الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَأَنَّ زَكَرِيَّا إِنَّمَا مَنَعَ الْكَلَامَ بِآفَةٍ «1» دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَنَعَتْهُ إِيَّاهُ، وَتِلْكَ الْآفَةُ «2» عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ مَعَ الصِّحَّةِ، كَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ (لَا صَمَتَ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ) إِنَّمَا مَعْنَاهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَمَّا عَنِ الْهَذَرِ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَالصَّمْتُ عَنْ ذَلِكَ حَسَنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أَمَرَهُ بِأَلَّا يَتْرُكَ الذِّكْرَ فِي نَفْسِهِ مَعَ اعْتِقَالِ لِسَانِهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ «3» معنى الذكر. وقال محمد ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ لِزَكَرِيَّا بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل" أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً" وَلَرُخِّصَ لِلرَّجُلِ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:" إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً"[الأنفال: 45]«4» . وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ." وَسَبِّحْ" أَيْ صَلِّ، سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ سُبْحَةً لِمَا فِيهَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ السُّوءِ. وَ" الْعَشِيُّ" جَمْعُ عَشِيَّةٍ. وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ. وَذَلِكَ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِعَشِيٍّ." وَالْإِبْكارِ" من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
[سورة آل عمران (3): آية 42]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) أَيِ اخْتَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «5» . (وَطَهَّرَكِ) أَيْ مِنَ الْكُفْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. الزَّجَّاجُ: مِنْ سَائِرِ الْأَدْنَاسِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِهِمَا، وَاصْطَفَاكِ لِوِلَادَةِ عِيسَى (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِهَا، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ:" عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ" أَجْمَعَ إِلَى يَوْمِ الصُّورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَكَرَّرَ الِاصْطِفَاءَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِفَاءُ لِعِبَادَتِهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي لِوِلَادَةِ عِيسَى. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كمل
(1). في د: بآية، وتلك الآية.
(2)
. راجع ج 1 ص 331. [ ..... ]
(3)
. راجع ج 8 ص 32.
(4)
. راجع ج 8 ص 32.
(5)
. راجع ج 2 ص 133.
مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّ فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: الْكَمَالُ هُوَ التَّنَاهِي وَالتَّمَامُ، وَيُقَالُ فِي مَاضِيهِ" كَمُلَ" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا، وَيَكْمُلُ فِي مضارعة بالضم، وكمال كل شي بِحَسْبِهِ. وَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً. وَلَا شَكَ أَنَّ أَكْمَلَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ يَلِيهِمُ الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْكَمَالَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِهِ النُّبُوَّةَ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ عليها السلام وَآسِيَةُ نَبِيَّتَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَمَا أَوْحَى إِلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي بَيَانُهُ أَيْضًا فِي" مَرْيَمَ" «1». وَأَمَّا آسِيَةُ فَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهَا دِلَالَةً وَاضِحَةً بَلْ عَلَى صِدِّيقِيَّتِهَا وَفَضْلِهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" التَّحْرِيمِ" «2». وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ). وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ (. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ:) سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَرْيَمَ فَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ (. فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ حَوَّاءَ إِلَى آخِرِ امْرَأَةٍ تَقُومُ عَلَيْهَا السَّاعَةُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَلَّغَتْهَا الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ عز وجل بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِخْبَارِ وَالْبِشَارَةِ كَمَا بَلَّغَتْ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهِيَ إِذًا نَبِيَّةٌ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ النِّسَاءِ: الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُطْلَقًا. ثُمَّ بَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ. وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ مَرْيَمَ بِمَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ روج الْقُدُسِ كَلَّمَهَا وَظَهَرَ لَهَا وَنَفَخَ فِي دِرْعِهَا وَدَنَا مِنْهَا لِلنَّفْخَةِ، فَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النساء. وصدقت بكلمات
(1). راجع ج 11 ص 9.
(2)
. راجع ج 18 ص 203.