المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌17 -الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر - حكم الجاهلية

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌تحكيم القوانينبقلم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ

- ‌1 -حكم الجاهلية

- ‌2 -الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 -الحكم بقتل شارب الخمر في الرابعة

- ‌4 -خمّارة حقيقية

- ‌5 -الرد على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم

- ‌6 -هل إذا أسلم غير المسلم يُجبر على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام

- ‌7 -جزاء الفجور بالمحارم

- ‌8 -النساء والجنديّة

- ‌9 -الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل

- ‌10 -جزاء من يُخالف الشرع مع الإقرار بصحته

- ‌11 -التشبه بأوربة في قوانينهم الكافرة

- ‌12 -جزاء من اتبع أهواء اليهود والنصارى

- ‌13 -لعن الله آكل الربا

- ‌14 -تسمية الربا بالفائدة

- ‌15 -الربا محرم بكافة أنواعه

- ‌16 -ولاية المرأة القضاء

- ‌17 -الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

- ‌ الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة

- ‌18 -عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

- ‌19 -متى ولمن!! السمع والطاعة

- ‌20 -الشورى في الإسلام

- ‌21 -المرأة ليست كالرجل في الميراث

- ‌22 -خواطر

- ‌1 - في التعليم:

- ‌2 - في المحاضرة الحمقاء:

- ‌3 - في الأعراض:

- ‌4 - لصوص الثياب:

- ‌5 - هل في شعائر الإسلام وثنية

- ‌6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

- ‌7 - مقاطعة الملحدين

- ‌8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

- ‌9 - تعليم الدين في المدارس

- ‌10 - الجامعة المصرية

- ‌23 -الإيمان بالغيب

- ‌24 -من هم أهل الكتاب

- ‌25 -المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب

- ‌26 -النصارى لا يزالون في شقاق وخلاف وبغضاء

- ‌27 -عاقبة قوم لوط

- ‌28 -المتبعون لأهواء سادتهم من المبشرين

- ‌29 -بطلان نظرية داروين وأتباعه

- ‌30 -تزيين الشيطان لآدم عليه الصلاة والسلام

- ‌31 -الذكر والابتهالات الدينية

- ‌32 -لا وصية لوارث

- ‌33 -لا نكاح إلا بولي

- ‌34 -فتح القسطنطينية

- ‌35 -أين الرجال!! أين الرجال

- ‌36 -لا يجوز إطلاع أهل الذمة على أسرار المسلمين

- ‌37 -كُروية الأرض

- ‌38 -طاعة الكفار = خسران مبين

- ‌39 -صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام

- ‌صحف الهلال 1

- ‌صحف الهلال 2

- ‌صحف الهلال 3

- ‌40 -نساء بدون حياء

- ‌41 -الطلاق عند عبيد الخواجات

- ‌42 -ظُلم ونَكَد عَيْش الأُجراء والخدم

- ‌43 -قُحَّة الأجرياء المتفرنجين

- ‌44 -حرمة التشبه بالكفار

- ‌45 -دعوة ادِّعاء نسب الغير

- ‌46 -عودة إلى وثنية نصب التماثيل

- ‌47 -ولكن القوم لا يستحون

- ‌48 -العطف على الفقير .... وحكم من احتكر

- ‌49 -حكم من سب الدهر أو القَدَر

- ‌50 -في تعدد الزوجات

الفصل: ‌17 -الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

‌17 -

الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

(*)

أيها السادة!

تشرفت اليوم بالمثول بين أيديكم لأتحدث إليكم في موضوع من أشد المواضيع خطورة في حياتنا الماضية والمستقبلة، والكتاب -كما يقولون -يُعرف من عنوانه. وعنوان كلمتي محدود مُحرر، صريح بيّن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر).

نعم، ومصر بلد إسلامي، وهي تقعد الآن بين الأمم مقعد الصدارة في ممالك الإسلام، وإلى ما تصنع ينظر المسلمون في أنحاء الأرض، وبها يقتدون، فيهتدون أو يضلون، ومعاذ الله أن تضل مصر بعد أن ملكت أمرها، استقلت بشؤونها، فتحمل إثم العالم الإسلامي كله، ورسول الله يقول:"من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

أيها السادة!

إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكما بين الناس بما أنزله

(*) نُشرت هذه المحاضرة في كتاب مستقل يحمل نفس العنوان في مكتبة السنة بالقاهرة عام 1408هـ.

وكانت قد نشرت من قبل باسم الشرع واللغة في طبعتها الأولى -الناشر.

ص: 104

عليه أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين.

شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصلة بجزئياتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعد كلية سامية، لم ينص على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان.

فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من

ص: 105

بعدهم عالة عليهم.

ولم يكن الفقهاء والحكام والقضاة في العصور الأولى مقلدين ولا جامدين، بل كانوا سادة مجتهدين. ثم فشا التقليد بين أكثر العلماء، إلا أفراداً كانوا مصابيح الهدى في كل جيل. ومع ذلك فقد كان المقلدون من العلماء يحسنون التطبيق والاستنباط في تقليدهم. وكان الملوك والأمراء والقواد والزعماء علماء بدينهم متمسكين به، إلى أن جاء عصر ضعف المسلمين، بضعف العلماء واستبداد الأمراء الجاهلين. فتتايع (1) الناس في التقليد، واشتد تعصبهم لأقوال الفقهاء المتأخرين، في فروع ليست منصوصة في الكتاب والسنة، ولعل كثيرا منها مما استنبطه العلماء بني على عرف معين، أو لظروف يجب على العالم مراعاتها عند الاجتهاد، بل لعل بعضها مما أخطأ فيه قائله، بأنه ليس بمعصوم.

وكثر الحرج واشتد الضيق، إلى أن جاء الجيل الذي سبق جيلنا، والأمر ظلمات بعضها فوق بعض، والعلماء -أو أكثرهم- يزدادون جموداً وعصبية، والزمن يجري إلى تطور سريع، يقعد بهم تقليدهم عن مسايرته، فضلا عن سبقه. حتى لقد عرض بعض الأمراء في الجيل الماضي على العلماء أن يضعوا للناس قانوناً شرعياً، يقتبسونه من المذاهب الأربعة، حرصاً على ما ألفوا من التقليد، وهو طلب متواضع، قد يكون علاجاً وقتياً، فأبوا واستنكروا، فأعرض عنهم.

ثم دخلت علينا في بلادنا هذه القوانين الإفرنجية المترجمة، نقلت نقلا

(1) بالياء التحتية، وهو التتابع في الشر فقط.

ص: 106

حرفيا عن أمم لا صلة لنا بها، من دين أو عادة أو عرف، فدخلت لتشوه عقائدنا وتمسخ من عاداتنا، وتلبسنا قشوراً زائفة تسمى المدنية!!.

ثم جاءت النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة، وقد نفخ في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا. ووضع أصولها عمليا، وأرسى قواعدها، ووثق بنيانها: والدي محمد شاكر، رضي الله عنهم جميعاً. فاستيقظت العقول، وثارت النفوس على التقليد، ونبغ في العلماء من يذهب إلى وجوب الاجتهاد، وقد يكون اجتهاداً مبتسراً، وقد يكون اجتهاداً فيه خطأ كثير، ولكنه خير من الجمود، وأجدى إن شاء الله على الأمة والدين.

أيها السادة!

إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله.

اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون.

ص: 107

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)(1).

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ

(1) سورة الأحزاب الآية (36).

(2)

سورة النور: الآيات (47 - 51).

ص: 108

وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (1).

أيها السادة!

هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بينة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغاليا إذا صرحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياُ، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنا في كل هذا. وقد ضربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين.

هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى

(1) سورة النساء الآيات (59 - 65).

ص: 109

صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقري ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة!!

لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلو أو الإسراف في القول، فإني جعلت هذه الدعوة هجيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت. ولو شئت أن أسمي لسميت لكم أسماء ممن نجل ونحترم، ونعرف لهم فضلا وذكاء وعلماً.

ألا تعجبون إن ذكرتكم بأن مصر كلها فرحت حين أمكن مندوبيها في مؤتمر من مؤتمرات أوربة، منذ بضع سنين، أن يقنعوا المؤتمرين ليصدروا قراراً بأن (الشريعة الإسلامية تصلح أن تكون مصدراً من مصادر القوانين) وظنت أنها أوتيت فتحاً مبيناً! نعم هو فتح مبين هناك، ولكنه في بلادنا ضعف وهوان، لأن شريعتنا يجب أن تكون وحدها هي مصدر القوانين في البلاد الإسلامية.

إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما أرى:

كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليما مدنياً، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ

ص: 110

وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكما قطعيا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة. ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسما اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيا كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سموه المناصب الدينية، حتى لا متنفس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام.

وابتدعوا شيئاً لم يستطيعوا إلى الآن أن يحدوه حداً علمياً صحيحاً، فسموه (الأحوال الشخصية) وقصروا عليها القضاء الإسلامي، وسموه القضاء الشرعي. ثم وضعوه في الدولة غير موضعه، وذهبوا ينتقصون من أطرافه، ويحدون من سلطانه، وظنوا أن لفظة (الشرع) قاصرة على الأمور الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية، وأن ما عداها خارج عن الشرع، ثم ذهب بهم الوهم إلى أن هذه الكلمة تطلق على هذا النوع المعين من الاختصاص، سواء أكان للشريعة الإسلامية أم لغيرها! حتى لقد رأيت في بعض التعبير الرسمي كلمة "شرعاً" في أمور خاصة بالمجالس المِلّيّة، مع أن

ص: 111

البديهي الذي لا ينبغي لمسلم أن يجهله: أن "الشرع" في ألفاظ المسلمين وعرف بلاد الإسلام لا يكون إلا الشرع الإسلامي. وما ضربت هذا المثل إلا لأريكم أثر التشبع بهذه القوانين في النفوس والعقول.

أيها السادة!

إن القوانين إذا حكمت بها أمة السنين الطوال تغلغلت في القلوب، ونكتت فيها آثاراً سوداء أو بيضاء، وصبغت بها الروح، ومرنت عليها النفس. وهذه القوانين الأجنبية أثرت أسوأ الأثر في نفوس الأمة، وصبغتها صبغة إلحادية مادية بحتة، كالتي ترتكس فيها أوربة، ونزعت من القلوب خشية الله والخوف منه. وكان التشريع الإسلامي يدخل القلوب ويرققها ويطهرها من الدنايا. فكان المسلم إذا حكم الحاكم أو قضى القاضي، علم أن دينه يأمره في دخيلة نفسه أن يسمع ويطيع، وأنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله يوم القيامة، قبل أن يكون مسؤولا عند الناس. وعلم أنه إن عصى ما قضى به قاضيه، كان عاصيا لربه، حتى لو أيقن أن القاضي مخطئ في قضائه، وكان المقضي له مأموراً من قبل دينه أن لا يأخذ ما قضي له به إن كان يعلم أنه غير حقه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار".

هذه تربية الشريعة للأمة. فانظروا تربية القوانين المادية الأجنبية، لم

ص: 112

يحترمها المسلمون في عقيدتهم ودينهم، وإنما رهبوها وخافوا آثارها الظاهرة، ولم يعتقدوا وجوب طاعتها في أنفسهم، فكان ما نرى من اللدد في الخصومة، والإسراف في التقاضي، واتباع المطامع، والتغالي في إطالة الإجراءات، والتفصي بالحيل القضائية عن تنفيذ الأحكام، وعم هذا كله دور القضاء، شرعية وغيرها. ذلك أن الناس مردت نفوسهم على الباطل، وفقدوا قلوبهم، فاتبعوا شهواتهم وأسلسوا لشيطان المادة مقادهم. وكان ما نرى من إباحية سافرة فاجرة، عصفت بالأخلاق السامية، والتقاليد النبيلة، حتى كادت توردنا موارد الهلكة.

أيها السادة!

إن قسم المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكن لأقواهما من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوا بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أفهموا وعلموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأن تعرض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضد شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!!

وابتلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما

ص: 113

عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلوا وحرموا، وأنكروا وأقروا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله:(مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)(1) و (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)(2) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا تدبر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً!

ثم قد أجرمت هذه القوانين في حق الأمة والدين أكبر الجرائم، فبثت في كثير من الناس روح الإلحاد والتمرد على الدين، أو حمتها وساعدت على بقائها ونمائها. وحمت التبشير وما وراءه من منكرات ومفاسد، بما تدعيه من حرية الأديان، ولم يوجد دين يحمي حرية الأديان كما حماها الإسلام، ولم توجد أمة وسعت مخالفيها وأفسحت لهم صدروها كما فعل المسلمون. ولكن الإسلام دين ودولة معا، فهو لا يأبى على اللاجئين إليه أن يحتفظوا بعقائدهم، بل هو يحميهم من العدوان. فإن كانوا معاهدين أو محالفين وفى لهم بعهدهم، وإن كانوا رعية له كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ولكنه يأبى كل الإباء أن يكونوا

(1) سورة يونس الآية (57).

(2)

سورة فصلت الآية (44).

ص: 114

دولة في الدولة، يعبثون كما يشاؤون، ويفتنون الناس عن دينهم، ويدعون أن لهم حقوقاً خاصة ليست لعامة الأمة، وأن لهم أن يتقاضوا إلى قضاء غير قضائه، أو يتحاكموا إلى شريعة غير شريعته. كلا، ما كان الإسلام ليرضى بشيء من هذا، لأنه لم يأت للمسلمين بالذل والهوان، وإنما جاءهم بالعز والمنعة، وأمرهم ألا يرضوا إلا أن تكون كلمة الله هي العليا. فمن دخل في الدين قبله، ومن خرج منه قتله، لأن الردة عن الإسلام شر أنواع الخيانة العظمى.

الإسلام لا يرضى أن يكون في بلاده حكم غير حكمه، ولا يعرف امتيازاً لآجنبي على رعيته، ولا لذي دين غيره في دولته، بل من شاء من غير أهله أن يكون في بلاده، منحه حمايته، ولم يعرض لعقيدته، على أن يكون خاضعاً لحكمه وقانونه في كل أمره.

أيها السادة!

كان من أثر مبادئ التشريع الحديث أن تعجز الأمة عن تربية ناشئتها على قواعد الإسلام، وأن تحاول جعل تعليم الدين إجباريا في مدارسها فلا تصل إليه، وأن توجد في البلد مدارس تربي أبناء المسلمين وتعلمهم غير دينهم، وغير لغتهم، فتسلخهم من الأمة، ثم يكونون حرباً عليها في عقائدها وآدابها. وأن يكون ذلك عن رضى المستضعفين من آبائهم؛ وأن يأبى مديرو هذه المدارس أن يسمعوا لأمر وزارة المعارف، إذ أمرتهم بتعليم الإسلام لأبناء المسلمين، بما يشعرون في أنفسهم من كبر وغرور، وبما

ص: 115

يتوهمون فينا من ضعف ولين، وبما يظنون من حمايتهم بمبادئ التشريع الحديث.

إن فرنسة، هي حامية النصرانية في الشرق، وداعية الإلحاد في الغرب، والتي قامت ثورتها الكبرى على عداء الدين، حين رأى رجلها العظيم، المارشال بيتان، عواقب ما جنى الانحلال على أمته، لم يتردد في جعل تعليم الدين إجبارياً في كل المدارس، ولم يفكر في مبادئ التشريع الحديث.

وكان من أثر التربية المدنية المادية، والغلو في تقليد أوربة وترسم خطاها، أن ظن ضعاف الإيمان أن التعليم الجامعي لا يكون صحيحاً إلا بمحاربة الدين، أو بالانسلاخ من الدين. فذهب الذين تولوا كبره منهم يذيعون هذا النغم، ويضربون على هذا الوتر، يستهوون العقول الناشئة، ويستميلون القلوب الغضة. يريدون أن يخدعوا الشباب، والشباب سياج الأمة والدين.

هذا أقرب مثل لما أقول: نشرت جريدة البلاغ قريباً (9 مارس سنة 1941م) أن اللجنة التي ألفت في وزارة المعارف للعمل على ضم دار العلوم إلى الجامعة، لا تزال أمامها مسائل تحتاج إلى البحث والتمحيص، قبل استقرار الرأي، وأن منها "مسألة الثقافة الإسلامية، وهل تجتمع مواد الدراسة في الدار على إحياء هذه الثقافة والتخصص فيها من جميع وجوهها؟ أم تفتح في المناهج ثغرة للمباحث الحرة، إلى أن تتخلص دار العلوم من لونها القديم، وتصبح جامعية في مناهجها وفكرتها"؟!

ص: 116

هذا نص ما قالت البلاغ، وهي صحيفة إسلامية، وصاحبها رجل مسلم عاقل، أثق به وأحترمه، وأعرف أنه لا ينشر في صحيفته مثل هذا الهذيان، إلا أن يكون صادراً ممن نسب إليه، وإلا أن يعجب الناس منه!!

فانظروا واعتبروا، دار العلوم الأزهرية الإسلامية، التي ازدهرت فيها علوم اللغة والدين، والتي أخرجت للبلد رجالا من أساطين العلم وحماة الإسلام، أمثال عبد العزيز شاويش، وحسن منصور، والسكندري، ومحمد زيد، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب النجار، هذه الدار يراد بها أن تخرج على دينها وعلى علمها، لتتخلص من لونها القديم، من الثقافة الإسلامية، زعموا، لتبحث المباحث الحرة، وتصبح جامعية في مناهجها وتفكيرها!! وكل هذا من جناية ما يسمونه التفكير العصري في حماية التشريع الحديث.

أيها السادة!

إن هذه القوانين الآجنبية كادت تقضي على ما بقي في أمتكم من دين وخلق، فأبيحت الأعراض، وسفكت الدماء. لم تنه فاسقاً، ولم تزجر مجرماً، حتى اكتظت السجون، وصارت مدارس لإخراج زعماء المجرمين. ونزعت من الناس الغيرة والرجولة، وامتلأ البلد بالمراقص والمواخير، وشاع الاختلاط بين الرجال والنساء، حتى لا مزدجر. وصرتم ترون ما ترون، وتقرؤون ما تقرؤون، في الصحف والمجلات والكتب، بما يسرت من سبل الشهوات، وبما حمت من الإباحية السافرة المستهترة، وبما نزعت من القلوب الإيمان، حتى صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.

ص: 117

ومن عجب أن القائمين منا على مبادئ التشريع الحديث، والذابين عنها، لا تكاد تجد لهم اجتهاداً مستقلاً، أو رأياً خاصاً، إلا في القليل النادر. إنما همهم الاحتجاج بآراء الأوربيين، من مختلف الشعوب والأمم، صغرت أو كبرت، جلت أو حقرت، ثم يلمؤون ماضغيهم بها فخراً!! فكأننا أبينا أن نقلد أئمة المسلمين، لنتخذ من دونهم أئمة آخرين!!

أيها السادة!

إن أكبر الكبائر في الإسلام ترك الصلاة عمداً، ثم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وقد جعل الله لكم في القصاص حياة، وكتب علينا كما كتب على من قبلنا أن النفس بالنفس. ولم يرد في الكتاب ولا في السنة شرط لوجوب القصاص إلا أن يكون القتل عمداً، ولم يأذن الله بالعفو عن القصاص لأحد إلا لولي الدم وحده، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، لا من المجتهدين ولا من المقلدين. ومع ذلك فإن هذه القوانين، التي تحكمون بها، شرطت في القصاص شرطاً لم يشرطه الله، ولم يقل به أحد من المسلمين، ولا موضع له في النظر السليم، فأباحت به الدم الحلال، وكان له أثر كبير فيما نرى من كثرة جرائم القتل. ذلك أن المادة (230 من قانون العقوبات) شرطت في عقاب القاتل بالإعدام العمد "مع سبق الإصرار والترصد" وأكدت ذلك المادة (234) فنصت على أن "من قتل نفساً عمداً من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة".

ص: 118

نحن أمة إسلامية، تجري في أعراقنا الدماء العربية الوثابة، لا ننام على وتر، ولا نسكت عن ثأر، وقد كان من أثر هذا الشرط الباطل، شرط سبق الإصرار، أن أهدرت دماء حرام، لم يأذن الله بإهدارها، بل أوجب القصاص فيها، وأن كثرت جرائم القتل، وتحامى الناس الإرشاد عن أدلتها، وخاصة في مصر الوسطى والعليا، بلاد الصعيد. فإن كثيراً من أولياء الدم يخشون أن تطل دماء قتلاهم، وأن لا ينالوا ثأرهم الذي جعله الله لهم (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ)(1) فهم يحاولون أن يطمسوا آثار الجريمة، وأن يحموا المجرم وهم يعرفون جرمه، فلا تناله يد القانون الظالم في شرعهم، لينالوه بأيديهم. ثم تتسلسل الجرائم هكذا دواليك. وكثيراً ما يخطئون تقدير أدلة الإجرام، وهم عامة أو أشباه عامة، فينالون غير قاتلهم، بما جنى عليه وعليهم هذا القانون.

ولو أننا حكمنا شريعتنا، وأطعنا ربنا، وأعطينا الدماء حقها وحرمتها، فوضعنا القصاص موضعه، وتركنا في جريمة القتل العمد الشروط التي ليست في كتاب الله، وما يسمى الظروف المخففة، وتركنا هذه الإجراءات المطولة المعقدة، وأسرعنا في إقامة العدل، وأظهرنا منه موضع العبرة والموعظة، لو فعلنا هذا لنقصت جرائم القتل نقصاً بيناً، لما يعلم القاتل أن يد الشرع لا تفلته.

وهذه جرائم السرقة، ليست بي حاجة أن أفصل لكم ما جنت كثرتها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها،

(1) سورة الإسراء 33.

ص: 119

وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وحدوا السارق بما حكم الله به عليه، لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة، ثم لو وقع كان فاكهة يتندر الناس بها، ذلك أن عقوبة الله حاسمة، لا يحاول اللص معها أن يختبر ذكاءه وفنه.

نعم، أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث!.

أفندع الألوف من المجرمين، يروعون الآمنين، لا يرهبون قويا، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية يد أو يدين تقطعان في كل عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟! وأنتم ترون أنه قد تزهق عشرات من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع، بحجة المحافظة على الأمن والنظام.

لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون. فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب، وقد كان مجرموهم قساة لا يحصيهم العد، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة، واتبعت شرع الله وأقامت حدوده، حتى استتب الأمن، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج.

ص: 120

إن بعض النظريات الحديثة ترفه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جنى، وتدعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درس نفسية الجاني، فتلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة، ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك، مما لعلكم أعلم به مني. ونسي قائلوها أن يدرسوا المجني عليه هذا الدرس الطريف، ليروا أي ذنب اجترح، حتى يكون مهددا في سربه، معتدى عليه في مأمنه، من حيث لا يشعر. ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنيا عليه، أمن كان على الضد من ذلك فكان جانياً؟

إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما يصلح الفرد وما يصلح الأمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراَ ونكالاً، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل. أفيعتقد المخدوعون منا بمثل هذه النظريات أن السنيور لمبروزو أعلم بدخائل نفس الجاني من خالقه؟ أم هم يشكون في أن هذا القرآن من عند الله؟

أيها السادة!

إن المدنية الأوربية قد أفلست، بما بنيت عليه من عبادة المادة، بعد أن جنت على بلاد المسلمين ما جنت. وإن العالم يغلي ويفور، وإنه ليستقبل أحداثاً كباراً، وانقلابات هائلة في مصائر الأمم. وكما عرفنا بعد الحرب الماضية

ص: 121

كيف نسترد استقلالنا السياسي أو أكثره، فسنعرف الآن كيف نسترد استقلالنا التشريعي والعقلي كله، وسنعيد للإسلام مجده، إن شاء الله.

لست رجلا خياليا، ولست داعياً إلى ثورة جامحة على القوانين، وأنا أعتقد أن ضرر العنف الآن أكثر من نفعه. إنما قمت فيكم أدعوكم إلى العمل الهادئ المنتج، بسنة التدرج الطبيعي، حتى نصل إلى ما نريد، من جعل قوانيننا من شريعتنا، وأنا أعرف أن هذا لا يوصل إليه في يوم ولا يومين، ولا في عام ولا عامين.

وأريد أولا أن أقول كلمة ترفع شبهة عن دعوتنا، فإني عرفت بين إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤول دعوتي إلى نحو من هذا المقصد.

كلا، فإن الأمر أخطر من ذلك، مقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعاً بين طائفتين، أو تناجراً بين فريقين. إنما نريد رفع ما ضرب على المسلمين من ذل، وما لقيت شريعتهم من إهانة، بوضع هذه القوانين الأجنبية.

إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعوا الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله. (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ

(1) سورة النور (51).

ص: 122

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (1).

ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان، لسنا نريد إلا وجه الله.

يا رجال القانون في مصر!

بكم أبدأ دعوتي، وأنتم أصحاب السلطان في البلد، وبيدكم الأمر والنهي، وأنتم الذين تضعون القوانين، ولجانكم تعمل الآن في تعديلها على مبادئ التشريع الحديث. تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، تضع أيدينا في أيديكم، ونعمل مخلصين لله. أنتم أعلم بأسرار القوانين منا، ونحن أعلم بالكتاب والسنة وأسرار الشريعة منكم، فإذا تعاونا أخرجنا أبدع الآثار.

دعوا التعصب لتشريع الإفرنج وآرائهم، ولا أقول لكم سندع التعصب للإسلام من جانبنا، بل أدعوكم إلى التعصب له معنا، فإنكم مسلمون مثلنا، وسؤالنا سؤالكم عنه واحد عنه واحد بين يدي الله يوم القيامة، ولن تقبل منكم معذرتكم بأنكم لستم من رجال الدين، فالناس سواء في وجوب طاعة الله، والآخرة خير من الأولى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2).

لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما

(1) سورة الأحزاب (36).

(2)

سورة الشعراء (88 - 89).

ص: 123

نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلاً، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد، كلا، فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليداً للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين، بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر وجه الصواب، إن شاء الله.

فالخطة العملية فيما أرى: أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسباً لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة.

وستجدون من يسر الإسلام ودقائق الشريعة ما يملأ صدوركم إعجاباً، وقلوبكم إيماناً، وسترون أن ما تتوهمون من عقبات في سبيل التشريع الإسلامي قد ذلل ومهد، بما رفع من قيود التقليد وستلمسون بأيديكم إعجاز هذا القرآن، وستؤمنون بمصداق قوله تعالى:(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(1).

(1) سورة المائدة (48).

ص: 124

وثم خطوة أخرى يجب أن تخطوها إلى أن يوضع هذا التشريع الإسلامي: أن تشركوا في لجانكم القانونية كلها رجالا من علماء الشريعة، على قدم المساواة معكم. وفي مقدمة هذه اللجان اللجنة التشريعية ولجنة أقلام القضايا، حتى لا تصدر قوانين أو فتاوى تصادم نصوص الدين، أو تنافي مبادئ الإسلام.

قد نجد بعض القيود، فيما بيننا وبين الدول الأجنبية من علاقات وعهود. ومثل هذا لن يكون عقبة في سبيل تشريعنا، فمنه ما يمكن التفاهم فيه بالطرق السياسية المعتادة، ومنا ما سترفعه الأحداث القادمة. والنادر الذي يبقى نحصره في أضيق حدوده، حتى يوفق الله إلى تذليله. ثم هم إذا رأوا منا العزمة الصادقة، رضوا بالأمر الواقع، بل مدحوه ومدحوكم على التمسك به، ولطالما جربناهم من قبل.

هذه دعوتي إليكم، أرجو أن تكون قد صادفت آذاناً واعية، وقلوباً مطمئنة بالإيمان. وأنتم الذين وكلت إليكم الأمة أمرها، ووضعت آمالها فيكم، وذلك ظني بكم، إن شاء الله.

أما إذا أبيتم، وأعيذكم بالله أن تأبوا، فسأدعو رجال الأزهر، علماء الإسلام، رجاله ورجال مدرسة القضاء ودار العلوم، وسيستجيبون لي، وسيحملون عبء هذا العمل العظيم، وسيرفعون راية القرآن، بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام، وسينهضون به كما نهضوا من قبل بكل حركات الرقي والتقدم في الأمة، وفيهم رجال لا يبارون علماً وكفاءة وحكمة وعزماً، وسيجدون الأعوان الصادقين

ص: 125

المخلصين، منكم رجال القانون ومن سائر طبقات الأمة.

وإذا ذاك سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة، السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً. بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصرا لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله.

فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل كل الأحزاب، إذا فاز أحدهما في الانتخاب، ثم نفي لقومنا -إن شاء الله- بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة.

ومن بشائر الفوز وأمارات النجاح، بإذن الله، أن رأينا كثيراً من ذوي الرأي يقولون بقولنا، ويتمنون أن تستجاب دعوتنا، ويرجون أن تعود الأمة إلى دينها وشريعتها، وأن بعض الجمعيات القوية جعلت هذا المقصد من أهم مقاصدها.

ويا رجال الأزهر!

ص: 126

قد أكثرنا القول، وأقللنا العمل، وقد عرفنا ما يجب علينا لديننا ولأمتنا، وظن بنا الناس الظنون، وزعموا أننا عاجزون عن مقادة الأمة في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعادة مجد الإسلام. وأفزعونا بغول التعصب، وألقوا في روعنا أننا رجال الدين، بمعناهم الذي يفهمون، لا بالمعنى الذي يجب أن يكون. وقد كدنا أن تستيئس، وأن يقع في وهمنا أننا كما يصفون. وقد آن الأوان، أن نكثر من العمل، ونوجز من القول، وأن نحفز همتنا، ونعقد عزمتنا، وأن نلقي عن كواهلنا ما أثقلها، وأن نقوم لله وفي سبيل الله، مشتركين مع غيرنا أو منفردين، وستكون لكم الآخرة والأولى. (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(1).

أما بعد أيها السادة!

فإني أجدني غير مستطيع أن تزول قدماي عن مكاني هذا قبل أن أقول لكم ما قال الزعيم الإسلامي المنسي المجهول، السيد عبد الرحمن الكواكبي:

هذه كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد. وما قال العبد الصالح:(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(2).

وأستغفر الله لي ولكم.

6 ربيع الأول سنة 1360 هـ- 3 أبريل سنة 1941م.

*

*

*

(1) سورة الحج (40).

(2)

سورة غافر (44).

ص: 127