المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170] - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن - جـ ٤

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 2]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 3 الى 4]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 5]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 6]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 7]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 8]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 9]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 10]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 11]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 12]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 13]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 14]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 15]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 16 الى 17]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 18]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 19]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 20]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 23]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 24]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 25]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 26]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 27]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 28]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 29]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 30]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 31]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 32]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 33]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 34]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 35 الى 36]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 37 الى 38]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 39]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 40]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 41]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 42]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 43]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 44]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 47]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 48 الى 49]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 51]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 52]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 53]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 54]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 55]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 56 الى 58]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 60]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 61]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 62 الى 63]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 64]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 65]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 66]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 67]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 68]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 69]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 70]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 71]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 72]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 73]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 74]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 75]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 76]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 77]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 78]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 79]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 80]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 81]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 82]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 83 الى 84]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 85]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 86]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 89]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 90]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 91]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 92]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 94]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 95]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 96 الى 97]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 100]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 101]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 102]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 103]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 104]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 105]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 109]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 110]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 111]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 112 الى 115]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 116]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 117]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 118]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 119]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 120]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 121]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 122]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 123 الى 125]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 126 الى 127]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 128 الى 129]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 132]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 133]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 134]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 135]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 136]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 137]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 138]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 139]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 140]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 141]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 142]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 143]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 144]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 145]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 147]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 148]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 150]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 151]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 152]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 153]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 154]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 155]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 156]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 158]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 159]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 160]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 161]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 164]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 165]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 168]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 171]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 172]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 173]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 174]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 175]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 176]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 177]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 178]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 179]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 180]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 185]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 186]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 187]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 188]

- ‌[سورة آل عمران (3): آية 189]

- ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 200]

الفصل: ‌[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

فيه ثمان مسائل: الْأُولَى- لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا يُمَيِّزُ الْمُنَافِقَ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْحَيَاةُ عِنْدَهُ. وَالْآيَةُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكَلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ (- قَالَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً

) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَرَوَى بَقِيُّ «1» بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا جَابِرُ مالي أَرَاكَ مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا)؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ:(أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ عز وجل بِهِ أَبَاكَ)؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا «2» وَمَا كُلِّمَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبُّ فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ [إِلَيْهَا] «3» لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبُّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ"

(1). حافظ الأندلس ابن يزيد القرطبي.

(2)

. كفاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.

(3)

. زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة.

ص: 268

قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطْلَّبِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَأَوْا مَا رُزِقُوا مِنَ الْخَيْرِ قَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا أَصَابَنَا مِنَ الْخَيْرِ كَيْ يَزْدَادُوا فِي الْجِهَادِ رَغْبَةً، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- إِلَى قَوْلِهِ: لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ". وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ أُحُدٍ خَاصَّةً. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي «1» صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «2» وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ الشُّهَدَاءِ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ وَسُرُورٌ تَحَسَّرُوا وَقَالُوا: نَحْنُ فِي النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ حَالِ قَتْلَاهُمْ. قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ بِسَبَبِ الْمَجْمُوعِ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَنِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ فِي التُّرَابِ، وَأَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. فَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ مُحَقَّقَةٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ فِي قُبُورِهِمْ فَيُنَعَّمُونَ، كَمَا يَحْيَا الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهِمْ فَيُعَذَّبُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا. وَصَارَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّنَعُّمِ فِي الْجَنَّةِ. وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: مَا مَاتَ فُلَانٌ، أَيْ ذِكْرُهُ حَيٌّ، كَمَا قِيلَ:

مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فَنَاءَ لَهَا

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ

(1). كذا في أوح. وفى د: يقتضى هذا القول، وفى ب وج وهـ: يقضى بصحة إلخ.

(2)

. راجع سيرة ابن هشام ص 64 طبع أوربا.

ص: 269

فالمعنى أنهم يرزقون الشاء الْجَمِيلَ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ النَّقْلُ فَهُوَ الْوَاقِعُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَصٌّ يَرْفَعُ الْخِلَافَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ". وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ كم الشُّهَدَاءَ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُو الْحَالِ. وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ فِي الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فَبَعِيدٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" بَلْ أَحْياءٌ" دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ وَلَا يُرْزَقُ إِلَّا حَيٌّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَوَابُ غَزْوَةٍ، وَيُشْرَكُونَ فِي ثَوَابِ كُلِّ جِهَادٍ كَانَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُمْ سَنُّوا أَمْرَ الْجِهَادِ. نَظِيرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً"[المائدة: 32]«1» . عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَأَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى وُضُوءٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهِيدَ لَا يَبْلَى فِي الْقَبْرِ وَلَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي" التَّذْكِرَةِ" وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْمُؤَذِّنِينَ الْمُحْتَسِبِينَ وَحَمَلَةَ الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- إِذَا كَانَ الشَّهِيدُ حَيًّا حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَالْحَيِّ حِسًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غُسْلِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى غُسْلِ جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا قَتِيلَ الْمُعْتَرَكِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ خَاصَّةً، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ) يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا؟ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ ودَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَابْنُ عُلَيَّةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ: يُغَسَّلُونَ. قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْلِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بن الحسن العنبري، وليس

(1). راجع ج 6 ص 145.

ص: 270

مَا ذَكَرُوا مِنَ الشُّغْلِ عَنْ غُسْلِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ عِلَّةً، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ. وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي دِمَائِهِمْ (أَنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرِيحِ الْمِسْكِ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتِ الشُّغْلَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَدْخَلٌ فِي الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ اتِّبَاعٍ لِلْأَثَرِ الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّةُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ عليه السلام فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا يُشْبِهُ الشُّذُوذَ، وَالْقَوْلُ بِتَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ. قَالَ: وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. الثانية- وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ)؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَةً أَكْثَرُهَا مَرَاسِيلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ وَعَلَى سَائِرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ. والرابعة- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ إِذَا حُمِلَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَكِ وَعَاشَ وَأَكَلَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَرَ رضي الله عنه. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِجِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: كُلُّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ شَهِيدٍ، وَهُوَ قَوْلٌ سَائِرٌ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَرَوَوْا من طرق كثير صِحَاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا. وَثَبَتَ «1» عَنْ عَمَّارِ بْنِ ياسر أنه قال مثل قول زيد

(1). كذا في د وج وهـ وب. وفى أوح: روى.

ص: 271

ابن صُوحَانَ. وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلْهُ عَلِيٌّ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يُغَسَّلُ كَجَمِيعِ الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يُغَسَّلُ مَنْ قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مَقْتُولٍ غَيْرِ قَتِيلِ الْمُعْتَرَكِ- قَتِيلِ الْكُفَّارِ- فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنه. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ- لَا يُغَسَّلُ قَتِيلُ الْبُغَاةِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ، فَإِنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقْلِ الْكَافَّةِ. فَوَاجِبٌ غُسْلُ كُلِّ مَيِّتٍ إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَامِسَةُ- الْعَدُوُّ إِذَا صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ قَتِيلِ الْمُعْتَرَكِ، أَوْ حُكْمَ سَائِرِ الْمَوْتَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَزَلَتْ عِنْدَنَا بِقُرْطُبَةَ أَعَادَهَا الله: أغار العدوقصمه اللَّهُ- صَبِيحَةَ الثَّالِثِ مِنْ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةِ وَالنَّاسُ فِي أَجْرَانِهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ وَالِدِي رحمه الله، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا الْمُقْرِئَ الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفَ بِأَبِي «1» حِجَّةَ فقال، غسله وصلي عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَاكَ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. ثُمَّ سَأَلْتُ شَيْخَنَا رَبِيعَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَبِيعِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَكِ. ثُمَّ سَأَلْتُ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ قَطْرَالٍ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَفَعَلْتُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَفْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي" التَّبْصِرَةِ" لِأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا غَسَّلْتُهُ، وَكُنْتُ دَفَنْتُهُ بِدَمِهِ فِي ثِيَابِهِ. السَّادِسَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ ثَوَابِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ فِيهِ حَتَّى إِنَّهُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:(الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ الله يكفر كل شي إِلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام آنِفًا). قَالَ عُلَمَاؤُنَا ذِكْرُ الدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَمِ، كَالْغَصْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّبِعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَرَ بِالْجِهَادِ مِنَ الدَّيْنِ فإنه أشد، والقصاص في هذا

(1). في ج:" بابن حجة".

ص: 272

كُلِّهِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ- أَوْ قَالَ النَّاسَ، شَكَّ هَمَّامٌ «1»، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ- عُرَاةً غُرْلًا «2» بُهْمًا. قُلْنَا: مَا بُهْمٌ؟ «3» قَالَ: لَيْسَ معهم شي فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ. قَالَ قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا؟. قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (. أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ «4». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:) أَتَدْرُونَ مَنَ الْمُفْلِسُ (؟. قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ:) إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خطاياه فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ (. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:) وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ (. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:) نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ (. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: سُئِلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ حِينِ الْقَتْلِ، وَلَا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، وَلَا يَكُونُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَأَيْنَ يَكُونُونَ؟ قُلْنَا: قَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ بَارِقٌ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهَؤُلَاءِ طَبَقَاتٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُهَا أَنَّهُمْ" يُرْزَقُونَ". وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ فِي سُنَنِهِ عن

(1). هو همام بن يحيى، أحد رجال سند هذا الحديث.

(2)

. الغرل (بضم فسكون): جمع الأغرل، وهو الأقلف.

(3)

. في ط وهـ وب: ما بهما؟.

(4)

. في ج: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد.

ص: 273

سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيِ «1» الْبَرِّ وَالْمَائِدُ «2» فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ «3» فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ إِلَّا شُهَدَاءَ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الدَّيْنَ وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ (. السَّابِعَةُ- الدَّيْنُ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ صَاحِبُهُ عَنِ الْجَنَّةِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً وَلَمْ يُوصِ بِهِ. أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ، أَوِ ادَّانَهُ فِي سَرَفٍ أَوْ فِي سَفَهٍ وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ. وَأَمَّا مَنِ ادَّانَ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِفَاقَةٍ وَعُسْرٍ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْبِسُهُ عَنِ الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ دَيْنَهُ، إِمَّا مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، أَوْ مِنَ الْفَيْءِ الرَّاجِعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا «4» فَعَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ). وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَابَ بَيَانًا فِي كتاب (التذكرة) والحمد لله. الثانية- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. وَ" عِنْدَ" هُنَا تَقْتَضِي غَايَةَ الْقُرْبِ، فَهِيَ كَ (- لَدَى) وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّرْ فَيُقَالُ! عُنَيدَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ. فَهَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ لَا عِنْدِيَّةُ الْمَسَافَةِ وَالْقُرْبِ. وَ" يُرْزَقُونَ" هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَيَاةُ الذِّكْرِ قَالَ: يُرْزَقُونَ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ. وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تُدْرِكُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَسْرَحُونَ فيها من روائح الجنة وطيبها ونعبمها وَسُرُورِهَا مَا يَلِيقُ بِالْأَرْوَاحِ، مِمَّا تُرْتَزَقُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ. وَأَمَّا اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَإِذَا أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا اسْتَوْفَتْ مِنَ النَّعِيمِ جَمِيعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ، فَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا اخْتَرْنَاهُ. وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ. وَ (فَرِحِينَ) نصب في موضع الحال

(1). قال في شرح الجامع: بلفظ التثنية. [ ..... ]

(2)

. المائد: الذي تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة بالأمواج.

(3)

. تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ.

(4)

. الضياع: (بفتح أوله): العيال.

ص: 274