الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِشَارَة الْخَامِسَة الِاسْتِقْلَال والتفرد
لقد أثبتنا فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة من الرسائل وببراهين دامغة أَن الِاسْتِقْلَال والانفراد من أخص خَصَائِص الحاكمية حَتَّى أَن هَذَا الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ عَاجز عَجزا شَدِيدا وَلَا يملك من الحاكمية سوى ظلّ باهت نرَاهُ يرد بِكُل قُوَّة أَي فضول كَانَ من الآخرين ويرفض بِكُل شدَّة أَي تدخل كَانَ مِنْهُم فِي شؤونه صونا مِنْهُ لاستقلاله وانفراده فِي الْأَمر بل ذكر فِي التَّارِيخ أَن كثيرا من السلاطين قد سَفَكُوا دِمَاء زكية لأبنائهم الأبرياء وإخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخل مِنْهُم فِي شؤونهم
إِذن فالاستقلال والانفراد ورفض مداخلة الآخرين هُوَ من أخص خَصَائِص الحاكمية الحقة لَا فكاك لَهَا عَنهُ بل هُوَ لازمها ومقتضاها الدَّائِم
فالحاكمية الإلهية الَّتِي هِيَ فِي ربوبية مُطلقَة ترد بِكُل شدَّة الشّرك والاشتراك مهما كَانَ نَوعه وَلَا تقبل تدخلا مَا من سواهَا قطّ وَمن هُنَا نرى الْقُرْآن الْكَرِيم
بَعْدَمَا يفِيض فِي بَيَان التَّوْحِيد الْخَالِص يرد الشّرك والمشاركة بأسلوب سديد وبتهديد مروع
فَكَمَا اقْتَضَت الحاكمية الإلهية الَّتِي هِيَ فِي الربوبية الْمُطلقَة التَّوْحِيد والوحدانية بقطعية تَامَّة وأظهرت مُقْتَضى شَدِيدا وداعيا قَوِيا لَهَا كَذَلِك الْكَمَال الرائع الْمشَاهد للكون ابْتِدَاء من النُّجُوم والنباتات والحيوانات وَالْأَرْض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والأفراد والذرات يَقْتَضِي التَّوْحِيد والوحدانية بالقطعية نَفسهَا فَهَذَا الْكَمَال فِي النظام المتقن وَهَذَا الانسجام البديع لَهو شَاهد عدل وبرهان باهر على تِلْكَ الوحدانية والفردية فَلَا يسمح قطّ لريبة أَو لشُبْهَة ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ هُنَاكَ أَي تدخل مِمَّا سوى الْوَاحِد الْأَحَد لفسد هَذَا النظام البديع الرصين واختل هَذَا التوازن الْمُحكم الْمشَاهد فِي جَمِيع أَجزَاء الْكَوْن فَصدق الله الْعَظِيم الَّذِي قَالَ {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا}
نعم لَو كَانَ هُنَاكَ أَي تدخل مهما كَانَ لظهرت آثاره بادية إِلَّا أَن الدعْوَة الصَّرِيحَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة {فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور} تريك هَذَا النظام
البديع بِكُل وضوح وجلاء حَتَّى لَا ترى ثغرة وَلَا لبسا وَلَا نقصا فِي جِهَة من الْجِهَات ابْتِدَاء من الذرات إِلَى المجرات
إِذا فالنظام الرصين فِي الْكَوْن والانتظام الرائع فِي الْمَخْلُوقَات كَافَّة والموازنة الدقيقة بَين الموجودات يظْهر لنا التجلي الْأَعْظَم لاسم الْفَرد وَيشْهد شَهَادَة وَاضِحَة على الوحدانية
ثمَّ إِن أَي مَخْلُوق مهما كَانَ صَغِيرا إِنَّمَا هُوَ مِثَال مصغر للكون كُله ونموذجه وفهرسه الْمُخْتَصر فبمقتضى تجلي الأحدية لَا يكون مَالِكًا لذَلِك الْمَخْلُوق الْحَيّ الصَّغِير إِلَّا من كَانَ بِيَدِهِ زِمَام الْكَوْن كُله وَله الْأَمر جَمِيعًا وَحَيْثُ أَن كل بذرة متناهية فِي الصغر لَيست بِأَقَلّ إبداعا فِي الْخلق من شَجَرَة ضخمة وَأَن كل شَجَرَة باسقة تضاهي فِي خلقهَا خلق الكائنات وكل كَائِن حَيّ صَغِير إِنَّمَا هُوَ بِحكم عَالم مصغر فَإِن تجلي الأحدية هَذَا يَجْعَل الشّرك والاشتراك محالا مُمْتَنعا
ثمَّ إِن الَّذِي يتَأَمَّل فِي هَذَا الْكَوْن فِي ضوء هَذَا السِّرّ سر الأحدية يرى الْكَوْن وَاحِدًا يستعصي على التجزئة مُطلقًا وَلَيْسَ هَذَا فَحسب بل هُوَ من حَيْثُ
الْمَاهِيّة كلي لَا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وَتدْخل الْأَيْدِي المتعددة قطّ فَأَي تدخل فِيهِ مِمَّا سوى الْفَرد الْأَحَد محَال مُمْتَنع إِذْ إِن كل جُزْء فِيهِ بِحكم جزئي وفردي والكون هُوَ بِحكم الْكُلِّي فَلَيْسَ فِيهِ مَوضِع للاشتراك فِي أَيَّة جِهَة كَانَت
فَهَذَا التجلي الْأَعْظَم لإسم الْفَرد يثبت حَقِيقَة التَّوْحِيد بِهَذَا السِّرّ للأحدية بِدَرَجَة البداهة
نعم إِن اندماج أَنْوَاع الكائنات واندغامها فِيمَا بَينهَا وَتوجه وَظِيفَة كل مِنْهَا إِلَى عُمُوم الكائنات من حَيْثُ الْخلق والربوبية مِثْلَمَا يَجْعَل الْكَوْن كلا وَاحِدًا يستعصي على التجزئة قطعا كَذَلِك الْأَفْعَال العمومية المحيطة بالكائنات وَالَّتِي تظهر آثارها وفعالياتها فِي الكائنات عُمُوما تجْعَل الْكَوْن أَيْضا كلا وَاحِدًا من حَيْثُ تداخلها بِبَعْضِهَا حَتَّى يرفض التجزئة ويردها ردا قَوِيا ولتوضيح ذَلِك نسوق الْمِثَال الْآتِي
حالما توهب الْحَيَاة للكائن يظْهر فعل الإعاشة والإرزاق فِيهِ مُبَاشرَة وَضمن أَفعَال الإعاشة والإحياء هَذِه يُشَاهد مُبَاشرَة فعل تنظيم جَسَد ذَلِك الْكَائِن وتنسيق أَعْضَائِهِ وتجهيزه بِمَا يحْتَاج وَيلْزم وحينما تظهر
أَفعَال الإعاشة والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التَّصْوِير والتربية وَالتَّدْبِير فعله فِي الْوَقْت نَفسه وَهَكَذَا
فتداخل أَمْثَال هَذِه الْأَفْعَال المحيطة بَعْضهَا بِالْبَعْضِ الآخر واتحادها بِبَعْضِهَا وامتزاجها كامتزاج الألوان السَّبْعَة فِي الطيف الشمسي ثمَّ إحاطة كل فعل من تِلْكَ الْأَفْعَال وشموله من حَيْثُ الْمَاهِيّة للموجودات كلهَا فِي وحدة وَاحِدَة وَكَون كل فعل مِنْهَا فعلا وحدانيا يدل دلَالَة وَاضِحَة على أَن فَاعله وَاحِد أحد فَرد
وكما أَن اسْتِيلَاء كل فعل من تِلْكَ الْأَفْعَال وهيمنته على الكائنات قاطبة واتحاده مَعَ سَائِر الْأَفْعَال فِي تعاون وثيق يَجْعَل الْكَوْن كلا غير قَابل للتجزئة كَذَلِك فَإِن كل مَخْلُوق حَيّ من حَيْثُ كَونه بِمَثَابَة بذرة الْكَوْن وفهرسه ونموذجه يَجْعَل الْكَوْن كليا غير قَابل للانقسام والتجزئة من حَيْثُ الربوبية بل يَجْعَل انقسامه محالا وخارجا عَن الْإِمْكَان أَي أَن الْكَوْن بِهَذَا هُوَ كل لَا يتَجَزَّأ فَلَا يكون إِذا رب الْجُزْء إِلَّا من كَانَ رَبًّا للْكُلّ وَهُوَ كلي أَيْضا فَلَا يكون رَبًّا للفرد الْوَاحِد إِلَّا من كَانَ زِمَام ذَلِك الْكُلِّي بِيَدِهِ