الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة آل عمران (3): الآيات 37 الى 38]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الْمَعْنَى: سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامُ بِشَأْنِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ أَنَّهُ مَا عَذَّبَهَا سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) يَعْنِي سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَكَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَالْقَبُولُ وَالنَّبَاتُ مَصْدَرَانِ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ، وَالْأَصْلُ تَقَبُّلًا وَإِنْبَاتًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي
…
وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ، لَكِنْ لَمَّا قَالَ" أَنْبَتَها" دَلَّ عَلَى نَبَتَ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَصِرْنَا إِلَى الْحُسْنَى وَرَقَّ كَلَامُنَا
…
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إِذْلَالِ
وَإِنَّمَا مَصْدَرُ ذَلَّتْ ذُلٌّ، وَلَكِنَّهُ رَدَّهُ عَلَى مَعْنَى أَذْلَلَتْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْبَابِ. فَمَعْنَى تَقَبَّلَ وَقَبِلَ وَاحِدٌ، فَالْمَعْنَى فَقَبِلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ «1»
[الْأَفْعَى]«2» لِأَنَّ مَعْنًى تَطَوَّيْتُ وَانْطَوَيْتُ وَاحِدٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَطَامِيِّ:
وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ
…
وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعًا
لِأَنَّ تَتَبَّعْتُ وَاتَّبَعْتُ وَاحِدٌ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" وَأَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِيلًا"«3» لِأَنَّ مَعْنًى نَزَّلَ وَأَنْزَلَ وَاحِدٌ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: مَعْنَاهُ وَأَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حسنا. ومراعاة المعنى أولى
(1). الحضب (بفتح الحاء وكسرها وسكون الضاد).
(2)
. الزيادة في نسخ: ج، ب، د.
(3)
. راجع ج 13 ص 24.
كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْأَصْلُ فِي الْقَبُولِ الضَّمُّ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَالْفَتْحُ جَاءَ فِي حُرُوفٍ قَلِيلَةٍ، مِثْلِ الْوَلُوعِ وَالْوَزُوعِ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لا غير، قال أبو عمرو الكسائي وَالْأَئِمَّةُ. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ" بِقُبُولٍ" بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى الأصل. قوله تعالى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي صمها إِلَيْهِ. أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" وَكَفَّلَها" بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ وَكَفَّلَهَا رَبُّهَا زَكَرِيَّا، أَيْ أَلْزَمَهُ كَفَالَتَهَا وَقَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَسَّرَهُ لَهُ. وَفِي مُصْحَفِ أبي" وَكَفَّلَها" وَالْهَمْزَةُ كَالتَّشْدِيدِ فِي التَّعَدِّي، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَبْلَهُ" فَتَقَبَّلَها"،" وَأَنْبَتَها" فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فَعَلَ بِهَا، فَجَاءَ" كَفَّلَها" بِالتَّشْدِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وَخَفَّفَهُ الْبَاقُونَ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى زَكَرِيَّا. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى كَفَالَتَهَا وَالْقِيَامَ بها، بدلالة قوله:" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ"[آل عمران: 44]. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ يَرْجِعُ إِلَى التَّخْفِيفِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كَفَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ زَكَرِيَّا إِذَا كَفَلَهَا فَعَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، فَعَلَى ذَلِكَ فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَدَاخِلَتَانِ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ" وَكَفِلَهَا" بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ كَفَلَ يَكْفُلُ وَكَفِلَ يَكْفِلُ وَلَمْ أَسْمَعْ كَفُلَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ" فَتَقَبَّلْهَا" بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ." رَبَّهَا" بِالنَّصْبِ نِدَاءٌ مُضَافٌ." وَأَنْبَتْهَا" بِإِسْكَانِ التَّاءِ" وَكَفَّلْهَا" بِإِسْكَانِ اللَّامِ" زَكَرِيَّاءَ" بِالْمَدِّ وَالنَّصْبِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" زَكَرِيَّا" بغير مد ولا همز، وَمَدَّهُ الْبَاقُونَ وَهَمَزُوهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يمدون" ز كرياء" وَيَقْصُرُونَهُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَحْذِفُونَ مِنْهُ الْأَلِفَ وَيَصْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ: زَكَرِيُّ. قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: الْمَدُّ وَالْقَصْرُ، وَزَكَرِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَالصَّرْفِ، وَزَكَرٍ وَرَأَيْتُ زَكَرِيَّا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: زَكَرِيَّ بِلَا صَرْفٍ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ" يَا" مِثْلَ هَذَا انْصَرَفَ مِثْلَ كُرْسِيٍّ وَيَحْيَى، وَلَمْ يَنْصَرِفْ زَكَرِيَّاءُ فِي الْمَدِّ وَالْقَصْرِ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ تَأْنِيثٍ وَالْعُجْمَةَ وَالتَّعْرِيفَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) الْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ"«1» . وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي غُرْفَةٍ كَانَ زَكَرِيَّا يَصْعَدُ إِلَيْهَا بِسُلَّمٍ. قَالَ وَضَّاحُ الْيَمَنِ «2» :
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا
…
لَمْ أَلْقَهَا حَتَّى أَرْتَقِي سُلَّمًا
أَيْ رَبَّةُ غُرْفَةٍ. رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَمَلَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ بعد ما أَسَنَّتْ فَنَذَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرًا فَقَالَ لَهَا عِمْرَانُ: وَيْحَكِ! مَا صَنَعْتِ؟ أَرَأَيْتِ إِنْ كَانَتْ أُنْثَى؟ فَاغْتَمَّا لِذَلِكَ جَمِيعًا. فَهَلَكَ عِمْرَانُ وَحَنَّةُ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ أُنْثَى فَتَقَبَّلَهَا اللَّهُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَكَانَ لَا يُحَرَّرُ إِلَّا الْغِلْمَانُ فَتَسَاهَمَ عَلَيْهَا الْأَحْبَارُ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا الْوَحْيَ، عَلَى مَا يَأْتِي. فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا وَأَخَذَ لَهَا مَوْضِعًا فَلَمَّا أَسَنَّتْ جَعَلَ لَهَا مِحْرَابًا لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ إِلَّا بِسُلَّمٍ، وَاسْتَأْجَرَ لَهَا ظِئْرًا وَكَانَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا بَابًا، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا زَكَرِيَّا حَتَّى كَبِرَتْ، فَكَانَتْ إِذَا حَاضَتْ أَخْرَجَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَتَكُونُ عِنْدَ خَالَتِهَا وَكَانَتْ خَالَتُهَا امْرَأَةَ زَكَرِيَّا فِي قَوْلِ الْكَلْبِيِّ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ أُخْتُهَا امْرَأَةَ زَكَرِيَّا. وَكَانَتْ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا وَاغْتَسَلَتْ رَدَّهَا إِلَى الْمِحْرَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ لَا تَحِيضُ وَكَانَتْ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ. وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الْقَيْظِ وَفَاكِهَةَ الْقَيْظِ فِي الشِّتَاءِ فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي الْوَلَدِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِيهَا بِهَذَا قَادِرٌ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا. وَمَعْنَى" أَنَّى" مِنْ أَيْنَ، قَالَهُ أبو عبيدة. قال النحاس: وهذا
(1). راجع ج 11 ص 84.
(2)
. في الأصول:" قال عدى بن زيد" والتصويب عن الأغاني ولسان العرب وشرح القاموس. وهذا البيت من قصيدة لوضاح اليمن أولها:
يا ابنة الواحد جودي فما
…
إن تصرمينى فبما أو لما
وفي د: لم أدن. مراجع ترجمته في الأغاني ج 6 ص 240 - 209 طبع دار الكتب المصرية
فِيهِ تَسَاهُلٌ، لِأَنَّ" أَيْنَ" سُؤَالٌ عَنِ الْمَوَاضِعِ وَ" أَنَّى" سُؤَالٌ عَنِ الْمَذَاهِبِ وَالْجِهَاتِ. وَالْمَعْنَى مِنْ أَيِّ الْمَذَاهِبِ وَمِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ لَكِ هَذَا. وَقَدْ فَرَّقَ الْكُمَيْتُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ:
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَكَ الطَّرَبُ
…
مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةُ وَلَا رِيَبُ.
وَ" كُلَّما" مَنْصُوبٌ بِ" وَجَدَ"، أَيْ كُلَّ دَخْلَةٍ. (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ مَرْيَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ دُعَاءِ زَكَرِيَّا وَسُؤَالِهِ الْوَلَدَ. الثَّانِيَةُ- قوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) هُنَالِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَأَصْلُهُ لِلْمَكَانِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ:" هُنالِكَ" فِي الزَّمَانِ وَ" هُنَاكَ" فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ يُجْعَلُ هَذَا مَكَانَ هَذَا. (هَبْ لِي) أَعْطِنِي. (مِنْ لَدُنْكَ) مِنْ عِنْدِكَ. (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أَيْ نَسْلًا صَالِحًا. وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدَةً وَتَكُونُ جَمْعًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهُوَ هُنَا وَاحِدٌ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ." فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" [مريم: 5] «1» وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاءَ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ" طَيِّبَةً" لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ، كَقَوْلِهِ:
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى
…
وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
فَأَنَّثَ وَلَدَتْهُ لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْخَلِيفَةِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ رَجُلٍ مَاتَ وترك ذرية طيبة أجرى الله مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِمْ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا). وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" اشْتِقَاقُ الذُّرِّيَّةِ «2» . (طَيِّبَةً) أَيْ صَالِحَةً مُبَارَكَةً. (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أَيْ قَابِلُهُ، وَمِنْهُ «3»: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. الثَّالِثَةُ- دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ، وَهِيَ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً"[الرعد: 38]«4» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَرَادَ عُثْمَانُ أَنْ يَتَبَتَّلَ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مكاثر بكم الأمم ومن كان
(1). راجع ج 11 ص 77.
(2)
. راجع المسألة التاسعة عشرة ج 2 ص 107.
(3)
. في ب: ومنه قوله.
(4)
. راجع ج 9 ص 327.
ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ «1» . وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى بَعْضِ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ حَيْثُ قَالَ: الَّذِي يَطْلُبُ الْوَلَدَ أَحْمَقُ، وَمَا عَرَفَ أَنَّهُ [هُوَ]«2» الْغَبِيُّ الْأَخْرَقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ:" وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ"[الشعراء: 84] وَقَالَ:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ «3» أَعْيُنٍ"[الفرقان: 74]. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا" بَابَ طَلَبِ الْوَلَدِ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ حِينَ مَاتَ ابْنُهُ: (أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا). قَالَ فَحَمَلَتْ. فِي الْبُخَارِيِّ: قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلَّهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ. وَتَرْجَمَ أَيْضًا" بَابَ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْوَلَدِ مَعَ الْبَرَكَةِ" وَسَاقَ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ له. فقال:(اللهم أكثر مال وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالْأَخْبَارُ في هذا المعنى كثيرة تحت عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ وَتَنْدُبُ إِلَيْهِ، لِمَا يَرْجُوهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْعِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم:(إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ) فَذَكَرَ (أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ. الرَّابِعَةُ- فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَى خَالِقِهِ فِي هِدَايَةِ وَلَدِهِ وَزَوْجِهِ بِالتَّوْفِيقِ لَهُمَا وَالْهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ وَالرِّعَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَا مُعِينِينَ لَهُ عَلَى دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَتَّى تَعْظُمَ مَنْفَعَتُهُ بِهِمَا فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ، أَلَا تَرَى قَوْلَ زَكَرِيَّا:" وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا"[مريم: 4]«4» وَقَالَ:" ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً". وَقَالَ:" هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ"[الفرقان: 74]. وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَسٍ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ). خرجه البخاري ومسلم، وحسبك.
(1). الوجاء: أن ترض عروق أنثيا الفحل رضا يذهب شهوة النكاح وهو شبيه بالخصاء. أراد أن الصوم يقطع شهوة النكاح كما يقطعها الوجاء.
(2)
. كذا في ب، ود.
(3)
. راجع ج 13 ص 112 وص 82.
(4)
. راجع ج 11 ص 81. [ ..... ]