المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌18 -عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة - حكم الجاهلية

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌تحكيم القوانينبقلم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ

- ‌1 -حكم الجاهلية

- ‌2 -الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 -الحكم بقتل شارب الخمر في الرابعة

- ‌4 -خمّارة حقيقية

- ‌5 -الرد على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم

- ‌6 -هل إذا أسلم غير المسلم يُجبر على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام

- ‌7 -جزاء الفجور بالمحارم

- ‌8 -النساء والجنديّة

- ‌9 -الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل

- ‌10 -جزاء من يُخالف الشرع مع الإقرار بصحته

- ‌11 -التشبه بأوربة في قوانينهم الكافرة

- ‌12 -جزاء من اتبع أهواء اليهود والنصارى

- ‌13 -لعن الله آكل الربا

- ‌14 -تسمية الربا بالفائدة

- ‌15 -الربا محرم بكافة أنواعه

- ‌16 -ولاية المرأة القضاء

- ‌17 -الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

- ‌ الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة

- ‌18 -عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

- ‌19 -متى ولمن!! السمع والطاعة

- ‌20 -الشورى في الإسلام

- ‌21 -المرأة ليست كالرجل في الميراث

- ‌22 -خواطر

- ‌1 - في التعليم:

- ‌2 - في المحاضرة الحمقاء:

- ‌3 - في الأعراض:

- ‌4 - لصوص الثياب:

- ‌5 - هل في شعائر الإسلام وثنية

- ‌6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

- ‌7 - مقاطعة الملحدين

- ‌8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

- ‌9 - تعليم الدين في المدارس

- ‌10 - الجامعة المصرية

- ‌23 -الإيمان بالغيب

- ‌24 -من هم أهل الكتاب

- ‌25 -المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب

- ‌26 -النصارى لا يزالون في شقاق وخلاف وبغضاء

- ‌27 -عاقبة قوم لوط

- ‌28 -المتبعون لأهواء سادتهم من المبشرين

- ‌29 -بطلان نظرية داروين وأتباعه

- ‌30 -تزيين الشيطان لآدم عليه الصلاة والسلام

- ‌31 -الذكر والابتهالات الدينية

- ‌32 -لا وصية لوارث

- ‌33 -لا نكاح إلا بولي

- ‌34 -فتح القسطنطينية

- ‌35 -أين الرجال!! أين الرجال

- ‌36 -لا يجوز إطلاع أهل الذمة على أسرار المسلمين

- ‌37 -كُروية الأرض

- ‌38 -طاعة الكفار = خسران مبين

- ‌39 -صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام

- ‌صحف الهلال 1

- ‌صحف الهلال 2

- ‌صحف الهلال 3

- ‌40 -نساء بدون حياء

- ‌41 -الطلاق عند عبيد الخواجات

- ‌42 -ظُلم ونَكَد عَيْش الأُجراء والخدم

- ‌43 -قُحَّة الأجرياء المتفرنجين

- ‌44 -حرمة التشبه بالكفار

- ‌45 -دعوة ادِّعاء نسب الغير

- ‌46 -عودة إلى وثنية نصب التماثيل

- ‌47 -ولكن القوم لا يستحون

- ‌48 -العطف على الفقير .... وحكم من احتكر

- ‌49 -حكم من سب الدهر أو القَدَر

- ‌50 -في تعدد الزوجات

الفصل: ‌18 -عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

‌18 -

عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

(1)

أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء، يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها، وقد كنا سمعنا عن اقتراحه -كتابة العربية بالحروف اللاتينية -قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم

ثم قال المؤلف رحمه الله (2):

" ..... : وهذا الرجل الذي بلغ علمه بالقرآن وباللغة وبعلوم الإسلام ما ترى، والذي أشرب في قلبه قوانين الإفرنج حتى لا يسع غيرها، لم يكد يمسك القلم حتى خلق فرصة، لا أدري كيف خلقها، لإبراز ما يحمل قلبه من ضغن على التشريع الإسلامي، ولتقديس قوانين الإفرنج والإشادة بها، وللذود عنها، خشية أن يفوز القائمون بالدعوة إلى تشريع مقتبس من الكتاب والسنة موافق لروح الإسلام وعقائد المسلمين.

فخرج عن موضوع بدعته الميتة "بدعة الحروف اللاتينية" إلى موضوع لا صلة له بها من قريب أو بعيد.

(1) الشرع واللغة (ص48 - ط مكتبة السنة) ..

(2)

ص82 من المصدر السابق (الكتاب والسنة) ط مكتبة السنة.

ص: 132

ولكن الله أراد أن يوفقه للإبانة عن ذات نفسه، والكشف عن خبيئة قلبه، ليوقن الناس أن بدعة الحروف اللاتينية جزء من خطة مرسومة واضحة مدمرة، يظن أصحابها أن سيفلحون.

وذلك أنه أراد أن يرد على الكاتب القدير: "السيد محب الدين الخطيب" في نقده بدعته، وأن يسوطه بلسانه الحاد، فوجد من أبرز عيوبه عنده أنه يدعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية بدلاً من القوانين الأجنبية، فثارت ثائرته، وأخذته الحمية، غيرة على مقدساته أن تُنتقص من أطرافها، أو خشية أن تقتلع من جذورها، فتعود الأمة المصرية عربية الثقافة، عربية التفكير، عربية الدين. فذهب يهزأ بكل التشريع الإسلامي، ويسخر من علماء الإسلام، فإذا اضطره هواه أن يكرمهم بالقول خديعة للناس، افترى عليهم ورماهم بما إن صدق فيه كانوا غير مسلمين.

وسأنقل لكم بعض قوله في ذلك كله بحروفه، معرضاً عن فضول القول، مما سود به صحف كتابه، فاقرؤوا واعجبوا.

قال معاليه: "ولأني، من ناحية أخرى، رأيت أن له -يعني السيد محب الدين -غرضاً أساسياً يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء، وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يُتوهم منه المساس بتلك المخلفات" ص40.

ص: 133

وقال: "إن الدين لله. أما سياسة الإنسان فللإنسان وما لله ثابت لا يتغير، لأن الله حي قيوم أبدي، يستحيل عليه التغير، أما ما للإنسان فكالإنسان يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث، وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه، بهذا القيد، أن يسوس الناس عاملاً على أن يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسساً عمله على الحق، خائطاً له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها -هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئاً من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فروض الدين؟ أو لا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعاً لأحوال الناس بل وللظروف العالمية جمعاء". ثم يقول له جواباً عن هذا السؤال: "إنك لن تستطيع الجواب. لأنك إن أجبت سلباً كذبت على السلف الصالح علنا"!! ص42.

ويقول أيضاً مستهتراً مُصِراً على رفض التشريع الإسلامي: "إننا الآن عيال على الأوربيين لا في خصوص العلوم والفنون فحسب، بل كذلك

ص: 134

في أمور التشريعات والقوانين، وإن ثقل عليك قولي فسل رجال كلية الحقوق وكلية التجارة، وأقلام قضايا الحكومة التي تجهز مشروعات القوانين، وسل كل من بالمحاكم الأهلية والمختلطة من القضاة المصريين ومن يشتغل لديها من المحامين المصريين. سلهم يأتوك جميعاً بالخبر اليقين. ومن أجل هذا، مضافاً إليك طريقتك العوجاء في خدمة الدين، يؤسفني أني لن أجيب رغبتك في الرجوع لسلفنا الصالح، في أمر القوانين" ص44 - 45.

ثم يزداد إصراراً وتقديساً للسادة الأوروبيين فيقول: "وإذا كنت -على ما أظن- لم تتصل أنت ولا من يكتب لك، بقوانين الأوربيين ولم تدرس شيئاً من قوانين الأوربيين، فهل ترى لنفسك حقاً في الموازنة بين عمل سلفنا الصالح وعمل الأوربيين؟ لو سمحت لي بأن أدلك على الحق الواقع لما أحجمت عن إفادتك، بل سماحك ليس في العِير عندي ولا في النفير. اعلم معلماً، أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء وفجرت لجارك ينابيع النور في كل زاوية من أركان بيته العامر، وأغنته عن المسارج والقناديل وهمّ المسارج والقناديل، وهيأت للناس التلغراف السلكي واللاسلكي، وكشفت لك عن خواص الراديو فجعلت سمعك الضعيف يدرك ما يحدث بأقصى بقعة في الكرة الأرضية من الأصوات، كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء، هذه العقول الجبارة لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون، ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه إخوته الآخرون" ص45.

ص: 135

ثم لا يزداد إلا إصراراً وجهلاً بالدين وبأصول التشريع فيقول: "ارجع إلى عمل الصالحين السابقين يُفِدْك في العبادات والمعتقدات، لأنها لا تتغير بمر السنين، أما أحوال الاجتماع وسياسة الاجتماع وقوانين الاجتماع، فاتركنا أنت وغيرك نساير فيها أمم الأرض، ما دام قُوّامنا فيها، على كره منك، يحترمون الدين ولا يخلون بشيء من أمور الدين. أنا وأنت مقتنعان بأن عملك وعمل كثير من أضرابك دنيوي واه لا شأن له بالدين، لأني أفهم الدين، ولأنك أنت ترى بعيني رأسك أن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين" ص46.

هذا بعض قوله بحروفه. وأستغفر الله من حكايته، ولولا الضرورة إلى نقله لنقضه والتحذير منه لما فعلت:

1 -

وقد بدأ معالي الباشا استدلاله بكلمة منكرة "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربي.

نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن يَنفُثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتواً، على

ص: 136

المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاً، للسادة الأوربيين "ذوي العقول الجبارة". ثم لا يستحي أحدهم أن يدعي أنه يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتف بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!!

2 -

والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى:(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[سورة المائدة الآية: 44].

وقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)[سورة الماءدة: 49]. أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟

وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)[سورة الأحزاب: 36]. وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ

ص: 137

إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)[سورة النور: 47 - 51].

أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب!

3 -

ولقد كررت الدعوة إلى الأخذ بالتشريع الإسلامي المستند إلى الكتاب والسنة، وأسهبتُ في الدلالة على وجوب العمل به، في مناسبات عدة، أهمها محاضرة (6 ربيع الأول سنة 1360هـ - 3 أبريل سنة 1941م) وهي التي جعلناها القسم الثاني من هذا الكتاب.

4 -

ولست أدري وجه استدلال هذا الرجل العجيب بصفات الله الحسنى، وأنه أبديّ يستحيل عليه التغيّر، وبأن الإنسان يتغير ويتبدل، على صحة رأيه في رفض التشريع الإسلامي؟!

وما أظن أن أحداً يدري! ما لهذا وما للتشريع!!

إن الله سبحانه، وهو الحي القيوم، أنزل على رسوله شريعة كاملة، في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر بطاعتها كلها، وجعل من يرفض شيئاً منها خارجاً عليها، حتى إنه ليقول لرسوله:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ

ص: 138

الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [سورة النساء: 60 - 61]. ثم يقول له في هذه الآيات: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)[65].

5 -

وإني أسأل معالي الباشا سؤالاً واضحاً صريحاً، أرجو أن يجيبني عنه جواباً واضحاً صريحاً، لا حَيْدة فيه ولا دوران:

ما يقول هو وأمثاله في قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) أهو فرض من فرائض الدين، واجب الطاعة على المسلمين، في كل زمان ومكان؟ أم هم يرونه أمراً قد سقطت طاعته عن المسلمين، بأنهم أخذوا أخذ الأوربيين، وبأنه في شأن من شؤون الإنسان، و"أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان؟ "(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

6 -

وهذا الاستدلال الطريف المدهش، بصفات الله الحسنى على إلغاء الشريعة الإسلامية! أيجد له هذا الرجل مثيلاً في استدلال العقلاء؟

لقد أعجبتني كلمة قالها الأخ الدكتور عبد الوهاب عزام، فيما دفع به عدوان الباشا عليه، قال:"وليت شعري أهذا رأي حديث عرض لسعادة الأستاذ، أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟ " (مجلة الرسالة العدد 587 في 2 أكتوبر

سنة 1944م). وصدق

ص: 139

الدكتور عزام، فإن مغالطات الرجل في استدلاله بلغت حداً يسقط معه كل مناظرة.

ولولا خشيةُ أن يُخْدَع ناس بشيء مما لعب به لما عبأنا بالرد عليه، ولأعرضنا عنه إعراضاً.

وإن استكثرتم عليه هذا الوصف فاقرؤوا اعتذاره بين يدي شتمه للدكتور عزام وسخريته منه في ص66 من كتابه، إذ يقول تبريراً لما جنى عليه:"على أن القلم والمداد والقرطاس كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون"!!

أفرأيتم أيها الناس حجة كهذه الحجة؟! وممن؟ من رجل وُسِم في وقت من الأوقات بأنه أكبر رجال القانون في مصر! ما أظن أن رجلاً من أضعف الناس مدارك يرضى لنفسه أن يبرر عدوانه على غيره بمثل هذا الكلام، ولكنه الاستعلاء والطغيان.

7 -

ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، ممن يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلامي، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة!

ما زعم لنا واحد منهم قط "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وأن "الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمس العقائد وفرائض العبادات". لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته،

ص: 140

وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان.

والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.

فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج الإسلام جملة، ورفضه كله. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.

8 -

إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة.

9 -

وأعجب ما في الأمر أن يسأل معالي الباشا السيد محب الدين الخطيب: "هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فرائض الدين؟ " وسأجيبه أنا جواباً حاسماً:

نعم، إن القوانين الإفرنحية والنظم الأوربية، فيها كثير مما يخالف عقائد المسلمين، وفيها تعطيل لكثير من فروض الدين.

ص: 141

فيها إباحة الخمور علناً، والترخيص رسمياً ببيعها، بتصريح كتابي يوقّع عليه وزير من وزراء الدولة أو موظف كبير من موظفيها. بل إن فريقاً من رجال الدولة الكبار لا يخجلون أن تدار عليهم الخمور في حفلات رسمية، ينفق عليها من أموال الدولة، بحجة أن هذا إكرام لمدعويهم من الأجانب، أو بما شئت من حجج تجردت من الحياء. حتى إن الدهماء ومن يسمونهم بسمة "الطبقة الراقية" اقتدوا بساداتهم وكبرائهم، واستغلوا هذه القوانين فيما يُذهب عقولهم ويذيب أموالهم، فانحطوا إلى الدرك الأسفل.

وفيها إباحة الميسر بكل أنواعه، بشروط ورخص وضعوها.

فخربت البيوت، واختلت الأعصاب والعقول، مما هو مشاهد، يعجز قلمي عن وصفه.

وفيها إباحة الفجور بطرق عجيبة، من حماية الفجار من الرجال والنساء، من سلطان الآباء والأولياء، بحجة حماية الحرية الشخصية. ثم ما في الحانات والمواخير، ثم اختلاط الرجال والنساء، ثم المصايف وما فيها من البلاء، ثم هذه المراقص العامة والخاصة، بل المراقص التي تنفق عليها الدولة في الحفلات والتمثيل، اقتداء بالسادة الأوربيين" ذوي العقول الجبارة التي كشفت الكهرباء والراديو ومعجزات الطيران"!

وفيها إبطال الحدود التي نزل بها القرآن كلها، مسايرة لروح التطور العصري، واتباعاً لمبادئ التشريع الحديث! وتباً لهذا التشريع الحديث وسحقاً.

ص: 142

وفيها إهداء الدماء في القتلى، باشتراط شروط لم ينزل بها كتاب ولا سنة، في الحكم بالقصاص. مثل شرط سبق الإصرار، مع العمد الموجب وحده للقصاص في شرعة الإسلام.

ومثل البحث فيما يسمونه "الظروف المخففة" و"درس نفسية الجاني وظروفه". ومثل جعل حق العفو للدولة، لا لولي الدم، الذي جعل الله له وحده حق العفو بنص القرآن، فأهدرت الدماء، وفشا القتل للثأر، حتى لا رادع. والأمة والحكومة والصحف وغيرها، تتساءل عن علة ازدياد جرائم القتل؟ والعلة في هذه القوانين، التي خالفت العرف والدين.

إلى غير ذلك ما لا نستطيع أن نحصيه في هذه الكلمة وكل هذه الأشياء وأمثالها تحليل لما حرم الله، واستهانة بحدود الله، وانفلات من الإسلام. وكلها حرب على عقائد المسلمين، وكلها تعطيل لفروض الدين.

10 -

ولسنا ننعيَ على هذه القوانين كل جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كل عصر وكل مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية،

ص: 143

فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهي من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!!

وهم، في نظر الشرع، مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربهم، ساخطين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم:"إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين"!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى "الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين".

11 -

والفرية الكبرى أن يرمي معالي الباشا فقهاءنا وأئمتنا السابقين، بما يخرجهم من الدين! فإنه سأل محب الدين:

"هل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين"؟ ثم لم يتريث حتى يجيبه محب الدين أو غيره، فبادر بالجواب، مثبتاً عليهم هذا الذي زعم، غير عابئ أن يخاصموه جميعاً فيَخْصِموه، بين يدي الله يوم القيامة، بأنه وصمهم بما لم يخطر ببال أحد غيره، وحسابه على الله.

ونحن نجيبه الجواب الحاسم الصحيح: أن سلفنا الصالح لو مد الله في أجلهم إلى اليوم، ما رضوا عن هذه القوانين، وما خنعوا لها وما استكانوا،

ص: 144

بل ما جرؤ أحد أن يفكر في وضعها لبلاد المسلمين. وليس الذي ينفي عنهم عار هذه السُّبَّة هو الذي يكذب عليهم علناً، وهم أجلّ في أنفسهم وفي نفوس المسلمين، من أن يصدق عليهم ما رماهم به معاليه. ومن ظن بهم غير ذلك، فقد جهل العلم والدين، وأنكر التاريخ، أو قال غير الحق، زراية بهم وإسرافاً عليهم، وهو يعلم أن الحق غير ما قال.

يا صاحب المعالي:

لعلي قد قسوت عليك بعض القسوة، بما لم تعتد أذنك سماعه من المتزلفين والمجاملين، وما أريد إلا الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته، والدفاع عن القرآن ومنع العبث به، والمحافظة على العربية ووحدة أممها. وقد يكون في هذا فائدة عظيمة في عاقبة أمرك، أن تعرف الإسلام وحقوقه، وترجع عما أخطأت فيه، فإن الرجل الحازم يعرف كيف يرجع إلى الحق علناً، كما حاد عنه علناً. فإن أبيت فلا تنس بيت بشر بن أبي خازم:

ولا يُنْجي من الغمرات إلا

بُراكاء القتال أو الفرار

*

*

*

ص: 145