الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (15)
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
* * *
الضمير في قولِه تعالى: {جَاهَدَاكَ} ضمير فاعِل يَعُود على الوالِدَين، ومَعنَى {جَاهَدَاكَ} نَقول: لم يَذكُر المُفَسِّر رحمه الله مَعناها، لكن مَعناها: بَذَلَا الجُهْد مَعك.
وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يَعنِي: على أن تَجْعَل مَعِي شَرِيكًا لا عِلْمَ لَك بِه.
وقوله تعالى: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} هو قَيْدٌ لِبَيَان الواقِع، وليس قَيْدًا احْتِرَازِيًّا؛ لأنَّه لا يُمْكِن أن يُوجَدَ عِلْمٌ بأنَّ للَّه تعالى شَرِيكًا، وهذا كقولِه تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117].
فإن قال قائِل: ما فَائِدةُ هذا القَيْدِ، وقد عُلِم أنَّه لن يُوجَد؟
قلنا: الفائِدةُ فيه تَحْقِيق هذا الأَمرِ، حتى لا يُحَاوِل أحَدٌ أن يَبحَث ويَطْلُبَ عِلْمًا أو بُرْهَانًا بأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى لَه شَريك، فكأنَّه يَقول: هذا هو حقيقةُ الواقِع، وما كانَ حقيقةَ الواقعِ فلا يُمكِن أن يَتَخَلَّف، وهذا هو فائِدة قولِه تعالى:{مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
وقوله تعالى: {مَا لَيْسَ} : {مَا} هذه يُحتَمَل أن تَكُونَ اسْمًا مَوْصُولًا، أي: الذي ليس لك به عِلْم، ويُحتَمَل أن تَكُونَ نَكِرَةً مَنصوبةً، أي: أن تُشْرِك بِي شَرِيكًا ليس لك بِه عِلْم.
وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تُطِعْهُمَا} جوابُ الشَّرْط، وهو:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ} إن جاهَداك فلا تُطِعْهما، وتَأمَّلْ قولَه تعالى:{فَلَا تُطِعْهُمَا} ، ولم يَقُل: فلا تَبَرَّهُمَا، ولم يَقُل أيضًا: فاعْصِهَما، لِأنَّ كَلِمة {فَلَا تُطِعْهُمَا} أهوَنُ في النَّفْس مِن كلِمة: فاعْصِهما؛ ولهذا كان قولُ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لِأَبيه: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43] أهونَ مِن قوله: يا أبَتِ إنك جاهِل بما عندي؛ لذا قال تعالى: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} ؛ لأنَّ نفيَ الكَمَال أهوَنُ مِن إثْبَات النَّقْص على النُّفوس.
ويُذْكَر أنَّ أحدَ الملوك رأَى في المنام أنَّ أسنانَه قد سَقَطَت، فقال: ادعوا لي مُعَبِّرًا يُعَبِّر هذه الرؤيا. فجاؤُوا برجُل لِيَعْبُرَها، فقَصَّ عليه الرؤيا، فقال: يَموتُ أهلُك. فلَمَّا قال: يَموتُ أهلُكَ. فَزَع الملِك وهَلَع وقال: اجلِدُوه، فَجَلَدُوه وانصرَف. قال: أَعطوني غَيرَه فجاؤُوا برجُلٍ آخَرَ، فقَصَّ عليه الرؤيا، فقال: الملِك يَكون أَطولَ أهلِه عُمُرًا. فأَكرَمَه وأَسْبَغ عَليه النِّعَم، ومعنى ذلك مُتقارِب، فإذا كان أطولَهم عُمُرًا فمَعناه: أنهم يَموتون قبله.
والحاصِلُ: أنَّ التعْبِير له أثَرٌ على النَّفْس، فكلمة:{فَلَا تُطِعْهُمَا} أهوَنُ مِن كَلِمة: اعْصِهما. ثُمَّ قوله تعالى: {فَلَا تُطِعْهُمَا} لم يَقُل: لا تَبَرَّهما، أو: لا تَقُمْ بحَقِّهما، فحَقُّهُما واجِب، ولو أَمَرَاك بالشِّرْك فإذا كان الوالِدان لهما حقٌّ واجِب ولو أمَراك بالشِّرْك، فكيف إذا أمَرَاك بما دُونَ الشِّرْك؟ ! ولهذا حقُّ الوالدين ليس بالأَمْر الهَيِّن.
وقوله تعالى: {فَلَا تُطِعْهُمَا} ؛ لأنَّه لا طاعةَ لمِخُلوقٍ في معصِيةِ الخالِق، فإنَّ حقَّ اللَّهِ أوجَبُ مِن حقِّ الوالِدين، هو الذي أَوْجَبَ لهما الحَقَّ فكيف نُضِيع حقَّه مِن أجْلِ حقِّهما؟ !
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} مُوافَقَةً للواقِع] هذا تَفسيرٌ لِقولِه: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: أن هذا هو الأمرُ الواقِعُ ليس لك به عِلْم.
وقوله رحمه الله: [{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}؛ أي: بالمَعروف: البِرِّ والصِّلَة]، قوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا} ، كلِمة {فِي الدُّنْيَا} ظَرْفِية لا شَكَّ فيها، ويُحتَمَل أن يَكون المُراد بالدنيا شُؤُونها، يَعنِي: في أمُورِ الدنيا صاحِبْهُما مَعْرُوفًا، أمَّا في أمُورِ الدِّين فلا تَتَعدَّى ما أمَرَك اللَّهُ بِه، ويُحتَمَل أن يَكون في الدنيا؛ أَيْ: في هذه الدُّنيا، لكن المعنى الأوَّل أبلَغُ، لأنَّه مِن المَعُلوم أنَّ المُصاحَبة بَيْن الوالِدين والوَلَد إنما تَكونُ في الدنيا، فلا حاجَةَ إلى التقدِير، فالظاهِر أنَّ المَعنَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي: فيما يَتَعلَّق بأمُورِ الدُّنْيا صاحِبْهما مَعروفًا.
قال المُفَسِّر: [بالمعرُوف] ومعنى هذا التَّفسيرِ {مَعْرُوفًا} أنَّ أنْ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِض، والنصبُ بِنَزْعِ الخَافِض مع غَيْر (أنَّ) و (أَنْ) ليس بِمُطَّرِد، بل هو شاذٌّ، وإذا كان كذلك فإنَّه لا يَنبَغي أن يُحال القرآن عليه، ولو قيل: إنَّ {مَعْرُوفًا} صِفَة لمِصدرٍ محَذُوف، التقدير: صَاحِبْهما صِحَابًا مَعْرُوفًا، يَعنِي: صُحْبَةً مَعْرُوفَة، ليس فيها عُنْف، وليس فيها تَوبِيخ، ولا لَوْم، وليس فيها نَقْصٌ مِما يَجِبُ لهما لكان هذا أَوْلى.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [بالبِرِّ والصِّلَة] البِرُّ: كثرة الخَيْر، والصِّلَة: عَدَم القَطِيعَة، فالمَعنَى: صِلْهما وبِرَّهما بما يَستَحِقَّان مِنك، لكن في أُمُورِ الدُّنيا فَقَطْ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ} طَرِيق {مَنْ أَنَابَ} رجَعَ {إِلَيَّ} بالطَّاعَة] قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} : {مَنْ} هذه اسمٌ مَوْصول، والاسمُ المَوْصول يُفيدُ العُموم، فهل هو على عُمومِه أي: اتَّبع سبيل مَن أَناب إلَيَّ مِنْهما أو مِن غيرهِما، أو هُو عامٌّ أُرِيدَ به الخُصُوص، أي: مَن أَناب إلَيَّ مَنهما؟
الجَوابُ: الأَوْلَى أن نَقُول بالعموم {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} مِن كُلِّ النَّاس، وعلَيْه فمَن أَنابَ مِن الوالِدَين إلى اللَّه سبحانه وتعالى يَكونُ اتِّباعُ سبيلِه مِن بابِ أَوْلى.
وقوله تعالى: {أَنَابَ} بمَعنَى: رَجَع مِن المَعصِية إلى الطاعة، ومن الشِّرْك إلى التوحيد، ومن الفُسُوق إلى الاستِقامة والتَّقْوى.
ويُقال: إن سعدَ بنَ أبي وقَّاص رضي الله عنه لمَّا أَسلَم قالت له أُمُّه: ما هذا الدِّينُ الذي أَتَيْت به؟ فقال: هذا هو الحقُّ. فقالت له: لَتَتْرُكَنَّه أو لَأَدَعَنَّ الطعامَ والشَّرابَ حتَّى أمُوت، فَتُعَيَّرَ بي. فقال: هذا حقٌّ لا أَدَعُه. فأَمْسَكَت عن الطَّعام والشراب يومًا كامِلًا، فلمَّا أَصبَحَت إذا هي مُجْهَدَة -يَعنِي: مُتعَبة مِن الجُوع والعَطَش- فطلَب منها ولَدُها أن تَأكُل وتَشْرَب، وقال: أنا لَن أَرْجع عن هذا الدِّينِ. ولكنَّها أَبَتْ، وفي اليوم الثاني: أَصبَحت أكثَرَ جُهْدًا، فقال لها: كما قال في الأوَّل: إنِّي لن أَدعَ هذا الدِّينَ. فبَقِيت على عِنَادِها، فلمَّا كان في اليَوْم الثَّالِث، وإذا هِي قَد أَصْبَحَت مُجْهَدَة جُهْدًا شَدِيدًا، فقال لها: يا أُمِّي تَعلَمِين أنَّ هذا هُو الحَقُّ، واللَّهِ لو كانت نَفسُكِ مِئَة نَفْس وماتَت كُلُّ نَفْس -يَعنِي: وحدَها- واللَّهِ ما أَدعَ هذا الدِّينَ. فلمَّا رأَت أنَّ الرَّجُل عَازِم أَكَلَتْ
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رقم (1748)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بنحوه.
فمِثْل هذه الحالِ لا يجوز للإنسان إذا رأَى أن أُمَّه سوف تمَوت أو أبوه سوف يَموت لا يَجوز له أن يُشرِك.
فإن قال قائِل: لو أَراد أن يَقول: إنَّه مُشْرِك بِلسَانِه مُتَأَوِّلًا هل يَجوز ذلك؟
فالجَوابُ: لا يَجوز أن يُوافِق ولو بِالتَّأْوِيل، فلْيَصْبِر، ويَقول: أنا ما ضرَرْتُكِ شيئًا، أيُّ شيء تُريدين مِن أمور الدُّنيا فأنا مُسْتَعِدٌّ له. يَعنِي: ما ضرَرْتُك، فإن شِئْتِ فكُلي، وإن شِئْتِ فلا تَأكُلِي.
المُهِمُّ: أنه لا يَجوز أن يَقول ولو مُتَأَوِّلًا، إلَّا إذا لو خَافَ على نفسِه هو، وهذا فَرْق بين مَن يَخَاف على نَفْس غيرِه أو على نَفْسِه، فلو خافَ على نَفْسِه هو أن يُقْتَل فلَه أن يَقُولَ ذلك مُتَأَوِّلًا لقولِه تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] على أنَّه -أي: المَسأَلة الأخيرة- لا يَجوز فيما إذا كان فيه نُصْرةٌ للإسلام، فإنَّه إذا كان في ثُبُوتِه نُصْرة للإسلام وفي مُوافقَتِه ظاهِرًا خُذْلانٌ لِلإسلام حَرُم عليه ذلك؛ لأَنَّه حينئذٍ يَدخُل في باب الجِهَاد مِثْل ما حصَل للإمامِ أحمَدَ رحمه الله، دُعِيَ إلى القَوْل بخَلْقِ القرآن، ودُعِيَ غيرُه أيضًا إلى القولِ بخَلْق القرآن، فَمِن العُلَماء رحمهم الله مَن تَأَوَّل وأَجابَ ظاهِرًا بما يُدْعَى إليه، ومِنهم مَن أَصَرَّ فقُتِل، ومنْهم مَن أَصَرَّ فحماهُ اللَّه تعالى مِن القتل كالإمامِ أحمدَ رحمه الله، فالإمام أحمدُ رحمه الله لم يُجِبْهم ولو بالتأويلِ؛ لأنَّ الناس يَنظُرُون ماذا يَقولُ الإمامُ أحمدُ رحمه الله، فلو قال: إنَّ القُرْآن مخَلوق. ولو بالتَّأوِيل، ستقول العامةُ: إنه مَخْلُوق. وتَنطَلي هذه البِدْعةُ على عُمُوم المُسلِمين، فرأَى رحمه الله أنه لا يَجوز أن يَتَأَوَّل في هذه الحالِ؛ لمِا في ذلك مِن خُذْلان الحقِّ وإثبَاتِ البَاطِل.
وقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} هذا التَّعقيبُ لمَّا ذكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أنهما إذا أَمَرا بالشِّرْك فلا تُطِعْهما، وأنَّ الواجِبَ عليك اتِّباع سبيل مَن أَناب إلى اللَّه تعالى، فقال تعالى:{ثُمَّ} أي: بعد هذه المُحاولاتِ مِنهما بأن تُشْرِك باللَّه تعالى، وبعد أن تُطِيع فالمَرجِع إلى اللَّه تعالى.
وقولُه تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} جُملة اسمِيَّة خَبَرية قُدِّم فيها الخبر لِإفادة الحَصْر، {إِلَيَّ} لا إِلى غَيْرِي، {مَرْجِعُكُمْ} يَعنِي: مَرَدُّكم، كما قال اللَّه تعالى:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [فاطر: 4].
وقوله تعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} بمَعنَى: أُخبِرُكم، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، والإنبَاءُ هذا يَستَلْزِم المُجَازَاة، وقد لا يَكون هناك مجُازَاة؛ ولهذا دائِمًا يُعَبِّر اللَّه عز وجل بالإنبَاء -أي: الإخبار- لأنَّه قد يُجازِي وقد لا يجازِي، فإنَّه يَخلو بعَبْدِه المُؤمِن ويُخبِرُه بذنوبِه ويُقرِّرُه بها، ثم بَعْد ذلك يَقول:"سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"
(1)
.
وقولُه تعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بالذي كُنْتم تَعمَلون، وهو شامِل لكل ما يَعمَله الإنسان مِن صَغِير وكبِير دون ما لم يَعمَله، فلو هَمَّ بالشيء فلم يَعمَلْه فإنه لا يُجازَى عليه، لكن قد يُثَاب عليه إذا كان مَعصيةً ترَكَها مِن أَجْل اللَّه عز وجل فإنه يُثَاب على هذا التَّرْكِ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [فأُجازِيكم عليه، وجُملة الوَصِيَّة وما بعدَها اعْتِراض] فقول المُفَسِّر رحمه الله: [فأُجازيكم عليه] كأنَّه جعَل مِن لازِم الإنباء المُجَازاة، ولكن كما قُلْت: ليس لازِمًا؛ ولهذا عبَّر اللَّه عز وجل بالإِنباءِ؛ ليَكونَ الأمرُ جائِزًا أو دائِرًا بين
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول اللَّه تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، رقم (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن أكثر قتله، رقم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أن يُجازَى عليه وبَيْن أن لا يُجازَى عليه.
وقوله رحمه الله: [وجُملةُ الوَصية وما بعدَها اعتِراض] الوصية مُبتَدَأَة مِن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} اعتِراض مِن قولِ اللَّه عز وجل، وليس ذلك مِن قول لُقمانَ عليه السلام لابنِه؛ لأنَّ الذي وصَّى الوالدين إحسانًا ووجَّه الإحسان هو اللَّه عز وجل، وإنَّما جاءَتْ هذه الوصيةُ بعد ذِكْر الشِّرْك؛ لأنَّ عُقُوق الوالِدين يَرِد بَعْد حَقِّ اللَّه سبحانه وتعالى، وفي الوصية أيضًا جُمْلَة اعتِرَاضية، هي قوله تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ؛ لأنَّ قولَه تعالى: {أَنِ اشْكُرْ} هو المُوصَى به: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} .
إِذَنْ نَقول في هذا: الوَصِيَّةُ اعتِراضِية بين كَلامَيْ لُقْمانَ عليه السلام لابْنِه؛ وقولُه سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} اعتِراض أيضًا بَين فِعْل الوصية والمُوصَى به.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: تَحريمُ طاعَةِ الوالدين إذا أَمَرَا بالشِّرْك؛ لِقَولِه تعالى: {فَلَا تُطِعْهُمَا} ، ويُقاس على ذلك كل مَعْصِيَة أمَرَا بها فإنهما لا يُطَاعَان؛ لِقَوْلِ الرسول عليه الصلاة والسلام:"لَا طَاعَةَ لمِخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ"
(1)
.
(1)
أخرجه بلفظه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 170، رقم 381) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، ويشهد له ما أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب السمع والطاعة للإمام، رقم (2955)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، رقم (1839)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة".
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ فُسُوقَ الوالدَيْن وكُفْرَهُمَا لا يُسْقِطُ حَقَّهُمَا مِنَ البِرِّ، يُؤْخَذ ذلك مِنْ قَوْلِه تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، فإنَّه أَمَر بِمُصَاحَبَتِهَما مَعْرُوفًا مَع أنَّهُمَا كَافِرَيْن ويَأمُرَان بالكُفْر.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: وُجُوب اتِّبَاع سَبِيل المُؤْمِنِين؛ لِقَوْلِه تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ، ويُؤَيِّدهُ قَوُله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ جَمِيعَ الخَلَائِق مُؤْمِنِهِم وكَافِرِهِم مَرْجِعُهُم إِلى اللَّه تعالى؛ لِقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الحُكْمَ بَيْن الخَلْقِ إلَى اللَّه سبحانه وتعالى؛ لِقَوْلِه تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} فإنَّ تَقْدِيم الخبَر يَدُلُّ على الحَصْر.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إحاطَةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى بكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا؛ لقوله سبحانه وتعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فإنَّ الإنْبَاءَ بما نَعْمَل لا يَكُون إلَّا عن عِلْم.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثْبَاتُ الكلامِ للَّه سبحانه وتعالى؛ لقولِه تعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} والإنباءُ إخْبَار.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: تَحذير الْإِنسان مِن الأعمَال السَّيِّئَة فإنَّ قولَه سبحانه وتعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} يُفِيدُ التَّحْذِير، حتى لا نَقَعَ في أمْرٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تعالى علينَا.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: بُلُوغُ الغَايةِ في البَلاغَة في القرآنِ الكَرِيم؛ لِقولِه سبحانه وتعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} ولم يَقُل: فأُجازِيكم؛ وذلك أنَّه قد يُنبَأُ الإنسان يَومَ القيامة بِمَا عَمِل،
ثُم يُغْفَر له، فذَكَرَ اللَّه تعالى الإِنباء؛ لأنَّه مُؤَكَّد، أمَّا المُجَازَاة فإن اللَّه تعالى قد يَغفِر عن المُذنِب ذُنوبه.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إن قال قائِل: هل يُؤْخَذ مِن الآيةِ الكريمة: وُجُوبُ طَاعةِ الوالِدَين في غير مَعصِية اللَّه تعالى؟
فالجَوابُ: إذا أَمَرَا بغير المَعصية فالآيةُ سكَتَتْ عن ذلك، فحَرَّمَت الطاعَة في المعصية وسكَتَتْ عمَّا عَدَا ذلك، لكن قد يُقال: إنَّ قولَه تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} يَدُلُّ على وُجُوبِ طاعتِهما في غَيْر المَعْصِيَة؛ لأنَّه لا شَكَّ أن مُصاحَبتَهما في المَعروف بِامتِثَال أمرِهما، وعلى هذا فقَدْ يُسْتَدَلُّ بعُمومِ قوله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} على وجوبِ طاعتِهما في غير المَعْصِيَة، ولكنَّه سَبَق لنا أثناء التَّفسير أنَّ شيخ الإِسلام ابنَ تيميَّةَ
(1)
رحمه الله يَقول: تَجِبُ طاعتُهما فيما فيه نَفْعٌ لهما ولا ضرَرَ عليه فيه، أمَّا ما فيه ضرَرٌ عليه فلا يَجِبُ عليه الطاعة؛ ولهذا لمَّا ذَكَرَ أهلُ العِلْم رحمهم الله أن لِلأَبِ أن يَتَمَلَّكَ مِن مَالِ ولَدِه ما شاء قالوا: بشَرْط ألَّا يَضُرَّ الولَد، فإِنْ ضَرَّ الولَد فإنه ليس له أن يَتَمَلَّك، بل قالوا: بشَرْط ألَّا يَضُرَّه وألَّا تَتَعَلَّقَ بِه حاجتُه، فإن تَعلَّقَت به حاجتُهُ فليس له أن يَتَملَّكَه.
والمَقصود بالحاجة هنا حاجتُه الخاصَّة بمَعنَى أنه مثَلًا لا يَجِد غيره، أو كل شيء يَحتاجه، لكن مثلًا إناء يَحتاجه فيَشتَرِي بدَله، أمَّا (زُهْرِيَّة) يَحتاجُها فلا نَقول للأَبِ: أن تَتَمَلَّكَها؛ لأن هذا يُفَوِّت على الابنِ حاجتَه واستِمْتاعَه بها.
فإن قال قائِل: قد قال اللَّه تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
(1)
انظر: الاختيارات العلمية (5/ 381).
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] ألَا يُنافِي ذلك أمرَه بمُصاحَبَتهما بالمَعروف؟
فالجَوابُ: لا مُنافاةَ بينهما؛ لأنه ليس مَعنَى مُصاحَبتِهما بالمَعروف أن تُبْدِيَ لهما المَحَبَّة والوِلاية، بل أنت تُبغِض ما هُما عليه مِن الكُفْر والشِّرْك، وتُبغِضُهما على هذه الصِّفاتِ التي اتَّصَفا بها، ولكن تُعْطِيهما ما يَجِبُ لهما.
فإن قال قائِل: هل يَجوز إظهار البَشَاشَة لهما؟
فالجَوابُ: لا يَمنَع ذلك إذا لم يَكُن هذا سَببه الدِّين، فهذا أَمْر تَقتَضيه الطبيعة، والعَداوة والبَغضاء في القَلْب؛ لأن العَداوة ضِدُّ الولاية، ولكن لا نُؤذِيهم.
ثُمَّ يُقال أيضًا: قد نَقول: لكلِّ مَقَامٍ مَقال. فمثَلًا إذا كان الوالِدان أو غيرهم يَتبَجَّحَان بالكُفْر ويَفتَخِران به، فلنا أن نُعْلِن هذه البَرَاءَةَ والعَدَاوَةَ والبَغْضَاء، وإذا كانا سَاكِتَيْن مُسَالمِيْن فنحن لا نَتَعرَّض لهما، ولكننا نَتبرَّأ -على صِفَةِ العُمُوم- ممَّا هُمْ عليه مِن الدِّين.
والمُهِمُّ: أن اللَّه سبحانه وتعالى يَقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا} أمَّا فيما يَتعَلَّق بالدِّين فلا تُصاحِبْهما بمعروف أبَدًا فيما يَتَعلَّق بالدِّين يَجِب أن تَكْرَههما وتَبتَعِد عنها وتُعَادِيهما.
* * *