الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر من ملك مصر بعد الطوفان:
قال ابن عبد الحكم: أنبأنا عثمان بن صالح، أخبرنا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس العتباني، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: كان لنوح عليه الصلاة والسلام أربعة من الولد: سام، وحام، ويافث، ويحطون. وإن نوحا رغب لله (1) ، وسأله أن يرزقه الإجابة في ولده وذريته حتى يتكاملوا بالنماء والبركة، فوعده ذلك، فنادى نوح ولده، وهم نيام عند السحر، فنادى ساما، فأجابه يسعى، وصاح سام في ولده فلم يجبه أحد منهم إلا ابنه أرفخشذ، فانطلق به "معه"(2) حتى أتياه، فوضع نوح يمينه على سام، وشماله على أرفخشذ، وسأل الله أن يبارك في سام أفضل البركة، وأن يجعل الملك والنبوة في ولد أرفخشذ.
ثم نادى حاما فتلفت يمينا وشمالا ولم يجبه، ولم يقم إليه ولا أحد من أولاده، فدعا الله نوح أن يجعل ولده أذلاء، وأن يجعلهم عبيدا لولد سام. قال: وكان مصر بن بيصر بن حام نائما إلى جنب جده حام، فلما سمع دعاء نوح على جده وولده، قام يسعى إلى نوح فقال: يا جدي، قد أجبتك إذ لم يجبك أبي، ولا أحد من ولده، فاجعل لي دعوة من دعوتك. ففرح نوح، فوضع يده على رأسه، وقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي؛ فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة، التي هي أم البلاد، وغوث العباد، التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم، وقوهم عليها (3) .
قال صاحب مباهج الفكر: يقال إن سبب سكنى مصر الأرض التي عرفت به وقوع الصرح ببابل فإنه لما وقع، تفرق من كان حوله ممن تناسل من أولاد نوح فأخذ بنو حام جهة المغرب، إلى أن وصلوا إلى البحر المحيط.
(1) الفتوح: "إلى الله".
(2)
من فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر ص7.
وأخرج ابن عبد الحكم، عن ابن لهيعة وعبد الله بن خالد، قالا: كان أول من سكن مصر بعد أن أغرق الله قوم نوح بيصر بن حام بن نوح، وهو أبو القبط كلهم، فسكن منفا -وهي أول مدينة عمرت بعد الغرق- هو وولده وهم ثلاثون
نفسا، قد بلغوا وتزوجوا، فبذلك سميت ماقة -وماقة بلسان القبط ثلاثون- وكان بيصر بن حام بن نوح قد كبر وضعف، وكان مصر أكبر ولده، وهو الذي ساق أباه وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوا بها، فبمصر بن بيصر سميت مصر مصرا، فحاز "له ولولده"(1) ما بين الشجرتين خلف العريش إلى أسوان طولا، ومن برقة إلى أيلة عرضا. ثم إن بيصر بن حام توفي فدفن في موضع أبي هرميس، فهي أول مقبرة قبر فيها بأرض مصر، واستخلف ابنه مصر، وحاز كل واحد من إخوة مصر قطعة من الأرض لنفسه؛ سوى أرض مصر التي حازها لنفسه وولده. فلما كثر أولاد مصر وأولاد أولادهم، قطع مصر لكل واحد من أولاده قطيعة (2) يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل، فقطع لابنه قِفْط موضع قِفْط، فسكنها، وبه سُميت، وما فوقها إلى أسوان وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمن من أشمون فما دونها إلى منف في الشرق والغرب، فسكن أشمن أشمون، فسميت به. وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا؛ فسكن أتريب، فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر، فسكن صا، فسميت به؛ فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين بأسفل الأرض. قال: ثم توفي مصر بن بيصر، فاستخلف ابنه قِفط (3) .
وفي بعض التواريخ: لما مات مصر، كتب على قبره: "مات مصر بن بيصر بن
(1) من فتوح مصر.
(2)
في الأصول: "قطعة"، وما أثبته عن فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر 9.
حام بن نوح بعد ألفين وستمائة عام من الطوفان، مات ولم يعبد الأصنام، ولا هرم ولا أسقام"؛ وإن قفط به سميت القبط؛ وهو الذي بنى أهرام دهشور؛ وإن هودا بعث في أيامه، وإنه أقام في ملكه أربعمائة وثمانين سنة.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: ثم توفي قفط، فاستخلف أخاه أشمن، ثم توفي أشمن، واستخلف أخاه أتريب، ثم توفي أتريب، فاستخلف أخاه صا، ثم توفي صا، فاستخلف ابنه تدارس.
وقال غيره: وفي زمنه بعث صالح عليه الصلاة والسلام.
ثم توفي تدارس، فاستخلف ابنه ماليق، ثم توفي [ماليق](1) ، فاستخلف ابنه [خربتا بن ماليا](2) ، فاستخلف ابنه كلكن؛ فملكهم نحوا من مائة سنة، ثم توفي ولا ولد له، فاستخلف أخاه ماليا، ثم توفي ماليا فاستخلف ابنه طوميس، وهو الذي وهب هاجر لسارة امرأة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ثم توفي فاستخلف ابنته خروبا؛ ولم يكن له ولد غيرها وهي أول امرأة ملكت، ثم توفيت، فاستخلفت ابنة عمها زالفا بنة ماموم بن ماليا، فعمرت دهرا طويلا، فكثروا ونموا، وملئوا أرض مصر كلها، فطمعت فيهم العمالقة -وهم من ولد عملاق بن لاوز بن سام- فغزاهم الوليد بن دومغ، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم رضوا أن يملكوه عليهم؛ فملكهم نحوا من مائة سنة، فطغى وتكبر، وأظهر الفاحشة، فسلط الله عليه سبعا، فافترسه فأكل لحمه (3) .
وقال غيره: إن الوليد بن دومغ آذاه ضرسه، فنزع؛ فكان وزنه ثمانية عشر منًّا وثلثي منًّ، وإنه رئي بعد فتح مصر يوزن به في ميزان الوكالة. انتهى.
فملكهم من بعده الريان بن الوليد -وهو صاحب يوسف عليه الصلاة والسلام
(1) فتوح مصر.
(2)
فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر 11-12.
فلما رأى الملك رؤياه التي رآها وعبرها يوسف، أرسل إليه فأخرجه من السجن، ودفع إليه خاتمه، وولاه ما خلف آباؤه، وألبسه طوقا من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك (1) .
وما أحسن قول بعضهم:
أما في رسول الله يوسف أسوة
…
لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقم جميل الصبر في الحبس برهة
…
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
قال ابن عبد الحكم: حدثنا أسد بن موسى، حدثني الليث بن سعد، حدثني بعض مشيخة لنا، قال: اشتد الجوع على أهل مصر، فاشتروا الطعام من يوسف
بالذهب حتى لم يجدوا ذهبا، فاشتروا بالفضة حتى لم يجدوا فضة، فاشتروا بأغنامهم حتى لم يجدوا غنما؛ فلم يزل يبيعهم الطعام حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهبا ولا شاة ولا بقرة (2) في تلك السنتين، فأتوه في الثالثة، فقالوا له: لم يبق لنا شيء إلا أنفسنا وأهلونا وأرضونا. فاشترى يوسف أرضهم كلها لفرعون، ثم أعطى لهم يوسف طعاما يزرعونه على أن لفرعون الخمس (3) .
قال ابن عبد الحكم: وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم، وكان سبب ذلك كما حدثنا هشام بن إسحاق أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوزت سنه (4) مائة سنة، قال وزراء الملك له: إن يوسف قد ذهب علمه، وتغير عقله، ونفدت حكمته، فعنفهم فرعون، ورد عليهم مقالتهم، فكفوا: ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين، فقال لهم: هلموا ما شئتم من أي شيء أختبره به.
(1) فتوح مصر 12-13 مع اختلاف في النص.
(2)
ابن عبد الحكم: "حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهب".
(3)
فتوح مصر 13-14.
(4)
كذا في الأصل وفتوح مصر، وفي ح، ط:"وجاوزت منه سنة".
وكانت الفيوم تدعى يومئذ الجوبة؛ وإنما كانت لمصالة (1) ماء الصعيد وفضوله فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف عليه الصلاة والسلام، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك، وخراجا إلى خراجك. فدعا يوسف فقال: قد تعلم مكان ابنتي فلانة مني، وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدا، وإني لم أصب إلا الجوبة؛ وذلك أنه بلد بعيد قريب، لا يؤتى من وجه إلا من غابة أو صحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد؛ لأن مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلا من صحراء أو مفازة، وقد أقطعتها (2) إياها فلا تتركن وجها ولا نظرا إلا بلغته، فقال يوسف: نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث لي؛ فإني إن شاء الله فاعل؛ فقال: إن أحبه إلي وأوفقه أعجله، فأُوحي إلى يوسف أن يحفر ثلاثة خلج: خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيا من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيا من موضع كذا إلى موضع كذا؛ فوضع يوسف العمال، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون
إلى اللاهون، وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقي، وحفر خليجا بقرية يقال لها تنهمت من قرى الفيوم، وهو الخليج الغربي. فخرج ماؤها من الخليج الشرقي فصب في النيل، وخرج من الخليج الغربي فصب في صحراء تنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء. ثم أدخلها الفعلة، فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل، وقد صارت الجوبة أرضا برية، وارتفع ماء النيل، فدخلها في رأس المنهى، فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون، فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها، فصارت لجة من النيل. وخرج إليها الملك ووزراؤه، وكان هذا في سبعين يوما.
(1) مصالة الماء: بقيته.
(2)
فتوح مصر: "ريفية برية".
فلما نظر إليها الملك قال لوزرائة. هذا عمل ألف يوم، فسميت الفيوم، فأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر (1) .
قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك، وأنه إنما كان ذلك منهم على المحنة منهم له، فقال للملك: إن عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت؛ فقال الملك: وما ذاك؟ فقال: أنزل الفيوم من كل كورة من مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية -وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر- فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض، لا يكون في ذلك زيادة عن أرضها ولا نقصان، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وأصير مطاطئا للمرتفع، ومرتفعا للمطاطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها مصاب (2) فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره. فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ قال: نعم، فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى، وحد لها حدودا، فكانت أول قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها شانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون. ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل الأرض ووزن الماء؛ ومن يومئذ أحدثت (3) الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك.
قال: وكان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه الصلاة والسلام، ووضع مقياسا بمنف (4) .
أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: فوض الريان إلى يوسف تدبير ملك مصر، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة.
وأخرج عن عكرمة أن فرعون قال ليوسف: إني قد سلطنتك على مصر، إني
(1) الغوائط: جمع غوطة، وهي الأرض المتسعة إلى منحدر.
(2)
فتوح مصر: "قبضات".
(3)
كذا في الأصل وابن عبد الحكم، وفي ح، ط:"أخذت".
(4)
فتوح مصر 16.
أريد أن أجعل كرسي أطول من كرسيك بأربع أصابع، قال يوسف: نعم.
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا هشام بن إسحاق، قال: في زمان الربان بن الوليد، دخل يعقوب عليه الصلاة والسلام وولده مصر؛ وهم ثلاثة وتسعون نفسا، بين رجل وامرأة، فأنزلهم يوسف ما بين عين الشمس إلى الفرما وهي أرض ريفية برية. قال: فلما دخل يعقوب على فرعون، فكلمه -وكان يعقوب شيخا كبيرا حليما حسن الوجه واللحية، جهير الصوت- فقال له فرعون: كم أتى عليك أيها الشيخ؟ قال: عشرون ومائة سنة، وكان بمين (1) ساحر فرعون قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى عليهم الصلاة والسلام في كتبه، وأخبر أن خراب مصر وهلاك ملكها على يديهم، ووضع الرايات (2) وصفات من تخرب مصر على يديه. فلما رأى يعقوب قام إلى مجلسه، فكان أول ما سأله عنه، أن قال له: من تعبد أيها الشيخ؟ قال يعقوب: أعبد الله إله كل شيء، قال: كيف تعبد ما لا ترى؟ قال يعقوب: إنه أعظم وأجل من أن يراه أحد، قال بمين: فنحن نرى آلهتنا، قال يعقوب: إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم، ممن يموت ويبلى، وإن إلهي أعظم وأرفع، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد؛ فنظر بمين إلى فرعون، فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه، قال فرعون: في أيامنا أو في أيام غيرنا؟ قال: ليس في أيامك ولا أيام بنيك، قال الملك: هل تجد هذا فيما قضى به إلهكم؟ قال: نعم. قال: فكيف نقدر أن نقتل من يريد إلهه هلاك قومه على يديه! فلا نعبأ بهذا الكلام (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:
(1) في الأصول: "عين"، تحريف، صوابه من فتوح مصر.
(2)
فتوح مصر: "البربايات".
(3)
فتوح مصر 17-18.
دخل مصر يعقوب وولده، وكانوا سبعين نفسًا، وخرجوا وهم ستمائة ألف نفس.
وأخرج عن مسروق، قال: دخل أهل يوسف وهم ثلاثة وتسعون إنسانًا، وخرجوا وهم ستمائة ألف نفس.
وأخرج عن كعب الأحبار أن يعقوب عاش في أرض مصر ست عشرة سنة، فلما حضرته الوفاة قال ليوسف: لا تدفني بمصر، فإذا (1) مت فاحملوني فادفنوني في مغارة جبل حبرون (2) فلما مات لطخوه بمر وصبر، وجعلوه في تابوت من ساج، وأعلم يوسف فرعون أن أباه قد مات، وأنه سأله أن يقبره في أرض كنعان، فأذن له، وخرج معه أشراف أهل مصر حتى دفنه وانصرف (3) .
قال ابن عبد الحكم: وحدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عمن حدثه، قال: قبر يعقوب عليه الصلاة والسلام بمصر، فأقام بها نحوا من ثلاث سنين، ثم حمل إلى بيت المقدس؛ أوصاهم بذلك عند موته (4) .
وأخرج من طريق الكلبي، عن أبي صالح، قال: حبرون مسجد إبراهيم اليوم، بينه وبين بيت المقدس ثمانية عشر ميلًا.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: قالا: ثم مات الريان بن الوليد، فملكهم من بعده ابنه دارم؛ وفي زمانه توفي يوسف عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن عبد الحكم، عن كعب قال: لما حضرت يوسف الوفاة، قال: إنكم ستخرجون من أرض مصر إلى أرض آبائكم، فاحملوا عظامي معكم. فمات فجعلوه في تابوت ودفنوه.
(1) فتوح مصر: "وإذا".
(2)
في الأصول: "جبرون"، وما أثبته من فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر 18.
(4)
فتوح مصر 18.
وأخرج عنه قال: لما مات يوسف استعبد أهل مصر بني إسرائيل.
وأخرج عن سماك بن حرب، قال: دفن يوسف عليه الصلاة والسلام في أحد جانبي النيل، فأخصب الجانب الذي كان فيه، وأجدب الجانب الآخر، فحولوه إلى الجانب الآخر، فأخصب الجانب الذي حولوه إليه، وأجدب الجانب الآخر؛ فلما رأوا ذلك جمعوا عظامه فجعلوها في صندوق من حديد،
وجعلوه في سلسلة، وأقاموا عمودًا على شاطئ النيل، وجعلوا في أصله سكة من حديد؛ وجعلوا السلسلة في السكة، وألقوا الصندوق في وسط النيل، فأخصب الجانبان جميعًا (1) .
رجع إلى حديث ابن لهيعة، وعبد الله بن خالد: قالا: ثم إن دارما طغى بعد يوسف وتكبر، وأظهر عبادة الأصنام، وركب النيل في سفينة، فبعث الله عليه ريحًا عاصفًا، فأغرقته ومن كان معه فيما بين طرا إلى موضع حلوان؛ فملكهم من بعده كاشم "بن معدان"(2) وكان جبارًا عاتيا. ثم هلك كاشم "بن معدان"، فملكهم من بعده فرعون موسى من العماليق، فأقام خمسمائة سنة، حتى أغرقه الله (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم، عن ابن لهيعة والليث بن سعد، قالا: كان فرعون قبطيًّا من قبط مصر، اسمه طلما (4) .
وأخرج عن هانئ بن المنذر، قال: كان فرعون من العماليق، وكان يكنى بأبي مرة (5) .
وأخرج عن أبي بكر الصديق، قال: كان فرعون أثرم (6) .
(1) فتوح مصر 18-19.
(2)
فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر 19.
(4)
كذا في فتوح مصر 19، وفي الأصول:"ظلمى".
(5)
فتوح مصر 20.
(6)
فتوح مصر 20، وبعدها:"ويقال: بل هو رجل من لخم، والله أعلم".
وقال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا عبد الله بن أبي فاطمة، عن مشايخه، أن ملك مصر توفي، فتنازع الملك جماعة من أبناء الملك -ولم يكن الملك عَهد- ولما عظم الخطب بينهم تداعوا إلى الصلح، فاصطلحوا على أن يحكم بينهم أول من يطلع من الفج فج الجبل، فطلع فرعون بين عديلتي نطرون، قد أقبل بهما (1) ليبيعهما، وهو رجل من فران بن بلى -[واسمه الوليد بن مصعب، وكان قصيرًا أبرص، يطاطئ في لحيته](2) - فاستوقفوه، وقالوا: إنا جعلناك حكمًا بيننا فيما تشاجرنا فيه من الملك، وآتوه مواثيقهم على الرضا. فلما استوثق منهم، قال: إني قد رأيت أن أملك نفسي عليكم؛ فهو أذهب لضغائنكم، وأجمع لأموركم،
والأمر من بعد إليكم. فأمّروه عليهم لمنافسة بعضهم بعضًا، وأقعدوه في دار الملك بمنف، فأرسل إلى صاحب أمر كل رجل منهم، فوعده ومناه أن يملكه على ملك صاحبه، ووعدهم ليلةً يقتل فيها كل رجل منهم صاحبه، ففعلوا ودان له أولئك بالربوبية، فملكهم نحوًا من خمسمائة سنة، وكان من أمره وأمر موسى ما قص الله تعالى من خبرهم في القرآن (3) .
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي الأشرس، قال: مكث فرعون أربعمائة سنة، الشباب يغدو عليه ويروح (4) .
وأخرج عن إبراهيم بن مقسم، قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس، وكان يملك ما بين مصر إلى إفريقية.
وأخرج من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان يقعد على كراسي فرعون مائتان عليهم الديباج وأساور الذهب (5) .
(1) كذا في ابن عبد الحكم، وفي الأصول "بينهما"
(2)
ساقط من فتوح مصر.
(3)
فتوح مصر 20.
(4)
فتوح مصر 20.
(5)
فتوح مصر 21.
وأخرج ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن عمر بن العاص؛ أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس، فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري الخليج تحت قريتهم، ويعطوه مالًا؛ فكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو المشرق، ثم يرده إلى قرية (1) في المغرب، ثم يرده إلى أهل قرية في القبلة، ويأخذ من أهل كل قرية مالًا؛ حتى اجتمع له في ذلك مائة ألف دينار، فأتى بذلك كله إلى فرعون، فسأله فرعون عن ذلك، فأخبره بما فعل في حفره. قال له فرعون: ويحك! ينبغي للسيد أن يعطف على عباده، ويفيض عليهم ولا يرغب فيما بأيديهم، ورد على أهل كل قرية ما أُخذ منهم. فرده كله على أهله. قال: فلا يُعلم بمصر خليج أكثر عطوفًا منه لما فعل هامان في حفره.
قال ابن عبد الحكم: وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الذي كان يُعمل به بمصر على عهد ملوكها، أنهم كانوا يُقرون القرى في أيدي أهلها، كل قرية بكراء معلوم، لا ينقض عليهم إلا في كل أربع سنين من أجل الظمأ وتنقل اليسار؛ فإذا مضت أربع سنين نقض ذلك، وعدل تعديلًا جديدًا، فيرفق بمن استحق الرفق،
ويزداد على من يحتمل الزيادة، ولا يحمل عليهم من ذلك ما يشق عليهم؛ فإذا جُبِيَ الخراج وجمع، كان للملك من ذلك الربع خالصًا لنفسه يصنع فيه ما يريد، والربع الثاني لجنده ومن يقوى به على حربه وجباية خراجه ودفع عدوه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما يحتاج إليها من جسورها وحفر خلجها، وبناء قناطرها؛ والقوة للمزارعين على زرعهم وعمارة أرضهم، والربع الرابع يخرج منه ربع ما يصيب كل قرية من خراجها فيدفن ذلك فيها لنائبة تنزل، أو جائحة بأهل القرية؛ فكانوا على
(1) بعدها في ط: "من نحو دبر القبلة، ثم يرده إلى قرية"، والصواب ما في الأصل.
ذلك. وهذا الربع الذي يدفن في كل قرية من خراجها، هو كنوز فرعون التي يُتحدث بها أنها ستظهر، فيطلبها الذين يتبعون الكنوز.
حدثنا أبو الأسود نصر بن عبد الجبار، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل، قال: خرج وردان من عند مسلمة بن مخلد -وهو أمير على مصر- فمر على عبد الله بن عمرو مستعجلًا، فناداه: أين تريد؟ قال: أرسلني الأمير مسلمة أن آتي منفًا، فأحضر له من كنز فرعون، قال: فارجع إليه، وأقرئه مني السلام وقل له: إن كنز فرعون ليس لك ولا لأصحابك، إنما هو للحبشة، إنهم يأتون في سفنهم يريدون الفسطاط، فيسيرون حتى ينزلوا منفًا، فيظهر لهم كنز فرعون، فيأخذون ما يشاءون، فيقولون: ما نبتغي غنيمة أفضل من هذه، فيرجعون، ويخرج المسلمون في آثارهم فيقتتلون، فيهزم الجيش فيقتلهم المسلمون ويأسرونهم؛ حتى إن الحبشي ليباع (1) بالكساء.
قال أهل التاريخ: كان فرعون إذا كمل التخضير في كل سنة ينفذ مع قائدين من قواده إردب قمح، فيذهب أحدهما إلى أعلى مصر، والآخر إلى أسفلها، فيتأمل القائد أرض كل قرية، فإن وجد موضعًا بائرًا عطلًا قد أغفل بذره، كتب إلى فرعون بذلك، وأعلمه باسم العامل على تلك الجهة، فإذا بلغ فرعون ذلك، أمر بضرب عنق ذلك العامل، وأخذ ماله، فربما عاد القائدان ولم يجدا موضعًا لبذر الإردب لتكامل العمارة واستظهار الزرع.
وأخرج الحاكم في المستدرك، وصححه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن موسى حين أراد أن يسير ببني إسرائيل، ضل عنه
الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف حين حضره
(1) ح: "يباع".
الموت، أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى: أيكم يدري أين قبره. فقالوا: ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى، فقال: دلينا على قبر يوسف، قالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة؛ فكأنه كره ذلك، فقيل له: أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: نضِّبوا عنها الماء، ففعلوا، قالت: احفروا، فحفروا، فاستخرجوا عظام يوسف؛ فلما أن أقلوه من الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار".
وأخرج ابن عبد الحكم، عن سماك بن حرب، مرفوعًا نحوه، وفيه:"فقالت: إني أسأل أن أكون أنا وأنت في درجة واحدة في الجنة، ويُرد عليَّ بصري وشبابي، حتى أكون شابة كما كنت، قال: فلك ذلك".
وأخرج من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس نحوه، وفيه:"فقالت عجوز يقال لها سارح (1) ابنة آشر بن يعقوب: أنا رأيت عمي حين دفن، فما تجعل لي إن دللتك عليه؟ فقال: حكمك، قالت: أكون معك حيث كنت في الجنة".
وأخرج عن ابن لهيعة عمن حدثه، قال: قبر يوسف بمصر، فأقام بها نحوا من ثلاثمائة سنة، ثم حمل إلى بيت المقدس.
رجع إلى حديث ابن لهيعة وعبد الله بن خالد: قالا: ثم أغرق الله فرعون وجنوده، وغرق معه من أشراف أهل مصر وأكابرهم ووجوههم أكثر من ألفي ألف، فبقيت مصر من بعد غرقهم؛ ليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق بها إلا العبيد والأجراء والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء أن يولين منهن أحدًا، وأجمع رأيهن على أن يولين امرأة منهن يقال لها دلوكة بنت
(1) ط: "شادح".
زباء، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهن وموضع، وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة، فملكوها، فخافت أن يتناولها ملوك الأرض فجمعت نساء الأشراف، فقالت لهن: إن بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد، ولا يمد عينيه إليها،
وقد هلك أكابرنا وأشرافنا، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنًا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية، فإننا لا نأمن أن يطمع فيها الناس، فبنت جدارًا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجًا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالًا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بأجراس، فأتاهم الخبر من كل وجه كان في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك، فمنعت بذلك مصر من أرادها، وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له جدار العجوز، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا "كثيرة"(1) .
وكان ثم عجوز ساحرة، يقال لها تدورة، وكانت السحرة تعظمها وتقدمها في السحر، فبعثت إليها دلوكة: إنا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك، فاعملي لنا شيئًا نغلب به من حولنا، فقد كان فرعون يحتاج إليك، فعملت بربى (2) من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت له أربعة أبواب، كل باب منها إلى جهة القبلة، والبحر والشرق والغرب، وصورت فيه صورة الخيل والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد
(1) فتوح مصر 27-28، وانظر معجم البلدن 3:204.
(2)
قال ياقوت: "البرابي: جمع بربى؛ كلمة قبطية؛ وأظنه اسمًا لموضع العبادة أو البناء المحكم أو موضع السحر. ثم قصة تدورة. معجم البلدان 2: 59.
عملت لكم عملا يهلك به من أرادكم من كل جهة تؤتون منها برا أو بحرا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنته؛ فمن أتاكم من أي جهة، فإنهم إن كانوا في البر على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجالة تحركت هذه الصورة من جهتهم التي يأتون منها، فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما يفعلون بهم. فلما بلغ الملوك حولهم أن أمرهم قد صار إلى ولاية النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا إليهم، فلما دنوا من عمل مصر، تحركت تلك الصور التي في البر، فطفقوا لا يهيجون تلك الصور، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي أقبل إليهم مثله؛
من قطع رءوسها أو سوقها أو فقء عينها، أو بقر بطونها. وانتشر ذلك، فتناذرهم الناس، وكان نساء أهل مصر حين غرق أشرافهم ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال، فطفقت المرأة تعتق عبدها وتتزوجه، وتتزوج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال ألا يفعلوا إلا بإذنهن، فأجابوهن إلى ذلك؛ فكان أمر النساء على الرجال (1) .
قال ابن لهيعة: فحدثني يزيد بن أبي حبيب، أن القبط على ذلك إلى اليوم، اتباعا لما مضى منهم؛ لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال: أستأذن امرأتي. فملكتهم دلوكة بنت زباء عشرين سنة تدبر أمرهم بمصر، حتى بلغ من أبناء أكابرهم وأشرافهم رجل يقال له دركون بن بلوطس (2) ، فملكوه عليهم؛ فلم تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحو أربعمائة سنة. ثم مات دركون "بن بلطوس"(3) ، فاستخلف ابنه بودس، ثم توفي فاستخلف أخاه لقاس، فلم يمكث إلا ثلاث سنين حتى مات، ولم يترك ولدا، فاستخلف أخاه مرينا، ثم توفي، فاستخلف ولده استمارس، فطغى وتكبر وسفك، وأظهر الفاحشة، فأعظموا ذلك، وأجمعوا على خلعه فخلعوه، وقتلوه وبايعوا رجلا من
(1) فتوح مصر 27-28.
(2)
في الأصول: "بلطوس"، وما أثبته من فتوح مصر.
(3)
من فتوح مصر.
أشرافهم يقال له بلوطس بن مناكيل، فملكهم أربعين سنة ثم توفي، فاستخلف ابنه مالوس، ثم توفي، فاستخلف أخاه مناكيل فملكهم زمانا ثم توفي، فاستخلف ابنه بولة، فملكهم مائة وعشرين سنة؛ وهو الأعرج الذي سبا ملك بيت المقدس، وقدم به إلى مصر. وكان بولة قد تقدم (1) في البلاد، وبلغ مبلغا لم يبلغه أحد ممن كان قبله بعد فرعون، وطغى فقتله الله، صرعته دابته، فدقت عنقه فمات (2) .
أخرج ابن عبد الحكم، عن كعب الأحبار، قال: لما مات سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، ملك بعده عمه مرحب، فسار إلى ملك مصر، فقاتله، وأصاب الأترسة الذهب التي عملها سليمان، فذهب بها.
ثم استخلف مرينوس بن بولة فملكهم زمانا ثم توفي، فاستخلف ابنه قرقورة، فملكهم ستين سنة، ثم توفي فاستخلف أخاه لقاس؛ وكان كلما انهدم من تلك البربى شيء لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز وولد ولدها، فكانوا أهل البيت لا يعرف ذلك غيرهم، فانقطع أهل ذلك البيت، وانهدم من البربى موضع في زمان لقاس، فلم يقدر أحد على إصلاحه ومعرفة علمه، وبقي على حاله، وانقطع ما كان يقهرون به الناس. ثم توفي لقاس، فاستخلف ابنه قومس، فملكهم دهرا. فلما ظهر بخت نصر على بيت المقدس وسبى بني إسرائيل، وخرج بهم إلى أرض بابل، أقام بإيليا وهي خراب؛ فاجتمع إليه بقايا بني إسرائيل كانوا متفرقين، فقال لهم أرميا: أقيموا بنا في أرضنا لنستغفر الله، ونتوب إليه، لعله أن يتوب علينا، فقالوا: إنا نخاف أن يسمع بنا بخت نصر، فيبعث إلينا، ونحن شرذمة قليلون؛ ولكنا نذهب إلى ملك مصر فنستجير به، وندخل في ذمته، فقال لهم أرميا: ذمة الله أوفى لكم، ولا يسعكم أمان
(1) فتوح مصر: "تمكن".
(2)
فتوح مصر 28-29.
أحد من أهل الأرض، إذا أخافكم. فسار أولئك النفر من بني إسرائيل إلى قومس، واعتصموا به، فقال: أنتم في ذمتي، فأرسل إليه بخت نصر أن لي قبلك عبيدا أبقوا مني، فابعث بهم إلي. فكتب إليه قومس: ما هم بعبيدك؛ هم أهل النبوة والكتاب وأبناء الأحرار، اعتديت عليهم وظلمتهم؛ فحلف بخت نصر: لئن لم تردهم لأغزون بلادك. وأوحى الله إلى أرميا إني مظهر نصر على هذا الملك الذي اتخذوه حرزا، ولو أنهم أطاعوك، وأطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم من بينهما مخرجا. فرحمهم أرميا، وبادر إليهم، وقال لهم: إن لم تطيعوني أسركم بخت نصر وقتلكم؛ وآية ذلك أنى رأيت موضع سريره الذي يضعه بعد ما يظفر بمصر ويملكها. ثم عمد فدفن أربعة أحجار في الموضع الذي يضع فيه بخت نصر سريره، وقال: يقع كل قائمة من قوائم سريره على حجر منها. فلجوا في رأيهم، وسار بخت نصر إلى قومس، فقاتله سنة، ثم ظفر به. فقتل وسبى جميع أهل مصر، وقتل من قتل. فلما أراد قتل من أسر منهم، وُضع له سريره في الموضع الذي وصف أرميا، ووقعت كل قائمة من قوائم سريره على حجر من تلك الحجارة التي دفن؛ فلما أتوا بالأسارى، أُتي معهم بأرميا. فقال له بخت نصر: ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمنتك وأكرمتك! فقال له
أرميا: إني أتيتهم محذرا، وأخبرتهم خبرك، وقد وضعت لهم علامة تحت سريرك، وأريتهم موضعه، فقال بخت نصر: وما مصداق ذلك؟ قال أرميا: ارفع سريرك، فإن تحت كل قائمة حجرا دفنته، فلما رفع سريره، وجد مصداق ذلك، فقال لأرميا: لو أعلم أن فيهم خيرا لوهبتهم لك. فقتلهم وأخرب مدائن مصر وقراها، وسبى جميع أهلها، ولم يترك بها أحدا حتى بقيت مصرا أربعين سنة خرابا ليس فيها أحد؛ يجري نيلها، ويذهب لا يُنتفع به. وأقام أرميا بمصر، واتخذ زرعا يعيش به فأوحى الله إليه: إن لك عن الزرع والمقام شغلا، فألحق بإيليا. فخرج أرميا حتى أتى
بيت المقدس. ثم إن بخت نصر رد أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمروها، فلم تزل مصر مقهورة من حينئذ (1) .
ثم ظهرت الروم وفارس على سائر الملوك الذين في وسط الأرض، فقاتلت الروم أهل مصر ثلاث سنين يحاصرونهم. وصابروهم القتال في البر والبحر؛ فلما رأى ذلك أهل مصر صالحوا الروم، على أن يدفعوا لهم شيئا مسمى في كل عام، على أن يمنعوهم ويكونوا في ذمتهم، ثم ظهرت فارس على الروم، فلما غلبوهم على الشام، رغبوا في مصر، وطمعوا فيها، فامتنع أهل مصر، وأعانتهم الروم، وقاتلت دونهم، وألحت عليهم فارس، فلما خشوا ظهورهم عليهم صالحوا فارس، على أن يكون ما صالحوا عليه الروم بين الروم وفارس، فرضيت الروم بذلك حين خافت ظهور فارس عليها، فكان ذلك الصلح على مصر، وأقامت مصر بين الروم وفارس سبع سنين، ثم استجاشت الروم، وتظاهرت على فارس، وألحت بالقتال والمدد، حتى ظهروا عليهم وخربوا مصانعهم أجمع، وديارهم التي بالشام ومصر، وكان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه نزلت: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} (2) الآية، فصارت الشام كلها صلحًا ومصر خالصًا للروم، وليس لفارس في الشام ومصر شيء (3) .
قال الليث بن سعد: وكانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذي يقال له سبيل، أليون (4) ، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم؛ فلما انكشفت جموع فارس وأخرجتهم الروم من الشام، أتمت الروم بناء ذلك الحصن، وأقامت به،
وأرسل هرقل المقوقس أميرا على مصر، وجعل إليه حربها وجباية خراجها، فنزل الإسكندرية، فلم تزل في ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على المسلمين (5) .
قال صاحب مباهج الفكر: هذا الحصن يُسمى قصر الشمع.
(1) فتوح مصر 30-31.
(2)
سورة الروم: 1، 2.
(3)
فتوح مصر 35.
(4)
فتوح مصر: "باب أليون".
(5)
فتوح مصر 35.