الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: حكم الغيبة
لاشك ولا ريب أن الغيبة محرمة بإجماع المسلمين، وقد تظاهر على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة)) (1).
المبحث الرابع: الترهيب من الوقوع في الغيبة
قال الله تعالى: {لَاّ يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا} (2).
وقال سبحانه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (4).
وقال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (5).
وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (6).
(1) انظر: الأذكار النووية، 289.
(2)
سورة النساء، الآية:148.
(3)
سورة الحجرات، الآية:12.
(4)
سورة الهمزة، الآية:1.
(5)
سورة ق، الآية:18.
(6)
سورة الإسراء، الآية:36.
والغيبة: آفة خطيرة من آفات اللسان، ولقد عرَّفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) (1).
وعن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال: ((لقد قُلْتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته))، قالت: وحكيت له إنساناً، فقال:((ما أحب أني حكيت إنساناً، وأنّ لي كذا وكذا)) (2).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) (3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله،
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم 2589، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 142.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في الغيبة، برقم 4875، وانظر: عون المعبود، 13/ 223، وصحيح الجامع، 5/ 31.
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الآداب، باب في الغيبة، برقم 4878، وانظر: عون المعبود، 13/ 223، قال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تعليقه على الأذكار للنووي، ص29:((وهو حديث حسن)). وانظر: صحيح الجامع، 5/ 51.
ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا))، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)) (2).
ولا شك أن غيبة المسلم الميت أفحش من غيبة الحي وأشد؛ لأن عفو الحي واستحلاله ممكن بخلاف الميت (3)، فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه)) (4).
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته)) (5).
والحديث فيه تنبيه على أن غِيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن، وفيه
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، برقم 2564، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4882، والترمذي واللفظ له، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، برقم 1927، وقال:((هذا حديث حسن غريب)).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، برقم 2564،والترمذي 4/ 325.
(3)
انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 242.
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن سب الموتى، برقم 4899، وانظر: صحيح الجامع، 1/ 279 وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 285.
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4880، وأحمد، 4/ 421، 424، وانظر: صحيح الجامع للأ لباني، 6/ 308، برقم 3549.
الوعيد بكشف الله عيوب الذين يتبعون عورات المسلمين، ومجازاتهم بسوء صنيعهم، وكشف مساويهم ولو كانوا في بيوتهم مخفيين من الناس (1)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة)) (2).
وهذا الحديث فيه الوعيد لمن أكل أكلةً برجل مسلم: أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه، أو كُسِيَ ثوباً بسبب إهانته. فإن الله عز وجل يطعمه من جهنم مثل ما طعم بهذا الرجل المسلم، ويكسوه من جهنم مثل ما كُسِيَ؛ لأن الجزاء من جنس العمل (3).والله أعلم.
ومعنى ((من قام برجل مسلم
…
)) ذكروا له معنيين:
المعنى الأول: أن الباء للتعدية، أي أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، ووصفه بالصلاح، والتقوى، والكرامات، وشهره بها وجعله وسيلة إلى تحصيل أغراض نفسه وحطام الدنيا، فإن الله يقوم بعذابه وتشهيره، لأنه كان كاذباً.
(1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 224.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4881،وأحمد،4/ 229،والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 4/ 128، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 643، برقم 934.
(3)
انظر: عون المعبود، 13/ 225.
والمعنى الثاني: أن الباء للسببية، وقيل: هو أقوى وأنسب أي من قام برجلٍ من العظماء من أهل المال والجاه مقاماً يتظاهر فيه بالصلاح والتقوى؛ ليعتقد فيه، ويصير إليه المال والجاه، أقامه الله مقام المرائين، ويفضحه ويعذبه عذاب المرائين (1).
وقد يحتمل أن تكون الباء في ((برجل)) للتعدية والسببية، فإن كانت للتعدية يكون معناه: من أقام رجلاً مقام سمعة ورياء، يعني: من أظهر رجلاً بالصلاح والتقوى، ليعتقد الناس فيه اعتقاداً حسناً، ويُعِزُّونه ويخدمونه؛ لينال بسببه المال والجاه، فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء بأن يأمر ملائكته بأن يفعلوا معه مثل فعله، ويظهروا أنه كذاب.
وإن كانت للسببية فمعناه: أن من قام وأظهر من نفسه الصلاح والتقوى لأجل أن يعتقد فيه رجلٌ عظيم القدر كثير المال؛ ليحصل له مال وجاه .. )) (2).
وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: شهدتُ الأعرابَ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ [لأشياء ليس بها بأس]، فقال لهم: ((عباد الله وضع الله الحرج، إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذلك الذي حرج وهلك
…
)) (3).
(1) انظر: عون المعبود، 13/ 225.
(2)
المرجع السابق، 13/ 226.
(3)
أخرجه أحمد بنحوه، 4/ 278، والحاكم بلفظه، 4/ 199، و4/ 499، وصححه ووافقه الذهبي. وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الطب، باب الأمر بالدواء، برقم 7512، وأبو داود، كتاب المناسك، باب فيمن قدّم شيئاً قبل شيء في حجه، برقم 2015، والحديث صححه العلامة الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 252، وصحيح الجامع، 6/ 294.
ومعنى: اقترض: أي اقتطع. والمراد أنه نال من أخيه المسلم بالطعن فيه.
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)) (1).
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أربى الربا إطالة اللسان في عرض المسلم باحتقاره، والترفع عليه، والوقيعة فيه بقذف، أو سب، ونحو ذلك، فإن ذلك أكثر الربا، وأشده تحريماً؛ لأن العرض أعز على النفس من المال.
وقد أدخل صلى الله عليه وسلم العرض في جنس المال على سبيل المبالغة، وجعل الربا نوعين:
متعارف: وهو ما يؤخذ من الزيادة على ماله من المديون.
وغير متعارف: وهو استطالة الإنسان في عرض المسلم بغير حقّ، وبيَّن أنّ أشد النوعين تحريماً هو الاستطالة في عرض المسلم بغير حق (2). أما إذا كانت الاستطالة بحق فيجوز لصاحب الحق بشروط وبقيود بيّنها أهل العلم، وسيأتي بيان ما تجوز فيه الغيبة إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الحافظ أبي يعلى وغيره قصة ماعز الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يُطهِّره من الزنا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال:((زنيتَ))؟ قال:
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم 4876، وأحمد، 1/ 190، وانظر: صحيح الجامع، 2/ 442.
(2)
انظر: عون المعبود، 13/ 222.
نعم. ثم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ثبت عنده زنا ماعز فأمر برجمه فرُجم. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم ترَ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعْه نفسُه حتى رُجِمَ رَجمَ الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: ((أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)) قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يُؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم:((فما نلتما من أخيكما آنفاً أشدُّ أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) (1).
وعن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سمّع سمَّع الله به يوم القيامة))، قال:((ومن شاقّ شقّ الله عليه يوم القيامة))، فقالوا: أوصنا، فقال:((إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل، ومن استطاع أن لا يُحال بينه وبين الجنة بملء كفٍّ من دم هراقه فليفعل)) (2).
والمراد بالحديث النهي عن القول القبيح في المؤمنين، وكشف مساويهم وعيوبهم، وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم، والنهي عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم (3).
وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اللهم من وَلِيَ من
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، برقم 4428، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الرجم، باب ذكر استقصاء الإمام على المعترف عنده بالزنا
…
، برقم 7126، والبيهقي، 8/ 227، وذكره بلفظه ابن كثير في تفسيره، 4/ 216، وقال:((إسناده صحيح))، وعزاه إلى أبي يعلى.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب من شاق شق الله عليه، برقم 7152.
(3)
فتح الباري، لابن حجر، 13/ 130.