الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) يُقَالُ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَنْ «1» يُؤْمِنُ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ" فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" يَعْنِي لَا تَشْتَغِلُوا بِمَا لَا يَعْنِيكُمْ، وَاشْتَغِلُوا بِمَا يَعْنِيكُمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ. (فَآمِنُوا) أَيْ صَدِّقُوا، أَيْ عَلَيْكُمُ التَّصْدِيقُ لَا التَّشَوُّفُ إِلَى اطِّلَاعِ الْغَيْبِ. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَيِ الْجَنَّةُ. وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ مُنَجِّمًا، فَأَخَذَ الْحَجَّاجُ حَصَيَاتٍ بِيَدِهِ قَدْ عَرَفَ عَدَدَهَا فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ: كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ فَأَصَابَ الْمُنَجِّمُ. فَأَغْفَلَهُ الْحَجَّاجُ وَأَخَذَ حَصَيَاتٍ لَمْ يَعُدْهُنَّ فَقَالَ لِلْمُنَجِّمِ: كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ فَأَخْطَأَ، ثُمَّ حَسَبَ أَيْضًا فَأَخْطَأَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَظُنُّكَ لَا تَعْرِفُ عَدَدَ مَا فِي يَدِكَ؟ قَالَ لَا: قَالَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ أَحْصَيْتَهُ فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْغَيْبِ، فَحَسَبْتُ فَأَصَبْتُ، وَإِنَّ هَذَا لَمْ تَعْرِفْ عَدَدَهَا فَصَارَ غَيْبًا، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي هَذَا الْبَابِ فِي" الْأَنْعَامِ"«2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[سورة آل عمران (3): آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ)" الَّذِينَ"«3» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى الْبُخْلُ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَى الْبُخْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَنْ صدق كان خيرا له. أي كان الصِّدْقُ خَيْرًا لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ
…
وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
فَالْمَعْنَى: جَرَى: إِلَى السَّفَهِ، فَالسَّفِيهُ دَلَّ عَلَى السَّفَهِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ فَبَعِيدَةٌ جِدًّا، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَجَوَازُهَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خيرا لهم. قال
(1). في ط وج وهـ: أيهم. [ ..... ]
(2)
. راجع ج 7 ص 1 فما بعد.
(3)
. في ط وج.
الزجاج: وهي مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ". وَ" هُوَ" فِي قَوْلِهِ" هُوَ خَيْراً لَهُمْ" فَاصِلَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَهِيَ الْعِمَادُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ" هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيِ الْبُخْلُ شَرٌّ لَهُمْ. وَالسِّينُ فِي" سَيُطَوَّقُونَ" سِينُ الْوَعِيدِ، أَيْ سَوْفَ يُطَوَّقُونَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ:" وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ"[التوبة: 34] الْآيَةَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالشَّعْبِيُّ قَالُوا: وَمَعْنَى (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ) هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا «1» أَقْرَعَ «2» لَهُ زَبِيبَتَانِ «3» يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ «4» ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ- ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ-" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ «5». وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ حَتَّى يُطَوَّقَ بِهِ فِي عُنُقِهِ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" الْآيَةَ. وَجَاءَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ «6» حَتَّى يُطَوِّقَهُ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَبُخْلِهِمْ بِبَيَانِ مَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمَعْنَى" سَيُطَوَّقُونَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ، فَهُوَ مِنَ الطَّاقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ"
(1). الشجاع (بالضم): الحية الذكر، أو الذي يقوم على ذنبه ويواثب الراجل والفارس.
(2)
. الأقرع: هو الذي تمرط جلد رأسه، لكثرة سمه وطول عمره.
(3)
. الزبيتان: النكتنان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما زيدتان في شدقي الحية.
(4)
. اللهزمتان: شدقاه. وقيل:: هما عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.
(5)
. هذه رواية البخاري عن أبى هريرة ولفظه. أما ما خرجه النسائي فبلفظ آخر عن ابن مسعود. راجع صحيح البخاري وسنن النسائي في باب الزكاة.
(6)
. تلظت الحية: أخرجت لسانها كتلمظ الأكل.
[البقرة: 184] وَلَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْنَى" سَيُطَوَّقُونَ" سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنَ النَّارِ. وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ [أَيْ]«1» قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَقِيلَ: يُلْزَمُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَلْزَمُ الطَّوْقُ الْعُنُقَ، يُقَالُ: طُوِّقَ فُلَانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الْحَمَامَةِ، أَيْ أُلْزِمَ عَمَلَهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ"[الاسراء: 13]«2» . ومن هذا المعنى قول عبد الله ابن جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارَ «3» ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا
…
تقتضي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاللَّهِ رَبِّ
…
النَّاسِ مُجْتَهِدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا
…
طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
وَهَذَا يَجْرِي مَعَ التَّأْوِيلِ الثَّانِي. والبخل والبخل في اللغة أن يمنع الانسال الحق الواجب عليه؟؟. فأما من منع مالا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ، لِأَنَّهُ لَا يُذَمُّ بِذَلِكَ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: يَبْخُلُونَ وَقَدْ بَخُلُوا. وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: بَخِلُوا يَبْخَلُونَ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَبَخِلَ يَبْخَلُ بُخْلًا وَبَخَلًا، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ. الثَّالِثَةُ- فِي ثَمَرَةِ الْبُخْلِ وَفَائِدَتِهِ. وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَنْصَارِ:(مَنْ سَيِّدُكُمْ؟) قَالُوا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى «4» مِنَ الْبُخْلِ) قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُولَ الْأَضْيَافِ بِهِمْ فَقَالُوا: لِيَبْعُدِ الرِّجَالُ مِنَّا عَنِ النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إِلَى الْأَضْيَافِ ببعد النساء، وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ" أَدَبِ الدُّنْيَا والدين". والله أعلم.
(1). زيادة يقتضيها المقام.
(2)
. راجع ج 10 ص 229.
(3)
. لما هاجر بنو جحش من مكة إلى المدينة تركوا دورهم هجرة مغلقة، ليس فيها ساكن، فباعها أبو سفيان من عمرو بن علقمة. فقال عبد الله لابي سفيان هذه الا بيان بعد فتح مكة. (راجع سيرة ابن هشام ص 339 طبع أوربا).
(4)
. أي أي عيب أقبح منه.
الرَّابِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، هَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ. فَقِيلَ: الْبُخْلُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إِخْرَاجِ مَا حَصَلَ عِنْدَكَ. وَالشُّحُّ: الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ). وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبُخْلَ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحَّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ. إِذْ لَوْ كَانَ الشُّحُّ مَنْعَ الْمُسْتَحَبِّ لَمَا دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، وَالذَّمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «1» . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخِرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَدًا (. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّحَّ أَشَدُّ فِي الذَّمِّ مِنَ الْبُخْلِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاتِهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ- وَقَدْ سُئِلَ، أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: (لَا) وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ" أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَنْصَارِ: (مَنْ سَيِّدُكُمْ) قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَخْبَرَ تَعَالَى بِبَقَائِهِ وَدَوَامِ مُلْكِهِ. وَأَنَّهُ فِي الْأَبَدِ كَهُوَ فِي الْأَزَلِ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، فَيَرِثُ الْأَرْضَ بَعْدَ فِنَاءِ خَلْقِهِ وَزَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ، فَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ وَالْأَمْوَالُ لَا مُدَّعَى فِيهَا. فَجَرَى هَذَا مَجْرَى الْوِرَاثَةِ فِي عَادَةِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمِيرَاثٍ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ «2» فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي يَرِثُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ مِنْ قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض وما بينهما، وكانت السموات وَمَا فِيهَا، وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهَا لَهُ، وَإِنَّ الْأَمْوَالَ كَانَتْ عَارِيَةً عِنْدَ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا مَاتُوا رُدَّتِ الْعَارِيَةُ إِلَى صَاحِبِهَا الَّذِي كَانَتْ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها"[مريم: 40]«3» الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يُنْفِقُوا وَلَا يَبْخَلُوا قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا وَيَتْرُكُوا ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلَّهِ تَعَالَى، ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا.
(1). في ج: هلاك الدنيا والأخرى والدين.
(2)
. في الأصول: الميراث. والصواب ما ذكر. [ ..... ]
(3)
. راجع ج 11 ص 105.