المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الباب الثاني في ذكر مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والاحتجاج به - جامع التحصيل في أحكام المراسيل

[صلاح الدين العلائي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌الكتب المؤلفة في المراسيل

- ‌(الباب الأول في حد الحديث المرسل والفصل بينه وبين غيره)

- ‌(الباب الثاني في ذكر مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والاحتجاج به

- ‌(الباب الثالث في ذكر الأدلة الدالة للأقوال المتقدمة)

- ‌(الباب الرابع في فروع وفوائد وتنبيهات وأمثله يذنب بها ما تقدم وتتم

- ‌(الباب الخامس في بيان المراسيل الخفي إرسالها)

- ‌الباب السادس في سياقه ذكر الرواة المحكوم على روايتهم بالإرسال عن ذلك الشيخ المعين

- ‌حرف الألف

- ‌(حرف الباء)

- ‌(حرف التاء)

- ‌(حرف الثاء)

- ‌(حرف الجيم)

- ‌(حرف الحاء)

- ‌(حرف الخاء)

- ‌(حرف الدال)

- ‌(حرف الذال)

- ‌(حرف الراء)

- ‌(حرف الزاي)

- ‌(حرف السين)

- ‌(حرف الشين)

- ‌(حرف الصاد)

- ‌(حرف الضاد)

- ‌(حرف الطاء)

- ‌(حرف الظاء)

- ‌(حرف العين)

- ‌(حرف الغين)

- ‌(حرف الفاء)

- ‌(حرف القاف)

- ‌(حرف الكاف)

- ‌(حرف اللام)

- ‌(حرف الميم)

- ‌(حرف النون)

- ‌(حرف الهاء)

- ‌(حرف الواو)

- ‌(حرف اللام ألف)

- ‌(حرف الياء)

- ‌(فصل في الكنى)

- ‌(فصل فيما كان من ذلك عن النساء أو المبهمات)

الفصل: ‌(الباب الثاني في ذكر مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والاحتجاج به

‌(الباب الثاني في ذكر مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والاحتجاج به

أو رده)

ولهم في ذلك مذاهب منتشرة يرجع حاصلها إلى ثلاثة أقوال وهي القبول مطلقا والرد مطلقا والتفصيل

فأما القابلون له المحتجون به فهم مالك وأبو حنيفة وجمهور أصحابهما وأكثر المعتزلة وهو أحد الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله وهؤلاء لهم في قبوله أقوال

أحدها قبول كل مرسل سواء بعد عهده وتأخر زمنه عن عصر التابعين حتى مرسل من في عصرنا إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصرح به على هذا الوجه إلا بعض الغلاة من متأخري الحنفية وهذا توسع غير مرضي بل هو باطل مردود بالإجماع في كل عصر على اعتبار الأسانيد والنظر في عدالة الرواة وجرحهم ولو جوز قبول مثل هذا لزالت فائدة الإسناد بالكلية وبطلت خصيصة هذه الأمة وسقط الاستدلال بالسنة على وجهها وظهور فساد هذا القول غني عن الإطالة فيه ولا تفريع عليه

وثانيها قبول مراسيل التابعين واتباعهم مطلقا إلا أن يكون المرسل عرف بلإرسال عن غير الثقات فإنه لا يقبل مرسله وأما بعد العصر الثالث فإن كان المرسل من أئمة النقل قبل مرسله وإلا فلا وهو قول عيسى بن إبان واختيار أبي بكر الرازي والبزدوي وأكثر المتأخرين من الحنفية وقال القاضي عبد الوهاب المالكي هذا هو الظاهر من المذهب عندي

ص: 33

وثالثهما اختصاص القبول بالتابعين فيما أرسلوه على اختلاف طبقاتهم وهذا هو الذي يقول به مالك وجمهور أصحابه وأحمد بن حنبل وكل من يقبل المرسل من أهل الحديث ثم من ألحق بالمرسل ما سقط في أثناء إسناده رجل واحد غير الصحابي يقبله أيضا كما يقبل المرسل وهو مقتضى مذهب المالكية في احتجاجهم ببلاغات الموطأ ومنقطعاته وهو الذي أضافه أبو الفرج القاضي إلى مالك ونصره

ورابعها اختصاص القبول بمراسيل كبار التابعين دون صغارهم الذين تقل روايتهم عن الصحابة كما حكاه ابن عبد البر فيما تقدم

ثم اختلف هؤلاء القائلون له في طبقته فمنهم من بالغ فيه حتى قال هو أعلى من المسند وأرجح منه لأن من أسند الحديث فقد أحالك على إسناده والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم ومن أرسل منهم حديثا مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر فيه وهذا قول كثير من الحنفية وبعض المالكية فيما حكى ابن عبد البر عنهم

وقال آخرون لا فرق بين المرسل والمسند بل هما سواء في وجوب الحجة والاستعمال وهو قول محمد بن جرير الطبري وأبي الفرج المالكي وأبي بكر الأبهري أحد أئمة المالكية أيضا وعند هؤلاء أنه متى تعارض مدلول حديثين واحدهما مرسل والآخر مسند فلا ترجيح بالإسناد على الإرسال بل بأمر آخر وهو غلو قريب من الذي قبله

وقال أكثر المالكية والمحققون من الحنفية كأبي جعفر الطحاوي وأبي بكر الرازي بتقديم المسند على المرسل عند التعارض وإن المرسل وإن كان يحتج به ويوجب العمل ولكنه دون المسند

قال ابن عبد البر وشبهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالا من بعض وأقعد وأتم معرفة وإن كان الكل عدو لا جائزين الشهادة قال

ص: 34

وهذا قول أبي عبد الله بن خوار بنداد المالكي وغيره ثم قال ابن عبد البر وقال سائر اهل الفقه وجماعات أهل الحديث فيما علمت الانقطاع في الأثرعلة تمنع من إيجاب العمل به وسواء عارضه خبر متصل أم لا وقالوا إذا اتصل خبر وعارضه خبر متصل لم يعرج على المنقطع مع المتصل وكان المصير إلى المتصل دونه قال وحجتهم في رد المرسل ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه وأنه لا بد من علم ذلك انتهى كلامه

وهو يفيد أن الذي أراد بالانقطاع في قوله هو الإرسال أو أراد الأعم بكل اصطلاح

وقال مسلم الإمام رحمه الله في مقدمة كتابه الصحيح في أثناء كلام ذلك على وجه الإيراد والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة

وهذا القول موافق لكلام ابن عبد البر الذي ذكرناه آنفا وهو الذي عليه جمهور أهل الحديث أو كلهم فهو قول عبد الرحمن ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وعامة أصحابهما كابن المديني وأبي خيثمة زهير بن حرب ويحيى بن معين وابن أبي شيبة ثم أصحاب هؤلاء كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وهذه الطبقة ثم من بعدهم كالدارقطني والحاكم والخطيب والبيهقي ومن يطول الكلام بذكرهم ممن صنف في الأحكام فقل من يدخل منهم في كتابه المراسيل إذا كان مقصورا على إخراج الحديث المرفوع

نعم من يذكر منهم في مصنفه أقوال الصحابة والتابعين فإنه يجيء بالحديث المرسل أحيانا كعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ألا ترى أبا داود السجستاني رحمه الله أفرد للمراسيل خارج السنن كتابا ولم يخرجها فيه وكلام الإمام أحمد بن حنبل في العلل يدل على ترجيح هذا القول لأنه وكل من يعلم

ص: 35

علم علل الحديث يعترض على مل روي مسندا بلإرسال له من بعض الطرق ويعلله به فلو كان المرسل حجة لازمة لما اعترض به

قال ابن أبي حاتم سمعت أبي وأبا زرعة يقولان لا يحتج بالمراسيل ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة وهذا هو قول جمهور الشافعية واختيار إسماعيل القاضي وابن عبد البر وغيرهما من المالكية والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة كثيرون من أئمة الأصول ثم من هؤلاء من بالغ في الرد حتى لم يقبل مراسيل الصحابة كابن عباس وابن الزبير والنعمان ابن بشير وغيرهم من أصاغر الصحابة رضي الله عنهم الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا اليسيير وأكثر رواياتهم أو عامتها عن الصحابة رضي الله عنهم

وهذا قول الأستاذ أبي اسحاق الاسفرائيني وطائفة يسيرة والجمهور على خلاف ذلك لأنه العلة في رد المرسل إنما هي الجهل بعدالة الراوي بجواز أن لا يكون عدلا وهذا منتف في حق الصحابة رضي الله عنهم لأن كلهم عدول ولا يضر الجهالة بعين الراوي منهم بغير كونه صحابيا

وهذا القول في التضييق مقابل للقول المتقدم الذي بالغ القائل به في التوسع حتى قبل مراسيل أهل هذه الأعصار وما قبلها

وعامة ما أعل به الأستاذ في رده ذلك أنا وجدنا لبعض الصحابة أحاديث حدثهم بها جماعة من التابعين فرووها عنهم وللخطيب البغدادي مصنف في ذلك وإذا كان ذلك موجودا فهو محتمل فيما أرسلو أن يكون هذا المرسل رواه عن مثله من الصحابة وأن يكون رواه عن تابعي حدثه به عن صحابي والجهالة مؤثرة في التابعين وإن لم تؤثر في الصحابة

وجواب هذا أن القدر الذي رواه بعض الصحابة عن بعض التابعين نزر يسير جدا والأحاديث المرفوعة فيه نادرة بل أكثره كلمات عنهم أو حكايات ونحو ذلك والغالب الأكثر الأعم إنما هو رواية الصحابي عن مثله فإذا أرسل الصحابي حديثا لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فحمله على أنه سمعه من صحابي

ص: 36

مثله أولى من حمله على روايته عن التابعي لأن الحمل على الغالب أولى من الحمل على النادر الذي لم يكثر هذا ما لا ريب فيه وقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه ليس كلنا سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم منه كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب رواه الخطيب أبو بكر في الكفاية من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه عن جده عن البراء وروى نحوه عن أنس رضي الله عنه فهذا البراء من كبار الصحابة وقد صرح بأن بعض رواياته مرسلة عن مثله من الصحابة رضي الله عنهم

وأما القائلون بالتفضيل في القول والرد فلهم أيضا أقوال

أحدها الفرق بين من عرف عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة فيقبل مرسله وبين من عرف أنه يرسل عن كل أحد سواء كان ثقة أو ضعيفا فلا يقبل مرسله وهذا اختيار جماعة كثيرين من أئمة الجرح والتعديل كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهما قال ابن أبي حاتم في أول كتابه المراسيل ثنا أحمد بن سنان قال كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتاده شيئا ويقول هو بمنزلة الريح ويقول هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه

حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل ثنا علي بن المديني قال مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير كان عطاء يأخذ من كل ضرب حدثنا صالح بن أحمد ثنا علي بن المديني سمعت يحيى بن سعيد يقول مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء قلت مرسلات مجاهد أحب إليك أو مرسلات طاووس قال ما أقربهما وبه عن يحيى قال مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن إبراهيم قال يحيى وكل ضعيف

ص: 37

قال ومرسلات ابن أبي خالد يعني إسماعيل ليس بشيء ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي حدثني أبي قال سمعت يونس بن عبد الأعلى الصدفي يقول قال لي محمد ابن ادريس الشافعي نقول الأصل قرآن أو سنة فإن لم يكن فقياس عليهما وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد منه فهو سنة وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب

قال أبو الحسين بن القطان وغيره من اصحابنا كشف الإمام الشافعي عن حديث ابن المسبي فوجده كله مسندا متصلا فاكتفى عن طلب كل حديث بعد فراغه من الجملة وذكر أبو نصر بن الصباغ عن جماعة من أصحابنا أن الشافعي رحمه الله إنما احتج بمراسيل ابن المسيب لأنه عرف من حاله أنه لا يرسل إلا عن الصحابة رضي الله عنهم فصار كأنه قال أخبرني بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه سلم قال كذا وكذا ولو قال ذلك لكان حجة فإن الصحابة قد زكاهم الله تعالى وأثنى عليهم في كتابه العزيز

وقال الإمام الغزالي في المستصفى والمختار على قياس رد المسل أن التابعي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعراب الذين لا صحبة لهم وإنما ثبت لنا عدالة أهل الصحبة وقد قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك

فهذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة وأعدلها كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى وهو غير قول الرازي المتقدم لأن ذلك يقبل المرسل ما لم

ص: 38

يعرف الراوي بالإرسال عن غير الثقات وهذا القول يتوقف عن قبول المرسل حتى يعلم أن الراوي لا يرسل إلا عن ثقة

القول الثاني إن كان المرسل من ائمة النقل المرجوع إلى قولهم في الجرح والتعديل قبل ما أرسله إذا جزم به وإن لم يكن كذلك فلا وهذا اختيار جماعة من الأصوليين منهم إمام الحرمين وابن الحاجب وغيرهما ولا فرق عند هؤلاء بين التابعين ومن بعدهم إلا أن إمام الحرمين فرق بالنسبة إلى عبارة المرسل كما سيأتي فيما بعد

والقول الثالث اعتبار المرسل بما يعضده من مرسل آخر أو مسند من وجه آخر أو قول بعض الصحابة أو غير ذلك كما سنبينه وهو اختيار الإمام الشافعي رحمه الله فيما رويناه عنه وهذا نصه قال المنقطع مختلف فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى حديثا منقطعا اعتبر عليه بأمور أحدها أن ينظر الى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه الى النبي صلى الله عليه وسلم على معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه وإن انفرد به مرسلا قبل ما انفرد به من ذلك ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل آخر ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم فإن وجد ذلك قوي وهي أضعف من الأول وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض الصحابة قولا له فإن وجد يوافق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ رسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى وكذلك أن وجد عوام من أهل العلم

ص: 39

يختون بمثل معنى ما روي عن النبي ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا واهيا فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله وإذا وجدت هذه الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حيث لو سمي لم يقبل وإن قول بعض الصحابة إذا قال برأيه لو واقفه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض الصحابة يوافقه فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله فلا أعلم من يقبل مرسله لأمور أحدها أنهم أشد تجوزا فيمن يروون عنه والآخر أنهم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه والآخر كثرة الإحالة في الأخبار وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل منه هذا آخر كلام الإمام الشافعي رحمة الله عليه

وقد تصمن هذا الفصل البديع من كلامه أمورا

أحدها إن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحته وهذا

ص: 40

قد اعترض فيه على الإمام الشافعي فقيل إذا أسند المرسل من وجه آخر فأما أن يكون سند هذا المتصل مما تقوم به الحجة أولا فإن كان مما تقوم به الحجة فلا معنى للمرسل هنا ولا اعتبار به لأن العمل إنما هو بالمسند لا به وإن كان المسند مما لا تقوم به الحجة لضعف رجاله فلا اعتبار به حينئذ إذا كنت لا تقبل المرسل لأنه لم يعضده شيء

وجواب هذا أن مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم بها الحجة وقولهم لا معنى للمرسل حينئذ ولا اعتبار به قلنا ليس كذلك من وجهين أحدهما أن المرسل يقوى بالمسند ويتبين به صحته ويكون فائدتهما حينئذ الترجيح على مسند آخر يعارضه لم ينضم اليه مرسل ولا شك أن هذه فائدة مطلوبة وثانيهما أن المسند قد يكون في درجة الحسن وبانضمام المرسل إليه يقوى كل منهما بالآخر ويرتقي الحديث بهما إلى درجة الصحة وهذا أمر جليل أيضا ولا ينكره إلا من لا مذاق له في هذا الشأن فقول المعترض أن كلام الإمام الشافعي رحمه الله لا فائدة فيه قول باطل

الأمر الثاني إن المرسل إذا لم يعضده مسند ولكن عضده مرسل مثله بسند آخر غير سند الأول فإنه حينئذ يقوى ولكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر

وقد اعترض الحنفية أيضا فيه على الإمام الشافعي وقالوا هذا ليس فيه إلا أنه انضم غير مقبول عنده إلى مثله فلا يفيدان شيئا كما إذا انضمت شهادة غير العدل إلى مثلها

وجوابه أيضا بمثل ما تقدم إنه بانضمام أحدهما إلى الآخر يقوي الظن أن له أصلا وإن كان كل منهما لا يفيد ذلك لمجرده وهذا كما قيل في الحديث الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ رواية وكثرة بالكذب إذا روي مثله بسند آخر نظير هذا السند في الرواة فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر

ص: 41

وأما تشبيهه بالشهاده فليس كذلك لأن الرواية تفارق الشهادة في أشياء كثيرة ويقبل فيها ما لايقبل في الشهادة فكذلك هنا

الأمر الثالث أنه إذا لم يوجد مرسل مثله ولكن وجد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم قول أو عمل يوافق هذا المرسل فإنه يدل على أن له أصلا ولا يطرح وفي كلام الشافعي بعد ذلك ما يقتضي أن الإعتبار بقول الصحابي أضعف من الاعتبار بقول الصحابي أضعف من الاعتبار بوجود مرسل آخر يوافقه يعني فروى الحديث مرسلا غلط حين سمع قول بعض الصحابه يوافقه يعني فروى الحديث مرسلا ولقائل أن يقول هذا الاحتمال مرجوح لأن هذا الراوي الذي أرسل متى كان بحيث يتطرق إليه تهمة مثل هذا الغلط والوهم لم يكن محلا لقبول ما روي من المسند فضلا عن المرسل وإن لم يكن كذلك بل كان من أهل الثقة والضبط فلا أثر حينئذ لهذا الاحتمال والمرسل يقوى بما روي عن بعض الصحابة من موافقته وخصوصا إذا كان ذلك مما يرجع فيه إلى التوقيف فإن الظاهر حينئذ أن ذلك الصحابي لم يقل به إلا وقد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه فيدل على أن للمرسل أصلا فأما إن كان مما يمكن أن يكون الصحابي من قاله عن اجتهاد فليس الظاهر قويا حينئذ

الأمر الرابع أنه إذا وجد كثير من أهل العلم يفتون بمايوافق المرسل دل على أن له أصلا ولا شك أن الاعتبار بمثل هذا أضعف من الاعتبار بقول الصحابة إذ جاز أن يكون من قال بموافقته يقبل المرسل ويحتج به فيرجع الأمر إلى ذلك المرسل

الأمر الخامس أن ينظر في حال المرسل فإن كان إذا سمى شيخه لم يسم إلا مقبول القول ثقة قبل منه وإن كان يرسل عن كل ضرب من الناس وإذا سمى شيخه سمى تارة ضعيفا وأخرى مجهولا وأخرى واهيا لم يحتج بمرسله

وقد قال أبو عمر بن عبد البر وأبو الوليد الباجي لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير متحرز يرسل عن غيرالثقات وهذا

ص: 42

الشرط وحده كاف في اعتبار المرسل وقبوله كما تقدم في احتجاج الإمام الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب

ثم إن هذا القول من الإمام الشافعي يقتضي أن المرسل عنده ليس مختصا بما روى التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون قد أسقط منه الصحابي فقط إذ لو كان كذلك لما احتاج إلى هذا الاعتبار في شيوخ المرسل الذين يرسل عنهم بل يطلق المرسل على كل ما سقط منه رجل أو أكثر كما تقدم عن اختيار الخطيب وأنه اصطلاح جمهور الفقهاء وحينئذ فيشكل على ذلك قول الشافعي في آخر كلامه فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم من يقبل مرسله وأراد بذلك رد مراسيل صغار التابعين كالزهري ونحوه فمن بعدهم بطريق الأولى ويمكن الجمع بين الكلامين بأن الإمام الشافعي رحمه الله لم يقل برد مراسيل صغار التابعين مطلقا بالنسبة إليه وإلى غيره بل أشار إلى علمه وما يترتب على سبره أحوالهم ومقتضي ذلك أن من سبر أحوال الرواي وعرف منه أنه لا يرسل إلا عن عدل ثقة يحتج بمرسله لكن الإمام الشافعي لم يعرف هذه الحالة من أحد بعد كبار التابعين وقد أشار إلى ذلك في كلامه على حديث القهقهة فقال في كتاب الرسالة أنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة قال وقد أنا الثقة عن معمر عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا

قال الشافعي وابن شهاب عندنا إمام ولكن ابن أرقم واه ويقولون أنا نحابي ولو حابينا أحد لحابينا الزهري وإرسال الزهري عندنا ليس بشيء وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم

ص: 43

الأمر السادس أن ينظر إلى هذا الذي أرسل الحديث فإن كان إذا شرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه ولم يخالفه دل ذلك على حفظه وإن كان يخالف غيره من الحفاظ فإن كانت المخالفة بالنقصان إما بنقصان شيءمن متنه أو بنقصان رفعه أو بإرساله كان في هذا دليل على حفظه وتحريه كما كان يفعله الإمام مالك رحمه الله كثيرا

قال الشافعي رحمه الله الناس إذا شكوا في الحديث ارتفعوا ومالك إذا شك فيه انخفض يشير إلى هذا المعنى

وإن كانت المخالفة للحفاظ بالزيادة عليهم فإنها تقتضي التوقف في حديثه والاعتبار عليه بالمتابعة أو الشاهد وهذا المعنى لا ينفرد به قبول المرسل بل هذا الاعتبار جار في كل راو سواء روى مرسلا أو مسندا بخلاف الأمور المتقدمة فإنها معتبرة في المرسل تقوية له حتى يفيد الظن إذا انضم إليه شيء مما تقدم وإنما ذكر الشافعي هذا الشرط هنا وهو جار في كل راو كما صرح به في موضع آخر في الراوي مطلقا بقوله إذا شرك أهل الحفظ في حديثهم وافقهم لئلا يظن أن الأمور المتقدمة وحدها كافية في قبول المرسل إذا انضم بعضها إليه فبين الإمام الشافعي رحمه الله أنه لا بد مع ذلك من هذا الشرط في الراوي له كما هو شرط في راوي المسند ويؤخذ من كلام الشافعي هذا أيضا أن الزيادة في الحديث ليست مقبولة من الثقة مطلقا كما يقوله كثير من الفقهاء بل فيها تفصيل ويشترط فيها أن لا يكون فيها مخالفة لوراية من هو احفظ ممن زادها أو أكثر عددا وليس هذا موضع الكلام في ذلك

الأمر السابع إن المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها

ص: 44

يسوغ الاحتجاج به ولكنه لا يلزم لزوم الحجة بالمتصل لأنه دونه للجهات التي أشار إليها الإمام الشافعي

ومنها أن الراوي الذي أرسل عنه مجهول الحال يجوز أن يكون لو سمي لبان ضعفه

ومنها أن بعض المراسيل رويت من وجوه متعددة مرسلة والتابعون فيها متباينون فيظن أن مخارجها مختلفة وإن كلا منها يعتضد بالآخر ثم عند التفتيش يكون مخرجها واحدا ويرجع كلها إلى مرسل واحد ومثال هذا حديث القهقهة المتقدم ذكره روي مرسلا من طريق الحسن البصري وأبي العالية وإبراهيم النخعي والزهري بأسانيد متعددة وعند التحقيق مدار الجميع على أبي العالية

قال عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه هشام بن حسان من حفصه فحدث به الحسن البصري بأرسله الحسن وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سليمان ابن أرقم يختلف إلى الحسن وإلى الزهري فسمعه من الحسن فذاكر به الزهري فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن مهدي وحدثنا شريك عن أبي هاشم قال أنا حدثت به إبراهيم يعني النخعي عن أبي العالية فأرسله إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال البيهقي فإذا سمع السامع هذا الحديث يجده قد أرسله الحسن وإبراهيم النخعي والزهري وأبو العالية فيظنه متعدد الأسانيد وإذا كشف عنه ظهر مداره على أبي العالية

قلت ومرسلات أبي العالية ضعيفة روى ابن عدي عن ابن سيرين قال كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم الحسن وأبو العالية وسمى آخر

فبهذا ونحوه تقصر مرتبة المرسل وأن اعتضد بغيره

ص: 45

الأمر الثامن إن مراسيل صغار التابعين كالزهري وابي حازم سلمة ابن دينار ونحوهما غير مقبوله عند الشافعي كما صرح به آخر كلامه وإن كان متأولا بالنسبة إلى بحثه عنهم كما تقدم فقد تناول كلامه الأول أيضا للجمع بين الكلامين بأن يحمل من يقبل مرسله من كبار التابعين على أن من عرف منهم بالرواية عن الضعفاء إذا بين من أرسل عنه فإنه لا يعتبر بمرسله وذلك لأن كبار التابعين لم يقصروا رواياتهم عن الصحابة ولا بد بل روى خلق منهم عن أقرانهم من التابعين ويكون مراد الشافعي بكلامه الأخير المنع من قبول مراسيل صغار التابعين مطلقا وكل من الأمرين اللذين جمعنا بهما بين كلامه الأول والأخير محتمل وقد تقدم النقل عن الإمام الشافعي رحمه الله بقبول مراسيل سعيد بن المسيب وبعض أصحابنا عزا ذلك إلى القديم وليس كما ذكر

لما رواه ابن أبي حاتم بالإسناد الصحيح إليه من رواية يونس بن عبد الأعلى عنه ويونس إنما صحبه بمصر وقد قال في مختصر المزني إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن وقد تأول الخطيب وغيره من أصحابنا ذلك على أنه أراد إذا اعتضدت بشيء مما ذكره من هذه الوجوه لا أنها تقبل بانفرادها لأنه وجد لسعيد بن المسيب عدة مراسيل لم تعرف مسنده ولم يقل بها الشافعي وكذلك قال البيهقي أيضا في بعض كتبه واختاره النووي أيضا وفي كل ذلك نظر لما تقدم من قول الإمام الشافعي رحمه الله وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيدبن المسيب فإن هذا ظاهر في استثنائه مراسيله من بين جميع المراسيل وانها تقبل بمجردها ويعتضد ذلك بنصه الذي نقله المزني عنه في المختصر أيضا ولو كان أراد بذلك ما إذا اعتضد بشيء من هذه الوجوه لم يكن الاستثناء به مراسيل سعيد وحده فائدة بل مراسيل غيره

ص: 46

كذلك إذا اعتضدت وكذلك قال أيضا غير الشافعي في مراسيل ابن المسيب قال يحيى بن سعيد الأنصاري كان ابن المسيب يسمى راوية عمر لأنه كان أحفظ الناس لأقضيته قال وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء فأشكل عليه يقول سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وسئل مالك عن سعيد بن المسيب هل رأى عمر رضي الله عنه فقال لا ولكنه ولد في زمانه فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه وقال وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب فيسأله عن بعض شأن عمر وأمره رضي الله عنه ذكر ذلك كله ابن وهب عن مالك وقال حنبل ابن اسحاق سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول مرسلات ابن المسيب صحاح لا ترى أصح منها وقال يحيى ابن معين أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب

فهذا كله يعضد أن مراد الشافعي رحمه الله بكلامه استثناء مراسيل ابن المسيب وقبولها مطلقا من غير أن يعتضد بشيء مما تقدم

وقد حكى القفال المروزي عن الشافعي أنه قال في كتاب الرهن الصغير إرسال ابن المسيب عندنا حجة وذلك أيضا يؤيد ما اخترناه

وقول الخطيب إن الشافعي لم يقل ببعضها لا يرد ذلك إلا إذا صرح برده لكونه مرسلا إذ يجوز أن يكون تركه لمعارض راجح عليه كما في الحديث المسند إذا عارضه ما يرجح عليه

وقوله إنه لم يوجد بعضها مسندا لا يرد ايضا لأن الحكم إنما ترتب في قبول ما أرسله على اعتبار غالب مراسيله والبحث عنها وعلى ما عرف من عادته

ص: 47

أنه لا يرسل إلا عن ثقة مشهور أو من هو من الصحابة رضي الله عنهم وهو الغالب وحسبك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يسأله عن قضايا أبيه مع طول صحبته له وملازمته إياه وابن المسيب لم يسمع منه

بقي النظر في أن ذلك هل هو مختص بابن المسيب أم يتعدى إلى من كان مثله والذي يظهر ولا بد أن من كان مثل ابن المسبي وعرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن عدل مشهور فمراسليه يحتج بها وإن لم يعتضد كما تقدم من قول الإمام أبي نصر بن الصباغ وهذا هو اختيار المحققين كما تقدم ولا شك أن القول بقصر هذا الحكم على ابن المسيب ظاهرية محضة لا وجه له

وقد تحصل من جميع ما تقدم نقله في الحديث المرسل مذاهب متعددة أحدها رده مطلقا حتى مراسيل الصحابة وهذا قول الأستاذ أبي اسحاق وثانيها قبول مراسيل الصحابة ورد ما عداها مطلقا وثالثها قبول مراسيل كبار التابعين مطلقا ورد ما عداها ورابعها قبول مراسيل التابعين كلهم على اختلاف طبقاتهم دون من بعدهم وخامسها قبول مراسيل التابعين وأتباعهم دون من بعدهم وهذا اختيار أكثر الحنفية وسادسها قبول المرسل مطلقا وإن كان من أهل هذه الأعصار وهو توسع بعيد جدا غير مرضي وسابعها إن كان المرسل عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة مشهور قبل وإلا فلا وهو المختار كما سنقرره إن شاء الله تعالى

ص: 48

وثامنها إن كان المرسل من أئمة النقل المرجوع إليهم في الجرح والتعديل قبل مرسله وإلا فلا وتاسعها إن اعتضد المرسل بشيء من تلك الوجوه التي ذكرها الشافعي قبل وإلا فلا وذلك مختص بمراسيل كبار التابعين دون متأخريهم وعاشرها أنه لا فرق في هذا الحكم بين كبار التابعين وصغارهم فكل من اعتضد مرسله بشيء من ذلك كان مقبولا وهو محتمل أن يكون مراد الشافعي بقوله كما تقدم في الجمع بين كلاميه ويحتمل أنه أراد الوجه الذي قبله

فهذه الأقوال في المرسل من حيث هو ويجيء أيضا من قول من قال إن كل منقطع ومعضل يقال له مرسل وقول من فرق بينهما زيادة على ذلك ومن قول من جعل المرسل والمسند سواء أو جعل المرسل أرجح من المسند أو بالعكس أقوال أخر لا يخفي على المتأمل والله أعلم

ص: 49