الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحف الهلال 3
.
قال الشيخ (1):
عز على صحف الهلال أن يمضي أسبوعان ولا تنشر الجرائد اليومية خبرا -ولو كان غير صحيح- تعلق عليه بالطعن في الأزهر أو المحاكم الشرعية. فأوحت إلى أوليائها أن يوافوها ببعض بنات أفكارهم، فما لبثنا أن رأينا في (كل شيء) في العدد رقم (107) المؤرخ 28 نوفمبر سنة 1927م مقالا طويلا عريضا في صدره ملأ صحيفة منه، ولسنا نجني على قراءة (الفتح) بأن نسمعهم جميع ما قال (كل شيء). وحسبنا أننا امتحنا بقراءة ما يكتب هؤلاء القوم. فرى عاملهم كتاباً زعم أنه من أحد الطلاب في الأزهر الشريف، وقدمه إلى قرائه في نصف مقاله ثم علق عليه أخيرا. وهو لا يقصد بما كتب إلا أن يبث في نفس من رآه أن هذا الأزهر وهذه المعاهد الدينية الإسلامية تفسد عقول الناشئة وتمحق من تفكيرهم بما تعلمهم من الثقافة القديمة. وأن حضرات (أصحاب صحف الهلال) "في حاجة إلى أن تدخل العلوم الحديثة إلى جميع معاهدنا وقاية لعقول شبابنا من فساد هذه التعاليم القديمة" يقول حضرات (أصحاب صحف الهلال) في مقدمة مقالهم عن الأزهر:
"يجب أن تكون مدارسنا معاهد لتثقيف الشباب بالثقافة الحديثة. وليس معنا ذلك أن نهجر الثقافة القديمة فإنها يجب أن يختص لها علماء
(1) مجلة الفتح.
يدرسونها ويوضحون لنا منها تطور الفكر الإنساني وكيف ارتقى من الجهل إلى العلم وكيف كانت علومه في الأصل أساطير وحكومته استبداد وطغيان (كذا) ومدنه مباءة أقذار، ثم ارتقى ذلك كله إلى ما نرى من العلوم الدقيقة والحكومات الدستورية والمدن النظيفة. ومن الغباوة الفظيعة بل المحرمة أن نغرس في ذهن الشاب المصري أن العلوم القديمة كانت أنفع للناس من العلم الدقيق الراهن أو أن حكومات القدماء كانت أنظم وأعدل من حكوماتنا. فلندرس كل قديم ولكن باعتبار أنه قديم لقيمته التاريخية فقط ولكن لا لنقتدي به أو لنؤمن بصحته".
هذه قالة يقولونها عن الأزهر والمعاهد التي تعليم قاصديها علوم الشريعة الإسلامية وآداب الإسلام وفنون اللغة العربية وبلاغة العرب -لا عن معاهد أوروبا منذ قرنين، ولا عن محاكم التفتيش في الأندلس.
أفرأيتم أيها الناس أن هذه الصحف ترمي الثقافة الإسلامية العالية بأن علومها إن هي إلا أساطير، وتنبز حكومات الإسلام العادلة بأنها حكومات استبداد وطغيان أو رأيتم أنها تريدنا على أن ندرس علومنا وآدابنا وتاريخنا الناصع وأحكام ديننا لا لنقتدي بها ولا لنؤمن بصحتها ولكن لقيمتها التاريخية فقط؟!
ألا تصدقون معي أن هذه الصحف أنما تمتح من البؤرة التي سبقها إليها أستاذ الآداب بالجامعة المصرية، وأنها إنما ينهزها إرضاء جمعيات التبشير؟ لا يزعم أن علوم الثقافة الإسلامية أساطير إلا من جهلها فعاداها،
أو كان يدفعه الهوى فينكر ضوء الشمس. وها هم علماء أوربة من المستعربين يدرسون علوم العرب وتاريخهم وتشريعهم ويبذلون في نشرها والإشادة بذكرها من الجهود ما لو وفقنا إليه من بضع عشرات السنين لكان للمسلمين شأن غير ما نرى ولعاد إلينا كثير مما أضعنا من المجد والقوى و (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وهذا هو الكتاب المفترى:
"أنا أزهري اسماً، عصري ثقافة ولحما ودما، تؤثر في كلماتك الغالية، حتى كأنها تسري في عروقي سرى الدم فأشعر عند قراءتها بخجل وحرارة معا، فهي في عقلي ثقافة وفي جسمي حياة! وأريد أن أعرض عليك يا سيدي نوعاً من الذين يجلسون منا مجلس المعلمين
…
قال بعض "العلماء" إن القيامة ستقوم قبل سنة 1450 هـ لا محالة
…
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه لا تأتي على أمتي سنة هجرية اسمها 1450هـ
…
وقال غيره إن النيل يأتينا من الجنة!؟
…
فحزنت لأن صموئيل بيكر دخل الجنة قبلنا
…
وغيره يقول إن: حسان بن ثابت كان يمسح بلسانه شعر رأسه كأن حسانا لا يكون شاعر النبي إلا بهذا اللسان (العجالي) الذي يريد أن يلحقه به الشيخ!؟ .. ويقرؤن لنا في حصة (الأخلاق) خرافات المتصوفة وحكايات الصالحين!
…
كل هذا يا سيدي حضرته بنفسي، ولو أردت أن أكتب لك كثيرا من هذا "العلم الشريف لفعلت، ولكني أعلم أن نفثات قلمك الجريء لا يصح
أن أقتطع منها أكثر من هذا متعة ومنفعة. محمود
…
".
تدعي هذه الصحف أن هذا الكتاب المخترع جاءها من أحد طلاب الأزهر الشريف، ولن يقرأه ذو مسكة من عقل إلا واستيقن أنه مصنوع لديهم، وأنه بقلم سلامة موسى.
وآية صنعه أن طلاب الأزهر -دعك من علمائه- وطلاب المدارس بل والدهماء من كاتب وأمي يعلمون أن تواطؤ المسلمين على بدء تأريخهم بعام هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في خلافة عمر رضي الله عنه -في السنة الثالثة من خلافته في سنة 16 - وأن التاريخ بذلك لم يكن معروفاً أصلا في عصر النبوة، فمن غير المعقول إذن أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن انتهاء الحياة الدنيا سيكون قبل سنة 1450هـ، ومن غير المعقول أن ينسب هذا إلى الرسول الكريم عالم أو جاهل من المسلمين، وإنما يتقحم هذه الحفر من لا يرى في نفسه للإسلام حرمة ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه ولم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم:"إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
ثم هاتم خبرونا من من المسلمين -جاهلهم أو عالمهم- يرضى أن ينسب هذا الهراء إلى سيد الفصحاء والبلغاء، من أوتي جوامع الكلم واختصر لكم القول اختصاراً صلى الله عليه وسلم؟!
أيرضى لنفسه كاتب أن تصدر عنه هذه الجملة "سنة هجرية اسمها 1450" أيا كان من طبقات الكتاب؟ اللهم إن هذا كذب من أوقح الكذب
على رسولك.
وما أصدق قول العربي: إن كنت كذوباً فكن ذكوراً. وإن مثل صاحب الأكذوبة المفضوحة كمثل رجل سمعنا عنه فكاهة لطيفة في صبانا:
زعموا أن نفرا اجتمعوا في مصر العليا -وهناك يتضايق وادي النيل- فتفاخروا بالصافنات الجياد وكان فيهم رجل فياش (1) فزعم لهم أنه ركب جواده فطار به في الوادي من الجبل إلى الجبل! ففجأه أحدهم: وأين البحر؟ فبهت وقال هذا الذي أنسيته.
فهذا نسي النيل بين الجبلين. وذاك نسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يؤرخ المسلمون من الهجرة بست سنوات.
وأما كلمتهم في حسان بن ثابت رضي الله عنه فإنا نظنها لاحقة بسابقتها وقد جهدنا في البحث عنها فلم نجدها في شيء من كتب التراجم المعتمدة. ولكنا نذكر أنا قرأنا في بعض كتب الأدب أن حسان كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهذا -على أننا لا نثق بصحته من طريق التحقيق العلمي- لا نراه شيئاً مستغرباً.
وانظروا إلى ألفاظهم حين يذكرون صحابياً جليلاً كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
(1) يقال فلان فياش إذا كان نفاخا بالباطل وليس عنده طائل.
ويميناً بالله إنهم لا يرضون أن يصفوا بأمثال هذه الكلمات أصعر قس من قساوستهم فضلاً عن واحد من أصحاب سيدنا عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. ولو فلتت فلتة مثل هذه من قلم أحد الكاتبين لهم في وصف رجل ممن ينسبون لدينهم لغضبوا لها وأبوا نشرها.
وأما ما ذكروا من شأن النيل فليس كما خيل إليهم.
ولفظ الحديث في صحيح البخاري من حديث طويل في وصف المعراج: "وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. فقلت ما هذان يا جبريل قال أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات" وفي حديث آخر في صحيح مسلم إن النيل والفرات من أنهار الجنة؛ ومن المعروف ببداهة الحس والعقل أن النيل والفرات في هذه الأرض التي نعيش على ظهرها وأنهما شقا في أديمها، يعرف ذلك الجاهل والعالم ولا يخالف فيه أحد: لا قبل ارتياد منابع النيل ولا بعده. والفرات في العراق من الجهة الشرقية للمدينة المنورة. والنيل في مصر من الجهة الغربية لها وبينهما بلاد وأقطار. وهذه حقيقة يعرفها العرب قبل الإسلام وقد كانوا يسافرون شرقا وغربا ويدخلون العراق ومصر.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق -أنه رأى النيل والفرات يجريان في الجنة، وهي عالم آخر غير هذه الأرض، وهو يعلم أن سامعيه يعرفون هذه الحقائق، وأنهم لن يشبه عليهم قوله، فيظنوا أن هذين النهرين اللذين رأهما في الجنة هما بعينهما النهران اللذان رأوهما في الدنيا.
وهم يعرفون إن الدنيا عالم والجنة عالم آخر، هذه دار العمل وتلك دار الجزاء.
فهل تحب صحف الهلال والطالب الذي اخترعوه أن ندلهم على قاعدة صغيرة من قواعد علم البيان. وهي أن المجاز: ما استعمل في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي -ونأسف جداً أن نمثل لهم بالمثال الذي يعطى لصغار الطلاب المبتدئين- كما تقول: رأيت أسداً في الحمام. فإذا كان الحمام قرينة مانعة من إرادة المعني الحقيقي مع أن وجود أسد حقيقي في الحمام غير مستبعد إلا أنه ليس كثير الحصول. أفلا تكون كل هذه الحقائق البدائه التي قلنا -كافية لدلالة السامع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد المعنى الظاهر للفظ بل أراد معنى آخر أرقى من هذا المعنى المحال؟ وأنه يريد أن في الجنة نهرين هما نيل وفرات تنويهاً بذكر هذين اللذين في الأرض وإشادة بفضلهما وأنهما مصدر لكثير من الخيرات والبركات على أهليهما وأنهما مما أنعم الله به على خلقه فقامت على ضفافهما أقدم الحضارات في الدنيا إلى معاني وإشارات أدق وأعلى.
ولعلنا نوفق إلى بيان كثير منها في مقال خاص إن شاء الله.
ويرحم الله أبا الطيب إذ يقول:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
وبعد فقد نرى أن عدونا بالقوم قدرهم، وقد كانت كلكمتنا الأولى كافية في كشف خبيئتهم وفضح نياتهم، ولكنا أردنا أن نأخذ بحجزهم
عن الوقوع في أعراض المسلمين وأن نحمي أبناءنا وإخواننا من الوقوع في حبائلهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[محمد: 29 - 31].
(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)[التوبة:56 - 57].
*
…
*
…
*