الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (23)
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: 23].
* * *
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ} : (مَن) هذه شَرْطية، وفِعْل الشَّرْط {كُفْرُهُ} ، وجوابه قوله تعالى:{فَلَا يَحْزُنْكَ} ، وقُرِن بالفاء؛ لأنَّ (لا) ناهِية.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} هذا عامٌّ من الأقارِب والآباء، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يَحزَن لكُفْر الكافِرين سواء كانوا أقارِبَ له أم أباعِدَ.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{فَلَا يَحْزُنْكَ} يا محُمَّدُ] أَبانَ المُفَسِّر أنَّ الخِطاب في قوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ} للرَّسول عليه الصلاة والسلام، ويُحتَمَل أن يَكون مُوجَّهًا للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكل مَن يَصِحُّ خِطابه ممَّن شأنه أن يَحزَن إذا كفَر عِباد اللَّه تعالى؛ فيَكون على هذا المَعنَى أعمَّ ممَّا قال المُفَسِّر رحمه الله.
وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} الحُزْن هو ضِدُّ السرور، وإذا قيل: حُزْن وخَوْف؛ صار الحُزْن على الماضي، والخَوْف للمُستَقبَل. وقد يُطلَق الحُزْن على الخَوْف، كما في قوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، يَعنِي: لا تَحزَن، أي: لا تَخَفْ، فإنَّ اللَّه تعالى معَنا، على أنه يُحتَمَل أن يَكون المَعنَى: لا تَحزَن على ما فعَلْنا من اللُّجوء إلى هذا الغارِ، فيَكون على الأصل.
وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [لا تَهتَمَّ بكُفْرهم] وظاهِر كلامه: أنَّ الحُزْن هنا بمَعنَى الاهتِمام بالشيء، يَعنِي: لا يُهِمَّنَّك أَمرُهم، ولكن الحزن أَخَصُّ من الاهتِمام، فإبقاء الآية على ظاهِرها وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام يَحزَن إذا كفَر الناس، وكذلك مَن كان ناصِحًا للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يَحزَن إذا كفَر الناس؛ أَقول: إن حَمْلها على ظاهِرها أَوْلى.
وفِعْلًا فإن الإنسان الناصِح يَحزَن إذا كفَر الناس، يَحزَن لأَمْرين:
أوَّلًا: رحمةً بهؤلاء الذين كفَروا.
وثانيًا: حُزْنًا على ما فات الإسلامَ من كثرة المُتَّبِعين، لأن كَثْرة مُتَّبِعي الإسلام عِزٌّ للإسلام.
والدليل آيتان تَدُلَّان على أن الكَثرة عِزَّة: قال شُعَيْبٌ عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وقال تعالى مُمتَنًّا على بني إسرائيلَ:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].
فالكثرةُ عِزٌّ في الدليل الشَّرْعيِّ والواقِعيِّ.
أمَّا أعداء المُسلِمين الآنَ فيُحبِّذون المُسلِمين أن يُقلِّلوا النَّسْل، فتارةً يَقولون: إذا كثَّرْتمُ النَّسْل ضاق الرِّزْق، كقَوْل الكُفَّار الذين يَقتُلون أولادَهم خَشْية الإملاق، وتارة يَقولون: إذا كثُرَ الأولاد عجَزْتم عن تَرْبيتهم، إساءةَ ظَنٍّ باللَّه عز وجل، وتارة يَقولون: إذا كبُر السِّنُّ ضعُفَتِ المرأةُ، ولحَقها الضَّعْفُ. وهكذا؛ وهذا لا بُدَّ منه، فلا بُدَّ أن تَضعُف المرأة، كما قال تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14].
والحاصِلُ: أنَّ كثرة الأُمَم عِزٌّ لها.
وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} جُمْلة خَبْرية قُدِّم فيها الخبَر لإفادة الحَصْر.
وقوله تعالى: {إِلَيْنَا} يَعنِي: نحن اللَّه عز وجل، لا إلى غَيْره.
وقوله: {مَرْجِعُهُمْ} مَصدَر مِيميٌّ؛ أي: رُجوعهم؛ فرُجوعهم إلى اللَّه عز وجل لا إلى غيره، وهو الذي يُحاسِبهم على أعمالهم؛ ولهذا قال تعالى:{فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} .
وقوله تعالى: {فَنُنَبِّئُهُمْ} نُخبِرهم، وإذا أُخبِروا بذلك يُجازَوْن عليه، فإن الكافِر لا بُدَّ أن يُجازَى على ذَنْبه، ولكنه يُجازَى بالعَدْل، ولهذا كانت النار درَكاتٍ بحسَب جُرْم الكافِرين، والمُنافِقون في الدَّرْك الأسفَل من النار؛ فقوله سبحانه وتعالى:{فَنُنَبِّئُهُمْ} أي: نُخبِرهم على سبيل التَّوْبيخ والإهانة، ثُمَّ نُجازيهم بما يَستَحِقّون.
وقوله تعالى: {إِلَيْنَا} و {فَنُنَبِّئُهُمْ} هنا ضَمير جَمْع، لكن المُراد به التَّعْظيم.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} هذا تَكميل للتَّهديد، يَعنِي: أنَّ اللَّه عليم بذات الصُّدور، وذات الصُّدور هي القلوب؛ لأنها فيها، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فمَعنَى ذاتِ الصُّدور أي: صاحِبة
الصُّدور، وهي القُلوب؛ وقال تعالى:{بِذَاتِ الصُّدُورِ} دون القُلوب؛ لأنَّ ما كان داخِلَ الصَّدْر مَحجوب عن الخَلْق، لا يَعلَمه إلَّا اللَّه سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
وفي قوله تعالى: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} دليلٌ على أنَّ الكافِر يُحاسَب على عمَل القَلْب، وهو كذلك، لأنه لولا أنه يُحاسَب لم يَكُن في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} كبيرُ فائِدةٍ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يَحزَن لكُفْر مَن يَكْفُر، لقوله تعالى:{فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} .
فإن قال قائِل: هذا ليس بصريحٍ على ذلك!
قلنا: إذا لم يَكُن صَريحًا فإنه يَدُلُّ على أنَّ ذلك مُتَوقَّع من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو لم يَكُن مَوْجودًا أو مُتَوقَّعًا، لكان النَّهيُ عنه لا فائِدةَ منه، وقد قال اللَّه عز وجل في آية أُخرَى ما يَدُلُّ على أنه كان يَحزَن كما في قوله تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]، وقال تعالى:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، وما أَشبَهَ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يَحزَن.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ كلامه عز وجل بصَوْت مَسموع؛ لقوله تعالى: {فَنُنَبِّئُهُمْ} ؛ لأنَّ ما لا يُسمَع لا يَكون فيه إنباءٌ؛ فلا إنباءَ إلَّا بصَوْت مَسموع، وهذا الصوتُ ليس كأصواتِ المَخلوقين، بل هو أَعظَمُ وأجَلُّ؛ ولهذا إذا تكلَّم اللَّه سبحانه وتعالى بالوَحْي صَعِق أهلُ السَّمَواتِ وارْتجَفَتِ السمَوات، ومَعلوم أنَّ صَوْت أَحَدٍ منَ الخَلْق لا يَحدُث منه هذا الشيءُ، ولكن اللَّه عز وجل أَعظَمُ وأَجَلُّ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إئباتُ عِلْمِ اللَّه سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: التَّخويفُ من مُخالَفة الإنسان باطِنًا، لقوله سبحانه وتعالى:{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فإيَّاكَ والمُخالَفةَ في الباطِن، لا تَقُلْ: إنني لم أُظهِر، ولا أَحَدَ يَعلَم،
فإنه وإن لم يَعلَمِ الخَلْقُ؛ فاللَّه تعالى يَعلَم مَهمَا تَكتُمِ الشيءَ، فإن اللَّه تعالى يَعلَمه؛ ولهذا قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنه يَنبَغي للإنسان مُراقَبة اللَّهِ سبحانه وتعالى دائِمًا؛ لقوله تعالى: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ؛ ولهذا جاء في الحديث: "أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ"
(1)
؛ لأنك إذا علِمْت بذلك، وأَيْقَنْت به، أَوْجَب لك ذلكَ مُراقَبةَ اللَّه عز وجل والرَّغْبة إليه، وأن تَكون هِمَّتُك دائمًا في طلَب ما يُرضِي اللَّهَ سبحانه وتعالى.
فإذا كان الإنسانُ يُؤمِن بهذا الأمرِ، وبمُراقَبة اللَّه عز وجل لمَا في قَلْبه؛ فإنه لو هَمَّ بمَعصية في أَخفَى ما يَكون في الأرض، فسيَردَعه ذلك الإيمانُ عن هذه المَعصيةِ؛ ولهذا حِماية الإيمانِ لمُعتَنِقيه أعظَمُ بكَثير من حِماية السُّلُطات لما تُوجِّهُ إليه؛ فالشَّعْب المُؤمِن لا يَحتاج إلى مُراقَبة السُّلُطاتِ؛ لأنه يَعلَم أنه مُراقَب من قِبَل مَن يَعلَم خائِنة الأَعْيُن وما تُخفِي الصُّدور؛ لكن إذا ضعُف الإيمان احتاج إلى قُوَّة السُّلْطان، فإِنْ ضَعُف الإيمان والسُّلْطان فسَدَتِ الأَدْيانُ والبُلْدان؛ فإذا اجتَمَعَتِ القُوَّتان: قوَّةُ الإيمان وقوَّةُ السُّلْطان؛ فهذا هو الكَمال، وإن ضَعُفا جميعًا فهذا هو الهَلاك، وإن ضعُف أَحَدُهما دون الآخَر ففيه حَياة ومَوْت.
* * *
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (8796)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (1686)، والبيهقي في شعب الإيمان (727)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.