الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الباب الثالث في ذكر الأدلة الدالة للأقوال المتقدمة)
والخلاف في هذه المسألة يرجع إلى قواعد لأئمة الأصول والفقه في أصول الرواية إحداها قبول رواية المجهول العدالة والاحتجاج به وثانيها ان مجرد رواية العدل عن غيره هل هي تعديل له أم لا وثالثها ان قول الراوي حدثني ثقة أو من لا اتهم ونحو ذلك هل يحتج به إذا لم يسمه أم لا ورابعها ان التعديل هل يقبل مطلقا أم لا بد من ذكر سببه وخامسها ان العدد هل يشترط في التعديل أم يقضي به من واحد
وبعد الإحاطة بهذه الأصول وتقرير ما هو الحق منها نخرج الكلام في المرسل قبولا وردا على الإطلاق أو مع التفصيل ونبين والكلام في ذلك مقرر في موضعه والتعرض لها هنا يخرج عن المقصود والنظر الآن إنما هو في الأدلة
الدالة للأقوال المتقدمة بخصوصها وما يعترض به عليها والكلام في أطراف ثلاثة الطرف الاول في الأدلة على رد المرسل وأنه لا يحتج به مطلقا وهي نقلية وعقلية فمن النقلية حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم رواه ابو داود في سننه من حديث جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الأسدي عن سعيد بن جبير عنه وقد رواه سفيان الثوري وغيره قال فيه النسائي ليس به بأس ووثقه ابن حبان ولم يضعفه أحد والحديث حسن وقد صححه الحاكم في المستدرك وفي كلام اسحاق بن راهويه الإمام ما يقتضي تصحيحه أيضا
وحديث نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى ما لم يسمعها وفي لفظ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه وله طرق كثيرة عن جماعات من الصحابة رضي الله عنهم منهم عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن
عمر وأنس وابن عباس وعائشة وأبو هريرة وأبو إمامة وأبي ابن كعب وجابر بن عبد الله وربيعة بن عثمان وأبو قرصافة وغيرهم رضي الله عنهم وأجود أسانيده من حديث الأربعة المبدوء بذكرهم فنقتصر على الإشارة إليها
أما حديث ابن مسعود فرواه الإمام الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورواه عن عبد الملك بن عمير أيضا إسماعيل بن أبي خالد وإبراهيم بن طهمان وهريم بن سفيان وجعفر بن زياد وغيرهم وأخرجه الترمذي وابن ماجه في كتابيهما من حديث شعبة عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود به وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح وكذلك صححه غيره أيضا وقد اختلف في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه
فالصحيح أنه سمع منه دون أخيه أبي عبيدة قاله الإمام البخاري وغيره
وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه ابن ماجه من حديث يعلى بن عبيد وسعيد بن يحيى اللخمي كلاهما عن محمد بن اسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
والظاهر أن هذا مما دلسه ابن اسحاق فقد رواه عبد الله به نمير عن ابن اسحاق عن عبد السلام بن أبي الجنوب عن الزهري وعبد السلام هذا قال فيه أبو حاتم متروك لكن رواه الحاكم في المستدرك من طريق نعيم بن حماد ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه به
وهذا الإسناد على شرط البخاري وابن سعد لم يكن مدلسا ولكن قد رواه الإمام أحمد في المسند ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن اسحاق حدثني عمرو يعني ابن أبي عمرو عن عبد الرحمن بن الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه
فأخشى أن يكون نعيم بن حماد غلط على إبراهيم بن سعد في الطريق الأولى عن الزهري لا سيما ونعيم قد ضعف وتكلم فيه من جهة حفظه فيكون اشتبه عليه رواية إبراهيم بن سعد عن ابن اسحاق عن عمرو بن أبي عمرو برواية ابن اسحاق المدلسة عن الزهري فإن الحديث ليس محفوظا عن الزهري إلا من هاتين الطريقتين وإحداهما لا اعتبار بها من جهة عبد السلام بن أبي الجنوب والأخرى شاذه لتفرد نعيم بن حماد بها ولكن طريق ابن اسحاق عن عمرو بن أبي عمرو صحيحة لتصريحه فيها بالتحديث فانتفت تهمة تدليسه وقد تابعه عليها إسماعيل بن جعفر المديني أحد الإثبات عن عمرو بن أبي عمرو رواه الإمام الدارمي في مسنده عن أبي الربيع الزهراني عن إسماعيل بن جعفر فصح الحديث بالطريقين وعبد الرحمن بن الحويرث هذا ورى عنه شعبة وقال فيه مالك ليس بثقة فأنكر هذا أحمد بن حنبل واحتج على توثيقه برواية شعبة وسفيان الثوري عنه ووثقه أيضا أبو حاتم بن حبان والله سبحانه أعلم
وام حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه فهو من طريق شعبة قال سمعت عمر بن سليمان يحدث عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نضر الله امرء سمع مني حديثا فحفظ وبلغه غيره وذكر بقيته رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث شعبه وحسنه الترمذي
وأما حديث النعمان بن بشير فرواه الحاكم في المستدرك من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وقال فيه الحاكم صحيح على شرط مسلم وقد روي عن مجاهد والشعبي عن النعمان بنحوه
وروى الحاكم في كتابه علوم الحديث عن يزيد بن هارون قال قلت لحماد بن زيد يا أبا إسماعيل هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن قال نعم ألم تسمع إلى قوله عز وجل ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم فهذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع به إلى من وراءه ليعلمهم إياه ثم قال الحاكم في هذه الآية دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع دون المرسل
قلت وفي هذا الاحتجاج نظر لا يخفي على المتأمل لأن الآية لم تتضمن سوى حثهم والأمر لهم بالنفير للفقه في الدين ثم الرجوع بذلك إلى قومهم ولا دلالة فيها على المنع من شيء غير ذلك والذي ينذر به النافرون قومهم بعد الرجوع إليهم أعم من أن يكون مسندا أو مرسلا والاحتجاج بالحديثين الأولين أظهر دلالة لتعلقهما بخصوص الرواية ثم في كل منهما إشارة إلى أن هذا الاتصال شأن نقل الحديث وسماعه
فإن قيل دلالتهما إنما هي على أن هذا هو الطريق في التحمل لا في الأداء وكذلك يقول من يحتج بالمرسل لا يجوز للراوي أن يرسل حديثا لم يسمعه بل إنما يجوز له إرساله بعد اتصاله إليه وجزمه بعدالة الرواة وأما في حالة الأداء فلا إشعار للحديثين بالمنع من الإرسال
قلنا كما تضمن الحديثان ذلك في كيفية وصول الحديث إلى الرواي فكذلك دلا أيضا على مثله في الرواية ففيهما إشارة أن الراوي لا يتحمل إلا ما سمعه شيخه ممن يروي عنه ويكون كذلك إلى منتهاه
فاعترض بأنه لا دلالة في الحديثين على لزوم التصريح بالأسناد فمن أين جاء المنع من الإرسال وعدم الاكتفاء به مع السكوت عنه
قلنا الحديثان دلا على أن شأن الرواية اتصال الإسناد فمتى جوزنا للفرع قبول الحديث من شيخه من غير وقوف على اتصال السند الذي تلقاه شيخه أدى ذلك إلى اختلال السند لجواز أن يكون هذا الساقط غير مقبول الرواية فلا يجوز الاحتجاج بخبره وهو قد احتج به ويزول حينئذ فائدة الإسناد الذي اتفق المسلمون كلهم على مشروعيته واعتباره فقبول المرسل يؤدي إلى إبطاله وعدم الاعتبار به ولهذا المعنى احتاط الصحابة والتابعون ومن بعدهم في الروايات وتثبتوا فيها وفي اتصالها كما في الحديث الثابت عن علي رضي الله عنه كنت إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته فإذا حلف لي صدقته وأنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه الحديث وفي صحيح مسلم عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما إذ ركبتم الصعب والذلول
فهيهات وعن هشام بن حجير عن طاووس قال كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما وبشير بن كعب العدوي بحدثه ويحدثه فقال له ابن عباس عد لحديث كذا فعاد له ثم قال له عد لحديث كذا وكذا فعاد له فقال له ما أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا أو أنكرت حديثي كله وعرفت هذا فقال ابن عباس رضي الله عنه أنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه
ومن طريق آخر عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس رضي الله عنهما فجعل يحدث ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لا ياذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال يا ابن عباس مالي أراك لا تأذن لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف رواه مسلم أيضا
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يقبل مراسيل بشير بن كعب وهو من ثقات التابعين الجلة الذين لم يتكلم فيهم أحد واحتج به البخاري في صحيحه فكيف بغيره وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن سيرين قال لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم
وقال سفيان بن عيينة حدث الزهري يوما بحديث
إسناد فقال ارتقى السطح بلا سلم وقال بقية ثنا عتبة بن أبي حكيم أنه كان عند اسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري فجعل ابن ابي فروة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الزهري قاتلك الله ما أجرأك ألا تسند حديثك تحدثنا بأحاديث ليست لها خطم ولا أزمة وقال عبد الصمد ابن حسان سمعت سفيان الثوري يقول الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن سلاح فبم يقاتل وقال شعبة كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل
وفي صحيح مسلم أيضا عن عبدان قال سمعت عبد الله بن المبارك يقول الإسناد عندي من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وعن العباس بن أبي رزمة قال سمعت عبد الله يعني ابن المبارك يقول بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد وعن إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك قال فقال عبد الله يا أبا اسحاق عمن هذا قال قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش فقال ثقة عمن قال قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قال قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا اسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف
فهذه الآثار وغيرها متظافرة على اعتبار ما دل عليه الحديثان المتقدمان من التصريح بالإسناد وإن ذلك شأن الرواية للحديث وطريق قبوله
واحتج الإمام أبو المظفر بن السمعاني لذلك أيضا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون قال ونحن إذا قبلنا خبر من لا نعلم حاله في الصدق والعدالة من حاله في خلاف ذلك قفونا ما ليس لنا به علم وقلنا على الدين والشرع ما لا نتحققه ثم أورد على ذلك أن من رد المرسل أيضا فقد قال أيضا ما لا علم له به ومنع ما لم يتحققه
وأجاب عن ذلك بأن الأصل أنه لا يلزم الحكم إلا بحجة والحجة لا تثبت إلا من ناحية العلم وعلمنا بصدق المرسل عنه معدوم فنحن متمسكون بهذا الأصل ما لم يبلغنا عنه دليل يصح به الحجة الشرعية في الخبر والحجة إنما تثبت عند معرفة صدق الراوي وعدالته فتبين أنا برد المرسل لم نكن قائلين بما لا علم لنا به بخلاف قبولنا له مع عدم علمنا بمن أرسل عنه هل هو عدل أم لا
قلت الاستدلال من أصله فيه نظر لا يخفى لأن الراوي لو سمى وكان ثقة لم يحصل لنا العلم بكونه ثقة بل غايته الظن بذلك والآيتان إنما تضمنتا النهي عما ليس بعلم والرواية يكتفي فيها بالظن الغالب فلا يتم الاستدلال بهما على المطلوب اللهم إلا أن يؤول العلم في الآيتين على ما هو الأعم من العلم والظن فيفيد حينئذ لأن غلبة الظن مفقودة حالة الإرسال بصدق المرسل عنه لكن يحتاج حينئذ إلى دليل يدل على أن المراد بالعلم في الآيتين ذلك
وهذا الدليل الذي أشار إليه أبو المظفر هو الذي عول عليه أئمة الحديث والأصول والفقه في رد المرسل بعبارات مختلفة
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الحجة في رد الإرسال ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه وأنه لا بد من معرفة ذلك فإذا حكى التابع عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة إذ قد صح أن التابعين أو كثيرا منهم رووا عن الضعيف وغير الضعيف فهذه النكتة عندهم في رد المرسل لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز قبول نقله وعمن لا يجوز
ولا بد من معرفة عدالة الناقل فبطل لذلك الخبر المرسل للجهل بالواسطة
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه وقد بينا من قبل أنه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عرفت عدالته فوجب لذلك كونه غير مقبول وأيضا فإن العدل لو سئل عمن أرسله عنه فلم يعدله لم يجب العمل بخبره إذا لم يكن معروف والعدالة من جهة غيره وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله لأنه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له فوجب أن لا يقبل الخبر عنه
وقال الإمام فخر الدين في المحصول لنا أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة أما أن عدالة الأصل غير معلومة لنا فلا تكون روايته مقبولة فإنه لم يوجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له وإذ الفرع قد يرسل عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو لجرحه وبتقدير أن تكون تعديلا لا يقتضي أن يكون عدلا في نفس الأمر لاحتمال أنه لو عينه لنا لعرفناه بفسق لم يطلع عليه العدل فثبت أن العدالة غير معلومة وإذا كان كذلك وجب أن لا نقبل روايته لأن ذلك يقتضي قبول شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم وذلك ضرر والضرر على خلاف الدليل ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي فبقينا في الباقي على الأصل ثم ذكر على هذا الدليل اعتراضا من جهة المحتجين بالمرسل هي في الحقيقة أدلة لهم ذكروها على قبوله وسيأتي ذكرها والجواب عنها إن شاء الله تعالى
واعترض القرافي على قوله عدالة الأصل غير معلومة بأنه أن أراد
العلم على ما به فهو غير مشترط في العدالة بل يكفي الظن وإن أراد الظن فلا نسلم إنه غير حاصل بل ظاهر حال الراوي أنه لما روى عنه وسكت عنه كان سكوته دليل عدالته وإلا كان ذلك قدحا في دينه ومنافيا لعدالته وإذا كان يعتقد عدالة الأصل الذي روى عنه فالظاهر أنه عدل في نفس الأمر لأن ذلك غاية اعتقادنا نحن العدالة لأنه فحص عنه كما نفحص نحن عنه انتهى كلامه
والجواب عن ذلك بمنع أنه إذا اعتقد عدالته يكون عدلا في نفس الأمر ولا تلازم بينهما بل الوجود مشعر بخلافه فإن كثيرا من الأئمة وثقوا جماعة من الرواة أما بحسب اجتهادهم في مروياتهم أو لأنه لم يظهر لهم منهم ما ينافي الثقة وظهر ذلك لغيرهم فجرحوهم بينوا سبب الجرح فكان مؤثرا ومن نظر في كتب الجرح والتعديل وجد من ذلك الكثير فهذا الذي أرسل عنه يجوز ظهور جرحه لو سمي كما قد وجد ذلك في كثير من المراسيل كما تقدم في حديث القهقهة وسيأتي له أمثلة أخرى كثيرة إن شاء الله تعالى فمع الجهل به عدالته مشكوك فيها فلا يثبت الخبر بروايته
وهذا كله بعد تسليم أن روايته عنه تعديل له أو إرساله عنه جزم بتعديله وذلك ممنوع كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وقال الأصفهاني شارح المحصول ينبغي حمل قوله عدالة الأصل غير معلومة على الظن أو نقول الأصل غير معلوم العدالة ولا مظنونها ولا يرد النقض عليه بالمسند المتصل فإنه مع ذكر الأصل عدالته غير معلومة بل مظنونة
قلت ولهذا عدل جماعة من الأصوليين وغيرهم عن لفظ العلم هنا إلى لفظ المعرفة ونحوها كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره
فإن قيل مدار هذا الدليل كيف ما صور على رد رواية المجهول والحنفية القائلون بقبول المرسل يقبلون المجهول العدالة ويحتجون به فكيف ينتهض
هذا الدليل عليهم وهل هو إلا إثبات متنازع فيه بمثله وإن عدل إلى تقدير عدم الاحتجاج بالمجهول كان ذلك انتقالا من دليل إلى آخر قبل تتمة الأول وقد عرف ما فيه أيضا
قلنا ليس الحنفية كل القائلين بالمرسل بل قد قال به أيضا جمهور المالكية وغيرهم ممن لا يرى قبول رواية المجهول وأيضا فالمجهول العين على قسمين مجهول العين أصلا ورأسا أيضا ومجهول العدالة بعد المعرفة باسمه وأن ظاهره الإسلام والأول لم يقل الحنفية ولا غيرهم بقبوله وإنما الخلاف بينهم وبين الجمهور في الثاني والمجهول في الخبر المرسل هو من القسم الأول كما أشار إليه الخطيب في كلامه المتقدم فالإلزام ظاهر لهم والدليل منتهض وليس فيه إثبات متنازع فيه بمثله وقد سلك الإمام المازري في هذا الدليل طريقا ذكر أن به يتخلص النزاع وهو أن الراوي اذا قال حدثني فلان وهو ثقة رضي وفتش المروري له عن ذلك الموثق فلم يجد فيه مطعنا فقد حصل الاتفاق على قبول حديثه عند من لايشترط العدد في التعديل ولا بيان السبب وإذا قال حدثني رجل لا أعرفه بعدالة ولا جرح فإن هذا لا يقبل إجماعا عند من لا يرى التعويل على ظاهر الإسلام فقط فإذا قال الراوي حدثني رجل ولم يسمه أو أرسل ولم يذكر شيخا فهل يحمل أمره على أنه عنده من القسم الأول المتفق على قبوله وإنه لو لم يكن عنده عدلا لما أرسل عنه فيجب حينئذ قبول ذلك والعمل به أو يكون لأمر فيه كما في القسم الثاني فلا يكون في إرساله تعديل له وهذا هو الظاهر
قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني من المعلوم المشاهد أن المحدثين لم يتطابقوا على أن لا يحدثوا إلا عن عدل بل نجد الكثير منهم يحدثون عن رجال فإذا سئل الواحد منهم عن ذلك الرجل قال لا أعرفه هل هو ثقة أم لا بل ربما جزم بكذبه كما قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان كذابا فمن أين يصح القطع على الراوي أنه لم يرسل الحديث إلا عن عدل عنده
قلت وسيأتي زيادة بيان وأمثلة لمن أرسل حديثا ثم تبين أنه سمعه ممن ليس بمقبول عند الجواب عن أدلة القائلين للمرسل إن شاء الله تعالى
دليل آخر ذكره ابن عبد البر وأبو بكر الخطيب وغيرهما من الأئمة وهو الاتفاق على ان الإرسال في الشهادة غير مقبول بل لا بد وأن يذكر شهود الفرع شهود الأصل الذين تلقوا منهم الشهادة بعيونهم واحتج به قديما الإمام أبو بكر الحميدي شيخ البخاري بنحو من ذلك بل ذكره الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن الإمام الشافعي وأنه استدل به والجامع بين الشهادة والخبر أن كلا منهما يثبت به الحكم لكن الأول حكم خاص وهذا حكم عام والعدالة مشترطة فيهما اتفاقا فلما لم يصح الإرسال في الشهادة إجماعا لزم مثله في الرواية وقرره ابن الصباغ بوجه آخر وهو أن شهود الفرع إذا لم يسموا شهود الأصل لم يكن شهادتهم تعديلا لهم مع عدم تسميتهم فكذلك هنا
واعترض المخالفون على هذا بالفرق بين المقامين بأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها أمو ر لم تعتبر في الرواية كالحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة والعدواة وأيضا ليس لشاهد الفرع أن يشهد على شهادة الأصل ما لم يشهده على شهادته ويجوز للفرع في الرواية أن يروي عنه إذا سمعه يحدث وإن لم يقل له اروه عني وأيضا ليس للفرع أن يشهد على شهادة الأصل بلفظ عن ونحوها بل لا بد من الأداء بلفظ الشهادة ومع هذه الفروق كلها لا يصح قياس إحداهما على الأخرى
وأجب عن ذلك بأن الأصل اتفاق البابين في الشروط والأحكام لما بينهما من المعنى الجامع الذي تقدم فإذا خولف ذلك الأصل في بعض الصور بقي الباقي على الإنفاق بينهما يثبت حتى مخالفته له بدليل
وقال الشيخ أبو إسحاق الجامع المعتبر بين الرواية والشهادة هنا هو العدالة التي هي شرظ فيهما وكلامنا في معنى يتعلق بذلك فلا ينقض بافتراقهما بقي أمور أخر خارجة عن ذلك
وأما على ما قرره ابن الصباغ فعدم النقض ظاهر أيضا لأن المقصود إنما هو أن سكوت الفرع عن تسمية شهود الأصل لا يكون تعديلا لهم فكذلك الرواية فلا يرد على هذا افتراقهما في الاستدعاء وفي لفظ الأداء وغير ذلك
قال ابن عبد البر وأيضا لو جاز قبول المرسل لجاز قبول خبر مالك والشافعي والأوزاعي ونحوهم إذا أرسلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا وبطل المعنى الذي عليه مدار الخبر انتهى كلامه
وهذا فيه إشارة الى بطلان القول المتقدم في قبول المراسيل من أهل هذه الأعصار وما قاربها والظاهر أن المسألة كالاجماعية وإنما حصل الوهم من إطلاق من قال من الأصوليين إذا قال غير الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ولا شك أن قبول مثل هذا يرفع ما عليه الاتفاق في كل عسر من اعتبار الإسناد وتوقف الحجة بالخبر على عدالة ناقلية فالقول به منا بذ لهذا الاتفاق ثم إن كل ما تقدم من الأدلة وارد على هذا القول بالنسبة إلى كل طبقة من طبقات الرواة لأن الخلل في الإسناد إذا تطرق إليه من جهة الجهل براو واحد فكلما تعددت الجهالة قويت جهات الخلل وظهور فساد هذا القول غني عن الإطالة فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
الطرف الثاني في ذكر أدلة القائلين للمرسل المحتجين به والجواب عنها وهي نقلية وإجماعية على ما زعموا واستدلالية
أما النقلية فاحتجوا بقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون قالوا فدلت الآية على أن الطائفة إذا رجعت إلى قومها وأنذرتهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلزم قبول خبرهم ولم تفرق الآية في الإنذار بين ما أسندوه وما أرسلوه ولا بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم بلغوا عني وقوله ليبلغ الشاهد منكم الغائب شمل المرسل والمسند لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ
عنه ولم يفرق بين المسند وغيره والأمر بالتبليغ لا بد له من فائدة وليست تلك الفائدة سوى العمل بما يبلغه الراوي إلى من بعده فلو كان بعض ما يبلغه الراوي وهو المرسل لا يعمل به لبينه صلى الله عليه وسلم
واحتجوا أيضا بقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قالوا فدلت الآية على وجوب تبليغ ما أنزل الله من البينات والهدى والعمل به والراوي الثقة إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بين وترك الكتمان فيلزم قبوله بظاهر الآية ولم يفرق بين المرسل والمسند
وبقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أو فتثبتوا والقاءتات متواترتات فلم يأمر الله تعالى بالتثبت أو التبيين إلا في خبر الفاسق فدلت الآية على أن العدل الثقة لا يجب التثبت في خبره وهذا المرسل عدل ثقة فيجب قبول خبره لأن الآية لم تفرق بين ما أسنده وبين ما أرسله
والجواب عن ذلك كله إن هذه الآية والأحاديث ليس فيها شيء عمومه لفظي بل هي أفعال مطلقة لا عموم لها والمطلق يصدق امتثاله بالعمل به في صورة وإن سلم عمومها من جهة المعتى وعدم التفرقة كما ذكروه فهي مخصوصة بالرواية عن المجهول العين اتفاقا كما إذا ذكر الراوي شيخه وقال لا أعلم عدالته أو سكت عنه بالكلية وقلنا بالراجح إن مجرد رواية العدل عن الراوي ليست تعديلا له وإنما خصت بهذه الصورة للجهالة والجهالة في صورة المرسل أتم لأن فيه جهالة العين والصفة ولأن من لا يعرف عينه كيف تعرف صفته من العدالة بخلاف تلك الصورة فإن فيها جهالة الصفة فقط فإذا خصت بتلك الصورة لزم تخصيصها في صورة الإرسال بطريق الأولى
ثم قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا يقتضي أن من لم يكن فاسقا لا يتثبت في خبره وعدم فسقه لا طريق إليه إلا بالتزكية أو الخبرة بحاله والراوي المرسل عنه مجهول العين أصلا فلا تعرف عدالته فيتوقف فيه
وأما الإجماع فقد ادعاه جماعة منهم حتى قال محمد بن جرير الطبري لم يزل الناس على العمل بالمرسل وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده يشير إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه قالوا أما عصر الصحابة فلا ريب في شيوع الإرسال منهم وإن لم يحصل نكير البتة على أحد ممن أرسل من الصحابة رضي الله عنهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل لأحد منهم أبدا هل سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم أو بينك وبينه واسطة بل روى كثير منهم الحديث الكثير مع العلم الشائع بينهم أنه لم يسمع كل ذلك منه صلى الله عليه وسلم كابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وساير الصغار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم حتى قيل إن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث وقد روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة وستون حديثا وهذا مما يعلم ضرورة أنه لم يسمع جميعها من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وغيرهم أحاديث بدء الوحي والإسراء وغير ذلك مما لم يكن بالمدينة ولم يصرحوا بسماعهم له من النبي صلى الله عليه وسلم بل وقد صرح بعضهم بأن في الذي يرويه ما هو مرسل كما تقدم من قول البراء بن عازب رضي الله عنه ليس كلما نحدثكم به سمعناه من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سمعنا وحدثنا أصحابنا ولم يكن
بعضنا يكذب بعضا وكذلك روي عن أنس رضي الله عنه نحوه وهذا أبو هريرة رضي الله عنه على كثرة ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم وتبحره فيما حفظ عنه روى حديث من أصبح جنبا فلا صيام له فلما روجع فيه قال سمعته من الفضل بن عباس وكذلك ابن عباس في حديث إنما الربا في النسيئة أرسله أولا ثم أسنده عن أسامة بن زيد إلى غير ذلك من الصور التي يطول ذكرها ولم ينكر عليهم أحد الإرسال أصلا فدل ذلك كله على اتفاق عصر الصحابة على قبول المرسل ولا ريب فيه
وأما التابعون فإرسالهم للأحاديث التي لا تدخل تحت الحصر مشهور شائع بينهم كابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومن يطول الكلام بذكرهم ولم يكن روايتهم لها إلا للعمل بها وإلا فلو كانت لغوا لا تفيد شيئا ولا يحتج بها لأنكرها عليهم العلماء وبينوا أن إرسالهم الحديث يقتضي التوهين له وعدم الاحتجاج به فما أنكر ذلك عليهم نظراؤهم ولا من فوقهم وإنما أنكره من جاء من بعدهم
قالوا ولا يعترض على هذا بأنه يلزم منه أن يكون الخلاف في ذلك مردودا قادحا في المخالف لكونه خارقا للإجماع وذلك باطل لأن الخلاف في المرسل مقبول مسموع من قائله لا نجيب عنه بأن الخلاف المردود المقتضي للقدح إنما هو خرق الإجماع القطعي أما الإجماع الاستدلالي أو الظني فلا يقدح في خارقه وهو هنا بهذه المثابة لأنه إجماع سكوتي
والجواب عن ذلك كله إن دعوى الإجماع في ذلك باطل قطعا إلا في عصر الصحابة زمن النبوة وبعدها بيسير حين لم يخالط الصحابة غيرهم وذلك لا يرد على من لم يحتج بالمرسل وكذلك إرسال صغار الصحابة لما تقدم إن مثل هذا مقبول على الراجح المشهور الذي عليه جمهورالعلماء وإنه لم يخالف
فيه إلا الأستاذ ابو اسحاق وطائفة يسيرة وقولهم مردود بأن الصحابة كلهم عدول ومن كان منهم يرسل الحديث فإنما هو عن مثله ولا يضر الجهالة بعينه بعد تقرر عدالة الجميع ولا يقال فقد وقع من بعض الصحابة الكذب كما نقله أهل التفسير في قصة الوليد بن عقبة ونزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ الآية وكما روي من قصة الذي ذهب إلى قوم وزعم لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه بابنتهم وكان ذلك سبب قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي متعمدا فيتبوأ مقعده من النار لأنا نقول أن سلم صحة ذلك فهو نادر جدا لا أثر له والحكم إنما هو للغالب المستفيض الشائع وقد تقدم قول البراء رضي الله عنه ولم يكن بعضنا يكذب بعضا وهذا هو الأمر المستقر الذي أطبق عليه أهل السنة أعني القول بعدالة جميع الصحابة رضي الله عنهم ولا اعتبار بقول أهل البدع والأهواء ولا تعويل عليه
وأما بعدما كثر التابعون وانتشرت رواياتهم بين الصحابة المتأخرين وغيرهم فلا يمكن دعوى إجماع سكوتي على قبول المرسل فضلا عن غيره وقد تقدم قصة ابن عباس مع بشير بن كعب وعدم قبوله المراسيل مطلقا وإلا فيمن يعرف وهي ثابتة في صحيح مسلم من الوجهين المتقدم ذكرهما وكذلك قول ابن عباس أيضا كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات وقول ابن سيرين لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم
قلت لأن المتدعة كذبت أحاديث كثير تشيد بها بدعتها قال ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه قاتلهم الله أي علم أفسدوا رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا
قال الإمام الشافعي رحمه الله كان ابن سيرين وعروة بن الزبير وطاووس وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلوا
الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب وقد تقدم إنكار الزهري على إسحاق بن أبي فروة إرسال الحديث وقوله قاتلك الله يا ابن أبي فروة تحدثنا بأحاديث ليست له خطم ولا أزمة يعني الأسانيد والزهري ممن كان يرسل الحديث فدل قوله هذا على أن إرساله الحديث لم يكن ليعمل به ربما كان للمذاكرة ونحوها أو رأى أبن أبي فروة ربما يرسل عن غير ثقة فأنكر عليه ذلك
فإن قيل فكيف أرسل الزهري عن سليمان بن أرقم وغيره حتى ضعف جماعة من الأئمة مراسيله مطلقا
قلنا يحتمل أنه لم يطلع على ضعف سليمان بن أرقم وأحسن الظن به وكذلك قال الشافعي فيه رآه الزهري يعني سليمان ابن أرقم من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه وإما لغير ذلك
والحاصل أن إنكار أهل ذلك العصر للإرسال وردهم للمرسل موجود في صور كثيرة فلا إجماع حينئذ ولا يمكن طرد اتفاق الصدر الأول من الصحابة بعد ذلك لما أشار إليه ابن عباس وابن سيرين وغيرهما من الفرق بينهم وبين من بعدهم لوجود الأهواء والكذب بعد الصدر الأول ثم إن هذا القول من ادعاء الاتفاق معارض بما نقله مسلم في مقدمة صحيحه عن غيره مقررا لكلامه المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة وقول محمد بن جرير لم يزل العمل بالإرسال وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده مردود بقول من رده قبل المائتين كالأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وبالله التوفيق
وأما المعقول فذكروا وجوها عديده الأول إن الراوي إذا روى الحديث مرسلا فقد قطع بشهادته على النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر وكفى من بعده مؤنة البحث والتفتيش عن الراوي وإذا وصل السند فقد أحال على الواسطة وبرىء من عهدته فالجزم من الراوي بصحة الحديث فيما أرسله أظهر منه فيما أسنده فكان الأول أقوى ولا أقل من أن يكونا على السواء أو يكون المرسل أنزل درجة من المسند ولكنه مما يحتج به
وهذا هو متعمد من يفرق في المرسل بين أئمة النقل المرجوع إليهم في الجرح والتعديل فيقبل منهم ما أرسلوه وبين غيرهم فلا يقبل مرسله لأنه إذا كان قول الواحد من ائمة النقل المرجوع إليهم في الجرح والتعديل فيقبل منهم ما أرسلوه وبين غيرهم لأنه قد جزم به ولا يجزم حتى يثبت عنده عدالة الراوي فيكون قوله مقبولا في ذلك
الثاني إن عدالة الراوي وأمانته يمنعانه أن يشهد على النبي صلى الله عليه وسلم بخبر ويكون راويه له غير ثقة ولا حجة فلا يستجيز أن يجزم بالحديث إلا بعد صحته عنده ولا يلزم أن يكون فاسقا مردود الرواية لكونه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بصيغة الجزم وهو لا يعلم ثبوته أو لا يغلب ثبوته على ظنه فالقول برد المرسل يلزم منه القدح في الراوي وذلك باطل لأن الإرسال لو كان متقتضيا للقدح في المرسل لم يقبل الأئمة من الراوي شيئا مما أسنده إذا كان قد روى مراسيل وخصوصا إذا أكثر منها وقد اتفقت الأمة على قبول خلق كثير من الرواة مع كثرة ما أرسلوه وذلك يستلزم قبول مراسيلهم ولا انفكاك عن واحد من الأمرين
قالوا ومن الدليل على هذين الوجهين وأن الراوي الثقة كان لا يرسل الحديث إلا بعد صحته عنده ما جاء عن الأعمش قال قلت لإبراهيم النخعي إذا حدثتني فأسند فقال إذا قلت لك قال عبد الله فقد حدثني جماعة عنه وإذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني
وقال الحسن البصري كنت إذا اجتمع لي أربعة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركتهم وأسندته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فإذا كان هذا شأن مراسيل الحسن وهي عندكم من أضعف المراسيل فكيف بمراسيل غيره من كبار التابعين كابن المسيب وقد روى عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله من أحيا أرضا ميتة فهي له فأرسله ولم يسنده فقال له عمر بن عبد العزيز أتشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال نعم أخبرني بذلك العدل الرضي فلم يسم من أخبره فاكتفى منه عمر بن عبد العزيز بذلك وقبله وعمل به إلى غير ذلك من الشواهد التي يطول الكلام بسياقها
ويكفي من ذلك ما رويتم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا أبيه عمر رضي الله عنه وأحكامه مع علمه بأنه لم يدركه ولم يختلف عليه اثنان في قبولها منه مرسلة وقد قال أحمد بن حنبل إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل
الثالث إن هذا الواسطة الذي بين التابعي وبين النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون صحابيا أو تابيعيا ثقة أو مجروحا متهما أومجهولا لا يدري حالة فهذه أربعة أمور لا بد من أحدها أن يكون موجودا عند المرسل عنه فعلى التقديرين الأولين يجب قبول الخبر وعلى التقديرين الأخيري لا يقبل لكنا نقول إن احتمال التقديرين الأخيرين بعيد جدا في التابعين وخصوصا أن يكون ذلك الواسطة متهما بالكذب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين وجعلهم خير القرون بعد قرن الصحابة رضي الله عنهم فالمجروح المتهم بالكذب فيهم نادر بخلاف القرون التي بعدهم ولما تقدم من استحالة أن يكون التابعي الثقة الذي اطلع على كون شيخه الذي تلقى منه ذلك الحديث متهما ثم أرسله عنه جازما به عن النبي صلى الله عليه وسلم وبتقدير أن يكون ذلك غير مستحيل فلا شك في أنه بعيد جدا وكذلك يبعد أيضا أن يكون هذا الراوي مجهولا قد خفي حاله على التابعي ويقطع بروايته على النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يطلع على ثقته وعدالته فإذا تبين أن هذين الاحتمالين مرجوحان بالنسبة إلى الاحتمالين الأولين تعين العمل بالراجح لأنه أغلب على الظن
الرابع لو لم يكن المرسل حجة لم يكن الخبر المعنعن حجة يصرح بالسماع ممن فوقه والاحتمال الذي ذكرتموه في الخبر المرسل قائم بعينه في المعنعن واحتمال لقاء المعنعن شيخه وسماعه منه ليس بدون احتمال ثقة الواسطة المحذوف وعدالته
الخامس إذا وجب على المستفتي قبول قول المفتي فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى بناء على ظاهر علمه وعدالته فيجب على العالم قبول ما يرسله الراوي عن النبي صلى الله عليه سلم لفظا بناء أيضا على ظاهر عدالته وصدقة وأمانته
السادس إن الحاكم إذا حكم بشهادة عدلين وأسجل بهما ولم يسمهما لم يجز لأحد الاعتراض على حكمه لأجل تسمية الشهود فكذلك هنا لا اعتراض على الراوي في تركه تسمية شيخه
السابع إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة فاكتفى عمر رضي الله عنه بظاهر الإسلام في القبول إلا أن يعلم منه خلاف العدالة ولا ريب أن هذه الواسطة بهذه المنزلة والألم يرسل عنه التابعي كما تقدم والأصل قبول خبره حتى يثبت عليه ما يقتضي رد ذلك قالوا وهذا في عصر التابعين ظاهر جدا لما قدمنا إنهم خير القرون بعد عصر الصحابة ولم يكن فيهم معروف بالكذب إلا من أمره مشهور بينهم شهرة أظهر من أن يحتاج إلى البحث عنه ولم يكن أئمة التابعين يروون عمن هذا حاله شيئا وهذا الضرب أكثر ما يوجد في الشيعة هذا خلاصة ما احتجوا به بعبارات مختلفة وألفاظ متباينة يرجع حاصلها إلى هذه الأوجه السبعة وبالله التوفيق
والجواب عن ذلك أولا إن الأخبار كلها متضمنة أمور الدين أما العلمية وأما العملية وما كان بهذا السبيل فلا يجوز قبوله من كل أحد بل لا بد فيه من اعتبار العدالة والتيقظ بالاتفاق ولهذا قال محمد بن سيرين وغيره من الأئمة إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم وإذا كان كذلك فلا بد من تحقق العدالة عند المروي له لأن الرواية أداء شرع إليه وإلزام
يتصل به فهو كالشهادة إنما تعتبر عدالة الشهود عند الحاكم لأنهم يؤدون إليه الشهادة ولا تثبت عدالته عند المروي له حتى يعرفه بعينه وصفته كما تقدم ولا يكفي ذلك كونه عدلا عند الراوي له مع إبهام اسمه حتى لو قال الراوي حدثني ثقة ولم يسمه لم يكن ذلك كافيا في حق المروي له إلا أن يكون ذلك القائل مجتهدا والمكتفي بذلك مقلد له فيجوز كأصحاب الشافعي فيما يقول فيه أخبرني الثقة وأخبرني من لا أتهم ونحو ذلك أما انه ينتهض ذلك بمجرده حجة على خصمه فلا إذ من الجائز أنه لو سماه لا طلع فيه غيره على ما يقتضي جرحه ولم يكن ظهر لمن وثقه بخلاف ما إذا سماه باسمه ووثقه فإن المروي له وغيره إذا بحث عنه فلم يجد فيه جرحا اطمأن الى توثيقه ولزم العمل بخبره
قولهم في الوجه الأول إن المرسل قد قطع بإرساله الشهادة على النبي صلى الله عليه وسلم بخبره
جوابه المنع إذ لا سبيل إلى القطع إلا في الخبر المتواتر وأما خبر الواحد فلا يفيد إلا الظن بل لو صرح المرسل للحديث بذلك وقال اقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لزم تأويل قوله وصرفه عن ظاهره وإلا كان كاذبا ويعود عليه بالجرح وإذا تعين تأويل معنى الإرسال فعلى قولهم يكون معناه أظن أو يغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وعلى قول المانعين لصحة المرسل يكون معناه سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وليس إضمار الأول بأقل من إضمار الثاني وعلى تقدير إيراده المعنى الثاني فليس فيه جزم بالخبر بل لو صرح بذلك وقال إني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا لم يكن فيه جزم بالمروي ولا تعديل لمن أرسل عنه
وقولهم كفى المرسل بأرساله من بعده مؤنة البحث والتفتيش عن الراوي قلنا ليس كذلك ولا تنتهض الحجة بمجرده بل لا بد من معرفة ذلك الراوي ولو صرح بتوثيقه فإذا لم يجد فيه فغيره جرحا مؤثرا فحينئذ تقوم الحجة به وما لم يعرفه فتجويز كونه مجروحا ممكن وإذا احتمل لم يثبت خبره
فإن قيل لو كان مجروحا لبينه ولم يجزم بخبره قلنا يجوز أنه لم يظهر له جرحه لقلة ممارسته حديثه وعند معرفته باسمه يظهر لغيره ذلك
وبهذا يخرج أيضا الجواب عن الوجه الثاني وهو أنه لو لم يكن عدلا عنده لكان بجزمه بالرواية عنه فاسقا لإثباته الخبر وهو لا يغلب ثبوته على ظنه وتعديله من ليس عدلا ولنا لا يلزم ذلك لأنه لم يكلف إلا بما ظهر له وقد يظهر لغيره خلاف ذلك ويترجح على تعديل هذا كما قد وقع للزهري مع إمامته في إرساله عن سليمان بن أرقم لظنه تعديله وهو ضعيف متروك لا يحتج به ومثل هذا كثير جدا فلا تلازم بين الأمرين كما قالوا بل لو صرح الراوي بتعديل شيخه لما ظهر له منه ووجدنا غيره قد جرحه جرحا مؤثرا لم يعد ذلك على الراوي الموثق بالجرح لأنه إنما وثق بحسب ظنه واجتهاده فكذلك إذا جزم بالخبر وصححه واطلع غيره فيه على علة قادحة فيه قدمت على تصحيح ذاك ما عدا تصحيح الشيخين لاتفاق الأمة على تلقي ذلك منها بالقبول فغاية الأمر أن المرسل صرح بتصحيح ما أرسله وتعديل شيخه ومع الإبهام لا يثبت ذلك ما لم يعرف الراوي وينظر هل فيه جرح مؤثر أم لا
والذي يبين هذا كله أن كثيرا من المراسيل المتقدمة فتش عنها فوجدت عن ضعيف في الرواية
وقولهم إن الكذب لم يكن في ذلك العصر ممنوع بل إن الواقع خلافه قال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال أمرني يحيى بن الحكم على جرش فقدمتها فحدثوني أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اتقوا صاحب هذا الداء يعني الجذام كما يتقي السبع إذا هبط واديا فاهبطوا غيره فقلت والله لئن كان ابن جعفر حدثكم هذا ما كذبكم فلما عزلني عن جرش قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن جعفر فقلت أبا جعفر ما حديث حدثه عنك أهل جرش ثم حدثته الحديث فقال كذبوا والله ما حدثتهم ولقد رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو بالإناء فيه الماء فيتناوله معيقيب وقد كان أسرع فيه هذا الداء ثم يتناوله فيتيمم بفمه موضع فمه نعلم أنه إنما يصنع ذلك كراهة أن يدخل نفسه شيء من العدوى وذكر بقية الخبر
قال ابن عبد البر فهذا محمود بن لبيد يحكي عن جماعة أنهم حدثوه عن عبد الله بن جعفر بما أنكره ابن جعفر رضي الله عنه ولم يعرفه بل عرف ضده وهذا في زمن الصحابة فما ظنك بمن بعدهم
وقال ابن وضاح حدثنا أحمد بن سعيد ثنا عمي ثنا سعيد بن مريم عن الليث بن سعد قال قدم علينا رجل من أهل المدينة يريد الاسكندرية مرابطا فنزل على جعفر بن ربيعة قال فعرضوا له بالحملان وعرضوا له بالمعونة فلم يفعل واجتمع هو وأصحابنا يزيد بن أبي حبيب وغيره فأقبل يحدثهم حدثني ابن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فجمعوا تلك الأحاديث وكتبوا بها إلى ابن نافع وقالوا له إن رجلا قدم علينا وخرج إلى الاسكندرية مرابطا وحدثنا فأحببنا أن لا يكون بيننا وبينك فيها أحد فكتب إليهم والله ما حدث أبي من هذا بحرف فانظروا عمن تأخذون واحذروا قصاصنا ومن يأتيكم
وقال الإمام الشافعي حدثنا عمي محمد بن علي ثنا هشام بن عروة عن أبيه قال إني لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه فيقتدي به وذلك إني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به أو اسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به فلا أحدث به
قال ابن عبد البر وفي هذا دليل على أن ذاك الزمان قد كان يحدث فيه الثقة وغير الثقة قلت ويدل على ذلك أيضا ما تقدم من قصة ابن عباس رضي الله عنه مع بشير العدوي وغيره وروى الحسن بن علي الحلواني سمعت يزيد بن هارون يقول حدث سليمان التيمي عن ابن سيرين بحديث فأتى ابن
سيرين فذكر له الحديث فقال ما هذا سليمان اتق الله ولا تكذب علي فقال سليمان إنما حدثنا مؤذننا أين هو فجاءه المؤذن فقال له سليمان أليس حدثتني عن ابن سيرين بكذا وكذا فقال إنما حدثنيه رجل عن ابن سيرين
قرأت على أبي العباس أحمد بن الحسن التغلبي أخبرك أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الرحمن بن هلال أنا الحافظ أبو القاسم علي بن القاسم الدمشقي أنا على بن الحسن بن المواريني أنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي نصر ثنا يوسف بن القاسم الميانجي ثنا أبو عبيد محمد بن عبد الرحمن الناقد ثنا أبو يحيى محمد بن سعيد العطار قال سمعت مضر بن حماد الوراق يقول كنا قعودا على باب شعبة نتذاكر فقلت حدثنا إسرائيل عن أبي اسحاق يعني السبيعي عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه فسمعته يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر الله عز وجل إلا غفر له فقلت بخ بخ فجذبني رجل من خلفي فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الذي قال قبل أحسن فقلت وما قال قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت قال فخرج شعبة فلطمني ثم رجع فدخل فتنحيت من ناحية قال ثم خرج فقال ما له يبكي بعد فقال له عبد الله بن إدريس إنك أسأت إليه فقال شعبة انظر ما يحدث إن أبا إسحاق يعني السبيعي حدثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطا عن عقبة بن عامر فقلت لأبي إسحاق من عبد الله بن عطاء قال فغضب ومسعد بن كدام حاضر قال فقلت لتصححن لي هذا أو لأخرقن ما كتبت عنك فقال لي مسعر عبد الله بن عطاء بمكة قال شعبة فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته فقال سعد بن إبراهيم حدثني فقال لي مالك بن أنس سعد بالمدينة لم يحج العام قال شعبة فدخلت المدينة فلقيت
سعد بن إبراهيم فسألته فقال الحديث من عندكم زياد بن مخراق حدثني فلما ذكر زياد بن مخراق قلت أي شيء هذا الحديث بينما هو كوفي صار مدنيا إذ صار بصريا قال فرحلت إلى البصرة فسألت زياد بن مخراق فقال ليس هو من بابتك فقلت حدثني به قال لا تريده فقلت حدثني به فقال حدثنا شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شعبة فلما ذكر شهر بن حوشب قلت دمر علي هذا الحديث لو صح لي مثل هذا كان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين
قال أبو يحيى العطار قدم علينا المثنى بن معاذ فسألته عن هذا الحديث فقلت هل له عندكم أصل بالبصرة قال نعم حدثني بشر بن المفضل عن شعبة بمثل هذه القصة
قلت ورواها أبو داود الطيالسي أيضا عن شعبة أخصر من هذا وذكر فيه أن زياد بن مخراق قال حدثني رجل من أهل البصرة لا أدري من هو عن شهر بن حوشب به
فهذا أبو إسحاق السبيعي من ثقات التابعين الذين أدركوا جماعة كثيرة من الصحابة نراه كيف أرسل هذا الحديث ورجع مآله إلى رجل مجهول وإلى شهر بن حوشب وهو متكلم فيه وقد خفي ذلك على إسرائيل بن يونس وابي الأحوص وغيرهما من أصحاب أبي اسحاق السبيعي فرووه عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر فهذا وأمثاله يبين عوار المرسل وينتقض قول من قال إن المرسل لا يجزم بالحديث إلا بعد ثبوته عنده وأنه يلزن أن يكون كذلك في نفس الأمر
وقولهم إن الراوي لا يرسل الحديث إلا بعد جزمه بعدالة من أرسل عنه مجرد دعوى لا دليل عليها سوى ما ذكروا من لزوم فسق ذلك الراوي وقد بينا أنه ليس بلازم ثم إن المشاهد يشهد بخلاف ذلك كما تقدم من الأمثلة ويعارضه أيضا كلام أئمة هذا الفن قال ابن سيرين حدثوا عمن شئتم يعني من المراسيل إلا عن الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث
وقال يحيى بن سعيد القطان مرسل الزهري شر من مرسل غيره لأنه حافظ كلما قدر أن يسمي سمى وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه وقال أحمد بن سنان كان يحيى بن سعيد لا يرى غرسال الزهري وقتادة شيئا ويقول هو بمنزلة الريح ويقول هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه وقال أيضا مرسلات أبي إسحاق السبيعي شبه لا شيء وكذا الأعمش وسليمان التيمي وكذلك عطاء لأنه كان يأخذ عن كل ضرب وكذلك قال أحمد بن حنبل ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنهما يأخذان عن كل أحد
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان قال ربما حدثنا الحسن بالحديث ثم اسمعه بعد يحدث به فأقول من حدثك يا أبا سعيد فيقول ما أدري غير أني سمعته من ثقة فاقول أنا حدثتك به
فهذا الحسن يرسل عن علي بن زيد وهو متكلم فيه كثيرا وتوثيقه أياه بحسب ظنه وقال ابن عون قال بكر المزني للحسن وإنا عنده عمن هذه الأحاديث التي تقول فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنك وعن ذا
وهذا كله يرد ما ذكره عن الحسن أنه قال كنت إذا اجتمع لي أربعة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركتهم وقلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم أجده مسندا بل هو في كتبهم هكذا منقطعا
وأما مل ذكروه عن إبراهيم النخعي فهو صحيح رواه شعبة عن الأعمش عنه وكذلك قال أحمد بن حنبل مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس
بها وأشار البيهقي إلى أن هذا إنما يجيء فيما جزم به إبراهيم النخعي عن ابن مسعود وأرسله عنه لأنه قيد فعله ذاك فأما غيرها فإنا نجده يروي عن قوم مجهولين لا يروي عنهم غيره مثل هني بن نويره وجذامة الطائي وقرثع الضبي ويزيد بن أوس وغيرهم
وهذا كله يخرج الجواب عن الوجه الثالث الذي رددوا فيه احتمال المرسل عنه من الصحابي أو التابعي الثقة والضعيف أو المجهول ويتبين أن احتمال الصحابي أو التابعي الثقة ليس راجحا على الاحتمالين الأخيرين بل ربما يرجح في مواضع احتمال كونه ضعيفا أو مجهولا ولا أقل من أن تتساوى الاحتمالات وحينئذ فلا يصح الاحتجاج به
وأما الوجه الرابع فالجواب عنه أن الراوي الذي يطلق لفظه عن أما أن يكون لم يعرف بتدليس أو عرف به فإن لم يعرف بتدليس وكان لقاؤه لشيخه ممكنا أو ثبت لقاؤه له على اختلاف القولين لمسلم والبخاري فلفظة عن محمولة على الاتصال وليس للانقطاع وجه ولا للواسطة احتمال لأن الظاهر سماعه لذلك من شيخه والأصل السلامة من وصمة التدليس فلا يقاس المرسل على هذا مع ظهور الفرق بينهما وإن كان ذلك الراوي معروفا بالتدليس فما رواه عن شيخه بلفظ عن أو غيرها مما لم يضرح فيه بالسماع منه حكمه حكم المرسل سواء فمن قبل المرسل مطلقا يقبله ومن رده يرد هذا أيضا ولا فرق ومن فرق في المرسل بين من كان لا يرسل إلا عن عدل فقبله وبين من يروي عن كل ضرب فلا يحتج بمرسله يقول كذلك في التدليس فمن عرف منه أن لا يدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة قبل ما قال فيه عن واحتج به ومن عرف بالتدليس عن الضعفاء كابن إسحاق وبقية وأمثالهما لم يحتج من حديثه إلا بما قال فيه حدثنا وسمعت وهذا هو الراجح في البابين كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
قال ابن عبد البر قالوا لا نقبل تدليس الأعمش لأنه إذا وقف أحال على غير ثقة إذا سألته عمن هذا قال عن موسى بن طريف وعباية بن ربعي
والحسن بن ذكوان وقالوا نقبل تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظائرهما
والجواب عن الوجه الخامس أن المستفتي العامي ليس من أهل النظر فلا فائدة له في الوقوف على مستند المفتي لأنه مقلد محض وإنما اختلفوا في أنه هل يجب عليه البحث عن الأعلم فيقلده أو لا يجب عليه ذلك ويكتفي بظاهر العلم والانتصاب للفتوى والإفادة وهو الذي عليه العمل بخلاف من يحتاج بالخبر فإنه يجب عليه الفحص عن روايته وبذل الجهد في الكشف عنهم حتى يتبين له منهم ما يقتضي قيام الحجة بخبرهم وكل ذلك مفقود فيمن لم يعرف عينه كما تقدم فلا يقاس أحد البابين بالآخر
وعن السادس بالفرق أيضا بين المقامين بأن الحاكم ليس له أن يحكم إلا بعد ثبوت عدالة الشاهدين عنده بطريقه المعتبرة والراوي لا يجب عليه أنه لا يروي إلا عن ثقة بل أطبق الرواة في محل عصر على الرواية عن الضعفاء فتارة يبينون حال الضعيف عند الرواية كما قال الشعبي حدثني الحارث الأعور وكان كذابا والغالب أنهم يكتفون بما يعرفه أهل الفن من حاله فإذا أرسل عن أحد لم يكن حكم ذلك المرسل كالحاكم الذي لم يعين الشهود للفرق بينهما
وقولهم إنه إذا أرسل عن غير ثقة يكون ذلك قادحا في المرسل تقدم الجواب عنه وأيضا فمن الذي صرح من الرواة بأنه إنما أرسل حديثا لتقوم به الحجة هذا لا يوجد عن أحد منهم البتة فإن قالوا هذا هو فائدة الرواية قلنا إذا رواه على وجه تقوم به الحجة والنزاع قائم في المرسل فالاستشهاد به مصادرة وجاز أن يكون ذكر المرسل على وجه المذاكرة أو غير ذلك فلا يتعين قصده في إقامة الحجة به ولو سلم إن قصده ذلك وإنه إنما يفعله بعد اعتقاده قيام الحجة به فقد تقدم غير مرة أن ذلك بحسب ظنه واجتهاده ولا يضر عليه في ذلك وأما في نفس الأمر فلا ويمكن أن غيره من الأئمة إذا عرف
من أرسل عنه اطلع فيه على ما يقتضي رد خبره كما قد وجد ذلك كثيرا وقد سبق تقريره وأيضا فقيام الحجة بالحديث مبني على عدالة الرواة فلو استفيد عدالة الراوي من قيام الحجة به لزم الدور وعلى مقتضى قولهم يكون عدالة الراوي مأخوذة من قيام الحجة به
وبهذا أيضا يخرج الجواب عن الوجه السابع مع أنه خطاب محض والكلام في هذه المسألة إنما هو بعد تقرير أن المجهول العدالة غير مقبول الرواية على أنا نمنع أن المرسل عنه مجهول العدالة فقط بل مجهول العين ولا يقولون بقبوله كما سبق والقول بأنه لم يكن في عصر التابعين متهم بالكذب مردود بما تقدم وبالله التوفيق
فقد سبق أن سقوط الواحد من الإسناد يقتضي الخلل فيه وذلك إذا كان من مراسيل التابعين فإن كان من مراسيل من بعدهم فتطرق الخلل إليه أولى لغلبة الكذب والغلط والوهم في الأعصار المتأخرة فلو كان معضلا والساقط منه اثنان فصاعدا فأخذ يتطرق الخلل إليه
وبهذا يظهر أن القول بقبول مراسيل أهل الأعصار المتأخرة مع حذف السند كله واه جدا لا وجه له وقد تقدمت الإشارة إلى هذا غير مرة وإن ما يستدل به لذلك اتفاق الأمة في كل عصر على اعتبار الإسناد والبحث عن أحوال الرجال وقد اعترض على هذا الإمام أبو بكر الرازي في كتابه الأصول بأن خبر الواحد مقبول والعلماء متفقون في كل عصر على سماع الحديث من وجهين وثلاثة وأكثر قال فلما جاز أن يطلب الأثر من وجوه مختلفة ويروى من جهات كثيرة ولم ينف ذلك جواز الاقتصار على الواحد كذلك يروى الحديث فيذكر إسناده تارة ولا يدل ذلك على أن المرسل غير مقبول واعترض بعض المتأخرين على ذلك أيضا بأن فائدة الإسناد أنه إذا ذكر المروي عنه باسمه يمكن المجتهد من البحث عن عدالته والظن الحاصل له بعدالته من فحصه بنفسه أقوى من الظن الحاصل له بإرسال الراوي
والجواب عن الأول أن الفائدة في سماع الحديث من وجهين وأكثر بكثير غلبة الظن به وتقويته حتى ربما سينتهي إلى حصول العلم النظري به كما ذهب إليه جماعة من الأئمة في الخبر المشهور وهو المختار فليس طلبهم الحديث من وجوه كثيرة لا يفيد شيئا زائدا على ما يفيده خبر الواحد بخلاف المرسل فإن الذي يفيده الخبر المتصل من الظن بصدقة بعد البحث عن رجاله والوثوق بهم لا يفيده الخبر المرسل وإذا كان هذا الأمر مقصودا معتبرا بالاتفاق في كل عصر أعني طلب الإسناد ليحصل هذا المعنى ففي قبول المرسل من أهل الأعصار المتأخرة وحذف الإسناد بالكلية رفع لما اتفقوا عليه بالكلية
والجواب عن الثاني بمنع إرسال الراوي يحصل الظن بعدالة المرسل عنه وقد مضى تقرير ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
الطرف الثالث في أدلة القائلين بالتفصيل ممن يقبل بعض أنواع المرسل دون بعض
أما القائلون بقبول مراسيل التابعين وأتباعهم دون أهل القرن الرابع وهو ما حكاه جماعة من الأصوليين عن عيسى بن أبان ولم يحكه أبو بكر الرازي إلا عن بعض شيوخهم والذي حكاه عن ابن أبان أنه قال من أرسل من أهل زماننا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان من أئمة الدين وقد نقله عن أهل العلم فإن مرسله مقبول كما يقبل مسنده قال ومن حمل عنه الناس الحديث المسند ولم يحملوا عنه المرسل فإن مرسله عندنا موقوف قال الرازي ففرق في أهل زمانه بين من حمل عنه أهل العلم المرسل دون من لم يحمل عنه إلا المسند قال والذي يعني بقوله حمل عنه الناس قبولهم لحديثه لأسماعه لأن سماع المرسل وغير المرسل جائز ثم قال أبو بكر الرازي والصحيح عندي وما يدل عليه مذهب أصحابنا أن مرسل التابعين واتباعهم مقبول ما لم يكن الراوي ممن يرسل الحديث عن غير الثقات وقال قبل ذلك ولم أر أبا الحسن الكرخي يفرق بين المرسل من سائر أهل الأعصار
قلت وقد مضى بيان بطلان هذا القول
وأما من خصص التابعين وأتباعهم بقبول مراسيلهم فاحتج بقوله صلى الله عليه وسلم خير القرون الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب الحديث وهو صحيح مشهور
قال الرازي فإذا كان الغالب على أهل الزمان الفساد والكذب لم يقبل فيه إلا خبر من عرفناه بالعدالة والصدق والأمانة
قلت ومقتضى ذلك أيضا أن المجهول العدالة من القرن الرابع ومن بعده لا يقبل وقد صرح بذلك الشيخ جلال الدين الخبازي أحد أئمة الحنفية أيضا في كتابه أصول الفقه واحتج بأن العدالة أصل في أهل ذلك الزمان وأما القرن الرابع وما بعده فليس الأمر كذلك لظهور الفسق وكثرة الكذب كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
وجواب هذا إن الحديث ليس فيه وجود الكذب في القرون الأخيرة بعد أن لم يكن موجودا بل قال صلى الله عليه وسلم ثم يفشو الكذب وذلك يقتضي أنه كان قبل ذلك في القرون الفاضلة لكنه غير فاش ولا كثير والمقتضي للتثبت في الحديث والفحص عن الرواة إنما هو دفع احتمال الكذب أو الغلط عن الرواة وإذا كان ذلك موجودا في تلك الأزمان لم يكن احتماله مندفعا ولهذا توقف ابن عباس رضي الله عنه عن قبول مراسيل بشير بن كعب وغيره وعلل ذلك بظهور الكذب بين الناس وهذا في آخر عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين فكيف بمن بعدهم ويبين هذا أيضا وجود الكثيرين من التابعين ممن وصف بالكذب كالحارث الأعور وعطية بن سعيد العوفي ونحوهما وفي قصة عبد الله بن جعفر وغيرها مما تقدم تحقيق لذلك فالمقتضى لرد مراسيل القرن الرابع قائم بعينه في رد مراسيل من قبلهم لكنه في الأولين غير غالب بخلاف من بعدهم وقلة غلبته لا يقتضي قبول جميع المراسيل بل يفصل فيه بين من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة وبين غيره كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وأما من فضل بين أئمة النقل المرجوع إليهم في الجرح والتعديل فقبل
مراسيلهم وبين غيرهم فلم يقبلها منهم وهم فريقان أحدهما من قبل المراسيل من أئمة النقل مطلقا كابن الحاجب ومن تبعه وفي كلام ابن الحاجب آخرا ما يقتضي عدم اختصاص ذلك بالأعصار الأول بل يقبل في زماننا إذا كان المرسل من أئمة النقل المرجوع إلى قولهم ولا يظهر تعصبه لمذهب معين بحيث يستراب بمرسله واحتج على ذلك بأن إرسال أئمة التابعين كان مشهورا بين أهل ذلك العصر مقبولا منهم من غير نكير من أحد كابن المسيب والشعبي وإبراهيم النخعي وغيرهم فكان ذلك إجماعا منهم على قبول مراسيل أمثالهم وأورد عليه أنه يلزم منه أن يكون المخالف خارقا للإجماع في ذلك ثم أجاب بما تقدم أن خرق الإجماع الاستدلالي والظني لا يقدح في خارقه بخلاف الإجماع القطعي
وجواب هذا ما تقدم من منع الاتفاق وبيان الخلاف فيه وعدم الإنكار على ابن المسيب وأمثاله في إرساله وقبول ذلك منهم ليس لكونهم من ائمة النقل بل الظاهر أنه لأنهم لا يرسلون إلا عن عدل ويبين ذلك أيضا ما تقدم من إرسال جماعة من أئمة التابعين عن قوم ضعفاء كعطاء بن أبي رباح والحسن والزهري وغيرهم والمقتضي لقبوله من أئمة النقل إنما هو معرفتهم بالثقات والضعفاء فلا يرسلون عن ضعيف وقد بينا فيما تقدم أن الواقع خلاف ذلك واستدل ابن الحاجب أيضا بأنه لو لم يقبل المرسل لكان لكونه غير عدل عند المرسل ولو كان كذلك لكان المرسل مدلسا على الناس بإرساله عن غير عدل فيكون مجروحا والأصل السلامة من ذلك
وجواب هذا بمنع أنه لا يرسل الراوي إلا عن عدل عند ولا يلزم من ذلك القدح فيه كما تقدم وإن سلم ذلك فيجوز أن يكون عدلا وعند غيره مجروح بما لم يطلع عليه من أرسل عنه فلا يكون مدلسا على الناس
ثم إن هذا أيضا يقتضي قبول المرسل من كل عدل وإن لم يكن من أئمة النقل وليس اختيار ابن الحاجب وقد تقدم من الجواب عنه ما فيه كفاية
الفريق الثاني كإمام الحرمين ومن تبعه قال الإمام إذا قال أحد الأئمة المرجوع إليهم في الجرح والتعديل حدثني رجل فإنه يكون ذلك مرسلا مردودا
إذ ليس في هذا اللفظ تعديل له فإذا قال حدثني الثقة الرضا ونحو ذلك وكان ممن يقبل تعديله ويرجع إليه فهو مقبول محتج به وإن كان مرسلا لأن الظن غالب بأنه لا يقول ذلك إلا عن تحقيق ثقة ذاك الراوي وصدقه والمعول عليه إنما هو غلبة الظن وهذا يورث الثقة بذلك الراوي لا محالة
قلت ولقائل أن يمنع ذلك وكم من رجل اختلف فيه اجتهاد أئمة الجرح والتعديل فوثقة قوم وجرحه آخرون وكان الراجح قول الجارح فيجوز أن يكون هذا الذي أطلق توثيقه ولم يسمه ممن اطلع غيره فيه على جرح مؤثر ولو سمى لظهر ذلك فلا ثقة حينئذ وهذا هو الذي اختاره الإمامان أبو بكر الصيرفي والخطيب والله أعلم
وأما على التفصيل الذي ذكره الإمام الشافعي رحمه الله فمأخذه أن مدار قبول خبر الواحد على ظهور الثقة في الظن الغالب والمرسل بمجرده لا يحصل ذلك كما تقرر فيما قبل فإذا اقترن به أحد الأسباب التي ذكرناها فيما مضى حصل عليه الظن حينئذ وفي الحقيقة إنما حصل ذلك بالمجموع لا بالمرسل بمجرده وقد سبق ما أورده المعترض على هذه الطريقة والجواب عن ذلك بما فيه الكفاية وبالله التوفيق
وأما القول المختار وهو أن من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن عدل موثوق به مشهور بذلك فمرسله مقبول ومن لم يكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله وهذا القول والذي قبله أعدل المذاهب وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين فإن قبول الصدر الأول لكثير من المراسيل لا يمكن إنكاره وقد صدر من جماعة منهم كثيرين رد لكثير من المراسيل أيضا فيحمل قبولهم عند الثقة بمن أرسل منهم أنه لا يرسل إلا عن عدل موثوق به وردهم عند عدم ذلك وإلى هذا أشار ابن عباس رضي الله عنهما بقوله المتقدم كنا إذا سمعنا أحدا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف وقول ابن سيرين لقد
أتى على الناس زمان وما يسال عن إسناده حديث فلما وقعت الفتنة سئل عن الإسناد وهذا ابن عمر رضي الله عنه كان يسأل سعيد بن المسيب عن قضايا أبيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ثم يرجع إليه فيها وهي مرسلة لما وثق به وبمن يرسل عنه ولذلك كان يقول كثيرا سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين وقال يحيى بن سعيد الأنصاري كان سعيد بن المسيب يسمى راوية عمر رضي الله عنه لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته وقد تقدم أن الشافعي رحمه الله استثنى مراسيل ابن المسيب من بقية المراسيل فجعلها مقبولة وأن جماعة من الأصحاب عللوا ذلك بأنه كان لا يرسل إلا عن ثقة ومقتضى ذلك أن من كان مثله فمراسيله أيضا مقبولة إلا أن الحاكم أبا عبد الله قال هذا لا يوجد في مراسيل غيره وقد خالفه غيره وقال ابن عبد البر مراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح وقالوا مراسيل عطا والحسن لا يحتج بهما لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد وكذلك مراسيل أبي العالية وابي قلابة وهذا يقتضي أن جمهور ائمة الحديث فرقوا بين من لا يرسل إلا عن ثقة وبين غيره والظاهر أن المراد بالثقة من كان ثقة عنده وعند غيره أيضا بحيث يكون معروفا بالضبط والعدالة إن كان تابعيا أو هو من الصحابة المعروفين
وأما من يرسل عن غير المشهورين وإن كانوا عنده ثقات فالاحتمال المتقدم قائم أعني جواز كونه ضعيفا عند غير من أرسل عنه ضعفا يترجح على تعديله وإنما يندفع هذا الاحتمال بقسميه والمعتمد إنما هو تحصيل غلبة الظن بصحة هذا المرسل كما هي أيضا حاصلة من خبر الواحد المتصل البحث عن رجاله ومعرفة تزكيتهم ومن المعلوم أن ذلك لا يحصل بمجرد المرسل كل أحد لما قررناه فيما تقدم فمتى حصل ذلك إما ببعض الوجوه التي قالها الإمام الشافعي أو بأن الراوي لا يرسل إلا عن مشهور بالعدالة كان المرسل مقبولا وإلا فلا
فإن قيل فلم يرسل من كان هذا حاله الحديث ويعدل عن تسمية شيخه وهو مشهور بالثقة
قلنا لأسباب تعن له منها أن يكون سمع ذلك الحديث من جماعة ثقات وصح عنده ووقر في نفسه فيرسله علما بصحته كما تقدم في إبراهيم النخعي إذا قال قال ابن مسعود فإنه يكون سمع ذلك من جماعة من أصحابه عنه كما ثبت عنه ذلك فيما تقدم
ومنها أن يكون المرسل للحديث نسي من حدثه به وعرف المتن جيدا فذكره مرسلا لأن اصل طريقته أنه لا يأخذ إلا عن ثقة كمالك وشعبة فلا يضره الإرسال
ومنها أن يكون روايته الحديث مذاكرة فربما ثقل معها ذكر الإسناد وخف الإرسال إما لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث واشتهاره عندهم أو للإشارة إلى مخرجه الأعلى لأنه المقصود حينئذ دون ذكر شيخه أو غير ذلك وهذا كله في حق من لا يرسل إلا عن ثقة وأما من يرسل عن كل ضرب فربما كان الباعث له على الإرسال ضعف شيخه ولا يصير المرسل بذلك مجروحا لأنه لم يخرج ذلك على وجه قيام الحجة به كما تقدم والله أعلم