن كلِماتِ اللَّه تعالى لا تَنفَد.

ووجهُ ذلك واضِح؛ لأن المَخلوقاتِ لا تَنفَد، وكلُّ مخَلوق فإنه يَكون بالكلِمة؛ قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

إِذَنْ: يَتبيَّن لنا وَجْه كَوْن هذه الجُمْلةِ الخبَرِية صِدْقًا محَضًا، وهي صِدْق لا شَكَّ، فخبَرُ اللَّه تعالى صِدْق.

ص: 163

لكن قد يَقول قائِل: كيف؟ وما وجهُ هذا؟

فنَقول: هذا وجهُه؛ إذ إن الإنسان قد يَستَعظِم أن تَكون البِحار -البحر المُحيط ومن ورائِه سَبْعة أَبحُر- مِدادًا، وما في الأرض من الشجَر أقلامًا يُكتَب بها ثُمَّ لا تَنفَد الكلماتُ، قد يَستَعظِم هذا الشيءَ، ولكنه إذا عرَف كَمال قُدْرة اللَّه سبحانه وتعالى وعظَمته لم يَستَعظِم هذا.

وقوله سبحانه وتعالى: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [المُعبَّر بها عن مَعلوماته بكَتْبها بتِلْك الأَقْلام بذلك المِدادِ، ولا بأَكثَرَ من ذلك، لأنَّ مَعلوماتِه تعالى غير مُتَناهِية]، عفا اللَّه عن المُفَسِّر رحمه الله، هذا تَحريف! فقد عَبَّر بقوله: إن المُراد بالكَلِمات المعلوماتُ، مَعلوماتُ اللَّه تعالى. يَعنِي: ما نَفِد لا يَعلِمه.

لكن هذا تَحريف ظاهِر للقُرآن، فاللَّه سبحانه وتعالى يَقول:{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ} والكلِمات هي التي تُكتَب، أمَّا المَعلوماتُ فقَدْ تُكتَب وقد لا تُكتَب، فهل كل المَعلومات تَكتُبها؟ ! لكِنَّ كلِماتِك إذا أَرَدْتَ أن تُعبِّر عنها للغَيْر تَنطِق بها وتَكتُبها.

فالمَعنَى: ما نفِدَت كلماتُ اللَّه تعالى، أي: كلِماته بالحَقِّ حقيقة، يَعنِي: الكلِمات الحقيقية لو أُمِليت على أحَدٍ، وصارت البِحَارُ مِدَادًا لها، والأشجار أقلامًا لها، ما نفِدَتْ. ووجهُ ذلك ظاهِرٌ، وهذا يَدُلُّ على عظَمة اللَّه عز وجل وكَمال قُدْرته.

قال رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يُعجِزه شيء، {حَكِيمٌ} لا يَخرُج شيءٌ عن عِلْمه وحِكْمته].

قوله سبحانه وتعالى: {عَزِيزٌ} يَقول: [لا يُعجِزه شيء] وأحيانا يُعبِّر المُفَسِّر نَفْسه، يَقول: عزيزٌ لا يَغلِبه شيءٌ. وذلك لأنَّ العِزَّة -كما سبَق- تَنقَسِم إلى ثلاثة أقسام:

ص: 164

عِزَّة القدَر، والثاني: عِزَّة القَهْر وهي الغلَبة، والثالِث: عِزَّة الامتِناع، وهي: أنه عز وجل لا يَناله شيء بسُوء أبَدًا، فهو مُمتَنِع عن كل سُوء لِقُوَّته سبحانه وتعالى.

وأمَّا قوله تعالى: {حَكِيمٌ} فهو هنا قال: [لا يَخرُج شيء عن عِلْمه وحِكْمته] ففَسَّر الحِكْمة بالعِلْم، وقد سبَقَ لنا أن الحكيم مُشتَقَّة من الحُكْم والحِكْمة؛ فهو حَكيم لا يَخرُج عن مُلكِه شيء وحُكْمِه، وحَكيم لا يَخرُج عن حِكْمته شيء، إذَنْ هو حاكِم محُكَم، كلها تُؤخَذ من كلِمة حَكيم.

وفي قَرْن العَزيز بالحَكيم إثباتُ صِفة ثالِثة غير العِزَّة والحِكْمة، وهي: أن عِزَّته عز وجل مَقرونة بحِكْمة، فتكون عِزَّةً أكمَلَ، وتَكون حِكْمةً أكمَلَ، وذلك أن العزيزَ من الخَلْق قد تَأخُذه العِزَّة بالإِثْم، فلا يَكون حَكيمًا في تَصرُّفه، لكن اللَّه عز وجل عِزَّته مَقرونة بالحِكْمة، لا يُمكِن أن تَخْرُج أفعاله عن الحِكْمة التي هي مُوافَقة الصَّواب.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أن اللَّه سبحانه وتعالى يَتكَلَّم؛ لقوله تعالى: {كَلِمَاتُ اللَّهِ} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قال بعضُهم: إنَّ كلماتِه تعالى مَسموعة؛ لأنها تُكتَب، ولا يُكتَب إلَّا ما كان مَسموعًا.

وهذه الفائِدةُ فيها نظَر؛ لأنه يُمكِن أن تَكتُب الشيءَ مجُرَّد كِتابة؛ يَعنِي: أن الإنسان يُمكِن أن يَكتُب كلِماتِه هو دون أن يُسمِع غيرَه.

إِذَنْ: هذه الفائِدةُ فيها نظَرٌ، لكن يُؤخَذ من إثبات أن اللَّه سبحانه وتعالى يَتكلَّم بصَوْت: أنَّ الكَلام لا يُسمَّى كلامًا إلَّا حيث يَكون صوتًا، أمَّا مجُرَّد ما في النَّفْس فليس بكَلام.

ص: 165

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بَيان أنَّ كلِماتِ اللَّه سبحانه وتعالى لا نَفادَ لها، تُؤخَذ من قوله تعالى:{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ووجهُ ذلك ما تَقدَّم في التَّفسير: أنَّ اللَّه تعالى لم يَزَل ولا يَزال خَلَّاقًا، فعَّالًا لما يُريد، ومن لازِمِ ذلك أن يَكون مُتكَلِّمًا؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: تمَامُ قُدْرة اللَّه عز وجل حيثُ كان قادِرًا على كلام لا يَنفَد.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتُ العِزَّة والحِكْمة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وإثباتُ الحُكْم أيضًا من قوله تعالى: {حَكِيمٌ} ، وإثبات هَذَيْن الاسمَيْن عَزيز وحَكيم.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: ما دَلَّ عليه اجتِماع العِزَّة والحِكْمة من صِفة الكَمال، قُلْنا: إن الاسم قد يَكون له مَعنًى في ذاتِه، ومَعنًى باجتِماعه إلى غيره؛ فاجتِماع العِزَّة مع الحِكْمة يُفيد كَمالًا أكثَرَ ممَّا لوِ انفَرَدَتِ العِزَّة أو الحِكْمة، وهو أنَّ عِزَّة اللَّه سبحانه وتعالى مَربوطة بالحِكْمة.

* * *

ص: 166