الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر دخول عمرو بن العاص مصر في الجاهلية:
أخرج بن عبد الحكم، عن خالد بن يزيد، أنه بلغه أن عمرا قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش، وإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية، قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج في بعض جبالها يسيح، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم؛ فبينما عمرو يرعى إبله إذ مر به ذلك الشماس، وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحر، فوقف على عمر فاستسقاه، فسقا عمرو من قربة له، فشرب حتى روي، ونام الشماس مكانه، وكان إلى جانب الشماس حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها، فقال لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها بسهم فقتلها، فأقبل إلى عمرو، فقبل رأسه، وقال: قد أحياني الله بك مرتين: مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل من تجارتنا، فقال له الشماس: وكم ترجو أن تصيب من تجارتك؟ قال: رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا، فإني لا أملك إلا بعيرين، فأملي أن أصيب بعيرا آخر، فيكون لي ثلاثة أبعرة. قال له الشماس: أرأيت دية أحدكم بينكم، كم هي؟ قال: مائة من الإبل، فقال الشماس لسنا أصحاب إبل، نحن أصحاب دنانير، قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس، أسيح في هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك نذرا على نفسي، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ لأن الله تعالى قد أحياني بك مرتين! فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال:
مصر في مدينة يقال لها الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها، فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، وعليك بذلك العهد والميثاق؟ فقال الشماس: نعم لك الله على بالعهد والميثاق أن أفي لك، وأن أردك إلى أصحابك، فقال عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرًا تنطلق معي ذاهبًا عشرًا، وتقيم عندنا
عشرًا، وترجع في عشر؛ ولك عليَّ أنت أحفظك ذاهبًا، وأن أبعث معك من يحفظك راجعًا. فقال له: أنظرني حتى أشاور أصحابي، فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: أقيموا حتى أرجع إليكم، ولكم عليَّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلًا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر؛ حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه ذلك، وقال: ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال، فازداد تعجبًا، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدًا فيها عظيمًا يجتمع فيها (1) ملوكهم وأشرافهم، ولهم أكرة من ذهب مكللة، يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم؛ وفيما اختبروا من تلك الأكرة على ما وضعها من مضى منهم: إن من وقعت الأكرة في كمه، واستقرت فيه، لم يمت حتى يملكهم. فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالأكرة، وهم يتلقونها بأكملهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو؛ فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا! هذا لا يكون أبدًا!
(1) فتوح مصر: "فيه".
وإن ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم أن عمرًا أحياه مرتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم؛ ففعلوا ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمر وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلًا ورسولًا، وزودهما وأكرمهما؛ حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما؛ فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالًا. فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع إليهم فيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفًا، قال عمرو: فكان أول مال "اعتقدته وتأثلته"(1) .
(1) فتوح مصر 53-55.