المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الشهود وأنواع الشهادات - توضيح الأحكام شرح تحفة الحكام - جـ ١

[عثمان بن المكي التوزري]

الفصل: ‌باب الشهود وأنواع الشهادات

‌باب الشهود وأنواع الشهادات

وما يتعلق بذلك

أي هذا باب في بيان من يقبل من الشهود ومن لا يقبل منهم وبيان ما يقبل من أنواع الشهادات الخمسة وما لا يقبل وبيان ما يتعلق بذلك من تعارض البينات وعقلة المدعى فيه وكيفية العقلة. والشهود جمع شاهد من الشهادة. وهي في اللغة الإخبار بما قد شوهد قاله في المصباح. وقال ابن العربي وغيره وردت الشهادة بأنواع مختلفة (منها) قول الله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} قيل معناه احضروا. ومنها قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو} أي قضى. ومنها شهد بمعنى أقر كقوله والملائكة يشهدون وقوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} وقول الشاعر

ومليحة شهدت لها ضراتها

والفضل ما شهدت به الأعداء

ومنها شهد بمعنى حكم قال الله تعالى {وشهد شاهد من أهلها أن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} الآية وفي هاته الآية الشريفة دليل جواز الحكم بالعرف والعادة وقرائن الأحوال وهو الشاهد العرفي الآتي ذكره عند قوله الناظم.

وها هنا عن شهادته قد يغني

إرخاء ستر واحتياز رهن. البيت.

ومنها شهد بمعنى حلف كما جاء في اللعان. ومنها شهد بمعنى عام كما قال الله تعالى {ولا تكتم شهادة الله} أي علم الله. ومنها شهد بمعنى حضر للتحمل كقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} وقيل معناه وصى. وفي الشرع قال ابن فرحون أخبار يتعلق بمعين وبقيد التعيين تفارق الرواية انتهى. وقال الإمام ابن عرفة الشهادة قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه أن عدل قائله مع تعدد أو حلف طالبه (فقول) الشيخ رحمه الله تعالى

ص: 64

قول جنس أعم من الكلام والكلمة والكلم والخبر أخص منه لأنه أخص من الكلام الذي هو أعم من الخبر. وقوله هو بحيث جملة إسمية صفة لقول وإنما عبر بذلك وأتى بالحيثية ليدخل فيه الشهادة قبل الأداء والشهادة غير التامة. وقوله يوجب على الحاكم يخرج به الرواية والخبر القسيم للشهادة ولم يقل القاضي لأن الحاكم أعم من القاضي لوجوده في المحكم والأمير وشبه ذلك. وقوله أن عدل قائله شرط في إيجاب الحكم والجملة حال أخرج به مجهول الحال. وقوله مع تعدده اخرج به إخبار القاضي بما ثبت عنده قاضيًا آخر فإنه يوجب عليه الحكم بمقتضاه لكن لا يشترط فيه تعدد أو حلف فلو زاد أو ما يقوم مقامه أي مقام القول لشمل التعريف بالشهادة بالخط وشهادة الإيماء كالأخرس ونحوهما كذا في الرصاع (والأصل) في مشروعيتها الكتاب قال الله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} . وقال تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} . وقال تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون} . وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية} الآية. والسنة قال عليه الصلاة والسلام شاهداك أو يمينه وقال أنتم شهداء الله في أرضه فمن أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار وقال لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار لنفسه إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث (وحكمة) مشروعيتها لطف الله سبحانه وتعالى بعباده لصيانة الحقوق من أنساب وأديان وأعراض وأموال وأبدان فهي من الضروريات الحاجية كالإمامة الكبرى وما يتفرع عنها من القضاء ونحوه والشهادة منصبها عظيم وخطرها جسيم خصوصًا في هذا الزمان فإن كثيرًا ممن يتعاطاها لا يتحاشى عن الأمر الذميم الذي يكون سببًا في عذابه الأليم (وحكمها) له حالتان حالة تحمل وحالة آداء فأما التحمل وهو أن يدعى الشاهد ليشهد ويستحفظ الشهادة كالمنتصبين لها فإنها فرض كفاية يحمله بعض الناس عن

ص: 65

بعض إذا وجد وإلا تعين. وأما الأداء وهو أن يدعى ليشهد بما في علمه فإن ذلك واجب لقول الله تعالى {ولا تكتموا الشهادة} . وقوله تعالى {وأقيموا الشهادة لله} . ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا. ويتوقف أداؤها على الاستدعاء إذا كان المشهود به حقًا لغير الله على خلاف فيه أما إذا كان حقًا لله تعالى فإنه يجب عليه أن يبادر بأدائها عند الحاكم بدون استدعاء اتفاقًا إذا كان مما يستدام تحريمه كحبس وطلاق ورضاع والعفو عن القصاص بقدر الإمكان فإن أمكنه الآداء ولم يبادر فسق وسقطت شهادته. ولكل واحد من شاهدي الآداء والتحمل شروط بحيث لا تقبل شهادته إلا بها (فشاهد) الأداء يشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا حرًا مسلمًا عدلًا متيقضًا بحيث لا تتمشى عليه الحيل وإليها أشار الناظم بقوله

(وشاهد صفته المرعية

عدالة تيقض حرية)

إذ لا يخفى أن العدالة تستلزم الإسلام والعقل والبلوغ استلزامًا اصطلاحيًا (فالعدالة) عرفها ابن الحاجب بقوله صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة وما يشينه عرفًا ومعصية غير قليل الصغائر فقوله صفة مظنة أي صفة ذات مظنة. وقوله لمنع موصوفها متعلق بالمظنة ومنع مضاف وموصوفها مضاف إليه. والبدعة معلومة شرعًا وهو الأمر المحدث منصوب على أنه مفعول بالمصدر الذي هو المنع. وقوله عرفًا منصوب على إسقاط الخافض أي في العرف أشار به إلى السلامة من ترك المروءة كالأكل في السوق إلى غير ذلك أخرج به ما لا يشينه في عرفه والعرف في ذلك يختلف بحسب البقاع والمكان والحال والزمان. وقوله ومعصية بالنصب عطف على البدعة والمعصية تشمل الكبائر والصغائر. وقوله غير قليل الصغائر بالنصب على الاستثناء والمستثنى منه معصية أخرج به القليل من الصغائر فإنه غير ضار في العدالة إلا إذا كانت صغيرة خسة فإنها تضر كالكبيرة كما يأتي بسطه في البيت بعد هذا (إما) اشتراط تيقض الشاهد فإن لم يكن متيقضًا فطنًا فلا يخلو حاله أما أن يكون بليدًا

ص: 66

أو غبيًا فإن كان بليدًا أبله وهو الذي ليس له فكر يحركه فهذا لا تقبل شهادته في كل شيء البتة وإن كان غبيًا أو غلبت عليه الخيرية والأمانة وهو من له فكر لكن لا يحركه وإن حركه يتفطن فهذا لا تقبل شهادته في الأمور التي تتأتى فيها الحيل كالإقرارات وأما ما لا تتأتى فيه الحيل كقوله رأيت هذا يقطع يد هذا فإنها تقبل وفي قبول شهادة المولى عليه الفطن وعدم قبولها وبه العمل قولان. وأما اشتراط العدالة فلأن الفاسق بجارحة أو اعتقاد لما كان عاصيًا بمخالفة فروع الإيمان فلا تقبل شهادته لأنه لا يتوقى الكذب. وقد قال الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} وقال {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} فأنبأنا ربنا تعالى بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطة الشهادة على جميع الخليقة فجعلنا أولًا مكانًا وإن كنا آخرًا زمانًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون فهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول ولا ينفد على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلًا قاله ابن العربي. وأما اشتراط الإسلام فلقوله تعالى {شهيدين من رجالكم وممن ترضون من الشهداء} والكافر ليس فيه شيء من هذه الصفات ومن العلماء من أجاز شهادته في الوصية في السفر لقوله تعالى {أو آخران من غيركم} . وفي آثار المدونة مما أسنده ابن وهب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا تجوز شهادة أهل الملل بعضهم على بعض وتجوز شهادة المسلمين عليهم انتهى. وأما اشتراط الحرية على المذهب فلقوله سبحانه وتعالى ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا (قال) أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى قال علماؤنا هذا دليل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم وهذا أمر انبنى عليه الشرع فعمل به في كل زمن وفهمته كل أمة ومن أمثال العرب في بيته يؤتى الحكم وعلى خروج العبد من جملة الشهداء لأنه لا يمكنه أن يجيب ولا يصح له أن يأبى لأنه لا استقلال له في نفسه وإنما يتصرف بإذن غيره فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منصب الولاية وعن فرض الجمعة انتهى (قلت) إنما ينهض هذا لو جعل دليلًا على سقوط وجوب

ص: 67

المشي لا على قبولها بدليل أنه لو صلى ظهره جمعة مع الجماعة لصحت صلاته تأمل وقيل في تعليل عدم قبول شهادته غير هذا وكله ليس بظاهر ولهذا أجازها بعض العلماء. وأما اشتراط العقل فلأن عدمه يؤدي إلى عدم الضبط وينافي التكليف. وأما اشتراط البلوغ فلأن الشاهد مكلف بالأداء ولا تكليف مع الصبي ولأن الصبي لعلمه رفع القلم عنه لا يتوقى الكذب فلا تجوز شهادته ولا اختلاف إلا ما اختلف في ذلك من قبوله في الدماء (وشاهد) التحمل يشترط فيه أن يكون مميزًا متيقضا صغيرًا كان أو كبيرًا حرًا كان أو عبدًا مسلمًا كان أو كافرًا عدلًا كان أو فاسقًا فمن تحمل ي شهادة كانت وإن خطأ أو عقد نكاح لأن الإشهاد ليس بركن منه ولا بشرط في صحته كما في الرهوني وغيره وهو زمن التحمل مميز فطن غير أنه صغير أو عبد أو كافر أو فاسق ثم أدى شهادته بعد زوال المانع فإن بلغ أو عتق أو أسلم أو حسنت حالته وصار عدلًا فإنها تقبل لأن المعتبر عند العلماء زمن الأداء لا زمن التحمل كما يأتي في كلام الناظم إلا العقل فإنه شرط زمن الأداء وزمن التحمل تنبيهات (الأول) ومن المجموعة روى ابن وهب عن مالك في الذي يخنق أن كان يفيق إفاقة يعقلها جازت شهادته وبيعه وابتياعه وطلاقه في إفاقته فأما الذي لا يكاد يفيق فلا يجوز له شيء من ذلك (الثاني) هل يشترط في الشاهد عدم الحجر عليه وهو المختار وبه العمل أو لا يشترط فيه ذلك وقد تقدم ذكره ولعل الناظم ذهب إليه حيث لم يذكره مع الشروط خلاف (الثالث) تجوز شهادة الأعمى في الأقوال دون الأفعال كما يجوز للشاهد البصير أن يشهد على المرأة من وراء حجاب قد عرفها وعرف صوتها وأثبتها. وتجوز شهادة الأصم في الأفعال دون الأقوال ومثله الأخرس إذا فهمت إشارته (الرابع) كتب الشهادة هل هو فرض على الكاتب أو لا خلاف قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عند قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} الآية يريد يكون صكا ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الآجال

ص: 68

والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشرع الكتاب والإشهاد وكان ذلك في الزمن الأول. وقوله فاكتبوه إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفاته المبينة له المعربة عنه المعرفة للحاكم فيما يحكم عند ارتفاعهما إليه. وقوله تعالى {ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله} (فيه) أربعة أقوال الأول أنه فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز قاله الشِعبي (الثاني) أنه فرض على الكاتب في حاله فراغه قاله بعض أهل الكوفة (الثالث) أنه ندب قاله مجاهد وعطاء (الرابع) أنه منسوخ قاله الضحاك. والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه. وقوله تعالى {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا} قال علماؤنا إنما أملى الذي عليه الحق لأنه المقر به الملتزم له فلو قال الذي له الحق لي كذا وكذا لم ينفع حتى يقر الذي عليه الحق فلأجل ذلك كانت البداءة به لأن القول قوله وإلى هاته النكتة وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقوله تعالى {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا فليملل وليه بالعدل أي ولي السفيه أو الضعيف} وهذا يدل على أن إقرار الوصي جائز على يتيمه لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه إذا ثبت هذا فلن تصرف السفيه المحجور دون ولي فإن التصرف فاسد إجماعًا مفسوخ أبدًا لا يوجب حكمًا ولا يؤثر شيئًا. وأن تصرف سفيه لا حجر عليه فاختلف علماؤنا فيه فابن القاسم يجوز فعله وعامة أصحابنا يسقطونه والذي أراه من ذلك أنه أن تصرف بسداد نفذ وإن تصرف بغير سداد بطل وأما الضعيف أي الغبي الأبله فربما بخس في البيع وخدع ولكنه تحت النظر كائن (الخامس) الشاهد الذي ينتصب لكتب الوثائق بين الناس أخص من العدل إذ يشترط فيه شروط أخر قال الونشريسي في المنهج الفايق لا يجوز للولات أن ينصبوا لكتابة الوثائق إلا العدول المرضيين قال مالك رضي الله عنه لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نسفه مأمون لقول الله تعالى {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} وفي الغرناطية يعتبر في الموثق عشر خصال متى

ص: 69

عري عن واحد منها لم يجز أن يكتبها. وهي أن يكون مسلمًا عاقلًا متجنبًا للمعاصي سميعًا بصيرًا متكلمًا يقضنا عالمًا بفقه الوثائق سالمًا من اللحن وإن تصدر عنه بخط بين يقرأ بسرعة وبسهولة وبألفاظ بينة غير محتملة ولا مجهولة. وزاد غيره أن يكون عالمًا بالترسيل لأنها صناعة إنشاء فقد يرد عليه ما لم يسبق بمثاله. وأن يكون عنده حظ من اللغة وعلم الفرائض والعدد ومعرفة النعوت وأسماء الأعضاء. وعن ابن مغيث يجب على مرسم الوثيقة أن يجتنب في ترسيمها الكذب والزور وما يؤدي إلى ترسيم الباطل والفجور فإن الناقد بصير يسأله عند وقوفه بين يديه عن النقير والقطمير وقد تمالا كثير من الناس على التهاون بحدود الإسلام والتلاعب في طريق الحرام {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} . وقد قال ابن أبي زمنين رحمه الله تعالى

أيا ذا الوثائق لا تغرر

بما في يديك من المرتقب

فإنك مهما تكن عاقدًا

لزور تزخرفه أو كذب

فإن العظيم محيط به

ويعلم من وراء الحجب

فكن حذرًا من عقوبته

ومن هول نار ترى تلتهب

ولا تنس أهوال يوم اللقا

فكم فيه من روعة ترتقب

(ثم قال) الونشريسي اعلم أن علم الوثائق من أجل العلوم قدرًا وأعلاها إقامة وخطرً إذ بها تثبت الحقوق ويتميز بها الحر والرقيق ويتوثق بها ولذا سمي الكاتب الذي يعانيها وثاقا. وفي صحيح مسلم وغيره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب الصلح يوم الحديبية بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (ابن) فرحون هي صناعة جليلة شريفة وبضاعة عالية منيفة تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم ومجالسة الملوك والاطلاع على أمورهم وعيالهم وبغير هذه الصناعة لا ينال أحد ذلك ولا يسلك هذه المسالك (ابن عبد السلام) بعد كلام له وبالجملة أن الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات

ص: 70

خسيسة وذلك لأنهم ألحقوها بأخس الحروف ولم يتمسكوا من الطلب بأدنى طرف وفي مثلهم قيل

إن الكساد قد استولى على الكتبه

لا عقد في بيع فدان ولا عتبه

أخسس بحرقة قوم رأس مالهم

حبر تبدده في صفحة قصبة

(السادس) لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بما يجوز في مذهبه كذا في الزرقاني عند قول المصنف وعوقبا والشهود (قلت) محله إذا لم يأذن له حاكم شرعي يرى في مذهبه جواز ذلك كبيع الكمشة المجهولة وإلا جاز له أن يشهد ويضمن إذنه في الرسم وبه العمل (السابع) اختلف في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة والأصح الجواز وتقدمت الإشارة إليه في كلام ابن العربي عند الكلام على حكم الكتابة وعلى الجواز فتكون بما وقع الاتفاق عليه من قليل أو كثير. وفي وقتنا هذا جعل لكل كتب من الرسوم أجر معلوم لا يتعداه الشاهد عند التشاح بأمر من الأمير قطعًا للنزاع. وفي الأحكام للباجي وأجرة كاتب الوثيقة على الدافع أو على من هي المنفعة له ولو كانت لهما جميعًا كانت عليهما وسيأتي الكلام على ما إذا كانت الجماعة في وثيقة واحدة وسهامهم مختلفة عند قول الناظم

وأجر من يقسم أو يعدل

على الرؤس وعليه العمل

كذلك الكاتب للوثيقة

للقاسمين مقتف طريقه

وقيل أنها على قدر الأنصباء كالشفعة وضارب الفريضة قال الباجي في وثائقه وبه العمل فهما قولان عمل بكل منهما والذي تميل إليه النفس قول الباجي قال التسولي وبه العمل اليوم. وأما أخذ الأجرة على تحمل الشهادة فقول الله تعالى {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} وقوله تعالى {وأقيموا الشهادة لله} يقتضي عدم أخذ الأجرة على التحمل وقال في المناهج شهادتهم ساقطة لأنهم لم يفعلوها لله بل الشاهد ساع لنفسه ومقتنم لفلسه. وأما أخذ الأجرة على الأداء فلا إشكال في التحريم قال الله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} قال بعض الأئمة

ص: 71

ولا يستحق الشاهد أجرًا يعني على الأداء من باب الاستتجار على الواجب عليه فيكون من أكل المال بالباطل وهو حرام إجماعًا والعدل لا يرتكب المحرمات ولا ما يخل بالمروءة بل الواجب عليه أن يتجنب جميع ذلك وإليه أشار الناظم بقوله

(والعدل من يجتنب الكبائر

ويتقي في الغالب الصغائر)

(وما أبيح وهو في العيان

يقدح في مروءة الإنسان)

يعني أن الشاهد الذي يستحق أن يسمى عدلًا وأن تجوز شهادته شرعا هو من وجدت فيه القيود المتقدمة ويجتنب معها الذنوب الكبائر الآتي بيانها وصغائر الخسة كسرقة لقمة وكعكة اجتنابًا دائمًا ويتقي في غالب أحواله صغائر غير الخسة كالنظرة للأجنبية لعسر الاحتراز منها ويجتنب ما أبيح بالنظر إلى الأصل في حكم الشرع من الأقوال والأفعال التي صار ارتكابها واستعمالها بحسب العرف والعادة أمرًا مستقبحًا يشين ذوي الهيئات ويسلب عنهم المروءة وكل ما يسلب المروءة وينافيها حرام باعتبار ما يعرض له من القدح فيه وبطلان شهادته لأن من لا مروءة له لا يؤمن على ترك المعاصي وتقدمت الإشارة إلى هذا قريبًا وسيأتي في شرح المروءة أمثلة من ذلك سئل الشاطبي من أولياء الله فقال شهود القاضي لأنهم لا يأتون كبيرة ولا يواظبون على صغيرة فإن كانت الشهادة بهذه الصفة فلا شيء أجل منها وإن كانت خطة فلا شيء أخس منها وكان يرى أن جنايات الشاهد في صحيفة من يقدمه لحديث من سن سنة حسنة أه أحمد بابا (قال) أبو عبد الله بن المديني عرف قنون في حواشيه على الزرقاني العدل عند المحدثين من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة وأن عبدًا أو امرأة. وأما من تقبل شهادته ففي الحطاب هو المجتنب للكبائر المتوقي لأكثر الصغائر إذا كان ذا مروءة وتمييز متيقضا متوسط الحال بين البغض والمحبة يريد لأن الفرط في المحبة يقوي تهمة من شهد له كالآباء والأزواج والفرط في البغض كالعدو والخصم يقوي تهمته في الشهادة عليه اهـ. والكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق

ص: 72

والسحر وشهادة والزور والغيبة والنميمة (ومعنى) المروءة هي المحافظة على فعل مباح يوجب تركه الذم عرفا كترك الانتعال وتغطية الرأس وعلى ترك مباح يوجب فعله الذم عرفا كالأكل في الشوارع عندنا أو في السوق أو في حانوت الطباخ لغير الغريب والحرف الرديئة لغير أهلها كالجزارة والدباغة هذا أن كان تلبسه بتلك الحرف اختيارًا ولم يكن من أهلها وإلا فلا تكون جرحة فيه قال بعض العلماء فلو مشي الإنسان حافيًا وبغير عمامة بالكلية مما هو مباح لكن العادة خلافه فينظر في أمره فإن أراد بذلك كسر نفسه عن الكبر لم يكن ذلك جرحة في حقه وكذلك أن صنعها ليدخل بها السرور على الفقراء أو يتصدق بما يأخذ في مقابة تلك الصنعة فإنها حسنة وإن كانت على جهة الاستهزاء بالناس وعدم الاكتراث بهم فهو جرحة وأما حمل الإنسان متاعه من السوق فهو من السنة لقوله عليه الصلاة والسلام صاحب الشيء أحق به أن يحمله وذلك حين اشترى السراويل وأراد بعض الصحابة أن يحملها عنه وأظنه السيد أبا بكر رضي الله عنه. وليس المرد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة المركوب وحسن الهيئة واللباس بل المراد التصون والسمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والارتفاع عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق بمثله لا يحافظ معه على دينه وإن لم يكن في نفسه جرحة فمن ترك اللباس المحرم أو المكروه الخارج عن السنة لا يكون جرحة في شهادته كلباس فقهاء هذا الزمن من تكبيرهم العمائم في قنون تنبيه قال ابن مرزوق اضطرب رأي المتأخرين في المروءة هل هي زائدة على حقيقة العدالة حتى أنها كصفات الكمال الزائدة على الحقيقة أو هي من تمام حقيقتها وهو الأظهر خلاف (ولما) كانت كيفية القضاء من أركانه كما تقدم وأن منها معرفة البينة والتعديل والتجريح واليمين شرع في بيان ذلك فقال

(فالعدل ذو التبريز ليس يقدح

فيه سوى عداوة تستوضح)

ص: 73

(وغير ذي التبريز قد يجرح

بغيرها من كل ما يستقبح)

(ومن عليه وسم خير قد ظهر

زكى إلا في ضرورة السفر)

(ومن بعكس حاله فلا غنى

عن أن يزكي والذي قد أعلنا)

(بحالة الجرح فليس تقبل

له شهادة ولا يعدل)

(وإن يكن مجهول حال زكيًا

وشبهة توجب فيما ادعيا)

الأبيات الستة قاعدتان (الأولى) هل الناس عند جهل حالهم محمولون على العدالة أو على الجرحة وهو مذهبنا خلاف (الثانية) هل العدالة حق الله تعالى يجب على الحاكم أن لا يحكم حتى يحققها وعليه أكثر أهل العلم أو حق للخصم فإن طلبها فحص الحاكم عنها وإلا فلا خلاف إذا تقرر هذا علمت الفروع التي ذكرها الناظم هنا على ي شيء بنيت (وحاصل) ما ذكره في هاته الأبيات هو أن الشاهد العدل المبرز وهو الفائق في العدالة لا يحتاج فيه إلى تعديل لأن تعديله يؤدي إلى تحصيل الحاصل أو إلى التسلسل وكل منهما محال وأن المشهود عليه إذا طلب الطعن فيه بكل قادح فإنه لا يمكن منه لأن الواقع يكذبه فدعواه لا تسمح وإنما له أن يقدح فيه بالعداوة الدنياوية الواضحة كالخصومة والهجرة الطويلة لا العداوة الدينية فإنها لا تضر وصاحبها مأجور ولهذا جازت شهادة المسلم على الكافر كما تقدم لأنها عداوة عامة وهي لا تؤثر فإن وقعت بينهما عداوة دنيوية فإن شهادته عليه لا تجوز ومثل العداوة الواضحة القرابة الأكيدة كما يأتي في موانع الشهادة. والشاهد العدل إذا كان غير مبرز فلا يحتاج فيه إلى تعديل كذلك غير أنه يجرح فيه بالعداوة الواضحة والقرابة الأكيدة وغيرهما من كل ما يستقبح كشرب وسرقة وغصب وكذب وترك الصلاة ونحوها من أنواع التجريح أن طلب الخصم ذلك. والشاهد الذي تظهر عليه علامة الخير والدين بشهود الصلوات في المساجد ولا يعرف بأمر قبيح ولم تتحقق عدالته فلا بد من تزكيته ولا تقبل شهادته بدونها لحمل الناس على الجرحة لا على العدالة إلا

ص: 74

في السفر فتقبل للضرورة. والشاهد الذي يعكس حال هذا وهو من ظهر عليه وسم الشر ولم يتحقق فسقه فلا تقبل شهادته حتى يزكى ولو في سفر فهو بالنسبة لما قبله من باب أولى. والشاهد الذي أعلن بالفسوق والفجور فلا تقبل شهادته ولو علم الحاكم بصدقه كما تقدم لأن العدالة حق الله تعالى فلا يجوز إسقاطها ولا يصح تعديله لأن الواقع يكذبه. والشاهد الذي يكون مجهول الحال بأن لم يظهر عليه ما يدل على الخير ولا ما يدل على الشر فلا بد من تزكيته كذلك ولو في سفر ولا تقبل شهادته بدونها. وحيث توقف قبول شهادة المذكورين في الفروع الثلاثة على التزكية فإن شهادتهم لا تلغى قبلها بحيث لا توجب شيئًا بل توجب شبهة في كون المدعى فيه للمدعي وإلى هذا أشار بقوله وشبهة توجب فيما ادعيا فإذا شهد اثنان بحق وكانا ممن لا يحكم بشهادتهما إلا بعد التزكية عقل ذلك الشيء المدعى فيه كما يأتي إلى أن تثبت التزكية فيحكم بها أو يعجز عنها فتضمحل الشبهة باضمحلال الشهادة فترفع العقلة. وقوله شبهة بالنصب مفعول توجب وفاعله ضمير يعود على الشهادة وألف زكيا وادعيا للإطلاق قوله

(ومطلقا معروف عين عدلا

والعكس حاضرا وإن غاب فلا)

يعني أن الشاهد الذي أريد تعديله أما أن يكون معروفًا عند القاضي أو من يقوم مقامه في تحرير الشهادة أو غير معروف عنده فإن كان معروف العين في البلد بحيث لا يشتبه في اسمه وصفته بغيره فإنه يعدل سواء كان حاضرًا مجلس القاضي أو غائبًا عنه وإن كان غير معروف العين عند القاضي أو من يتنزل منزلته في نقل الشهادة وهو المراد بالعكس فلا يعدل إلا حاضرا على عينه وإن غاب عن مجلس القاضي فلا يجوز ذلك لأنه لا يعرفه والحكم على الشيء فرع تصوره (ففي القرافي) أن رجلين شهدا عند عمر فقال لا أعرفكما ولا يضركما أن لا أعرفكما فجاء رجل فقال أتعرفهما قال نعم قال له أكنت معهما في سفر يتبين عن جواهر الناس قال لا قال فأنت جارهما

ص: 75

تعرف صباحهما ومساءهما قال لا قال أعاملتهما بالدراهم والدنانير التي تقطع بها الأرحام قال لا قال ابن أخي ما تعرفهما ائتيان بمن يعرفكما انتهى وفي هذا دليل على أن الناس محمولون على الجرحة وإلا لقبلهما بدون تزكية ثم أشار الناظم إلى القدر الذي يجزئي من شهود التعديل والجرح فقال

(وشاهد تعديله باثنين

كذاك تجريح مبرزين)

(والفحص من تلقاء قاض قنعا

فيه بواحد في الأمرين معا)

يعني أن التعديل أو التجريح لا يكون إلا بشهادة رجلين عدلين مبرزين لا بامرأتين ولو لنساء ولا برجل وامرأتين ولا بواحد ويكونان معتمدين في شهادتهما بالتعديل على طول عشرة بالمجاورة والمخالطة ووقع التساهل اليوم في قبول التعديل والتجريح من مطلق معدل أو مجرح حرصًا على ما يأخذه الناقل الموثق من الأجر وما كان ينبغي لقضاة العدل ذلك بل الواجب عليهم تحرير الشهادة بأنفسهم فرحم الله الشيخ إبراهيم بوعلاق التوزري الزبيدي في قوله

باشر بنفسك أمر الملك سيدنا

فإن توكيل بعض الناس تهميل

ومحل كون التعديل والتجريح لا يكون إلا بمبرزين فيما إذا كان ذلك علانية أما إذا كان البحث عن الشاهدين من جهة القاضي سرا لموجب فإنه يقنع فيه بعدل واحد فيهما لأنه من باب الخير (وكيفية) البحث هو أن يسأل القاضي عن حالة الشاهد من يظن أنه خبير بحاله من جيرانه وأهل خلطته ومكانه وقيل لا يكتفي في الباطن بأقل من عدلين وبه العمل (قال) الشيخ ابن رحال والذي اعتمده الناس اليوم التعديل والتجريح في الظاهر وأهملوا ذلك في السر. وقال في الاستذكار وأول من سأل سرا ابن شبرمة قال كان الرجل إذا قيل له هات من يزكيك فيأتي القوم فيستحيون منه فيزكونه فلما رأيت ذلك سألت في السر فإذا صحت شهادته قلت هات من يزكيك في العلانية قاله في التوضيح إذا تقرر لك هذا ظهر لك جليًا أن الجمع

ص: 76

بينهما أحوط. وقوله وشاهد مبتدأ وجملة تعديله باثنين خبر ووصف اثنين محذوف أي مبرزين وكذا كخبر مقدم وتجريح بالتنوين مبتدأ مؤخر ومبرزين يجوز فيه كسر الراء وفتحها صفة لموصوف محذوف أي باثنين مبرزين فهو من باب الاحتباك بحذف كل ما أثبت نظيره في الآخر لا أنه صفة لاثنين المذكور لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو لا يجوز عند النحويين لأنهما كالشيء الواحد وقنع بضم أوله وكسر ثانيه مبني للنائب وفيه متعلق به وبواحد نائب فاعل وفي الأمرين متعلق بقنع أيضا ومعا حال من الأمرين فلو قال الناظم رحمه الله تعالى

وشاهد معدلاه اثنان

أن برزا كذا المجرحان

والفحص من تلقاء قاض لا يقل

عن شاهدين وبه جرى العمل

لكان أولى قوله

(ومن يزكي فليقل عدل رضى

وبعضهم يجيزان يبعضا)

يعني أن التزكية لا تكون إلا بهذين اللفظين معا وهو أن يقول المزكي بكسر الكاف في المزكى بفتحها هو عدل رضى وهذا هو التعديل التام على القول المشهور المعمول به لقول الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقوله {ممن ترضون من الشهداء} فالعدالة تشعر بسلامة الدين والرضى يشعر بالسلامة من البله. فلهذا كان الجمع بينهما واجبًا. ونقل عن بعضهم جواز الاكتفاء بأحد اللفظين. وفهم من قوله فليقل عدل رضى أنه لو قال ممن تقبل شهادتهم أو يقضي بشهادته أو نعم الرجل أو رجل دين أو خير لا يكون تزكية. وقد رأيت بعض الموثقين يكتفي بقول المزكي هو رجل مليح خير ويكتب في الرسم بدله عدل رضى حرصًا على أخذ المال القليل العاجل ولا ينظر عقاب الله بوعيده الأجل لأنه من الزور المحض الذي لا يفعله إلا أهل الأهواء والجنون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون تنبيهان (الأول) لا يجب على شاهد التعديل ذكر أسباب العدالة لأنها ظاهرة لا تخفى على أحد ولذلك لم يختلف الناس في الأوصاف الموجبة للعدالة بخلاف الجرح فإنه لا يقبل مجملًا إلا من

ص: 77

عالم بأن يقول هو مجرح بفتح الراء أو مردود الشهادة بل حتى يقول رأيته يفعل كذا أو يترك كذا من أسباب التجريح لئلا يعتقد أن الأمر الذي رآه يفعله يكون جرحة مثلًا مع أنه عند الشرع ليس بجرحة كما إذا رآه يبول قائمًا إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يكون بها التجريح (الثاني) لا تجوز الزيادة على القدر الذي تحصل به الجرحة فلا يقال فيمن هو معروف بالكذب كذاب بصيغة المبالغة بل يقتصر على أصل الفعل فيقول هو كاذب إذ التجريح حصل به والقدر الزائد لا فائدة فيه كما إذا قال هو شارب خمر ويعامل بالربى مثلًا فيكون الزائد عليه غيبة ترد بها شهادته لأنه صار ذا جرحة بالغيبة لكن هذا أن كان عالمًا بأن التجريح يكفي بأصل الفعل أو ببعض ذلك والأصح تجريحه على الأصوب لأنه لم يقصد الغيبة وإنما قصد التجريح فقط قاله ابن راشد في الفائق قوله

(وثابت الجرح مقدم على

ثابت تعديل إذا ما اعتدلا)

يعني أن الشاهد إذا عدله قوم وجرحه آخرون واستوى الفريقان في العدالة فإن من أثبت الجرح مقدم على من أثبت العدالة أما أن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهي التي تقدم كذا قيل وهو ظاهر كلام الناظم والقول المشهور الراجح خلافه وهو أن بينة الجرح تقدم على بينة التعديل مطلقًا لأنها اطلعت على ما لم تطلع عليه بينة التعديل وبما قررنا به كلام الناظم بناء على أن ما بعد إذا زائدة فيكون منطوقه صورة ومفهومه صورتان كما علمت أما إذا جعلت ما نافية بمعنى لم لا زائدة لأن مجيئها نافية بعد إذا وارد كما في المغنى فيكون التقدير وثابت الجرح مقدم على ثابت تعديل إذا لم يعتدلا فمفهومه إذا اعتدلا فكذلك فمنطوقه صورتان ومفهومه صورة واحدة عكس ما قررنا به أولًا وعلى هذا التقدير فبينة الجرح تقدم على بينة التعديل مطلقًا في الصور الثلاثة فيكون الناظم جاريًا على القول المشهور والراجح وعلى هذا لو قال

وثابت الجرح مقدم على

ثابت تعديل يكون مسجلا

لكان أحسن وقوله

ص: 78

(وطالب التجديد للتعديل مع

مضي مدة فالأولى يتبع)

يعني أن من شهد عند القاضي ولم يعرف عدالته ولا جرحته وقبل شهادته بالتعديل ثم شهد ذلك الشاهد عنده في قضية أخرى وطلب المشهود عليه ثانيًا تجديد تعديله فهل لابد من إعادته حتى يتحقق أمره طال الزمن بين الشهادتين أو لم يطل كما إذا وقعت الثاني قبل مضي سنة أولا تلزم إعادة التعديل ويقبل القاضي شهادته بمقتضى تعديله الأول حيث لم يطل الزمن بمضي سنة وإلا لزم تجديد تعديله قولان وبالأول العمل وإليه أشار بقوله فالأولى يتبع وإنما حملوه على الأول دون الثاني حيث كان يحتملها بقرينة تنوين مدة فإنه للتقليل وفيه خفاء فلو قال

وطالب تجديد تعديل مضى

يقضى له في كل حين بالقضا

لكان نصًا في طريقة سحنون التي بها العمل قوله

(ولأخيه يشهد المبرز

إلا بما التهمة فيه تبرز)

يعني أن العدل المبرز يجوز له أن يشهد لأخيه في كل شيء وتقبل شهادته إذا لم يكن في عياله ولم يتهم أما إذا كان في عياله أو لم يكن واتهم في شهادته بأن يظن به الحمية والغضب أو دفع معرة كان يجرح من جرح أخاه أو جلب مصلحة كان يشهد له بمال كثير يكون به غنيًا أو يشهد له بنكاح امرأة يتشرف بنكاحها فإن شهادته لا تقبل أما غير المبرز فإن شهادته لا تقبل لأخيه مطلقًا وأما شهادته عليه فجائزة لأن كل من لا تجوز الشهادة عليه تجوز الشهادة له فإذا شهد له وعليه بطلت في الجميع للقاعدة وهي أن الشهادة إذا رد بعضها للتهمة ردت كلها على المشهور لأن الشهادة لا تتجزى (فقوله) ولأخيه يشهد المبرز إلخ ظاهره سواء كان في عياله أو لم يكن وليس كذلك كما قررنا به كلامه وهاته المسئلة من المسائل التي يشترط في شهودها التبريز وقد نظمتها فقلت

واشترطوا التبريز في الإحباس

ونحوها يجري عرف الناس

ص: 79

كذلك في الأجير والصناع

وشاهد الخطوط والإيداع

والابن للأم على الأب نقل

وعكسه كذا الشريك المستقل

ومنفق عليه والملاطف

معدل مجرح يا واصف

وشاهد لزوج بنت ولده

مولى لأعلى يا خليل فأدره

وصاحب النقصان والزيد بها

وذاكر من بعد شك انتهى

وقوله إلا بما التهمة فيه تبرز البيت وفي آثار المدونة الكبرى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب لم يكن سلف المسلمين الصالحين على رد شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده ولا الأخ لأخيه ولا الرجل لامرأته ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت بينهم أمور حملت الولات على اتهامهم فتكرت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة المشهود له وكان ذلك من الولد والوالد والزوج والزوجة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. وقال ابن وهب عن محمد بن أيوب عن محمد بن سعيد مثله (قال) صاحب المباني اليقينية ثم اتسعت التهم الآن فأفتى شيوخنا بسقوط شهادة الخال والأصهار شيخنا البرزلي وغيره وبه العمل وقد قال عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (ولما) كانت التهمة القوية من موانع الشهادة ولها جزئيات وذكر الناظم منها شهادة الأخ لأخيه وما فيها من التفصيل شرع في الكلام على غيرها مما فيه أكيد القرابة أو العداوة الواضحة فقال

(والأب لابنه وعكسه منع

وفي ابن زوجة وعكس ذا اتبع)

(ووالدي زوجة أو زوجة أب

وحيثما التهمة حالها غلب)

(كحالة العدو والظنين

والخصم والوصي والمدين)

يعني أنه لا يجوز للأب أن يشهد لابنه ولا الابن لأبيه ولا الرجل لابن زوجته ولا الرجل لزوج أمه ولا الرجل لوالدي زوجته أو لزوجة أيه وكذا لا تجوز شهادة البنت لأبيها ولا هو لها ولا الأم لولدها ذكرًا كان أو أنثى ولا هو لها ولا بنت الزوجة

ص: 80

لزوج أمها ولا هو لها ولا المراة لزوجة أبيها ولا هي له ولا لزوج البنت بالنسبة لوالديها فلا يشهدان له ولا الزوج لزوجته ولا هي له ولا المرأة لوالدي زوجها ولا هما لها إلى غير ذلك من الأصول وإن علت والفروع وإن نزلت والأصهار والأخوال (والحاصل) أن الشهادة مهمى غلب عليها حال التهمة وقويت الظنة فإنها لا تجوز وترد كالعدو يشهد على عدوه في أمر دنيوي من مال أو جاه أو خصام في أمر جسيم يكون في مثله الشحناء ويوغر الصدور أما ما كان كثمن الثوب ونحوه فإنه لا يضر قال ابن القاسم لا تجوز شهادة الرجل على ابن عدوه ولو كان ابن شريح اهـ وكذا لا تجوز شهادة الظنين وهو المتهم لمن يشهد له كالوصي لمن يلي عليه ولا رب الدين لغريمه المعسر لأنه يجريها لنفسه نفعًا حيث كانت في مال ولا هو له لأنه يتهم أن ذلك لأن يؤخره ويلحق بذلك تزكية كل واحد لمن شهد لمن يتهم له أو تزكية من شهد على من يتهم عليه ولا غير المنتصبين للشهادة مع وجود المنتصبين لها في الأمور المهمة التي يقصد بها أعيان الشهود في العادة كالبيع والابتياع والنكاح والطلاق والشفعة وإسقاطها والقبض والأبراء والوكالة والضمان والحبس والصدقة والهبة والوصية والإجارة والمغارسة ونحوها إذا كان ذلك بالقصد والاستدعاء أما إذا سمعوا شيئًا من ذلك في موطن بدون قصد ولا استدعاء فإنها شهادة جائزة عاملة (وفي لب اللباب) أن المانع للشهادة قسمان قسم يمنع من القبول مطلقًا وقسم يمنع على جهة فالأول كل وصف مناف للعدالة والمروءة أولهما كالفسق وسماع القيان والثاني ما يمنع على جهة ونعني بذلك أن يمنع من القبول مع بقاء العدالة وهو نوعان الأول التغفل والثاني الاتهام وله ستة أبواب (الأول) أن يجر لنفسه منفعة كان يشهد رب الدين لمديانة المعسر بمال على خلاف فيه كما في التوضيح أو يشهد على مورثه الغني المحصن بالزنى أو بالقتل عمدًا أو يدفع عنها مضرة كشهادة العاقلة بفسق شهود القتل خطأ (الثاني) تأكيد الشفقة بالنسب والسبب كالأبوة والبنوة والإصهار والأخوال كذلك (الثالث) العداوة في أمر دنيوي من مال أو جاه أو منصب لا ديني (الرابع) الحرص

ص: 81

على زوال العار وله صورتان الأولى أن تركت شهادته بفسق ثم يصير عدلا فيشهد بها فإنها ترد لتهمته على دفع عار الكذب الثانية التاسي كشهادة المقذوف في القذف (الخامس) الحرص على الشهادة في التحمل والآداء والقبول أما التحمل فالمختفي على أحد قولين والمشهور أن ذلك لا يضر وأما الحرص على الأداء فمثل أن يبدأ بالشهادة قبل أن يطلبه صاحبها بها إلا إذا كانت مما يستدام فيه التجريم فإنه يجب عليه الرفع كالطلاق والعتق والعفو عن القصاص وأما الحرص على القبول فمثل أن يشهد شهادة ويحلف على صحتها (السادس) الاستبعاد والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لا تقبل شهادة البدوي على القوري. وحمله مالك على الأموال والحقول دون الدماء والجراح وما في معناه وحيث يطلب الخلوات والبعد من العدول انتهى. وفي ابن مرزوق عند قول الشيخ خليل ولا أن استبعد كبدوي لحضري بخلاف أن سمعه أو مر به بعد كلام طويل ما نصه شهادة البدوي بين الحضريين جائزة في نحو القذف والجراح والقتل مما لا يقصد فيه الإشهاد وتجوز في المال والنكاح وغيرهما إذا لم يستشهد وقال مررت بهما أو كنت في موضع فسمعته أقر له بكذا أو باع منه سلعة أو جرت منازعة في النكاح فاعترف أحدهما بالعقد ولا يجوز فيما يقصد فيه الاستعداد من نحو الوثائق والصدقات لأنه ريبة أن يترك أخذ خطوط أهل الموضع والاستعداد بشهادتهم إلا أن يعلم أنه مخالط لهم أو يكون جميعهم في سفر وكذا شهادته بين حضري وبدوي لا تجوز إلا كما تقدم بين الحضريين إلا أن يكون البدوي بقرية الشاهد فيشهد بمداينة كانت في قربته أو في الحاضرة إذا كان معروفًا بالعدالة أو ممن يعول في المدينة على مثله قاله اللخمي. وفي البيان قال ابن وهب رأى قوم أن شهادة الحضري على البدوي لا تجوز وأن أرى جوازها إلا أن يدخلها من الظنة ما دخل شهادة البدوي على الحضري فلا تجوز انتهى (تتمة) كل من لا تجوز الشهادة له تجوز الشهادة عليه أن لم تكن تهمة كما مر ولا تكون شهادة الابن على الأبوين مانعة من برهما بل من برهما أن يشهد عليهما بالحق ويخلصهما من الباطل وهو من قوله تعالى {قوا

ص: 82

أنفسكم وأهليكم نارًا} في بعض معانيه وكل من لا تجوز الشهادة عليه تجوز الشهادة له (لطيفة) فإن قلت عدل لا تجوز شهادته على أحد من الناس كافة وليس فيه مانع من قرابة أو عداوة ولا جرحة في دينه قلت هو العدل المولى عليه قاله ابن القاسم وبه العمل وقال أشهب تجوز شهادته إذا كان عدلًا انتهى من ألغاز ابن فرحون وقد تقدم هذا في شروط الشاهد وقوله

(وساغ أن يشهد الابن في محل

مع أبيه وبه جرى العمل)

يعني أنه يجوز للابن أن ينتصب للشهادة مع أبيه ويشهدان على أمر واحد كأنهما أجنبيان على القول الذي جرى به العمل وعليه أهل تونس الآن. وفي اختصار المتيطية وإذا شهد والد وولده وهما عدلان فشهادتهما شهادة واحدة وبه جرى العمل وقيل هما بمنزلة شاهدين. وفي المختصر وشهادة ابن مع أب واحدة (قلت) والأحوط في هذا الزمان العمل بما في المتيطي وقد قواه ونص على العمل به واقتصر عليه الشيخ خليل لقوة التهمة وقلة العدالة وهو أمر ظاهر لا خفاء فيه وما توفيقي إلا بالله (ثم) أن الناظم رحمه الله تعالى استشعر سؤال سائل قال له هل الشروط والموانع المذكورة في جانب الشاهد تعتبر زمن تحمل الشهادة وسماعها أو تعتبر زمن أدائها فأجاب عن ذلك (بقوله)

(وزمن الأداء لا التحمل

صح اعتباره لمقتض جلي)

تقدمت الإشارة إلى هذا البيت أول الباب. وقوله لمقتض جلي أي ظاهر وبيان ذلك أن الشهادة إنما تظهر فائدتها ويعمل بمقتضاها بالأداء فإن لم تؤد في كالعدم فمن تحمل شهادة ولو عقد نكاح كما مر وهو كافر أو فاسق أو عبد أو صبي أو زوج أو وصي وأداها وهو مسلم أو عدل أو حر أو بالغ أو مفارق للزوجية أو متأخر عن الإيصاء إلى غير ذلك فإن شهادته جائزة مقبولة شرعًا ما لم يشهد واحد منهم قبل زوال المانع فردت شهادته لذلك أما إذا شهد قبل زواله فردت شهادته له فإن شهادته بعد زواله في تلك النازلة ترد ولا تقبل للتهمة كما تقدم في الحرص على القبول

ص: 83