المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إِيضَاح   إِذا مَا دخلت بستانا فَلَا أجني إِلَّا الأجود من الثمرات - حقيقة التوحيد

[بديع الزمان النورسي]

فهرس الكتاب

- ‌الْمقَام الأول

- ‌حِكَايَة تمثيلية

- ‌الْبُرْهَان الأول

- ‌الْبُرْهَان الثَّانِي

- ‌الْبُرْهَان الثَّالِث

- ‌الْبُرْهَان الرَّابِع

- ‌الْبُرْهَان الْخَامِس

- ‌الْبُرْهَان السَّادِس

- ‌الْبُرْهَان السَّابِع

- ‌الْبُرْهَان الثَّامِن

- ‌الْخُلَاصَة

- ‌الْبُرْهَان التَّاسِع

- ‌الْبُرْهَان الْعَاشِر

- ‌الْبُرْهَان الْحَادِي عشر

- ‌الْبُرْهَان الثَّانِي عشر

- ‌الْمقَام الثَّانِي

- ‌الْمُقدمَة

- ‌اللمْعَة الأولى التَّوْحِيد الْعَاميّ والحقيقي

- ‌اللمْعَة الثَّانِيَة اختام الْخَالِق على الْحَيَاة

- ‌اللمْعَة الثَّالِثَة اختام ربانية على ذَوي الْحَيَاة

- ‌اللمْعَة الرَّابِعَة منح الْحَيَاة آيَة جلية

- ‌النافذة الأولى

- ‌النافذة الثَّانِيَة

- ‌النافذة الثَّالِثَة

- ‌اللمْعَة الْخَامِسَة كتاب الْكَوْن يعرف الباريء المصور

- ‌اللمْعَة السَّادِسَة آيَات التَّوْحِيد على صحيفَة الرّبيع

- ‌اللمْعَة السَّابِعَة دساتير عريقة فِي الْكَوْن

- ‌اللمْعَة الثَّامِنَة الْمَالِك للْكُلّ هُوَ الْمَالِك للجزء

- ‌اللمْعَة التَّاسِعَة سهولة الْخلق فِي التَّوْحِيد

- ‌اللمْعَة الْعَاشِرَة الْحَيَاة وَالْمَوْت آيتان

- ‌اللمْعَة الْحَادِيَة عشرَة الساطعة كالشموس أعظم آيَة فِي كتاب الْكَوْن

- ‌اللمْعَة الثَّانِيَة عشرَة الساطعة كالشموس بَحر الْحَقَائِق

- ‌اللمْعَة الثَّلَاثُونَ

- ‌النُّكْتَة الرَّابِعَة

- ‌إشارت إِلَى التَّوْحِيد الْحَقِيقِيّ

- ‌الْإِشَارَة الاولى بصمات التَّوْحِيد

- ‌الْآيَة الأولى التعاون بَين أَجزَاء الْكَوْن

- ‌الْآيَة الثَّانِيَة إدارة الْحَيَاة على الأَرْض

- ‌الْآيَة الثَّالِثَة سيماء الْإِنْسَان

- ‌الْإِشَارَة الثَّانِيَة ناموس وَاحِد

- ‌الْإِشَارَة الثَّالِثَة رسائل صمدانية

- ‌الْإِشَارَة الرَّابِعَة التَّوْحِيد فطري والشرك محَال

- ‌النقطة الأولى قُوَّة الانتساب والاستناد

- ‌النقطة الثَّانِيَة يسر الْخلق فِي التَّوْحِيد وامتناعه فِي الشّرك

- ‌النقطة الثَّالِثَة أَمْثِلَة أُخْرَى

- ‌الْإِشَارَة الْخَامِسَة الِاسْتِقْلَال والتفرد

- ‌الْإِشَارَة السَّادِسَة البلسم الشافي

- ‌الْإِشَارَة السَّابِعَة السراج الْمُنِير

- ‌الْمَكْتُوب الْعشْرُونَ

- ‌بشارات التَّوْحِيد

- ‌الْمُقدمَة

- ‌الْمقَام الأول

- ‌الرسَالَة الْقيمَة

- ‌نقطة من معرفَة الله جل جلاله

- ‌إِيضَاح

الفصل: ‌ ‌إِيضَاح   إِذا مَا دخلت بستانا فَلَا أجني إِلَّا الأجود من الثمرات

‌إِيضَاح

إِذا مَا دخلت بستانا فَلَا أجني إِلَّا الأجود من الثمرات حَتَّى إِذا مَا تعبت فِي قطفها أجد الْمُتْعَة واللذة وَلَو وَقع نَظَرِي على الْفَاسِدَة مِنْهَا أصرفه عَنْهَا آخِذا بالقاعدة خُذ مَا صفا دع مَا كدر هَكَذَا أَنا فأرجو أَن يكون قرائي أَيْضا مثلي

يُقَال إِن كلامك لَا يفهم بوضوح

نعم مَا حيلتي هَكَذَا ترد السنوحات إِلَى الْقلب فَبَيْنَمَا أجدني كأنني أَتكَلّم فَوق مَنَارَة عالية إِذا بِي فِي أحيان أُخْرَى أنادي من قَعْر بِئْر عميقة

فيا قارئي الْعَزِيز أَرْجُو أَن تلاحظ فِي هَذِه الرسَالَة

أَن الْمُتَكَلّم هُوَ قلبِي الْعَاجِز

أما الْمُخَاطب فَهُوَ نَفسِي العاصية

بَيْنَمَا المستمع هُوَ ذَلِك الْإِنْسَان الَّذِي يتحَرَّى الْحَقِيقَة

وسنشير فِي هَذِه الرسَالَة إِلَى مَا نقصده بِالذَّاتِ وَهُوَ التَّوْحِيد فِي أَرْبَعَة براهين عَظِيمَة من بَين براهينه الَّتِي لَا تحصر

سعيد النورسي

ص: 156

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ

مقصودنا ومطلوبنا هُوَ {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم}

فَمن بَين براهينه الَّتِي لَا تعد نورد هُنَا أَرْبَعَة مِنْهَا الْبُرْهَان الأول هُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَقد بسطنا هَذَا الْبُرْهَان فِي رِسَالَة سَابِقَة

الْبُرْهَان الثَّانِي هَذَا الْكَوْن ذَلِك الْكتاب الْكَبِير المنظور

الْبُرْهَان الثَّالِث هُوَ الْقُرْآن الْكَرِيم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ وَهُوَ الْكَلَام الْمُقَدّس

الْبُرْهَان الرَّابِع الوجدان الْحَيّ أَو الْفطْرَة الشاعرة الَّذِي يمثل البرزخ ونقطة اتِّصَال عالمي الْغَيْب وَالشَّهَادَة فالفطرة أَو الوجدان نَافِذَة إِلَى الْعقل ينشر مِنْهَا شُعَاع التَّوْحِيد

ص: 157

الْبُرْهَان الأول وَهُوَ حَقِيقَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

تِلْكَ الْحَقِيقَة المجهزة بالرسالة وَالْإِسْلَام فَمن حَيْثُ الرسَالَة تَتَضَمَّن شَهَادَة أعظم إِجْمَاع وأوسع تَوَاتر لجَمِيع الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَمن حَيْثُ الْإِسْلَام تحمل روح الْأَدْيَان السماوية كلهَا وتصديقها الْمُسْتَند على الْوَحْي فالرسول الْكَرِيم صلى الله عليه وسلم يبين للبشرية جَمْعَاء وجود الله ووحدانيته فِي جَمِيع أَقْوَاله الصادقة المصدقة بمعجزاته الباهرة وبشهادة الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وتصديق الْأَدْيَان كهلا فَهُوَ صلى الله عليه وسلم يظْهر ذَلِك النُّور باسم المصطفين الأخيار من البشرية الَّذين اتحدوا فِي هَذِه الدعْوَة ترى هَل يُمكن أَن يتسلل الْبَاطِل إِلَى مثل هَذِه الْحَقِيقَة الباهرة الَّتِي تنَال هَذَا الْقدر من التَّصْدِيق وتبصرها الْعُيُون النافذة إِلَى الْحَقَائِق فتراها وَاضِحَة جلية خَالِصَة لَا شَائِبَة فِيهَا كلا ثمَّ كلا

الْبُرْهَان الثَّانِي وَهُوَ كتاب الْكَوْن

نعم إِن حُرُوف هَذَا الْكتاب ونقاطه فَردا فَردا أَو مَجْمُوعَة يَتْلُو كل بِلِسَانِهِ الْخَاص وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ

وَيبين وجود الْخَالِق الْعَظِيم ووحدانيته فَكل ذرة فِي

ص: 158

الْكَوْن تشهد شَهَادَة صَادِقَة على وجوب وجود الْخَالِق الْحَكِيم جل جلاله فَبَيْنَمَا ترَاهَا تَتَرَدَّد بَين إمكانات واحتمالات غير متناهية فِي صفاتها وذاتها وَأَحْوَالهَا ووجودها إِذا بهَا تنتعش وتسلك طَرِيقا معينا وتتصف بِصفة مُعينَة وتتكيف بِحَالَة منتظمة وتسير وفْق قانون مُسَدّد وتتوجه إِلَى قصد معِين فتنتج حكما ومصالح تبهر الْأَلْبَاب فتزيد سطوع الْإِيمَان بِاللَّه فِي اللطيفة الربانية الممثلة لنموذج عوالم الْغَيْب فِي الْإِنْسَان أَفلا تنادي الذّرة بلسانها الْخَاص وتصرح بِقصد صانعها الْجَلِيل وبحكمته الْبَالِغَة فَكل ذرة من الذرات كَمَا أَنَّهَا تدل على الْخَالِق الْحَكِيم بوجودها الْمُنْفَرد وبصفاتها الْخَاصَّة وبكيفياتها الْمعينَة فَإِن هَذِه الدّلَالَة تتزايد بِاعْتِبَار كَون الذّرة جُزْءا من مركبات متداخلة متصاعدة وَمن حَيْثُ الإمكانات والاحتمالات الَّتِي تسلكها إِذْ لَهَا فِي كل مركب مقَام وَفِي كل مقَام نِسْبَة مُعينَة وارتباط معِين وَفِي كل نِسْبَة لَهَا وَظِيفَة خَاصَّة وَفِي كل موقع تحافظ على التوازن الْعَام وَفِي كل وَظِيفَة تثمر مصَالح شَتَّى وَحكما عديدة فَفِي كل مرتبَة إِذا تتلو الذّرة بلسانها الْخَاص دَلَائِل وجوب وجود صانعها الْجَلِيل وَتظهر قصد خَالِقهَا الْحَكِيم وَكَأَنَّهَا ترتل الْآيَات

ص: 159

الْكَرِيمَة الدَّالَّة على الوحدانية مثلهَا فِي هَذَا كَمثل الجندي الَّذِي لَهُ وَظِيفَة مُعينَة وارتباط خَاص مَعَ كل من فَصِيله وفوجه وفرقته والجيش كُله أَلا تكون إِذا الْبَرَاهِين الدَّالَّة على الله سبحانه وتعالى أَكثر بِكَثِير من عدد ذرات الْكَوْن فَمَا يُقَال من أَن الطّرق إِلَى الله بِعَدَد أنفاس الْخَلَائق إِنَّمَا هِيَ حَقِيقَة صَادِقَة لَا مُبَالغَة فِيهَا قطّ بل قد تكون قَاصِرَة

سُؤال لماذا لَا يرى الْجَمِيع بعقولهم الْخَالِق الْعَظِيم

الْجَواب لكَمَال ظُهُوره جلّ وَعلا وَلعدم الضِّدّ تَأمل سطور الكائنات فَإِنَّهَا من الْمَلأ الْأَعْلَى إِلَيْك رسائل

فَهَذَا الْكتاب الكوني الْعَظِيم يتجلى فِيهِ النظام بوضوح تَامّ بِحَيْثُ يظْهر النظام كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَة النَّهَار فتظهر معْجزَة الْقُدْرَة فِي كل كلمة أَو حرف فِيهِ فتأليف هَذَا الْكتاب البديع فِيهِ من الإعجاز الباهر بِحَيْثُ لَو فَرضنَا فرضا محالا أَن كل سَبَب من الْأَسْبَاب الطبيعية فَاعِلا مُخْتَارًا لسجدت تِلْكَ الْأَسْبَاب جَمِيعًا بِكَمَال الْعَجز أَمَام ذَلِك الإعجاز قائلة سُبْحَانَكَ لَا قدرَة لنا أَنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم إِذْ أَنَّك ترى أَن فِي هَذَا الْكتاب من النّظم الدَّقِيق المتشابك المتساند بِحَيْثُ

ص: 160

يلْزم لإيجاد نقطة فِي مَكَانهَا الصَّحِيح قدرَة مُطلقَة تَسْتَطِيع إِيجَاد الْكَوْن كُله وَذَلِكَ لِأَن كل حرف من حُرُوفه وَلَا سِيمَا مَا كَانَ ذَا حَيَاة لَهُ وَجه نَاظر إِلَى كل جملَة من جمل الْكتاب وَله عين شاخصة إِلَيْهَا بل إِن كل كلمة فِيهِ لَهَا ارتباط وثيق مَعَ كَلِمَات الْكتاب كلهَا فَالَّذِي خلق عين الْبَعُوضَة إِذا هُوَ خَالق الشَّمْس أَيْضا وَالَّذين نظم معدة البرغوث هُوَ الَّذِي ينظم الْمَنْظُومَة الشمسية فَإِن شِئْت رَاجع كتاب السنوحات لترى حَقِيقَة الْآيَة الْكَرِيمَة {مَا خَلقكُم وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة}

ولتشهد كَيفَ يقطر شهد الشَّهَادَة الصادقة من لِسَان معْجزَة الْقُدْرَة النَّحْل الَّذِي يمثل كلمة صَغِيرَة من هَذَا الْكتاب أَو إِن شِئْت فَتَأمل فِي نقطة من هَذَا الْكتاب فِي حَيَوَان مجهري لَا يرى بِالْعينِ الْمُجَرَّدَة لتشهد كَيفَ أَنه يمثل نموذجا مُصَغرًا للكائنات فَالَّذِي كتبه على هَذِه الصُّورَة المعجزة قد كتب الكائنات فَلَو أمعنت النّظر فِيهِ لرأيته يضم من المكائن الدقيقة والأجهزة البديعة مَا يثبت لَك يَقِينا أَنه لَا يُمكن أَن يُفَوض أمره

ص: 161

إِلَى الْأَسْبَاب الجامدة البسيطة الطبيعية الَّتِي لَا تميز بَين الإمكانات إِلَّا إِذا توهمت أَن فِي كل ذرة شُعُور الْحُكَمَاء وَحِكْمَة الْأَطِبَّاء ودهاء الساسة والحكام وَأَنَّهَا تتحاور فِيمَا بَينهَا دون وساطة وَمَا هَذِه إِلَّا خرافة يخجل مِنْهَا الخرافيون فَلَا يُمكن أَن تكون تِلْكَ الماكنة الْحَيَّة الصَّغِيرَة إِذا إِلَّا معْجزَة قدرَة إلهية أَلا ترى أَن الْعُقُول تنبهر أمامها فَهِيَ إِذا لَيست من صنع الْأَسْبَاب الطبيعية بل من إبداع من يقدر على إِيجَاد الكائنات كلهَا وينظم شؤونها إِذْ هُوَ محَال أَن يجْتَمع أس أساس تِلْكَ الْأَسْبَاب المادية وَهُوَ الْقُوَّة الجاذبية وَالْقُوَّة الدافعة مَعًا فِي جُزْء لَا يتَجَزَّأ للْقِيَام بِتِلْكَ الصَّنْعَة الحكيمة

نعم إِن مَا يَظُنُّونَهُ أساسا لكل شَيْء من جذب وَدفع وحركة وَقُوَّة وأمثالها إِنَّمَا هُوَ ناموس الهي يمثل قوانين عادات الله وَاسم لَهَا فَهَذِهِ القوانين مَقْبُولَة بِشَرْط أَلا تنْتَقل من كَونهَا قَاعِدَة إِلَى طبيعة فاعلة وَمن شَيْء ذهني إِلَى حَقِيقَة خارجية وَمن أَمر اعتباري إِلَى حَقِيقَة مَشْهُودَة وَمن آلَة قِيَاس إِلَى مُؤثر حَقِيقِيّ

سُؤال مَعَ أَن هَذِه الشَّهَادَة قَاطِعَة فَكيف إِذا يعْتَقد الْبَعْض بأزلية الْمَادَّة وتشكل الْأَنْوَاع من حركات الذرات أَي بالمصادفة وأمثالها من الْأُمُور

ص: 162

الْجَواب لمُجَرّد إقناع النَّفس بِشَيْء آخر غير الْإِيمَان بِاللَّه وَلِأَنَّهُم لَا يدركون فَسَاد الفكرة بِالنّظرِ السطحي التقليدي فينشأ لديهم هَذَا الِاحْتِمَال وَلَكِن إِذا قصد الْإِنْسَان وَتوجه بِالذَّاتِ إِلَى إقناع نَفسه فَلَا بُد أَنه سيقف على محالية الفكرة وَبعدهَا عَن الْمنطق وَالْعقل وَلَو اعْتقد بهَا فَلَا يعْتَقد إِلَّا بِسَبَب التغافل عَن الْخَالِق سُبْحَانَهُ فَمَا أعجب الضلال إِن من يضيق عقله عَن أزلية الله سُبْحَانَهُ وإيجاده الْأَشْيَاء كلهَا وَهِي صفة لَازِمَة ضَرُورِيَّة للذات الجليلة كَيفَ يُعْطي تِلْكَ الأزلية والإيجاد إِلَى ذرات غير متناهية وَإِلَى أَشْيَاء عاجزة فَلَقَد اشتهرت حَادِثَة أَنه بَيْنَمَا كَانَ النَّاس يراقبون هِلَال الْعِيد وَلم يره أحد إِذا بشيخ هرم يحلف أَنه قد رأى الْهلَال ثمَّ تبين أَنه مَا رَآهُ لم يكن هلالا بل شَعْرَة بَيْضَاء مقوسة قد تدلت من حَاجِبه فَأَيْنَ تِلْكَ الشعرة من الْهلَال وَأَيْنَ حركات الذرات من تشكيل الْأَنْوَاع

إِن الْإِنْسَان لكَونه مكرما فطْرَة يبْحَث عَن الْحق دَوْمًا وأثناء بَحثه يعثر على الْبَاطِل أَحْيَانًا فيخفيه فِي صَدره ويحفظه وَقد يَقع الضلال بِلَا اخْتِيَار مِنْهُ على رَأسه أثْنَاء تنقيبه عَن الْحَقِيقَة فيظنه حَقًا فيلبسه كالقلنسوة على رَأسه

ص: 163

سُؤال مَا هَذِه الطبيعة والقوانين والقوى الَّتِي يسلون بهَا أنفسهم

الْجَواب أَن الطبيعة هِيَ شَرِيعَة الهية كبرى أوقعت نظاما دَقِيقًا بَين أَفعَال وعناصر وأعضاء جَسَد الخليقة الْمُسَمّى بعالم الشَّهَادَة هَذِه الشَّرِيعَة الفطرية هِيَ الَّتِي تسمى بِسنة الله والطبيعة وَهِي محصلة وخلاصة مَجْمُوع القوانين الاعتبارية الْجَارِيَة فِي الْكَوْن أما مَا يسمونه بالقوى فَكل مِنْهَا حكم من أَحْكَام هَذِه الشَّرِيعَة والقوانين كل مِنْهَا عبارَة عَن مَسْأَلَة من مسائلها وَلَكِن لاستمرار أَحْكَام هَذِه الشَّرِيعَة واطراد مسائلها توهم الخيال فجسمها فِي الطبيعة واعتبرها مَوْجُودا خارجيا مؤثرا وَحَقِيقَة واقعية فاعلة بَيْنَمَا هِيَ أَمر اعتباري ذهني فترى النُّفُوس الَّتِي ترى الخيال حَقِيقَة وَالْأَمر الاعتباري الذهْنِي أمرا خارجيا ألبست هَذِه الطبيعة طور الْمُؤثر الْحَقِيقِيّ وَالْحَال لَا يقنع الْقلب بِأَيّ مبرر وَلَا يعجب الْفِكر بِأَيّ مسوغ بل لَا تأنس الْحَقِيقَة بِكَوْن هَذِه الطبيعة الجاهلة مصدرا للأشياء فَمَا ساقهم إِلَى هَذِه الفكرة غير المعقولة إِلَّا توهمهم إِنْكَار الْخَالِق الْجَلِيل وَذَلِكَ لعجزهم عَن إِدْرَاك آثَار قدرته المعجزة المحيرة للعقول

ص: 164

فالطبيعة مطبعة مثالية وَلَيْسَت طابعة نقش لَا نقاشة قَابِلَة للانفعال لَا فاعلة مسطر آلَة قِيَاس لَا مصدر نظام لَا نظام قانون لَا قدرَة شَرِيعَة إرادية لَا حَقِيقَة خارجية

فَلَو قدم شخص فِي ريعان الشَّبَاب إِلَى هَذَا الْعَالم البديع مُبَاشرَة وَدخل قصرا فخما مزينا بأروع الْآثَار وافترض لنَفسِهِ أَن لَيْسَ هُنَاكَ من أحد خَارج الْبناء قد قَامَ بتشييده وتزيينه وَبَدَأَ يتحَرَّى السَّبَب الْفَاعِل فِي أرجاء الْقصر وَوَقع بَصَره على كتاب جَامع لأنظمة الْقصر وخارطته فَإِنَّهُ يتَصَوَّر من جَهله أَن هَذَا الْكتاب هُوَ الْفَاعِل لما ينعكس فِي شعوره من الْبَحْث عَن عِلّة حَقِيقِيَّة فيضطر إِلَى هَذِه الْعلَّة بِسَبَب افتراضه الموهوم مقدما وَهَكَذَا الْبَعْض يسلي نَفسه بالطبيعة بِسَبَب تغافله عَن الْخَالِق الْجَلِيل فيضطر إِلَى خداع نَفسه بِنَفسِهِ ويتيه فِي مثل هَذِه الْأُمُور الْخَارِجَة عَن منطق الْعقل

والشريعة الإلهية اثْنَتَانِ

إِحْدَاهمَا الشَّرِيعَة الْآتِيَة من صفة الْكَلَام الَّتِي تنظم أَفعَال الْعباد الاختيارية

ص: 165

وَالثَّانيَِة الشَّرِيعَة الْآتِيَة من صفة الْإِرَادَة الَّتِي تسمى بالأوامر التكوينية والشريعة الفطرية وَهِي محصلة قوانين عادات الله الْجَارِيَة فِي الْكَوْن

فَكَمَا أَن الشَّرِيعَة الأولى عبارَة عَن قوانين معقولة فَإِن الشَّرِيعَة الثَّانِيَة أَيْضا عبارَة عَن مَجْمُوع القوانين الاعتبارية وَالَّتِي تسمى خطأ بالطبيعة فَهَذِهِ القوانين لَا تملك التَّأْثِير الْحَقِيقِيّ وَلَا الإيجاد اللَّذين هما من خَواص صفة الْقُدْرَة الإلهية

وَلَقَد شرحنا أثْنَاء بياننا التَّوْحِيد أَن كل شَيْء مُرْتَبِط بالأشياء جَمِيعًا فَلَا شَيْء يحدث من دون الْأَشْيَاء جَمِيعًا فَالَّذِي يخلق شَيْئا قد خلق جَمِيع الْأَشْيَاء لذا فَلَيْسَ الْخَالِق لشَيْء إِلَّا الْوَاحِد الْأَحَد الصَّمد بَيْنَمَا الْأَسْبَاب الطبيعية الَّتِي يَسُوقهَا أهل الضَّلَالَة هِيَ مُتعَدِّدَة فضلا عَن أَنَّهَا جاهلة لَا يعرف بَعْضهَا بَعْضًا علاوة على أَنَّهَا عمياء وَلَيْسَ بَين يَديهَا إِلَّا الصدفة العمياء

ف {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ}

الْخُلَاصَة إِن الإعجاز الباهر الظَّاهِر فِي النظام والتناسق والاطراد الْمشَاهد فِي كتاب الْكَوْن الْكَبِير وَهُوَ برهاننا الثَّانِي على التَّوْحِيد يظْهر بوضوح تَامّ

ص: 166

كَالشَّمْسِ الساطعة إِن الْكَوْن وَمَا فِيهِ لَيْسَ إِلَّا آثَار قدرَة متناهية وَعلم لَا يتناهى وَإِرَادَة أزلية

سُؤال بِمَ يثبت النظام والانتظام والتناسق

الْجَواب أَن الْعُلُوم الكونية الَّتِي توصل إِلَيْهَا الْإِنْسَان إِنَّمَا هِيَ كالحواس لنَوْع الْإِنْسَان وكالجواسيس تكشف لَهُ عَن مَجَاهِيل لَا يصلها بِنَفسِهِ فبالاستقراء التَّام يُمكنهُ أَن يتَوَصَّل إِلَى كشف ذَلِك النظام بِتِلْكَ الْحَواس والجواسيس فَكل نوع من أَنْوَاع الكائنات قد خص بِعلم أَو فِي طَرِيقه إِلَى ذَلِك لذا يظْهر كل علم مَا فِي نَوعه من انتظام ونظام بكلية قَوَاعِده لِأَن كل علم فِي الْحَقِيقَة عبارَة عَن دساتير وقواعد كُلية وكلية الْقَوَاعِد تدل على حسن النظام إِذْ مَا لَا نظام لَهُ لَا تجْرِي فِيهِ الْكُلية فالإنسان مَعَ أَنه قد لَا يحط بِنَفسِهِ بالنظام كُله إِلَّا أَنه يُدْرِكهُ بجواسيس الْعُلُوم فَيرى أَن الْإِنْسَان الْأَكْبَر وَهُوَ الْعَالم منظم كالإنسان الْأَصْغَر سَوَاء بِسَوَاء فَمَا من شَيْء إِلَّا ومبني على أسس حكيمة فَلَا عَبث وَلَا شَيْء سدى

فبرهاننا هَذَا لَيْسَ قاصرا كَمَا ترى على أَرْكَان الكائنات وأعضائها بل يَشْمَل الخلايا لجَمِيع الكائنات

ص: 167

الْحَيَّة بل يَشْمَل الذرات جَمِيعًا فَكلهَا لِسَان ذَاكر يلهج بِالتَّوْحِيدِ والجميع يذكرُونَ مَعًا لَا إِلَه إِلَّا الله

الْبُرْهَان الثَّالِث هُوَ الْقُرْآن الْحَكِيم

فَإِذا مَا ألصقت أُذُنك إِلَى صدر هَذَا الْبُرْهَان النَّاطِق ستسمع حتما أَنه يردد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فبرهاننا هَذَا يمثل شَجَرَة عَظِيمَة متشعبة الأغصان وَالْفُرُوع تتدلى مِنْهَا ثَمَرَات الْحق والحقيقة من كل جَانب بغزارة ووفرة وحيوية بِحَيْثُ لَا تدع لأحد أَن يداخله ريب من أَن بذرتها الأصيلة وَهِي التَّوْحِيد قَوِيَّة حقة حَيَّة إِذْ لَا يخفى أَن البذرة الْفَاسِدَة لَا تؤتي شجرتها الثِّمَار الغضة كل حِين

أما غُصْن هَذِه الشَّجَرَة الوارفة الممتد إِلَى عَالم الشَّهَادَة فَهُوَ يحمل أثمار الْأَحْكَام الصائبة الحقة مِثْلَمَا أَن الْغُصْن الْعَظِيم الممتد إِلَى عَالم الْغَيْب غَنِي بالثمرات اليانعة الحقة للتوحيد وَالْإِيمَان بِالْغَيْبِ

فَإِذا مَا شوهد هَذَا الْبُرْهَان الْعَظِيم من جَمِيع جوانبه لعلم يَقِينا أَن الَّذِي يعلنه واثق كل الثِّقَة من نتيجته وَهِي التَّوْحِيد ومطمئن اطمئنانا لَا يشوبه تردد قطّ إِذْ يبْنى جَمِيع الْأُمُور على هَذِه النتيجة الرصينة بل يَجْعَلهَا

ص: 168

حجر الزاوية لكل شَيْء فِي الْوُجُود فَمثل هَذَا الأساس الراسخ لَا يُمكن أَن يكون تكلفا وتصنعا الْبَتَّةَ بل يَجْعَل الإعجاز الباهر على هَذَا الْبُرْهَان مستغنيا عَن تَصْدِيق الآخرين لَهُ فأنباؤه كلهَا صدق ثَابِتَة وَحقّ وَحَقِيقَة بِنَفسِهَا

نعم إِن الْجِهَات السِّت لهَذَا الْبُرْهَان الْمُنِير شفافة رائقة فَعَلَيهِ الإعجاز الظَّاهِر وَتَحْته الْمنطق وَالدَّلِيل وَفِي يَمِينه استنطاق الْعقل وَفِي يسَاره استشهاد الوجدان أَمَامه وهدفه الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة نقطة استناده الْوَحْي الْمَحْض أفيجزأ وهم أَن يقتحم هَذَا الْحصن الْحصين

هُنَاكَ أصُول أَرْبَعَة للعروج إِلَى عرش الكمالات وَهُوَ معرفَة الله جل جلاله

أَولهَا مَنْهَج الصُّوفِيَّة المؤسس على تَزْكِيَة النَّفس والسلوك الإشراقي

ثَانِيهَا مَنْهَج عُلَمَاء الْكَلَام الْمَبْنِيّ على الْحُدُوث والإمكان فِي إِثْبَات وَاجِب الْوُجُود

وَمَعَ أَن هذَيْن الْأَصْلَيْنِ قد تشعبا من الْقُرْآن الْكَرِيم إِلَّا أَن الْبشر قد أفرغهما فِي صور شَتَّى لذا أصبحا

ص: 169

منهجين طويلين وَذَوي مشاكل فَلم يبقيا مصانين من الأوهام والشكوك

ثَالِثهَا مَسْلَك الفلاسفة المشوب بالشكوك والشبهات والأوهام

رَابِعهَا وأولاها طَرِيق الْقُرْآن الْكَرِيم الَّذِي يعلنه ببلاغته المعجزة وبجزالته الساطعة فَلَا يوازيه طَرِيق فِي الاسْتقَامَة والشمول فَهُوَ أقصر طَرِيق وأقربه إِلَى الله وأشمله لبني الْإِنْسَان

ولبلوغ عرش هَذَا الأَصْل هُنَاكَ أَربع وَسَائِل الإلهام التَّعْلِيم التَّزْكِيَة التدبر

وَأَن لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم فِي معرفَة الله سُبْحَانَهُ وَإِثْبَات وحدانيته طَرِيقين

الأول دَلِيل الْعِنَايَة والغاية فَجَمِيع الْآيَات الْكَرِيمَة الَّتِي تعد مَنَافِع الْأَشْيَاء وتذكر حكمهَا إِنَّمَا هِيَ نساجة لهَذَا الدَّلِيل وَمظَاهر لتجلي هَذَا الْبُرْهَان وزبدة هَذَا الدَّلِيل هِيَ إتقان الصنع فِي النظام الْأَكْمَل فِي الكائنات وَمَا فِيهَا من رِعَايَة الْمصَالح وَالْحكم إِذْ النظام المندمج فِي الكائنات وَمَا فِيهِ من رِعَايَة الْمصَالح وَالْحكم يدل على قصد الْخَالِق الْحَكِيم وحكمته المعجزة وينفي نفيا قَاطعا وهم

ص: 170

المصادفة والاتفاق الْأَعْمَى لِأَن الاتقان لَا يكون دون اخْتِيَار فَكل علم من الْعُلُوم الكونية شَاهد صدق على النظام وَيُشِير إِلَى الْمصَالح والثمرات المتدلية كالعناقيد فِي أَغْصَان الموجودات ويلوح فِي الْوَقْت نَفسه إِلَى الحكم والفوائد المستترة فِي ثنايا انقلاب الْأَحْوَال وَتغَير الأطوار

فَإِن شِئْت فَانْظُر إِلَى علم الْحَيَوَان والنبات فقد ثَبت فيهمَا أَن الْأَنْوَاع الَّتِي يزِيد عَددهَا على مئتي ألف نوع كل لَهُ أصل معِين وجد أكبر مِثْلَمَا الْإِنْسَان لَهُ أصل وَهُوَ آدم عليه السلام وكل فَرد من هَذِه الْأَنْوَاع الوفيرة كَأَنَّهُ ماكنة بديعة عَجِيبَة تبهر الأفهام فَلَا يُمكن أَن تكون القوانين الموهومة الاعتبارية والأسباب الطبيعية العمياء الجاهلة موجدة لهَذِهِ السلَاسِل العجيبة من الْأَفْرَاد والأنواع أَي أَن كل فَرد وكل نوع يعلن بِذَاتِهِ أَنه صادر مُبَاشرَة من يَد الْقُدْرَة الإلهية الحكيمة

ويذكرنا الْقُرْآن الْكَرِيم بِهَذَا الدَّلِيل فِي قَوْله تَعَالَى {فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور}

بل يُبينهُ على أفضل وأكمل وَجه إِذْ كَمَا أَنه يَأْمُرنَا بالتفكر فِي الْمَخْلُوقَات فَإِنَّهُ يُقرر فِي الأذهان هَذَا الدَّلِيل

ص: 171

دَلِيل الْعِنَايَة بتعداده الْفَوَائِد وَالنعَم وَمن بعد ذَلِك الإحالة إِلَى الْعقل فِي خَوَاتِيم الْآيَات وفواصلها فينبه الْعقل ويحرك الوجدان فِي أَمْثَال هَذِه الْآيَات. . أَولا يعلمُونَ {أَفلا يعْقلُونَ} {أَفلا تتذكرون} {فاعتبروا}

الدَّلِيل القرآني الثَّانِي هُوَ دَلِيل الاختراع وخلاصته

إِن الله تَعَالَى أعْطى لكل فَرد وَلكُل نوع وجودا خَاصّا هُوَ منشأ آثاره الْمَخْصُوصَة ومنبع كمالاته اللائقة إِذْ لَا نوع يتسلسل الْأَزَل لِأَنَّهُ من الممكنات ولبطلان التسلسل وَإِن الْحَقَائِق لَا تنْقَلب بل ثَابِتَة والأنواع المتوسطة لَا تدوم سلاسلها أما تحول الْأَصْنَاف فَهُوَ غير انقلاب الْحَقَائِق إِذْ مَا يسمونه من تغير صور الْمَادَّة مَا هُوَ إِلَّا حَادث لِأَن حُدُوث بَعْضهَا مشهود وَبَعضهَا الآخر يثبت بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّة فالقوى والصور من حَيْثُ أَنَّهَا عرضية لَا تشكل التباين الْجَوْهَرِي الْمَوْجُود فِي الْأَنْوَاع فَلَا يكون الْعرض

ص: 172

جوهرا ففصائل الْأَنْوَاع إِذا وميزات عُمُوم الْأَعْرَاض وخواصها قد أبدع واخترع من الْعَدَم البحت أما التناسل فِي السلسلة فَهُوَ من الشَّرَائِط الاعتبارية الاعتيادية فيا عجبا كَيفَ تستوعب أذهان الضَّلَالَة أزلية الْمَادَّة وَهِي تنَافِي الأزلية قطعا بَيْنَمَا تعجز تِلْكَ الأذهان أَن تدْرك أزلية الْخَالِق الْجَلِيل الَّتِي هِيَ من ألزم صِفَاته الضرورية

ثمَّ كَيفَ وجدت الذرات المتناهية فِي الصغر قُوَّة وثباتا بِحَيْثُ تقاوم أوَامِر الْقُدْرَة الإلهية وَتبقى أزلية بَيْنَمَا الْكَوْن بعظمته منقاد إِلَى تِلْكَ الْأَوَامِر انقياد طَاعَة وخضوع وَكَيف يسند الإبداع والإيجاد وهما من خَواص الْقُدْرَة الإلهية إِلَى أعجز شَيْء وأهونه وَهُوَ الْأَسْبَاب

فالقرآن الْكَرِيم يرسخ هَذَا الدَّلِيل فِي آيَاته الَّتِي تبحث عَن الْخلق والإيجاد ويقرر أَن لَا مُؤثر إِلَّا الله وَحده فالأسباب لَا تَأْثِير لَهَا تَأْثِيرا حَقِيقِيًّا وَإِنَّمَا هِيَ ستائر أَمَام عزة الْقُدْرَة وعظمتها لِئَلَّا يرى الْعقل مُبَاشرَة يَد الْقُدْرَة بالأمور الخسيسة بنظره الظَّاهِر إِذْ أَن لكل شَيْء جِهَتَيْنِ

إِحْدَاهمَا جِهَة الْملك وَهِي كالوجه الملون المطلي

ص: 173

للمرآة ترده الأضداد وتصبح قبيحة شريرة حقيرة عَظِيمَة الخ فالأسباب فِي هَذَا الْوَجْه مَوْجُودَة لأجل إِظْهَار العظمة والعزة

والجهة الثَّانِيَة جِهَة الملكوت وَهِي كالوجه الشفاف للمرآة هَذِه الْجِهَة جميلَة فِي كل شَيْء إِذْ لَا تَأْثِير للأسباب فِيهَا فالوحدانية تَقْتَضِي هَذَا وَحَيْثُ أَن كلا من الْحَيَاة وَالروح والنور والوجود قد خرج من يَد الْقُدْرَة الإلهية دون وساطة فالوجهان شفافان جميلان أَي جميل ملكا وملكوتا

الْبُرْهَان الرَّابِع هُوَ وجدان الْإِنْسَان الْمُسَمّى بالفطرة الشاعرة فلكي تحيط بِهَذَا الْبُرْهَان أمعن النّظر فِي النكات الدقيقة الْآتِيَة

أولاها أَن الْفطْرَة لَا تكذب فَفِي البذرة ميلان للنمو إِذا قَالَ سأنبت سأثمر فَهُوَ صَادِق وَفِي الْبَيْضَة ميلان للحياة إِذا قَالَ سأكون فرخا فَيكون بِإِذن الله وَهُوَ صَادِق وَإِذا قَالَ ميلان التجمد فِي غرفَة من مَاء سأحتل مَكَانا أوسع فَلَا يَسْتَطِيع الْحَدِيد رغم صلابته أَن يكذبهُ بل إِن صدق قَوْله يفتت الْحَدِيد

ص: 174

فَهَذِهِ الميول إِنَّمَا هِيَ تجليات الْأَوَامِر التكوينية الصادرة من الْإِرَادَة الإلهية

النُّكْتَة الثَّانِيَة لَا تقتصر حواس الْإِنْسَان الظَّاهِرَة والباطنة على الْخَمْسَة الْمَعْرُوفَة حاسة السّمع والذوق وَالْبَصَر. . الخ وَإِنَّمَا لَهُ نوافذ كَثِيرَة مطلة إِلَى عَالم الْغَيْب فَلهُ حواس كَثِيرَة غير مَعْلُومَة فحاسة السُّوق وحاسة الشوق لَدَيْهِ حواس لَا تكذب وَلَا تزل

النُّكْتَة الثَّالِثَة لَا يُمكن أَن يكون شَيْء موهوم مبدءا لحقيقة خارجية فنقطة الِاسْتِنَاد والاستمداد حقيقتان ضروريتان مغروزتان فِي الْفطْرَة والوجدان حَيْثُ أَن الْإِنْسَان مكرم وَهُوَ صفوة الْمَخْلُوقَات فلولاها لتردى الْإِنْسَان إِلَى أَسْفَل سافلين بَيْنَمَا الْحِكْمَة والنظام والكمال فِي الكائنات يرد هَذَا الِاحْتِمَال

النُّكْتَة الرَّابِعَة إِن الوجدان لَا ينسى الْخَالِق مهما عطل الْعقل نَفسه وأهمل عمله بل حَتَّى لَو أنكر نَفسه فالوجدان يبصر الْخَالِق وَيَرَاهُ ويتأمل فِيهِ وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهِ والحدس الَّذِي هُوَ سرعَة انْتِقَال فِي الْفَهم يحركه دَائِما وَكَذَا الإلهام الَّذِي هُوَ الحدس المضاعف

ص: 175

ينوره دَوْمًا والعشق الإلهي يَسُوقهُ ويدفعه دَوْمًا إِلَى معرفَة الله تَعَالَى ذَلِك الْعِشْق المنبعث من تضَاعف الشوق الْمُتَوَلد من تضَاعف الرَّغْبَة الناشئة من تضَاعف الميلان المغروز فِي الْفطْرَة فالانجذاب والجذبة المغروز فِي الْفطْرَة لَيْسَ إِلَّا من جاذب حَقِيقِيّ

وَبعد مَا تبين لَك هَذِه النكات أمعن فِي الوجدان لترى كَيفَ أَنه برهَان مُودع فِي نفس كل إِنْسَان يثبت التَّوْحِيد ولتشاهد أَيْضا أَن قلب الْإِنْسَان مِثْلَمَا ينشر الْحَيَاة إِلَى أرجاء الْجَسَد فالعقدة الحياتية فِيهِ وَهِي معرفَة الله تنشر الْحَيَاة إِلَى آمال الْإِنْسَان وميوله المتشعبة فِي مواهبه واستعداداته غير المحدودة كل بِمَا يلائمه فتقطر فِيهَا اللَّذَّة والنشوة وتزيدها قيمَة وأهمية بل تبسطها وتصقلها فَهَذِهِ هِيَ نقطة الاستمداد

والمعرفة الإلهية هَذِه نَفسهَا هِيَ نقطة استناد للْإنْسَان أَمَام تقلبات الْحَيَاة ودواماتها وأمام تزاحم المصائب والنكبات وتواليها عَلَيْهِ إِذْ الْإِنْسَان إِن لم يعْتَقد بالخالق الْحَكِيم الَّذِي كل أمره نظام وَحِكْمَة وَأسْندَ الْأُمُور والحوادث إِلَى المصادفات العمياء وركن إِلَى مَا يملكهُ من قُوَّة هزيلة لَا تقاوم شَيْئا من المصائب فَإِنَّهُ سينهار

ص: 176

حتما من فزعه وخوفه من هول مَا يُحِيط بِهِ من بلايا وسيشعر بحالات اليمة تذكره بِعَذَاب جَهَنَّم وَهَذَا مَا لَا يتَّفق وَكَمَال روح الْإِنْسَان المكرم إِذْ يسْتَلْزم سُقُوطه إِلَى هاوية الذل والمهانة مِمَّا يُنَافِي النظام المتقن الْقَائِم فِي الْكَوْن كُله أَي أَن هَاتين النقطتين نقطة الاستمداد والاستناد ضروريتان لروح الْإِنْسَان فالخالق الْكَرِيم ينشر نور مَعْرفَته ويبثها فِي وجدان كل إِنْسَان من هَاتين النافذتين نقطة الاستمداد ونقطة الِاسْتِنَاد فمهما أطبق الْعقل جفْنه وَمهما أغمض عينه فعيون الوجدان مفتحة دَائِما

وَهَكَذَا فشهادة هَذِه الْبَرَاهِين الْأَرْبَعَة الْعَظِيمَة القاطعة تدلنا على أَن الْخَالِق الْجَلِيل كَمَا أَنه وَاجِب الْوُجُود أزلي وَاحِد أحد فَرد صَمد عليم قدير مُرِيد سميع بَصِير مُتَكَلم حَيّ قيوم فَهُوَ متصف كَذَلِك بِجَمِيعِ الْأَوْصَاف الجلالية والجمالية لِأَن مَا فِي الْمَخْلُوقَات من فيض الْكَمَال إِنَّمَا هُوَ مقتبس من ظلّ تجلي كَمَال خالقه الْجَلِيل فبالضرورة يُوجد فِي الْخَالِق سُبْحَانَهُ من الْحسن وَالْجمال والكمال مَا هُوَ أَعلَى بدرجات غير متناهية وبمراتب مُطلقَة من عُمُوم مَا فِي الكائنات من الْحسن والكمال وَالْجمال ثمَّ إِن الْخَالِق سُبْحَانَهُ منزه عَن كل

ص: 177

النقائص لِأَن النقائص إِنَّمَا تنشأ عَن افتقار استعداد ماهيات الماديات وقابلياتها وَهُوَ سبحانه وتعالى منزه عَن الماديات مقدس متعال عَن لَوَازِم وأوصاف نشأت عَن إِمْكَان ماهيات الكائنات لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير

فسبحان من اختفى لشدَّة ظُهُوره

سُبْحَانَ من استتر لعدم ضِدّه

سُبْحَانَ من احتجب بالأسباب لعزته

ص: 178