الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة آل عمران (3): آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
" فَبِما" صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، أَيْ فَبِرَحْمَةٍ، كَقَوْلِهِ:" عَمَّا قَلِيلٍ"[المؤمنون: 40]«1» " فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ"[النساء: 155]«2» " جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ"[ص: 11]«3» . وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ زَالَ عَمَلُهَا. ابن كيسان:" فَبِما" نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ (ورَحْمَةٍ) بَدَلٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ بَيَّنَ الرَّبُّ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل:" فَبِما" اسْتِفْهَامٌ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، فَهُوَ تَعْجِيبٌ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ" فَبِمَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لِنْتَ) مِنْ لَانَ يَلِينُ لِينًا وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ. وَالْفَظُّ الْغَلِيظُ الْجَافِي. فَظِظْتَ تَفِظُّ فَظَاظَةً وَفَظَاظًا فَأَنْتَ فَظٌّ. وَالْأُنْثَى فَظَّةٌ وَالْجَمْعُ أَفْظَاظٌ. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ عليه السلام لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ فِي الْمُذَكَّرِ:
وَلَيْسَ بِفَظٍّ فِي الْأَدَانِيِّ وَالْأُولَى
…
يَؤُمُّونَ جَدْوَاهُ وَلَكِنَّهُ سَهْلُ
وَفَظٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ يَحْذَرُونَهُ
…
فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ وَنَائِلُهُ جَزْلٌ
وَقَالَ آخَرُ فِي الْمُؤَنَّثِ:
أَمُوتُ مِنَ الضُّرِّ فِي مَنْزِلِي
…
وَغَيْرِي يَمُوتُ مِنَ الْكِظَّهْ «4»
وَدُنْيَا تَجُودُ عَلَى الْجَاهِلِي
…
نَ وَهْيَ عَلَى ذِي النُّهَى فَظَّهْ
وَغِلَظُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَهُّمِ الْوَجْهِ، وَقِلَّةِ الِانْفِعَالِ فِي الرَّغَائِبِ، وَقِلَّةِ الْإِشْفَاقِ وَالرَّحْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أحد؟
…
لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
(1). راجع ج 12 ص 124. [ ..... ]
(2)
. راجع ج 6 ص 211.
(3)
. راجع 15 ص 151.
(4)
. الكظة: البطنة.
وَمَعْنَى (لَانْفَضُّوا) لَتَفَرَّقُوا، فَضَضْتُهُمْ فَانْفَضُّوا، أَيْ فَرَّقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ يَصِفُ إِبِلًا:
مُسْتَعْجِلَاتُ الْقَيْضِ «1» غَيْرُ جُرْدٍ «2»
…
يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمْدِ «3»
وَأَصْلُ الْفَضِّ الْكَسْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا رِفْقُكَ لَمَنَعَهُمُ الِاحْتِشَامُ وَالْهَيْبَةُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْكَ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ تَوَلِّيهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الْأُولَى- قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ بِتَدْرِيجٍ بَلِيغٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا لَهُ فِي خَاصَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ، فَلَمَّا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ فِيمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَبِعَةٍ أَيْضًا، فَإِذَا صَارُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ صَارُوا أَهْلًا لِلِاسْتِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاسْتِشَارَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا إِذَا عَلِمْتُ خَبَرَهَا بِجَرْيٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيُقَالُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَرْكُضُ فِيهِ: مِشْوَارٌ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ وَاشْتَرْتُهُ فَهُوَ مَشُورٌ وَمُشْتَارٌ إِذَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ
…
وَحَدِيثٍ مِثْلِ مَاذِيٍّ مُشَارِ «4»
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَعَزَائِمِ الْأَحْكَامِ، مَنْ لَا يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ. هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:" وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ"[الشورى: 38]«5» . قَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا غُبِنْتُ قَطُّ حَتَّى يُغْبَنَ قومي، قيل:
(1). كذا في الأصول بالقاف والياء المثناة، ولعله مصحف عن" القبض" بالقاف والباء الموحدة وهو السوق السريع، وإنما سمى السوق السريع قبضا لان البسائق؟ للإبل يقبضها أي يجمعها إذا أراد سوقها، فإذا انتشرت تعذر عليه سوقها: أو القبض بمهملة: العدو الشديد.
(2)
. كذا في الأصول بالمعجمة، ولعله" حرد" بالحاء المهملة، والحرد في البعير أن تنقطع عصبة ذراعه فتسترخي يده فلا يزال يخفق بها أبدا.
(3)
. الصمد: المكان الغيظ المرتفع من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلا.
(4)
. يأذن: يستمع. والماذي: العسل الأبيض والمشار: المجتنى.
(5)
. راجع ج 16 ص 36.
وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا أَفْعَلُ شَيْئًا حَتَّى أُشَاوِرَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. وَكَانَ يُقَالُ: مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ «1» . وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ وَالْأَخْذِ بِالظُّنُونِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عليه السلام أَنْ يُشَاوِرَ فِيهِ أَصْحَابَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فِي مكايد الْحُرُوبِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَرَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفًا عَلَى دِينِهِمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ (وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ) تَطْيِبًا لِقَلْبِهَا، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: كَانَتْ سَادَاتُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْرِ شَقَّ عَلَيْهِمْ: فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، نَبِيَّهُ عليه السلام أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْطَفُ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ لِأَضْغَانِهِمْ، وَأَطْيَبُ لِنُفُوسِهِمْ. فَإِذَا شَاوَرَهُمْ عَرَفُوا إِكْرَامَهُ لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ فِيهِ وَحْيٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ قَالَا: مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى رَأْيِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا فِي الْمُشَاوَرَةِ مِنَ الْفَضْلِ، وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ" وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ
…
وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ نَاصِحٍ مُتَفَضِّلِ
فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى بِذَاكَ نبيه
…
في قوله: (شاوِرْهُمْ) و (فَتَوَكَّلْ)
الرابعة- جَاءَ فِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَصِفَةُ المستشار إن كان في الأحكام أن
(1). هذا حديث رواه الطبري في أوسطه والقضاعي عن أنس وحسنه السيوطي وفى كشف الخفا: في سنده؟ ضعيف جدا.
يَكُونَ عَالِمًا دَيِّنًا، وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَاقِلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا كَمُلَ دِينُ امْرِئٍ مَا لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ. فَإِذَا اسْتُشِيرَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَاجْتَهَدَ فِي الصَّلَاحِ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ خَطَأً فَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. الْخَامِسَةُ- وَصِفَةُ الْمُسْتَشَارِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُجَرِّبًا وَادًّا فِي الْمُسْتَشِيرِ. قَالَ:
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْكَ الْتَوَى
…
فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ
فِي أَبْيَاتٍ «1» . وَالشُّورَى بَرَكَةٌ. وَقَالَ عليه السلام: (مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ). وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ما شَقِيَ قَطُّ عَبْدٌ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ، فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا. وَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْخِلَافَةَ- وَهِيَ أَعْظَمُ النَّوَازِلِ- شُورَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لِيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِكَ أَهْلَ التَّقْوَى وَالْأَمَانَةِ، وَمَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُ «2» بِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ قَوْمٍ كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَةٌ فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتِهِمْ إِلَّا خِيرَ لهم).
(1). وقيل البيت:
إذا كنت في حاجة مرسلا
…
فأرسل حكيما ولا توصه
وبعده:
ونص الحديث إلى أهله
…
فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإل
…
هـ تبين ذلك في شخصه
(2)
. في ب وج: ما بحضرتهم.
السَّادِسَةُ- وَالشُّورَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَالْمُسْتَشِيرُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَيَنْظُرُ أَقْرَبَهَا قَوْلًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا شَاءَ مِنْهُ عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْفَذَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، إِذْ هَذِهِ غَايَةُ الِاجْتِهَادِ الْمَطْلُوبِ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عليه السلام إِذَا عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، لَا عَلَى مُشَاوَرَتِهِمْ. وَالْعَزْمُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُرَوَّى الْمُنَقَّحُ، وَلَيْسَ رُكُوبُ الرَّأْيِ دُونَ رَوِيَّةٍ عَزْمًا، إِلَّا عَلَى مَقْطَعِ الْمُشِيحِينَ مِنْ فُتَّاكِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ «1»:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ
…
وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَا
وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ
…
وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا
وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَزْمُ وَالْحَزْمُ وَاحِدٌ، وَالْحَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، فَالْحَزْمُ جَوْدَةُ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ وَتَنْقِيحُهُ وَالْحَذَرُ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ. وَالْعَزْمُ قَصْدُ الْإِمْضَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ". فَالْمُشَاوَرَةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا هُوَ الْحَزْمُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَحْزُمُ لَوْ أَعْزِمُ «2» . وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ:" فَإِذا عَزَمْتَ" بِضَمِ التَّاءِ. نَسَبَ الْعَزْمَ إِلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ إِذْ هُوَ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا قَالَ:" وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى "[الأنفال: 17]«3» . وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ عَزَمْتُ لَكَ وَوَفَّقْتُكَ وَأَرْشَدْتُكَ" فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ". وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَامْتَثَلَ هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَقَالَ: (لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ «4» أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ). أَيْ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا عَزَمَ أَنْ يَنْصَرِفَ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلتَّوَكُّلِ الَّذِي شَرَطَهُ اللَّهُ عز وجل مَعَ الْعَزِيمَةِ. فَلُبْسُهُ لَأْمَتَهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ يَوْمَ أُحُدٍ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَهُمْ صُلَحَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ كَانَ فَاتَتْهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ بِنَا إِلَى عدونا، دال على العزيمة. وكان
(1). هو سعد بن ناشب المازني (عن الكامل للبرد وخزانة الأدب للبغدادي).
(2)
. يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأى فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمى. (عن الكامل للمبرد).
(3)
. راجع ج 7 ص 384. [ ..... ]
(4)
. اللامة: الدرع، وقيل: السلاح. ولامة الحرب: أداتها. وقد يترك الهمز تخفيفا.