المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌16 -ولاية المرأة القضاء - حكم الجاهلية

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌تحكيم القوانينبقلم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ

- ‌1 -حكم الجاهلية

- ‌2 -الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 -الحكم بقتل شارب الخمر في الرابعة

- ‌4 -خمّارة حقيقية

- ‌5 -الرد على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم

- ‌6 -هل إذا أسلم غير المسلم يُجبر على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام

- ‌7 -جزاء الفجور بالمحارم

- ‌8 -النساء والجنديّة

- ‌9 -الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل

- ‌10 -جزاء من يُخالف الشرع مع الإقرار بصحته

- ‌11 -التشبه بأوربة في قوانينهم الكافرة

- ‌12 -جزاء من اتبع أهواء اليهود والنصارى

- ‌13 -لعن الله آكل الربا

- ‌14 -تسمية الربا بالفائدة

- ‌15 -الربا محرم بكافة أنواعه

- ‌16 -ولاية المرأة القضاء

- ‌17 -الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

- ‌ الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة

- ‌18 -عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

- ‌19 -متى ولمن!! السمع والطاعة

- ‌20 -الشورى في الإسلام

- ‌21 -المرأة ليست كالرجل في الميراث

- ‌22 -خواطر

- ‌1 - في التعليم:

- ‌2 - في المحاضرة الحمقاء:

- ‌3 - في الأعراض:

- ‌4 - لصوص الثياب:

- ‌5 - هل في شعائر الإسلام وثنية

- ‌6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

- ‌7 - مقاطعة الملحدين

- ‌8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

- ‌9 - تعليم الدين في المدارس

- ‌10 - الجامعة المصرية

- ‌23 -الإيمان بالغيب

- ‌24 -من هم أهل الكتاب

- ‌25 -المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب

- ‌26 -النصارى لا يزالون في شقاق وخلاف وبغضاء

- ‌27 -عاقبة قوم لوط

- ‌28 -المتبعون لأهواء سادتهم من المبشرين

- ‌29 -بطلان نظرية داروين وأتباعه

- ‌30 -تزيين الشيطان لآدم عليه الصلاة والسلام

- ‌31 -الذكر والابتهالات الدينية

- ‌32 -لا وصية لوارث

- ‌33 -لا نكاح إلا بولي

- ‌34 -فتح القسطنطينية

- ‌35 -أين الرجال!! أين الرجال

- ‌36 -لا يجوز إطلاع أهل الذمة على أسرار المسلمين

- ‌37 -كُروية الأرض

- ‌38 -طاعة الكفار = خسران مبين

- ‌39 -صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام

- ‌صحف الهلال 1

- ‌صحف الهلال 2

- ‌صحف الهلال 3

- ‌40 -نساء بدون حياء

- ‌41 -الطلاق عند عبيد الخواجات

- ‌42 -ظُلم ونَكَد عَيْش الأُجراء والخدم

- ‌43 -قُحَّة الأجرياء المتفرنجين

- ‌44 -حرمة التشبه بالكفار

- ‌45 -دعوة ادِّعاء نسب الغير

- ‌46 -عودة إلى وثنية نصب التماثيل

- ‌47 -ولكن القوم لا يستحون

- ‌48 -العطف على الفقير .... وحكم من احتكر

- ‌49 -حكم من سب الدهر أو القَدَر

- ‌50 -في تعدد الزوجات

الفصل: ‌16 -ولاية المرأة القضاء

‌16 -

ولاية المرأة القضاء

قال الشيخ (*):

لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف، بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء!!

والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل، إذ تقدم إليها بعض (البنات) اللائي أعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلا لأن يكنّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة أن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.

وذهب العلماء الرسميون يتبارون في الإفتاء، ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء. فمن ذاكرٍ مذهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها القضاء في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري، في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يجيز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطل مطلقاً، في الأموال وغير الأموال.

ومن أعجب المضحكات في هذا الجدال الغريب: أن تقوم امرأة فتكتب رداً على من استدل من العلماء بالحديث الصحيح الثابت: "لن

(*) كلمة الحق (ص49) ط مكتبة السنة.

ص: 79

يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (1)"، فتكون طريفة كل الطرافة، وتدل على أنها تكتب بعقل المرأة حقاً، فتستدل على بطلان هذا الحديث، بأنه لا يعقل أن يقوله رسول الله الذي يقول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"!! وهي لا تعرف هذا الحديث ولا ذاك الحديث، ولا تعرف أين يوجدان أو يوجد أحدهما، من كتب السنة أو كتب الشريعة أو غيرها، لأن كتابتها تدل على أنها مثقفة ثقافة إفرنجية خالصة! ليس لها من الثقافة العربية أو الإسلامية نصيب!.

ووجه العجب المضحك في استدلالها هذا الطريف: أن الحديث الذي استدلت به حديث لا أصل له أبداً، أي هو حديث مكذوب لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولست أزعم أنها هي التي اخترعته، فإني لا أظنها تصل إلى هذه الدرجة. ولكنه حديث ذُكر في بعض المصنفات القديمة، ونص حفاظ الحديث ونقدته العارفون العالمون على أنه حديث منكر، لم يجد له العلماء الحفاظ إسناداً قط، بل قال ابن القيم الإمام:"كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق"(2).

فاعجبوا -في بلد العجائب- أن تقوم امرأة لا تعرف من الشريعة شيئاً، إلا أن يكون ما يعرفه العوام، على شك في هذا أيضاً-: فترد على العلماء الرسميين، وتجزم بتكذيب حديث صحيح ثابت، استناداً إلى حديث مختلق مكذوب!! وليتها -مع هذا كله- تعرف الفرق بين

(1) رواه البخاري في الصحيح (97:8و46:13من فتح الباري) ورواه أيضاً الترمذي والنسائي.

(2)

بل قد صح فيه أكثر من حديث فيه ذكر الحميراء.

ص: 80

الشهادة والرواية عند علماء الأصول، وبين الولاية والشهادة، حتى تستطيع أن تحكم هذا الحكم الطريف. ولو عرفت لعلمت أن الشريعة فرقت بين رواية المرأة العلم، إذا كانت مسلمة عارفة بدينها متمسكة به محافظة عليه، مستوفية شروط العدالة الشرعية، وأنها في هذه الحال تُقبل روايتها العلم، تُصدّق فيما روت. وأنها إذا استوفت هذه الشروط كلها كانت شهادتها في الأموال مقبولة، على أن تكون نصف شهادة فقط، أي تقبل شهادتها مع امرأة أخرى مثلها، وتكونان معاً في مقام شاهد واحد من الرجال، بشرط أن يكمّل نصاب الشهادة بشهادة رجل آخر، بنص القرآن الكريم:(فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)(1).

إنها لو علمت ذلك لفهمت أن الحديث المكذوب الذي تستدل به لو كان صحيحاً لما كان منافياً للحديث الصحيح في منع ولاية المرأة، كما هو بديهي!

ثم ندع هذا الاستطراد، ونعود إلى أصل الموضوع:

سألت وزارة العدل العلماء فأجابوا. ولست أدري لم أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر أو كادوا؟!.

ولو كنت ممن يسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنَيْتُ عليها

(1) الآية (282) من سورة البقرة.

ص: 81

الجواب عن الفرع أو الفروع.

فإن ولاية المرأة القضاء، في بلدنا هذا، في عصرنا هذا -يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بنيت عليهما بداهة:

أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالى واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها؟

إن المسلمين لم يُبْلَوا بهذا قط، فيما نعلم من تاريخهم، إلا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره. ولذلك لا نجد له في التاريخ الإسلامي -فيما أعلم أنا- أثراً مفصلاً واضحاً، إلا إشارة عالية محكمة دقيقة، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 (1).

والحافظ ابن كثير من أجلّ تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ومن

(1) وقد ذكر الحافظ ابن كثير أيضاً بعض أشياء عن هذا، في تاريخه الكبير (البداية والنهاية ج13 ص117 - 121). وكذلك ذكر المقريزي بعض ذلك في الخطط (ج3 ص357 - 360 من طبعة مطبعة النيل بمصر سنة 1325).

ص: 82

أعظمهم. وقد ذكر ذلك في تفسيره (ج3 ص174 من طبعة المنار) عند تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(1)

وأرى أن أذكر هنا الآيتين اللتين قبل هذه الآية، وهي كلها متصلة في السياق:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ!)(2).

فقال الحافظ ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية،

(1) الآية (50) من سورة المائدة.

(2)

سورة المائدة، الآيات، (50:48).

ص: 83

المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحِكّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى:(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟) أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ!) أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها. فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء".

أرأيتم هذا الوصف القوي من ابن كثير في القرن الثامن؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت؟. ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً منهم، لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بالياسق الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباء وأبناء، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى

ص: 84

"ياسقهم الجديد" بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدع تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان في الدولة تارات. ويصرحون -ولا يستحيون أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! وأنتم ترون ذلك وتعلمون.

أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكراً كان الابن أو أنثى، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟!.

هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنها إثباتاً أو نفياً أولاً، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك -بالضرورة- سؤالاً محدوداً واضحاً: أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا "الياسق العصري" وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟!!

ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال -ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجال القضاء في هذا الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!!.

ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاء من تلقاء نفسه.

ص: 85

وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز؟! وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله.

أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة، على الرغم مما يظن الأغرار وعباد الشهوات؟!.

يجب أن يجيب عن هذا أولا، ثم نبحث بعد فيما وراءه.

ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه.

ألا فلْيجِب العلماء وليقولوا ما يعرفون، وليبلغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.

سيقول عني عبيد "النسوان" الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوماً ما بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول.

*

*

*

ص: 86

يظهر أنني سأضطر لإثارة هذا الموضوع مراراً، بما يثيره أنصار (النسوان) وأتباعهن في مصر وغيرها، وبما (جعلن) من هذا الموضوع مادة لمهاجمة الإسلام في صورة الدفاع عنه، وبتحريف معنى (الإسلام) وحقيقته، عن عمد أو عن جهل عجيب!.

وأعتقد أن إثارته من قبل المرأة وأنصارها فيه خير كثير، لأنه فرصة جيدة لوضع الحقائق مواضعها، وإيضاحها وضوحاً لا يدع شكاً لمستريب.

وأنا أحب أن أواجه المسائل بالصراحة، دون التواء ولا مداراة، مهما يكن فيها من دقة علمية، ومهما يكن من ورائها من تبعات قد يرى الناس أن الدوران حولها أولى. وأحب المثابرة والثبات على الدعوة الحقة، إلى آخر الشوط، فإما انتصرت وإما انهزمت فلا أثر لهذا عندي ما قلت (كلمة الحق).

والذي حفزني إلى معالجة الموضوع مرة أخرى، أن إحدى المجلات الأسبوعية التي تدعو إلى السفور، وتنشر ألواناً مما ينكره الإسلام من شؤون هاته (النسوة)، وهي مجلة "أخبار اليوم" -نشرت في عددها الصادر يوم السبت (23 محرم سنة 1370هـ

4 نوفمبر سنة 1950) كلمة لمكتبها في الإسكندرية، عن قضية إحدى البنات طالبات مناصب القضاء، قدمتها إلى محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة. وهذا نص ما

ص: 87

جاء في المجلة:

"هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ "

"وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية؟ "

"دخلت قضية مساواة المرأة بالرجل، في دور حاسم، بعد أن لجأت الأستاذة أمينة مصطفى خليل المحامية إلى محكمة القضاء الإداري، تشكو وزير العدل، لامتناعه عن تعيينها وكيلة نيابة أو محامية، في قلم قضايا الحكومة.

"وقد قال محاميها في عريضة دعواها المقدمة إلى رئيس مجلس الدولة: إن المدعية بعد أن نالت إجازة الحقوق عام 1948 بدرجة جيد، ومارست المحاماة بنجاح وتوفيق، طلبت في 5 أبريل سنة 1950 تعيينها محامية، فجاءها الرد في 19 أبريل بأن طلبها أحيل إلى النيابة الحسبية. فبعثت في 17 يوليو بمذكرة إلى وزير العدل أوضحت فيها حقها الطبيعي في هذا التعيين، طالبة إلى النائب العام تعيينها في وظيفة "معاونة نيابة".

"ولكن وزير العدل رأى أن يصبغ المسألة بالصبغة الدينية فاستفتى رجال الدين فيها. فجاءت الفتوى مضطربة في التدليل، حائرة بين آراء متباينة منسوبة إلى أئمة المذاهب، ثم انتهت إلى أن تولية المرأة غير صحيحة.

"وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل. فكان حقا عليها -حتى لا تتخلف عن السير في ركب الحضارة -أن تسائل

ص: 88

نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي، تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة، أو ليست المرأة تزاول مهنة المحاماة طبقا للقوانين التي وضعتها وزارة العدل؟ وما هي الفوارق بين المحاماة في صفوف الدفاع عن الأفراد، والمحاماة في صفوف الدفاع عن الحكومة.

"ثم طلبت المدعية تحديد جلسة يحكم فيها بإلغاء القرار الخاص برفض طلب تعيينها معاونة للنيابة، أو محامية في إدارة قضايا الحكومة".

وجاء في جريدة المصري الصادرة صباح يوم الثلاثاء 18 صفر سنة 1370 (28 نوفمبر سنة 1950) ما نصه:

"حقوق المرأة أمام القضاء"

"تُنظر أمام محكمة القضاء الإداري غدا القضية التي رفعتها الأستاذة عائشة راتب على مجلس الدولة من أجل الاعتراف بمبدأ قبول خريجات كلية الحقوق من الفتيات في وظائفه.

"وقد سبق أن أشارت الصحف إلى دعوة الأستاذة عائشة راتب إلى العمل بمجلس الدولة ونجاحها في الامتحان الذي فرض عليها، وموافقة جميع المستشارين على قبولها فيه، ثم رفض طلبها بدون إبداء أي تبرير قانوني. وقد قابلت الآنسة عائشة وسألتها عن أملها في كسب هذه

ص: 89

القضية الهامة؟ فقالت: إنها تعتقد أن هذه القضية ليست قضية شخصية تتعلق بمصالحها الخاصة، وإنما هي قضية إنسانية عامة، متعلقة بحقوق المرأة المصرية العادلة المهضومة، وعبرت الآنسة عائشة عن آمال جميع خريجات كلية الحقوق اللاتي يناضلن منذ وقت طويل من أجل قبولهن في مناصب الحكومة التي ما زالت مغلقة أمامهن، في مجلس الدولة وإدارة قضايا الحكومة والقضاء والسلك السياسي".

وأنا لم أقرأ صحيفة الدعوى التي تقدمت بها المدعية، ولكن إذا صدق الملخص الذي نقلته عنها مجلة "أخبار اليوم" استطعنا أن نحدد الاتجاه الذي تتجه إليه المدعية ومحاميها في توجيه دعواها.

وهو اتجاه طيب جداً!! وقد تعجبون أن أقول هذا، ولكني أقوله وأقصد إلى معناه وأصر عليه! لأنه اتجاه يكشف عما يراد بالإسلام، مصارحة، دون مواربة أو نفاق!.

فقد يذكر كثير من القراء، وخصوصاً أترابنا أندادنا في السن، الذين أدركوا بدء الحركة الملعونة: حركة السفور، أو حركة تحرير المرأة. وما أحاطها بها دُعاتها، وفي مقدمتهم قاسم أمين، والذين كانوا من ورائه، واللائي كن من ورائه يدفعونه ويدفعنه إلى تقحّم المهالك، ويتساقطون ويتساقطن فوقه في الهوة كالذباب، أحاطها هؤلاء ومن تبعهم ومن جاء من بعدهم بسياج قوي براق، من المداورة والنفاق، يزعمون أنهم لا يريدون الخروج على الإسلام، وأنهم إنما يبغون تفسيره بما لم يعلمه من قبلهم من العلماء الجهلاء، والأئمة الجامدين!! وأنهم إنما يريدون له النقاء

ص: 90

والصفاء، وإزالة ما غشّى وجهه من أكدار تراكمت عليه بمر العصور، وتعريضه للضوء والنور: نور أوربة، حتى يُعجب الخواجات! زعموا أنهم لا يرمون إلا إلى السفور: سفور الوجه فقط، لا سفور الصدور، ولا سفور النهود والظهور، ولا سفور شيء مما وراء ذلك، مما يراه الناس عياناً في كل حفل وناد، بل يرون بعضه أو كثيراً منه في المدارس والمعاهد، بل يرون شيئاً منه في المساجد والمعابد.

ثم جاءت هذه البُنَيَّة المدعية، فكشفت الستار كله عن مقاصد هؤلاء الدعاة، الذين كانوا يجمجون ولا يكادون يصرحون بالأصل الذي إليه يقصدون، وإن كانوا ليفعلون ويفعل من وراءهم، من المبشرين وأتباع المبشرين وأبناء المبشرين. ومن وراء أولئك المستعمرون المستترون والظاهرون: الذين يريدون استعباد المسلمين الأعزة، وهم يعلمون أنهم لا يصلون إلى ذلك إلا أن يقلبوهم أذلة بانتزاع هذا الإسلام، الذي أعزهم الله به من قلوبهم حتى يصيروا أذلة. والذين مهما ينسوا فلا ينسوا ثأر "لويس التاسع" الذي أسره المسلمون في مدينة "المنصورة"، وحبسوه في "دار لقمان"، ولا ينسوا ثأر هزائمهم المتوالية في الحروب الصليبية في مصر والشام، وطردهم من "بيت المقدس"، إلى آخر ما يعرف الناس عامة إجمالاً أو تفصيلاً.

هذه المدعية صرحت بما يريدون، بأوضح عبارة تكشف عن مقاصدهم وأقساها، ووضعت الأمر كله بين يدي هيئة قضائية من أكبر هيئاتهم، إن لم تكن أكبرها وأعلاها فقد كانوا من قبل يعملون على هينة وفي لين، وإذا تحدثوا عن ذلك تحدثوا بحكمة وتحوط حتى لا يثور عليهم

ص: 91

المسلمون غيرة على دينهم! فإذا ما تحدث منهم متحدث، ألان القول ومهّد له، حتى لا يكاد القارئ المتوسط يشعر بما وراء ذلك من خطر على الدين وتدمير.

ولا أكاد أذكر قولاً صريحاً لواحد منهم، إلا كلمة رقيقة لينة، تنساب على الهوينى انسياب الأفعى، لرجل من كبار رجالهم ممن له مظهر إسلامي، أو ممن كان له مظهر إسلامي على الصحيح، قال في كلمة نشرت في صحيفة إسلامية!! واسعة الانتشار، في أواسط سنة 1368 هـ (أوائل سنة 1949م) قال فيها مما قال:"ولا يخفى أننا في مصر نجري -في حكمة واعتدال!! على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة"!!.

ولست أدعي أن هذه الكلمة هي أصرح ما قالوا من هذا اللون من القول، ولا أنهم لم يقولوا مثلها مراراَ، فإن مقدرتي على الاطلاع وعلى القراءة محدودة. ولكني أستطيع أن أجزم بأني لم أقرأ، أو على الأقل لا أذكر أني قرأت مثلها في التصريح بما ينوون ويعتزمون. وإن كنت واثقاً منذ عقلت الدين، وفقهت الأوضاع السارية في بلدنا، أن هذا هو المرمى والمآل من قبل أن نولد، بل من قبل أن يولد آباؤنا.

ثم جاءت هذه الدعوى، تضع الأمر كله على المنصة بين يدي القضاء، تعرض الموضوع من أوله:"هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ ".

ص: 92

وهذه أسئلة في الصميم، لا تستطيع المدعية ولا محاميها، بل لا يستطيع من هو أكبر منهما وأعلم، من رجال القانون وغيرهم، أن يجيبوا إلا بالسلب. بل أنا لا أستطيع أن أجيب إلا بالسلب! فليس في مصر حكومة دينية، والحكومة القائمة -أعني نظم الدولة- لا تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً، بل لا تطبقها كذباً وزوراً! بل أقول أكثر من هذا: إن النص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام لا يمثّل حقيقة واقعة، إنما هو خيال ووهم، كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوربة في الخيال والتمثيل. والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف.

ذلك بأن المبشرين والمستعمرين وأتباعهم وأنصارهم ربّوا فينا أجيالاً متتابعة، يُنزع الدين منها تدريجاً، وتُقلب حقائقه في النفوس والعقول وعلى مبادئ الثورة الفرنسية وغيرها من مبادئ الهدم والإلحاد، حتى لقد وضعوا على ألسنة العلماء أنفسهم أنهم "رجال الدين"، يضاهئون بذلك "رجال الدين" هناك، ليمكن يوماً ما أن يقال ما قالته هذه المدعية:"فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة"!! وليمكنها أن تقول أيضاً: "وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل"!! بل ليمكنها أن تدعي أن مثل هذا يكون سبباً لأن "تتخلف عن السير في ركب الحضارة"!!.

فالمدعية ومحاميها، وأمثالهما، وكبراؤهم وزعماؤهم، يرون ما تراه

ص: 93

أوربة، أو ترون ما فهموا أنه رأي أوربة، بل يغلون في ذلك أكثر من غلو سادتهم، فيزعمون أن دخول الدين في الحكم وفي المسائل الاجتماعية تخلف عن ركب الحضارة!! فيجهلون بديهيات الإسلام ومزايا دينهم القويم، ويرون أنهم إذا تمسكوا به وخضعوا لأحكامه تخلفوا عن ركب الحضارة! فلا يكون هناك خمر ولا رقص، ولا سفور ولا فجور، ولا اختلاط الشبان والشابات في المدارس والجامعات، والقهاوي والندوات، والصيد والقنص، والخلوات في الصحاري والسيارات! فإذا فقدوا هذا وأمثاله، فماذا بقى لهم من مقومات الحضارة؟!.

وأعجب من ذلك وأغرب: أن المدعية بلسان محاميها، تسُبّ دينها هذا السب المقذع، ثم تصفه بأنه "الحنيف"! ولم تكن بها حاجة إلى هذا التكلف والتناقض، وكان أقرب إلى منطق كلامها أن تصفه بوصف يناسب ديناً يتخلف المستمسك به عن ركب الحضارة!!.

ثم كان من المغالطات الكبرى أنهم -بما أُودع في نفوسهم من معارف ملتوية، وبما أشْرِبَتْه قلوبهم من فقه لدين أوربة ووثنيتها وثورتها، بل وحضارتها-: أنهم فهموا الإسلام على غير وجهه، وظنّوه دين عقيدة وعبادة فقط، بل ليتهم أخذوا به على المعنى الذي فهموا، وإن كان خطأ أو نقصاً، إذن لسار بهم الدين "الإسلامي الحنيف" في سبيل الحق والهدى، حتى يعرفهم بما استمسكوا به من عقيدة وعبادة -لو كانتا- بأنه ليس كما رأوا عند أوربة ودرسوا، ولعرّفهم أنه "دين ودولة، وحكم وسياسة، وقضاء وولاية". وإذن لعرفوا معنى ما نقلناه عن الحافظ ابن كثير في

ص: 94

الكلمة الماضية، أن من قدم أي قانون أو أي رأي على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله "فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير"(1). وهذا شيء بديهي معلوم من دين الإسلام بالضرورة، لا يعذر بجهله أحد، أياً كانت منزلته من العلم أو الجهل، ومن الرقي أو الانحطاط.

وليس هذا الخطأ من المدعية أو محاميها، وممن وراءهما من رجال ونساء، قاصراً على بلادنا. أنه ليكاد يكون عاماً في أكثر المتعلمين المثقفين في بلاد الإسلام، خصوصاً البلاد التي خضعت لسيطرة المستعمرين يدفعهم المبشرون، وعامة في البلاد التي سايرت "رَكْب الحضارة المتعصبة ضد الإسلام. فتجد في بعض ما يقول الكبراء التناقض العجيب المدهش، كمثل ما نقلت إحدى الصحف الأسبوعية في عددها الصادر يوم الجمعة 7 صفر سنة 1370هـ (17 نوفمبر سنة 1950م) عن ضيف كبير من ضيوف مصر، هو "سعادة السيد تمييز خان رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان" نقلت عنه تلك المجلة أنه قال: "إن الباكستان دولة إسلامية، ولكنها ليست دولة دينية، لأن الدولة التي تقوم على تعاليم الدين الإسلامي غير الدولة التي يتولى الحكم فيها رجال الدين"!!

فهذا رجل عظيم، من أمة إسلامية عظيمة، أعرف أنا أنها تحرص على أن يكون تشريعها من دينها الحنيف، دين الإسلام، سواء أصابت في

(1) مجلة الهدي النبوي (العدد 3 من السنة 15 شهر صفر سنة 1370 ص13).

ص: 95

التطبيق أم أخطأت، فكل إنسان عرضة للخطأ. وهذا الرجل العظيم لم يسبق لي التعرف إليه حتى أحكم في شأنه حكماً صحيحاً، ولكني أظن أنه أعلم بدينه وبقوانين أوربا من المدعية وأمثالها وها هو ذا يخطئ في مثل هذه الدقائق -إذا صح ما نقلته عنه المجلة فيعقد فرقاً بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة الدينية" وهو فرق باطل، كأنه فرق اصطلاحي فقط. فإن كل مسلم يعرف أن "الإسلام دين"، بل يعتقد المسلمون بنص ما أنزل الله عليهم في كتابه أن الدين عند الله الإسلام. ويظن سعادته -تقليداً لاصطلاح إفرنجي- أن في الإسلام شيئاً يسمى "رجال الدين"!!

ولطالما حاولت نقض هذه الأسطورة، أسطورة وجود شيء في الإسلام يُدعى "رجال الدين"!! من ذلك ما قلته في محاضرة أعددتها لألقيها يوم 6 ربيع الأول سنة 1360هـ (3 أبريل سنة 1941م) ومنعني من إلقائها الوزير القائم على الأحكام العرفية الإنجليزية إذ ذاك، وهو حسين سرّى باشا رئيس الوزراء. وكان مما قلت فيها عن آثار القوانين الإفرنجية في نفوس متعلميها:

"كان لها أثر بين بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين عُلِّموا تعليماً مدنياً، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، يرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكماً قطعياً في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من

ص: 96

الدين بالضرورة. ويزدري الفريقَ الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسماً اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين). وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين). بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا". (1)

ولقد أخطأ هذا الرجل الكبير "رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان" خطأ آخر -إن صدق ما نقلته عنه تلك المجلة أخطأ في ظنه أن الدولة الدينية هي التي يتولى الحكم فيها رجال الدين!! فما أظن أن أحداً يقصد إلى هذا أو يرمي إليه، حتى ممن يسمونهم غلطاً (رجال الدين). لأن غاية كل مسلم يفقه الإسلام ويعرف حدوده وحقائقه، أن يحكم المسلمون بتشريعهم، بل أن يجاهدوا في سبيل الله حتى يحكموا به العالم كله إذا استطاعوا. وأن يعملوا على نشره في الأمم الإسلامية أولاً على حقيقته النّيرة النقية، وأن يتعلمه الذين يملكون السيطرة على شؤون الدولة في بلاد الإسلام، والذين يلُون فيهم الأحكام. فإذا ما كان ذلك كانوا أيضا (رجال الدين) أياً كان لونهم من أنواع العلوم الأخر، حتى هذه القوانين الآثمة التي ضُربت على المسلمين لإذلالهم ومحو دينهم في عقر دارهم فإن المعرفة بها إذ ذاك لا تضر. بل لعلها قد تنفع في الموازنة بين التشريع المبني على الوحي

(1) هذه المحاضرة الممنوعة نشرناها في مجلة الهدى النبوي (في العدد 6 من المجلد: 5) ثم نشرتها مع بحث آخر في كتاب (الشرع واللغة) المطبوع بدار المعارف بمصر، والفقرة التي هنا في (ص71) منه.

(ثم أعادت طباعة الكتاب في صورته الأخيرة: دار الكتب السلفية بالقاهرة -في سنة 1406هـ).

ص: 97

الصحيح الصادق من عند الله، وبين الأهواء والأكاذيب، بل السخافات (في بعض الأحيان) التي تبنى عليها القوانين الوثنية الملحدة!! ولقد صدق الله:(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)(1).

وقد أوضحت هذا المعنى وما إليه، بأقوى ما أستطيع من بيان، في تلك المحاضرة المصادرة إذ ذاك. وكانت للدعوة إلى أن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر) وهذا هو عنوانها وموضوعها الذي أُعدّت من أجله. فقلت فيها:

"وأريد أولاً أن أقول كلمة ترفع شبهة عن دعوتنا. فإني عُرِفْتُ بين إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤوّل دعوتي إلى نحو من هذا المقصد.

"كلا، فإن الأمر أخطر من ذلك، ومقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعاً بين طائفتين، أو تناحرا بين فريقين. إنما نريد رفع ما ضُرب على المسلمين من ذل، ما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه القوانين الأجنبية.

"إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعو الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله:(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2) (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ

(1) الآية 49 من سورة المائدة.

(2)

الآية 51 من سورة النور.

ص: 98

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (1).

"ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان. لسنا نريد إلا وجه الله"(2)

هذا ما قلته ولا أزال أقوله، وأعتقد أن كل داع إلى العمل بالشريعة الإسلامية يقوله. وأظن أنه يرفع كل شبهة عن دعوتنا الحقة الصادقة المخلصة، ولا يدع مجالاً لمن يعادي التشريع الإسلامي، ممن أُشربوا عقائد الإفرنج، أن يظنوا حالنا كحال أوربة قبل موجة الإلحاد، التي قامت هناك لتدمير سلطان "رجال الدين" عندهم وطغيانه. ثم لا يدع محالاً لأن يقول ما قالته المدعية وما قاله أمثالها من قبل، من الفرق في الإسلام بين شؤون الاجتماع وشؤون الحكم وشؤون المعاملة وغيرها وبين الدين. فكل ما يفعل الناس وما يرون وما يعتقدون، وما يأخذون وما يدعون، داخل في حكم الإسلام وخاضع لسلطانه، رضي هؤلاء وسادتهم من المستعمرين والمبشرين أم أبوا، فالإسلام واضح بيّن لكل من أراد الهدى، وهو كما قلت في تلك المحاضرة "لا يرضى من متّبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضى ببعض أحكامه فقد أباه كله (3) ".

ولذلك صارحت الأمة كلها حينذاك، ورجال القانون خاصة،

(1) الآية 36 من سورة الأحزاب.

(2)

الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين - ص34.

(3)

ص66 من كتاب (الشرع واللغة).

ص: 99

بالدعوة إلى وضع تشريع جديد على مبادئ الكتاب والسنة وفي حدود قواعدهما، متعاونين متساندين جميعاً. وصارحت رجال القانون بأننا سنعمل بالطريق السلمي للوصول إلى الحكم دونهم إذا أبوا أن يصغوا لهذه الدعوة الحقة لإعادة سلطان الإسلام في بلاد المسلمين، وبأني سأدعو العلماء عامة، من رجال الأزهر، ورجال مدرسة القضاء، ورجال دار العلوم "وسيستجيبون لي، وسيحملون عبء هذا العمل العظيم، سيرفعون راية القرآن بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام"، وبينت لهم السبيل الذي نسلكه، أنه "السبيل الدستوري السلمي: أن نبثّ في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً. بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مُبصرا لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله وفي سبيل الله" (1).

وهأنذا قد صارحتهم بذلك منذ عشر سنين أو نحوها، وما أظنهم صارحونا بقريب مما فعلنا، فيما أعلم، إلا النفاق والمداورة، ومدح الإسلام والتظاهر بالدفاع عنه والغيرة عليه، مع تنحية أحكامه عن كل شيء في الدولة، أو تغيير أحكامه بالتأويل الكاذب، والفهم الباطل، ليقربوه من أوربة التي هم لها خاضعون، حتى يكون "إسلاماً إفرنجياً"!!.

(1) ص91 - 92 من كتاب (الشرع واللغة).

ص: 100

حتى جاءت هذه المدعية فكشفت عن الأمر كله، لتقرر علناً وصراحة أن هذا البلد ليس بلداً إسلامياً، وأنه لا يجوز أن ينظر فيه إلى "المسائل الاجتماعية" زعمت!! نظرة إسلامية. وعن ذلك أعجبتني دعواها هذه الواضحة الصريحة، حتى يعرف المسلمون ماذا يراد بدينهم، من غير أقلامنا، ومن غير أشخاصنا.

وأما شأن المدعية نفسها، فيما تطلب من المحكمة أن تحكم لها به، فلا أعبأ به، ولا يهمني في قليل ولا كثير، ولا من قريب ولا من بعيد، أن يحكم لها بما طلبت، فتدخل في مناصب القضاء، أو ترفض دعواها! لأني قلت من قبل إن ولاية الرجال أنفسهم هذا القضاء "باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة (1) " فلا يزيده بطلاناً -في نظري- أن تتولاه امرأة، أو يتولاه شخص ما، أيا كان لونه أو صفته، فالأمر عندي فيه سواء.

أما بعد: فإنه أثناء كتابة هذه الكلمة، نظرت المحكمة هذه القضية بجلسة يوم الأربعاء 19 صفر سنة 1370هـ (29 نوفمبر سنة 1950م) برئاسة المستشار "سعادة السيد علي بك" ولخصت جريدة المصري في اليوم التالي (الخميس 20 صفر) بعض ما دار في الجلسة فذكرت أنه حضر فيها "سيزا نبراوي وكلية الاتحاد النسائي، وأعلنت انضمام الاتحاد للمدعية طرفاً ثالثاً في القضية، ووقف محامي الحكومة وطلب برفض انضمام الاتحاد، لأنه ليست له مصلحة مباشرة في هذا، ورد رئيس الجلسة بأنه

(1)(كلمة الحق) رقم 2 ص15 من عدد شهر صفر سنة 1370 من مجلة (الهدى النبوي).

ص: 101

يعتقد أن الاتحاد يرى أن هذه القضية هي قضية الجنس، وأن الحكم فيها يتعلق بمستقبل المرأة المصرية عامة"، ثم ذكرت الجريدة أن القضية أُجلت لجلسة 31 يناير سنة 1951 للمرافعة.

وليس لنا أن نتحدث في قبول ما يُدْعى "الاتحاد النسائي" خصماً ثالثاً في الدعوى أو عدم قبوله، فهذا شيء من اختصاص المحكمة وحدها، تفصل فيه بما ترى، بعد سماع المرافعة من طالب الدخول ومن المعارض فيه، ولكنا نتحدث عما يدل عليه طلب الدخول في ذاته، وأنه يؤيد كل حرف قلناه من قبل، ويكشف عما يراد بالتشريع الإسلامي كشفاً واضحاً.

وإذا كان لي أن أقترح، فإني أقترح على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وهو مَن نعرفه علماً وديناً وتقوى وغيرة على الإسلام بشخصه أولاً، وبوصفه شيخاً للأزهر ثانياً، وبوصفه رئيساً لأكبر هيئة علمية إسلامية رسمية، وهي "جماعة كبار العلماء" ثالثاً، أن يرسل محامياً يتدخّل في هذه القضية بلسان فضيلته ولسان الأزهر، خصماً ثالثاً أيضاً. لأنه يرى -فيما نعتقد جميعاً - أن هذه القضية هي قضية الإسلام وشرعته، قبل أن تكون "قضية الجنس". وليدفع عن الإسلام ما يريده به هؤلاء النسوة، اللائي لا يعرفن من الإسلام إلا ما أخذته عن (الخواجات وأمثال الخواجات)، واللائي يُرِدن الانطلاق، لا يردن غيره، وليدفع عن الإسلام ما قد يقوله أنصار (النسوان) من نقد أو تأويل بالباطل أو افتراء.

ص: 102

ولست أدري أيلقى اقتراحي هذا قبولاً أم إعراضاً، ولكنني إذا لم أجد لاقتراحي صدى، فسأُفكر في التدخل في القضية بنفسي، خصماً ثالثاً، بوصفي من العلماء القدماء، بالسن على الأقل، وبوصفي مجاهداً طوال حياتي ضد الحركة النسوية خاصة، وضد مهاجمي الإسلام والمتلاعبين به عامة، وإن كان هذا التدخل فوق مقدوري علمياً ومالياً، ولكني سأحاول ما استطعت، إن شاء الله.

*

*

*

ص: 103